وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
أبنية المشتقات ودلالتها السياقية في نهج البلاغة – الأول

ميثاق الصيمري

أبنية المشتقات ودلالتها السياقية

اسم الفاعل

اسم الفـاعل: هو الاسم الـذي يصاغ للدلالة على الحـدث ومن قـام به[١]، ويصاغ من الفعـل المبني للمعلوم على أوزان مختلفة اشهرها (فاعل ) نحو قـائم، وجالس ….. فقـائم يدل على القيام وفاعله، وكذلك جالس الذي يدل على الجلوس ومن قام به.

وقد اختلف العلماء فيما يدل عليه اسم الفاعل، فقد ذهب أكثرهم إلى انه يـدل على التجدد والحدوث[٢]، وذهب بعض منهم إلى انه يدل على الثبوت[٣]، قال عبد القاهر الجرجاني: ( ان موضوع الاسم على ان يثبـت به المعنى للشيء من غيـر ان يقتضي تجدده شيئا بعد شيء، فإذا قلت: (زيد منطلق) فقد اثبت الانطلاق فعلا له من غير ان تجعله يتجدد ويحدث منه شيئا فشيئا، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: (زيد طـويل وعمرو قصير)، فكما لا يقصـد هاهنا ان تجعل الطول والقصر يتجدد ويحدث، بل توجبهما و ثبتهما فقط وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: (زيد منطلق) لاكثر من إثباته لزيد )[٤].

وقد يكون عبد القاهر الجرجاني بالغ في مسالة ثبوت اسم الفاعل إلى درجة رقيّه إلى ثبوت الصفة المشبهة، إذ ان دلالة اسم الفاعل على الحدث لا تخلو من معنى الثبوت، ولكنه لا يرقى إلى ثبـوت الصفة المشبهة.

وعندما كان اسم الفاعل مشبها للفعل المضارع لفظا ومعنى ـ أما من حيث اللفظ فيشبهه في تتابع حركاته وسكناته، وأما من حيث المعنى فيشبهه في دلالته على الحال والاستقبال ـ عندما كان هذا الشبه بينهما وكان الفعل المضارع دالاً على التجدد والحدوث ـ ويقصد بالحدوث التغيير ـ كان لابد ان يدل اسم الفاعل على شئ من دلالة الفعل المضارع، فكانت دلالة اسم الفاعل على التجدد والحدوث، وبهذه الدلالة تميز اسم الفاعل عن الصفة المشبهة، وكذلك فان دلالته على الثبوت ميزته عن الفعل المضارع، فاسم الفاعل يقع وسطا بين الفعـل والصفة المشبهة، فهو أدوم واثبـت من الفعل، ولكنه لا يرقى إلى ثبـوت الصفـة المشبهة، إذ ان لفظة (قائم) أدوم واثبت من لفظة (يقوم)، ولكن ثبوتها لا يرقى إلى ثبوت (احمر، أو طويل، أو دميم ) فانه يمكن الانفكاك عن القيام إلى الجلوس أو غيره، ولكن لا يمكن الانفكاك عن الطول أو الدمامة أو القصر...[٥].

نخلص مما تقدم إلى ما يأتي:

١- دلالة اسم الفاعل على الحدوث تميزه عن الصفة المشبهة التي تدل على الثبوت، فعندما نقول: (فلان جالس) فان حدث الجلوس غير ثابت، فقد تتغير حالة فلان إلى شئ آخر، كأن يكون المشي أو النوم.

٢- دلالة اسم الفاعل على الثبوت تميزه عن الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث، وهذا الثبوت الذي في اسم الفاعل هو ثبوت نسبي لا يرقى إلى ثبوت الصفة المشبهة.

فإذا أريد تحـويل الصفة المشبهة من الدلالة على الثبـوت إلى الدلالة على الحـدوث، حولت إلى اسم فاعل، فتقول في(حسن) حاسـن الآن أو غـدا وهذا مطّـرد في كل صفة مشبهة[٦]، وجاء في الكشـاف في تفسيـر قـوله تعالـى: «فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ»[٧]، ( فان قلت: لم عدل عن ضيق إلى ضائق ؟ قلت: ليدل على انه ضيق عارض غير ثابت لان رسول الله (صلّی الله عليه وآله وسلّم) كان أفسح الناس صدرا )[٨].

أبنية اسم الفاعل

صياغته من الثلاثي

يصاغ اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المجرد على زنة (فاعل)، ويكثر هذا البناء من (فَعَلَ) اللازم والمتعدي، و(فَعِل) المتعدي[٩].

وقد جاء هذا البناء في نهج البلاغة حافلا بشحنات دلالية رائعة أسهمت وبشكل كبير في إبراز دلالة النص.

قال الإمام علي من كلام له يصف فيه الذين يرون الموتى ولا يعتبرون بهم: «فالقلوبُ قاسيـةٌ عنْ حظِها، لاهيـةٌ عنْ رُشدِها، سالكةٌ في غيرِ مضمارِها»[١٠]. في النص ثلاث كلمات على زنة (فَاعِل)،هي (قاسية، ولاهية، وسالكه)، وهي من أبنية اسم الفاعل ومشتقة من الفعل الثلاثي المجرد (قسا، لها، سلك).

نلاحظ على النص دقة السبك وحسن الصياغة وجودة المضمون، فهناك علاقة واضحة بين النظم المتناسق للفقرات وبين الترتيب المنطقي للأحداث، إذ ان من المعروف ان اللهو هو نتيجة لغلظة القلب وقسوته، وان سلوك الإنسان طريق الباطل ودخوله النار، ما هو إلا نتيجة لإفراطه بالملذات الدنيوية ونسيان العقاب الأخروي. ويستفاد من قوله(فالقلوب قاسية عن حظها) ان قلوب هؤلاء أصبحت قاسية لاحظ لها من حس الثواب، وقسوة القلب إنما هي متأتية من كثرة الذنوب التي يقترفها الإنسان. ويدل قوله (لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها) على ان هذا الإنسان اصبح غافلا عن مصلحته، وعما ينفعه وما يضره، فلا يستطيع رؤية الأشياء على حقيقتها، بسبب الرين الذي غشي قلبه، ويكون همه الوحيد إشباع نزواته ورغباته، وإطاعة نفسه الأمّارة بالسوء، وبذلك يكون قد سلك طريقا شائكا يؤدي به إلى الهلكة.

وقال الإمام: «اعلم ان لكل ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه»[١١]. في هذا النص كلمتان على زنة (فاعل) هما (ظاهر، وباطن) وهما من أبنية اسم الفاعل ومشتقتان من الفعل الثلاثي (ظهر، وبطن).

يدل النص على ان لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة من أحواله أمرا باطنا يناسبها من أحواله، والحالتان الظاهرتان هما ميله إلى العقل وميله إلى الهوى، فالإنسان المتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة والهناء والفوز، فهذا الذي طاب ظاهره وطاب باطنه، واما المتبع لمقتضى هواه ونفسه الأمارة بالسوء التي تسعى وراء الشهوات والملذات فسوف يجد الشقاء والهوان، وهذا هو الذي خبث ظاهره وخبث باطنه[١٢]. وعبر الإمام  بـ(ما) لان المقام يتضمن الحديث حول الأخلاق وما تنطوي عليه الضمائر، فما طاب من هذه الأخلاق والملكات يطيب باطنه، يعني ثمرته، وهي السعادة، وكذلك العكس. فكأنما صارت حالة الإنسان الباطنة انعكاسا لحالته الظاهرة ونتيجة عنها.

وقال الإمام: «اتقوا معاصي الله في الخلوات، فان الشاهدَ هو الحاكمُ»[١٣]. يتضمن النص كلمتين على زنة (فاعل) هما (الشاهد، والحـاكم) وهما من أبنية اسم الفاعل، ومشتقتان من الفعل الثلاثي (شهد، وحكم).

يستفاد من النص عدة أمور منها:

أولا: يدل النص على علم الله وأحاطته سبحانه بكل شئ، فهو المطلع على خفايا الأمور، ويعلم السر وما تخفي الصدور، فجدير بالإنسان ان يتقي الله سبحانه في سره وإعلانه، فإذا كان العبد متقيا الله في سره فمن باب أولى ان يكون متقيا في إعلانه.

ثانيا: يدل النص على عدل الله، فهو الشاهد عليهم وهو الحاكم بينهم، فإذا كان الشاهد هو الحاكم استغنى عمن يشهد عنده.

وقال الإمام: «فاعملوا والعملُ يُرفعُ، والتوبةُ تنفعُ، والدعاءُ يُسمعُ، والحالُ هادئةٌ، والأقلامُ جاريةٌ»[١٤].

في النص كلمتان على زنة (فاعل) هما (هادئة، وجارية)، وهما من أبنية اسم الفاعل، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المجرد (هدأ، وجرى).

يستفاد من النص أمور منها:

الأول: يدل النص على ان حياة الإنسان في هذه النشأة قصيرة، وزائلة، وانه لابد مفارقها، وراحل عنها.

الثاني: يلحظ في النص الدعوة إلى العمل الصالح، ما دام هناك متسع للإنسان يقبل فيه العمل، و تنفع فيه التـوبة، يسمـع منه الدعاء، وكل هذا متعلق بالقيـد المذكور وهو قوله: (والأقلام جارية )، أي اعملوا مادام التكليف باقيا، والملائكة الحفظة يكتبون أعمال العباد.

الثالث: يـدل قوله: (والحال هادئة) ان حـال الإنسان في هذه النشأة هادئة ساكنة، ليس فيها من أهوال القيامة من تلك الأمور الفظيعة نحو تطاير الصحف، ونطق الجوارح، وعنف السياق إلى النار.

وقال الإمام  في صفة أهل البيت : «لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهدٌ صادقٌ، وصامتٌ ناطقٌ »[١٥].

في هذا النص أربع كلمات على زنة (فاعل) هي (شاهد، وصادق، و صامت، وناطق)، وهي من أبنية اسم الفاعل ومشتقة من الفعل الثلاثي (شهد، وصدق، وصمت، ونطق).

نلمس في النـص دلالة على عصمة أهل البيت، فقـوله: (فهو بينهم شاهد صادق) يدل على انهم يطبقونه بكل حذافيره، فيأخذون بحكمه كما يأخذ بحكم الشاهد الصادق. ويدل قوله (صامت ناطق) على ان الدين بينهم ناطق، لانه لا ينطق بنفسه، بل لابد له من مترجم، وهم تراجم الوحي، ومنبع الرسالة، عنهم يؤخذ العلم، وبهم يقتدى بالعمل، فهم يطبقون القرآن بكل حذافيره، ولا نغالي إن قلنا انهم القران الناطق، لان أعمالهم مطابقة لما جاء به القران الكريم من أحكام وتعاليم، فالدين فيهم صامت في الصورة، وهو في الحقيقة انطق الناطقين، لان الأوامر والنواهي والآداب وكل ما جاء به القران من أحكام موجودة ومطبقة فيهم سلام الله عليهم.

ولا يخفى ما في الكلمات (شاهد، وصادق، وصامت، وناطق) من دلالة على الثبوت، وهو ثبوت اقتضاه السياق.

ومما يقوي القول بدلالة اسم الفاعل على الثبوت مجيئه في القران الكريم دالا على الثبوت والدوام، من ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ»[١٦]، حيث توحي لفظة (واحد) بالدلالة على الثبوت والاستمرار، إذ يراد بالواحد (ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم ولا يبدلها قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا ويراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف)[١٧].

ومنه أيضا قوله تعالى: «مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ»[١٨]، حيث تدل لفظة (مالك) في هذه الآية على اتصاف الله تعالى بهذا الوصف على وجه الدوام والاستمرار فهو وصف ثابت، لا عارض ولا محدد بزمن من الأزمنة[١٩]، إذ ان ملك الله  غير مقتصر على زمن دون آخر.

ومنه أيضا قوله تعالى: «غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ»[٢٠]، حيث تدل الكلمتان (غافر، وقابل) على ثبوت الحدث واستمراره، إذ ان الله  لا تنقطع مغفرته فهو غفور رحيم، ولا ينقطع قبوله للتوبة فهو التواب الرحيم.

ومنه أيضا قوله تعالى في صفة النار:«تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَة »[٢١]، حيث تدل لفظة (حامية) على شدة هذه النارواستمرار ديمومتها على الكافرين، أما لفظة(آنية) فتدل على ان أهل لظى يسقون من هذه العين ذات الحرارة المتناهية على وجه الدوام والثبوت.

صياغة اسم الفاعل من غير الثلاثي

أما صياغة اسم الفاعل من غير الثلاثي فتكون بإبدال حرف مضارعه ميما مضمومة وكسر ما قبل الآخر[٢٢]. وأبنية اسم الفـاعل من غير الثـلاثي التي وردت في نهج البلاغة كثيرة، لكن ليس موضوع الدراسة إحصاء الأبنية والتقعيد لها وإنما الغرض من الدراسة تبيان دلالـة البنية داخل السيـاق المستعملة فيه، واهم هذه الأبنية ما يأتي:

مُفْعِل

استعمل الإمام  هذا البنـاء بكثرة في نهـج البلاغة، من ذلك قوله: «أُوصيكم عبادَ اللهِ بتقوى الله التي هي الزادُ وبها المعادُ، زادٌ مُبْلِـغٌ ومعادٌ مُنْجِحٌ»[٢٣]. يحوي النص كلمتين على زنة (مُفعِل) هما(مبلغ، ومنجح)، وهما من أبنية اسم الفاعل، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المزيد (ابلغ، وانجح).

يشير النص إلى أهمية التقوى التي هي الطريق إلى رضا الله، فهي الزاد الذي يوصل الإنسان إلى مبتغاه في سفره إلى الآخرة، ويصادف عنده النجاح والفوز. وكلام الإمام هنا على وجه الحقيقة، فالحدث الذي في الكلمتين (مبلغ، ومنجح) هو حدث على وجه الثبوت، وهو ثبوت اقتضاه السياق.

وقال الإمام: «فلا تقتلوا مُدْبِرا، ولا تُصيْبوا مُعْوِرا»[٢٤]. في هذا النص كلمتان على زنة (مُفعِل) هما (مدبر، ومعور)، وهما من أبنية اسم الفاعل، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المزيد (أدبر، واعور).

تتجلى في النص وظيفة أخلاقية، تتمثل في الالتزام بكل القيم والأخلاق الحميدة التي أمر الإسلام بها، حتى مع ألد الأعداء، حيث يوصي الإمام أصحابه بان لا يقتلوا مدبرا هاربا خائفا من الموت، ولا يصيبوا معورا، وهو من اعتصم من القتل بإظهار عورته ليكف عنه، ومما زاد النص إيحاءا هذا الإطلاق الذي في الكلمتين (مدبرا، ومعورا)، حيث بعثهما الإمام منكرتين مبهمتين، مما أعطى النص سمة الشمولية في الإيحاء.

وقال الإمام: «سيهلك فيّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالا النمط الأوسط»[٢٥]. في النص ثلاث كلمات على زنة (مفعل) هي (محب، ومبغض، ومفرط) وهي من أبنيـة اسم الفاعل ومشتقة من الفعل الثلاثي المزيد (احب، وابغض، وافرط ).

يتجلى في النص تعادل موضوعي بين طرفين متقابلين، الهلاك والحب من جهة، والهلاك والبغض من جهة أخرى، بالقيد المذكور وهو الإفراط في الحب، وهذا التلازم بين الحب والهلاك، والبغض والهلاك يجعلنا نجزم بان هذا الحب أو البغض ليـس من الأعراض التي تطـرأ وتزول، وإلا لما ترتب عليه الهلاك، وإنما هو وصـف ثابت لان الحكم ثابت مادام الموضوع موجودا، فإخبار الإمام عن هـلاك هـؤلاء هو من قبيل القضية الحقيقية الواقعـة لا محالة، فلا يختلف اثنان في ان الهلاك لا يلحق إلا من كان على غير هدى، وهذا هو المستفاد من قول الإمام، إذ يقول: ان الحب وان كان مستحوذا على قلوبكم على نحو الثبـوت، إلا ان تقييده بالإفراط يجر إلى الهلـكة، وكذا الحال بالنسبة إلى البغض فانه يخرج الإنسـان عن الصواب والرشـد إلى الغـي والعمى، وبالتالي فانه من الهالكين لا محالة.

مُتَفاعِل

ان دلالة هذه البنية الصرفية على المشاركة واضحة وجلية، وتعني المشاركة اقتسام الفاعلية والمفعولية،والاشتراك فيما بينهما من حيث المعنى[٢٦].

وقد جاء هذا البناء قليلا في نهج البلاغة من ذلك قول الإمام  وصف حال الدهر: «متشابهة أموره، متظاهرة أعلامه»[٢٧].

في هذا النص كلمتان على زنة (متفاعل) هما (متشابهة، ومتظاهرة)، وهما من أبنية اسم الفاعل، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المزيد (تشابه، وتظاهر).

نلمس في النص النظرة العميقة والرؤية البعيدة التي امتاز بها الإمام، حيث وصف الدهر بان أموره متشابهة، لانه ـ كما كان من قبل ـ يرفع أناسا ويضع آخرين، ويغني من كان فقيرا، ويفقر من كان غنيا … فكذلك هو في كل زمان، أفعاله متشابهة لا تثبت لاحد ولا تدوم. وانما وصف الدهـر بهذه الأوصاف على جهة المجاز، فليس هو الذي يغني ويفقر وانما الفاعل على الحقيقة هو رب الدهر.

مُفْتَعِـل

ويصاغ للدلالة على المناجزة والمشاركة ويكون للتسبيب في السعي إليه، ويأتي للاتخاذ والتصرف[٢٨].

وقد ورد هذا البناء قليلا في نهج البلاغة من ذلك قول الإمام: «أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ»[٢٩]. في النص كلمة على زنة (مفتعل) هي (متعظ)، وهي من أبنية اسم الفاعل، ومشتقة من الفعل الثلاثي المزيد (اتعظ).

تتجلى في النص حقيقة واضحة يوجهها الإمام إلى الناس وهي طلب العلم من منابعه الأصل، حيث أمرهم بطلب العلم من (شعلة مصباح واعظ)، أي من إنسان حامل للعـلم، ولكن قيد هذا الطـلب بان يكون هذا العالم عاملا بعلمه متعظا في نفسه، لان من لم يتعظ في نفسه فبعيد ان يتعظ به غيره، وذلك لان القبول لا يحصل منه، والأنفس تكون نافرة عنه، ويكون داخلا في حيز قوله تعالى: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»[٣٠].

مُستَفْعِل، ومُتَفَعِّـل

ويدلان على الطلب والمطاوعة[٣١]، والمبالغة في الشيء، وقد ورد هذان البناءان في نهج البـلاغة في مواضع قليلة، منها قـول الإمام: «... أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوّثا»[٣٢]. في النـص كلمتان على زنة (مستفعل)، و( متفعل)، هما(مستصرخا)، و(متغوثا)، وهما من أبنية اسم الفـاعل ومشتقـتان من الفعـل الثـلاثي المزيد (استصرخ، وتغوّث).

تدل الكلمتان المذكورتان آنفا في النص على المعاناة التي واجهها الإمام (عليه السلام ) مع أصحابه، حيث تدل صيغة (مستفعل) على الطلب والإلحاح والكثرة فيه والتأكيد عليه. فالمستصرخ هو الذي يطلب النصرة مرة بعد أخرى، وكذلك صيغة (متفعل) التي تدل على طلب الشيء بكثرة مع شدة وعناء، أي انه (عليه السلام) طلب النصرة والعون من اصحابة مرة بعد أخرى، ولكنه لم يجد من يستمع إليه لانهم صموا عن السمع، وشغلتهم حياتهم الدنيا عن ذكر الآخرة.

وقال: «واحب العبـاد الى الله المتأسي بنبيه، المقتص لاثره»[٣٣].

في هذا النص كلمة على زنة (متفعل) هي (المتأسي)، وهي من أبنية اسم الفاعل، ومشتقة من الفعل الثلاثي المزيد (تأسّى).

يستفاد من النص أمور أهمها:

الأول: يدل النص على عصمة النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم)، وهي عصمة مطلقة في الأمور الدينية والدنيوية، وإلا لما جعل الله سبحانه التأسي بالنبي والسير على طريقه قيدا لحبه سبحانه للعباد. فلو كان النبي (صلّی الله عليه وآله وسلّم) يصدر عنه الخطأـ وحاشاه عن ذلك ـ لما أمر الله سبحانه العباد بالتأسي به، والسير على طريقه، وإلا لكان ظلما منه سبحانه بحق عباده. والذي لاريب فيه ان التأسي بالنبي والسير على طريقه إنما هو على جهة الدوام والثبوت، وهو ثبوت اقتضاه سياق النص.

إذ ان الدلالة الالتزامية في حب الله تعالى للعبد تقتضي ان يكون الله سبحانه راضيا عن ذلك العبد، ولا يكون ذلك إلا بمواظبة ذلك العبـد واستمراره وثباته على طاعة ربه، والتأسي بأخلاق نبيه، أما إذا حدث وطرأ تغيير ـ أي ان العبد مال لهواه وشهوته، وترك التأسي بنبيه ـ فعند ذلك ينتفي القيد المذكور.

ثانيا: يتجلى في النص حب الله  لعباده، لكن هذا الحب ليس على درجة واحدة، وانما هو متفاوت بين العباد، فاحبهم إليه سبحانه عبد جعل النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة له في كل أموره الدينية، والدنيوية، واتبع اثره. فهذا القيد جعله الله تعالى ليفاضل بين عباده.

يتضح مما تقدم ان هاتين البنيتين (مستفعل)، و(متفعل) وان كانتا من أبنية اسم الفاعل إلا انهما لا يخلوان من دلالة على الثبوت، إذا اقتضى السياق ذلك، وكذلك الحال بالنسبة لبقية أبنية اسم الفاعل.

أبنية المبالغـة

أبنية المبالغة من المشتقات الملحقة باسم الفـاعل، تأتي للدلالة على المبالغة والكثرة في الحدث المنسوب إلى الذات على وجه التغير والحدوث. فإذا أريد تأكيد المعنى وتقويته والمبالغة فيه، حول من اسم الفاعل إلى أبنية المبالغة[٣٤].

وفي العربية أوزان عديدة للمبالغة[٣٥]، كفعّال، ومفعال، وفعول.. ولكل بناء منها دلالته التي تميزه عن غيـره من الأبنية الأخرى[٣٦]، فدلالة كلمة ضحاك ليست هي الدلالـة نفسها لكـلمة ضحكة، فالضحاك مـدح، والضحكة ذم[٣٧]، فالضحكة هو (الرجل الكثير الضحك يعاب عليه )[٣٨].

صياغتها

وتصاغ أبنية المبـالغة من الفعل الثـلاثي المجرد، وقـد ورد بناؤها بقلـة من المزيـد (افعـل) نحو (دراك، ومعطـاء، وسميـع، ونذيـر) من (ادرك، وأعطى، واسمع، وانـذر)[٣٩]. ومن أبنية المبـالغة التي وردت في نهج البـلاغة ما يأتي:

فعّـال

وهـذا البناء هو من أبنية المبـالغة الكثيرة الورود في العربية[٤٠]، وتكـون المبالغة في هذا البناء من تكرار وقوع الفعل مرة بعد مرة، قال أبو هلال العسكري: (إذا فعل الفعل وقتا بعد وقت، قيل فعّال مثل علاّم، وصبّار)[٤١].

وقد اختلف العلماء في اصل (فعّـال)، هل هي للصناعة أم ان الأصل فيها المبالغة ؟

فقد ذهب بعضهم إلى ان الأصل في دلالة (فعّال) هو المبالغة، ثم نقلت إلى الصناعة لما فيها من تكرار للحدث، قال المبرد: ( وذلك قولك لصاحب الثياب ثوّاب، ولصاحب العطر عطّار … وإنما اصل هذا لتكرار الفعل، كقولك: هذا رجل ضرّاب، ورجل قتّال، أي يكثر هذا منه.. فلما كانت الصناعة كثيرة المعاناة للصنف، فعلوا به ذلك، وان لم يكن منه فعل نحو: بزاز، وعطّار)[٤٢].

وقـد ذهـب البعض الآخـر منهم إلى عكس ذلك، فـذهب أبو بكـر بن طلحة[٤٣] إلى ان (فعّـال لمن صار له كالصناعة)[٤٤] ، وتابعه في هـذا الـرأي من المحدثين الدكتور فاضل السامرائي حيث قـال: (ونحن نذهب مذهب ابن طلحة، فنرى ان فعّالا في المبالغة منقول عن فعّال في الصنعة، لانّا نـرى ان الأصل في المبالغة هو النقل من شئ إلى آخر)[٤٥].

وهذا رأي مرجوح وغير مقبول في نظر الباحث، ويمكن إثبات ذلك بعدة أمور منها:

الأول: لـو كان الأصل في (فعّـال) هو الصنعة لكان ذلك خلاف المنطق، فالمعروف ان الفعل هو الأصل والتسمية لاحقة عليه، فالطحّان لمـاذا سمي بذلك ؟ ألان هـذا هو اسم صنعته، أم لان النـاس عرفوه بذلك الفعـل على وجه الحدوث والتجدد والتكرار، فوصفوه بانه طحان، فيستدل بذلك على ان الأصل هو المبالغة في الفعل ثم نقل إلى الصنعة.

الثاني: ان القول بان الأصل في المبالغة هو النقل ما هو إلا إجحاف باللغة العربية، وانتقاص من شانها، لان هذا يعد نقصا ينسب إليها، ومثلبة تؤخذ عليها، وكيف يكون ذلك وهي لغة القران، فلم ترد هذه الصيغة في القران الكريم إلا للمبالغة[٤٦]، فالقران الكريم هو ابرز دليل على ان الأصل في أبنية المبالغة هو المبالغة وليس غيرها.

الثالث: لقد التبس الأمر على الدكتور السامرائي في قوله بان الأصل في المبالغة إنما هو النقل، فقوله هذا مبني على ما رآه من تشابه بين الصيغ ليس إلا. وقد فاته الالتفات إلى ان في العربية الكثير من هذا النوع من التشابه بين الصيغ، وهذا التشابه فيما بين الأبنية هو مما تميزت به العربية، ويعتبر سمة من سمات نموها وتطورها، وسنورد بعضا من هذه الأبنية:

فُعال

ـ مصدر الفعل الثلاثي الدال على حال أو صوت نحو: سعال، ونباح.

ـ صفة مشبهة من (فَعُل) نحو: شجاع.

فِعال

ـ مصدر الفعل الثلاثي الدال على امتناع نحو: إباء، ونفار.

ـ أحد أوزان جموع التكسير نحو: قصاع، وذئاب.

٣- فُعُول

ـ مصدر الفعل الثلاثي اللازم نحو: قعود، وجلوس.

ـ أحد أبنية جموع التكسير نحو: كبود، ونحور.

٤- فَعَـل

ـ مصدر الفعل الثلاثي على وزن ( فَعِلَ) نحو: فَرَح.

ـ أحد أبنية الصفة المشبهة نحو: بطل.

٥-  فُعْـل

ـ أحد أبنية الصفة المشبهة نحو: صُلْب.

ـ أحد أبنية جموع الكثرة نحو: حمر.

٦-  فِعْـلة

ـ مصدر النوع نحو: جِلسة.

ـ أحد جموع القلة نحو: فِتية.

الرابع: إننا لو قلنا بهذا الرأي وهو ان الأصل في المبالغة النقل، عند ذلك يجب علينا الإقرار بنظرية الاصطلاح والمواضعة، فيجب ان يكون قد وصلنا من طريق الرواة خبر يؤيد هذا الرأي، أي ان مجموعة من العلماء اصطلحوا على نقل هذا البناء من الصنعة أو غيرها إلى المبالغة كما هو اليوم في المجامع العلمية، لكن شيئا من هذا لم يحدث، فلم يصلنا أي خبر من الرواة يؤيد هذه النظرية، ومن ثم فان القول بالنقل هو قول ضعيف، ولا يؤخذ به، وبذلك فان الأصل في صيغة (فـعّال) هو المبالغة، وكـذلك هو الحال بالنسبة لبقـية أبنية المبالغة.

وقد ورد بناء (فعّال) كثيرا في نهج البـلاغة، ومن ذلك قـول الإمام  من كـلام له يصف فيـه الدنيا، قـال: «غـرّارة ضرّارة،.. أكـالة غوّالة...»[٤٧].

في النص أربع كلمات على زنة (فعّال) وهي من أبنية المبالغة، ومشتقة من الفعل الثلاثي المجرد (غرّ، و ضرّ، واكل، وغال).

يستشف من النص ان الدنيا تغـر المتمسك بها، فتتزين له وتغويه برونقها وزخرفها، فما ان تتمكن منه وتحكم بقبضتها عليه، في ذلك الوقت تكشف له عن نقابها، وتظهر له وجهها الحقيقي، فتكون كالوحش الكاسر الذي يتربص بفريسته لافتراسها، فلا ينال الإنسان منها سوى الآلام، بفقد الأحبة والأعزاء، وكما نالت من أحبته ستنال منه، لان هذا هو ديدنها، وهذه هي فعالها.

وقال الإمـام  من كـلام له يصف فيه العبد الصالح المطيع لله سبحانه: «كشّاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات»[٤٨].

في هذا النص كلمتان على زنة (فعّال) هما (كشّاف، ودفّاع)، وهما من أبنية المبالغة، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المجرد (كشف، ودفع ).

يستفاد من النص ان الأيمان درجات، وهذه درجة من درجاته، حيث يصبح العبد راسخ الأيمان بالله، وبالتالي فانه يـرى الأمور على حقيقتها، لا يلتبس عليها غامضها، فوصفه الإمام  بانه (كشاف عشوات)، أي انه كثير الكشف عن الأمور المبهمة التي تلتبس على الناس، والتي تكون سببا في خلاف الكثيرين منهم. ووصفه بانه (دفاع معضلات) أي انه كثير الدفع للمعضلات والمشاكل التي يبتلى بها الناس.

وكما وصف العبـد الصالح، فانه  وصف العبـد العاصي لله سبحانه، المطـيع لهـواه في الحكم بين العباد، قال: «جاهل، خبّاط جهالات، عاش ركّاب عشوات...»[٤٩].

يحوي النص كلمتين على زنة (فعّال) هما (خباط، وركاب)، وهما من أبنية المبالغة، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المجرد (خبط، وركب).

يلمس في النص صورة ذلك الإنسان الجاهل، الذي نصب نفسه قاضيا يحكم بين العباد، وقد ركن إلى هواه في حكمه بينهم، وتومئ الكلمتان (خباط، وركاب) إلى كثرة وقوعه في الخطأ، وعـدم مجانبته للصواب، حيث لم يعتمد في أقـواله واحكامه على اصل ثابت، أو قاعدة صحيحة، ولا يدري ماله مما عليه، فكثيرا ما يركب الأمـور الملتبسة، ولا يتوانى في إصدار القرارات والأحكام حسب هـواه، وما تقتضيه نفسه.

فَعُـول

وهـذا البنـاء من أبنيـة المبـالغة التي ذكـرها العلمـاء[٥٠]، ويصاغ من (فَعَـلَ) اللازم والمتعدي[٥١]، للـدلالة على من كثـر منه الفعـل ودام عليـه[٥٢]. ويستوي فيـه المذكر والمؤنث نحو: رجـل صبور، وامـرأة صبور، شكـور، غفـور …[٥٣].

ويرى بعض القـدماء ان هذا البنـاء منقـول من أسماء الذوات، فان اسم الشيء الذي يفعل به يكون على (فعـول) غالبـا كالوضوء، والوقود، والسحور، و والبخور…[٥٤]

وقد ذهب إلى هذا الـرأي من المحدثين الدكتور فاضل السامرائي بقـولة: (ومن هنا استعير البناء إلى المبالغة فعندما نقول هو صبور) كان المعنى انه مادة تستنفـذ في الصبر وتفنى فيـه، كالوقود الذي يستهلك في الاتقاد، ويفنى فيه، وكالوضوء الذي يستنفد في الوضوء… )[٥٥].

وهذا الرأي غير مقبول كما بينا سابقا[٥٦]، والرأي الراجح هو ان الأصل في هذا البناء إنما هو المبالغة.وقد ورد هذا البناء في مواضع متفرقة في نهج البـلاغة، منها قول الإمام : «واعلموا عباد الله ان المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زاريا عليها، ومستزيدا لها …»[٥٧].

في النص كلمة على زنة (فعول) هي (ظنـون)، وهي من أبنية المبالغة، ومشتقة من الفعل الثلاثي (ظن) بمعنى اتهم.

يكشف النص عن بعد أخلاقي يجب ان يتحلى به الإنسان المؤمن العارف بحق الله ، وهذا البعد هو محاسبة النفس وتذكيرها بعاقبتها، فالمؤمن على حد قول الإمام لا يمسي ولا يصبح إلا وهو على حذر من نفسه، متهما إياها بالتقصير، والتواني، والفتور، وقلة العمل في طاعة الله جل وعلا، غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها، عائبا عليها، مكثرا من الطاعات لترويضها وكبح جماحها.

وقال الإمام  في صفات المتقين: «… وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور»[٥٨].

في النص كلمتان على زنة (فعول) هما (صبور، وشكور) وهما من أبنية المبالغة، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المجرد (صبر، وشكر).

يصور النص حالة الإنسان المؤمن المتقي العارف لحق الله سبحانه وتعالى، فقوله : (في المكاره صبور)، يعني انه شديد الصبر على ما يصيبه من البلاء، لا يتضجر ولا يعترض عل حكم الله وقضائه، فلا تحركه الخطوب الطارقة، والملمات الصعبة، وإنما يبقى ثابتا قوي الأيمان بالله تعالى، على يقين بان ذلك البـلاء لم يصبـه إلا لمصلحة اقتضاها البـاري جـل وعلا. أما قوله: (وفي الرخاء شكور) فيعني انه كثير الشكر لله سبحانه، في مواضع النعمة، فكلما شكر الله أيقن انه عاجز عن الشكر الذي يليق بالذات المقدسة.

فَعِيْـل

وهذا البناء من أبنية المبالغة، ويصاغ من الفعل اللازم والمتعدي[٥٩]، للدلالة على من صار منه الأمر كالطبيعة[٦٠]، نحو رحيم، وعليم، وسميع، وبصير..، ويـرى الدكتور السامرائي ان هذا البنـاء منقـول من (فعيـل) من أبنية الصفة المشبهة إذ يقـول: (ان هذا البناء منقول من (فعيـل) الذي هـو من أبنية الصفة المشبهة.. وبناء (فعيـل) في الصفة المشبهة يـدل على الثبوت فيما هو خلقة او بمنزلتها، كطويل، وقصير.. وهو في المبالغة يدل على معاناة الأمر وتكراره حتى اصبح كأنه خلقة في صاحبه، وطبيعة فيه، كعليم، أي هو لكثرة نظره في العلم وتبحره فيه اصبح العلم سجية ثابتة في صاحبه، كالطبيعة فيه)[٦١].

لقد بينا فيما سبق عدم صحة هذا الرأي، أي القول بالنقل في أبنية المبالغة[٦٢]، وقد أثبتنا ذلك بعدة أمور، ولعل المقام هنا يقتضي إضافة أمر آخر، وهو ان بناء (فعيـل) في الصفة المشبهة بعيد في دلالتـه كل البعد عن (فعيـل) الذي من أبنية المبـالغة، ولكل بنـاء منها دلالته التي تميزه عن غيره، ولا جـامع بينهما سوى التشابه في البنية، وهذا من خصائص العربية وسرّ من أسرارها كما مر سابقا.

ثم إننا لو قلنا بهذا الـرأي كيف يمكن ان نفسر قـول الدكتور السامرائي في لفظة (عليم): (هو لكثـرة نظره في العـلم وتبحره فيه اصبح العلم سجية ثابتة في صاحبه كالطبيعة فيه )[٦٣] ، كيف يمكن ان نفسر هذا القول بإسناده إلى الله جل وعلا وهو (العليم)، فكيف نسند المعاناة وتكرار الأمر إلى الذات المقدسة.

أما ما ورد من هذا البناء في نهج البلاغة، فكان في مواضع منها قول الإمام من كلام له في صفات الله سبحانه وتعالى، قال: «.. بصير لا يوصف بالحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة..»[٦٤]. في النص كلمتان على زنة (فعيل) هما (بصير،ورحيم)، وهما من أبنية المبالغة، ومشتقتان من الفعل الثلاثي المجرد (بصر، ورحم). يدل قوله: (بصير لا يوصف بالحـاسة) انه سبحانه لا يعزب عنه شئ من المبصرات وأحوالها، أو ان يكـون بمعنى مبصر للأشياء المبصرات مدرك لها، ولا حاسة ولا جارحة على كل واحد من القولين، لان الله سبحانه ليس بجسم تعالى عما يصفون. ويدل قوله: (رحيم لا يوصف بالرقة) انه سبحانه منعم على عباده بكل ما هو خير لهم، لان لفظة الرحمة من صفاته سبحانه تطلق على إنعامه على عباده ولطفه بهم[٦٥].

يتبع......

----------------------------------------
[١] . ينظر المقتضب للمبرد:١/٩٩، وشرح المفصل ابن يعيش:٦ /٧٩، ٨٥ ،والاشتقاق عبد الله امين٢٤٧.
[٢] . ينظر الخصائص لابن جني: ٣/١٠٣ ، والإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب: ١/٦٤٤ ، واوضح المسالك لابن هشام الأنصاري: ٣ /٢١٦ ، التعريفات : ١٥
[٣] . ينظر دلائل الإعجاز عبد القاهر الجرجاني: ١٣٣،١٣٤،والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي :١/٤١
[٤] . دلائل الإعجاز: ١٣٣ ،١٣٤ .
[٥] . ينظر معاني الأبنية في العربية د ٠ فاضل السامرائي : ٤٦ .
[٦] . ينظر شرح الكافية للرضي: ٢ / ١٩٨ .
[٧] . هود /١٢ .
[٨] . الكشاف للزمخشري: ٢/ ٩٢ ، وينظر الاشباه والنظائر: ٢/ ٢٠١ .
[٩] . ينظر شرح ابن عقيل: ٣/ ١٣٤ ، والاشتقاق عبد الله أمين : ٢٤٧ ، والمدخل الى علم النحو والصرف عبد العزيز عتيق:٨٤
[١٠] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٦ / ٢٦٢ .
[١١] . نفسـه : ٩ /١٧٨ .
[١٢] . ينظر شرح نهج البلاغة: ٩/ ١٧٨
[١٣] . نفسه: ١٩/ ٢٣٦ .
[١٤] . شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٥ .
[١٥] . شرح نهج البلاغة: ٩/ ١٠٦.
[١٦] . البقرة / ٦١.
[١٧] . الكشاف : ١/ ١٤٥.
[١٨] . الفاتحة / ٣.
[١٩] . النحو الوافي عباس حسن: ٣ /٣٨.
[٢٠] . غافر / ٣.
[٢١] . الغاشية /٤ ، ٥.
[٢٢] . ينظر الكتـاب : ٤/٢٨٢ ، والمقتضب : ١/٧٤ ـ ٧٧، وشـرح ألا شموني: ٢ /٣٥٤ ، وشـرح ابن عقيل: ٣ /١٣٧ ، وشرح التصريح : ٢/٧٩ ، وعمدة الصرف كمال إبراهيم: ٨٣.
[٢٣] . شرح نهج البلاغة : ٧/ ٢٥٠.
[٢٤] . نفسه: ١٥ / ١٠٤.
[٢٥] . شرح نهج البلاغة: ٨ /١١٢.
[٢٦] . ينظر اسم الفاعل والمشبهات به في القران الكريم هادي علي هويدي: ٧٠ ٧٤.
[٢٧] . شرح نهج البلاغة : ٩ / ٢٠٩.
[٢٨] . ينظر شرح الشافية : ١/ ١٠٨.
[٢٩] . شرح نهج البلاغة: ٧/ ١٦٧.
[٣٠] . البقرة /٤٤.
[٣١] . ينظر شرح الشافية ١/ ١١٠ ،والبحر المحيط ١/ ٢٣.
[٣٢] . شرح نهج البلاغة: ٢/ ٣٠٠.
[٣٣] . شرح نهج البلاغة : ٩/ ٢٣٢.
[٣٤] . ينظر المقتضب: ٢/١١٣ ، وشرح الكافية: ٢/٢٠٢ ، وأوضح المسالك: ٣/٢١٩.
[٣٥] . ينظر المزهر للسيوطي: ٢/٢٤٣.
[٣٦] . ينظر أدب الكاتب لابن قتيبة: ٢٢٥ ، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري: ١٢،١٣.
[٣٧] . ينظر المخصص لابن سيدة: ٢/١٤٤.
[٣٨] . لسان العرب مادة (ضحك) : ٢/٥١٤.
[٣٩] . ينظر ارتشاف الضرب لأبي حيان الأندلسي: ٣/١٩١ ، وشرح المراح للعيني: ١٢٦.
[٤٠] . ينظر الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس: ٢٢٤ ، وشرح الشافية: ٢/٨٥ ، والمزهر: ٢/٢٤٣.
[٤١] . الفروق في اللغة: ١٢.
[٤٢] . المقتضب:٣/ ١٦١ ، وتابعه في هذا الرأي الرضي الاسترباذي في شرح الشافية:٢/ ٨٤ـ٨٥.
[٤٣] . وهو أبو بكر محمد بن طلحة بن محمد الأموي الاشبيلي (ت ٦١٨ هـ ).
[٤٤] . ينظر ارتشاف الضرب: ٣ / ١٩١ ، وهمع الهوا مع للسيوطي: ٥/٨٨.
[٤٥] . معاني الأبنية : ١٠٨.
[٤٦] . ينظر العربية الفصحى هنري فليش ٧٩.
[٤٧] . شرح نهج البلاغة: ٧ / ٢٢٦.
[٤٨] . شرح نهج البلاغة: ٦/ ٣٦٣.
[٤٩] . نفسه: ١/ ٢٨٣.
[٥٠] . ينظر الكتاب: ٤/٣٥٤ ، والصاحبي في فقه اللغة: ٢٢٤ ، والمزهر: ٢/٢٤٣.
[٥١] . ينظر أبنية الصرف في كتاب سيبويه: ٢٧١، والاشتقاق فؤاد حنا ترزي : ٢١٨
[٥٢] . ينظر ديوان الأدب الفارابي : ١/ ٨٥ ، والفروق في اللغة: ١٢ ، وهمع الهوامع: ٥/ ٨٨.
[٥٣] . ينظر أدب الكاتب : ٢٢٩ ، والنهاية لابن الأثير: ٢/ ١٨٥.
[٥٤] . ينظر شرح الشافية : ١/ ١٦٢.
[٥٥] . معاني الأبنية: ١١٤.
[٥٦] . ينظر صفحة ٢٩  ٣١ من هذا الكتاب.
[٥٧] . شرح نهج البلاغة: ١٠ / ١٦.
[٥٨] . شرح نهج البلاغة : ١٠/١٤٩.
[٥٩] . ينظر الدلالة الصرفية في شعر لبيد ١٢٧
[٦٠] . ينظر ارتشاف الضرب ٣/ ١٩١.
[٦١] . معاني الأبنية ١١٧.
[٦٢] . ينظر صفحة ٣١ ٣٣ من هذا الكتاب.
[٦٣] . معاني الأبنية ١١٧.
[٦٤] . شرح نهج البلاغة ١٠/٦٤.
[٦٥] . ينظر اشتقاق أسماء الله للزجاجي ١٠١ ، والتبيان للشيخ الطوسي ٣/ ٢٣٤.
****************************