خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف ، وفي رجليه نعلان من ليف ، وكأنّ جبينه ثفنة بعير . فقال (عليه السلام) :
« الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق ، وعواقب الأمر . نحمده على عظيم إحسانه ونيّر برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمداً يكون لحقّه قضاء ، ولشكره أداءً ، وإلى ثوابه مقرّباً ، ولحسن مزيده موجباً . ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطول ، ومذعن له بالعمل والقول . ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً ، وأناب إليه مؤمناً ، وخنع له مذعناً ، وأخلص له موحّداً ، وعظّمه ممجّداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً .
لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركاً ، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً . ولم يتقدّمه وقت ولا زمان . ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم .
فمن شواهد خلقه خلق السموات موطّدات بلا عَمَد ، قائمات بلا سَنَد . دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطِئات . ولولا إقرارهنّ له بالربوبية وإذعانهنّ بالطواعية لما جعلهنّ موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكته ، ولا مصعداً للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه . جعل نجومها أعلاماً يستدلّ بها الحيران في مختلف فِجاج الأقطار . لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم . ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السموات من تلألؤ نور القمر .
فسبحان من لا يخفى عليه سواد غَسَق داج ولا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات ، ولا في يفاع [١] السُّفع المتجاورات . وما يتجلجل به الرعد في أُفق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها ، ومسحب الذرة ومجرّها ، وما يكفي البعوضة من قوتها ، وما تحمل الأُنثى في بطنها .
الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسي أو عرش ، أو سماء أو أرض أو جانّ أو إنس ، لا يدرك بوهم ، ولا يقدّر بفهم . ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ، ولا ينظر بعين ، ولا يحدّ بأين . ولا يوصف بالأزواج ، ولا يخلق بعلاج . ولا يدرك بالحواس . ولا يقاس بالناس . الذي كلّم موسى تكليماً ، وأراه من آياته عظيماً . بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات .
بل إن كنت صادقاً أيّها المتكلّف لوصف ربّك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقرّبين في حجرات القدس مرجحنّين [٢] ، متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين . فإنّما يدرك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء ; فلا إله إلاّ هو ، أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور .
أُوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش وأسبغ عليكم المعاش . ولو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً ، أو إلى دفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود (عليه السلام)الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة ، فلمّا استوفى طعمته ، واستكمل مدّته ، رمته قِسِيّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطّلة ، وورثها قوم آخرون ، وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة ! أين العمالقة وأبناء العمالقة ! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين ، وأطفؤوا سنن المرسلين ، وأحيوا سنن الجبّارين ! وأين الذين ساروا بالجيوش وهزموا بالأُلوف . وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن .
ومنها : قد لبس للحكمة جنّتها ، وأخذها بجميع أدبها من الإقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتفرّغ لها ; فهي عند نفسه ضالّته التي يطلبها ، وحاجته التي يسأل عنها ; فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، وضرب بعسيب [٣] ذنبه ، وألصق الأرض بِجِرانه [٤] . بقية من بقايا حجّته ، خليفة من خلائف أنبيائه .
ثمّ قال (عليه السلام): أيّها الناس ! إنّي قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أُممهم ، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ، وأدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا . وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا [٥]. لله أنتم ! أتتوقّعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ، ويرشدكم السبيل ؟ ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا ، وأقبل منها ما كان مدبراً ، وأزمع [٦] الترحال عباد الله الأخيار ، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى .
ما ضرّ إخواننا الذين سُفكت دماؤهم وهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء ؟ يسيغون الغصص ويشربون الرَّنق [٧] . قد ـ والله ـ لقوا الله فوفّاهم أُجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم .
أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ ؟ أين عمّار ؟ وأين ابن التَّيِّهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة ، وأُبرد برؤوسهم إلى الفجرة .
قال : ثمّ ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثمّ قال (عليه السلام): أوِّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنَّة وأماتوا البدعة . دُعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه .
ثمّ نادى بأعلى صوته : الجهاد الجهاد عباد الله ! ألا وإنّي معسكر في يومي هذا ; فمن أراد الرواح إلى الله فليخرج ! » .
قال : وعقد للحسين (عليه السلام)في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولأبي أيّوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أُخر وهو يريد الرجعة إلى صفّين ، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله ، فتراجعت العساكر ، فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان [٨] .