الشيخ حسن الصفار
المؤسسات التخصصية في المجتمع
في البدء أجد من واجبي الإشادة وإبداء التقدير لهذا النهج الذي سلكه الإخوة الأعزاء في بيت الحكمة حينما اختاروا نهج البلاغة موضوعًا للندوات والمحاضرات الشهرية التي تقيمها هذه المؤسسة الثقافية، فنحن بحاجة ماسّة إلى وجود تخصصات في العمل الثقافي في مجتمعاتنا، فمن الضروري أن تكون هناك مؤسسات تهتمّ بالقرآن الكريم تفسيرًا وحفظًا وتجويدًا وكل ما يرتبط بعلوم القرآن ومعارفه، وكذلك لا بدَّ أن تكون هناك مؤسسات تهتمّ بنهج البلاغة، وأخرى بالصحيفة السجّادية ورابعة بالأدب العربي وخامسة بالتاريخ وغيرها بالعقيدة والفقه، حتى تأخذ المعرفة والثقافة مداها في شتى المجالات، وحتى تكون الجهود جهودًا تخصصية مركّزة تتراكم فيها التجربة والخبرة.
لماذا الحديث عن أخلاقيات الصراع؟
العنوان المختار لهذه الندوة هو «أخلاقيات الصراع في نهج البلاغة»، واختياره يأتي لسببين، هما:
الأول: أن الإمام علي بن أبي طالب ابتلي في حياته ـ وبخاصّة في عهد خلافته ـ بالصراعات والخلافات مع خصومه، فبرغم المدّة القصيرة التي قضاها في الحكم (خمس سنوات تقريبًا) إلا أن الفتن والصراعات في تلك المدّة الزمنية المحدودة كانت كثيرة وعديدة، وقد واجهها أمير المؤمنين بصبر وثبات وحكمة وأخلاق.
لذلك تأتي دراسة أخلاقيات الصراع في نهج البلاغة من باب تسليط الضوء على جانب مهم من فكر وسيرة الإمام علي ومواقفه.
الثاني: أن ظاهرة الصراعات لا يخلو منها مجتمع، وقلَّما يستطيع تجنّبها فرد من الأفراد أو فئة من الفئات. ولكنّها قد تكون في بعض الأوقات أكثر، وفي بعض المجتمعات بصورة أكثف.
ويبدو أن المرحلة الحاضرة التي نعيشها هي مرحلة انبعاث وتحول في مجتمعاتنا، وعادة ما يصاحب ذلك حالة من الصراع والاختلاف، فينبغي أن يكون هناك هدي وبصيرة للتعاطي مع مثل هذه المشكلة.
أسباب الصراعات والاختلافات
الصراعات والخلافات تنبعث من أحد أسباب أربعة، هي كالتالي:
(١) الاختلاف في الرأي والتوجّه الفكري
لا يتفق جميع الأفراد في أي مجتمع من المجتمعات، وكذلك لا يتفق توجّه جميع المجتمعات والشعوب في اتجاه ورأي واحد، فالاختلاف سنّة إلهية.
وربما تكون حالة الاختلاف في الرأي أو الموقف سببًا في وقوع عدد من الصراعات الفردية أو بين بعض المجتمعات، بحيث تدفع هذه الاختلافات نحو الصراع، وبخاصّة حينما يريد البعض الانتصار لرأيه بأسلوب صدامي، فيتحول الاختلاف أداة من أدوات التصارع والنزاع.
(٢) تضارب المصالح والمكاسب
غالبًا ما يكون تضارب المصالح والتنازع على المكاسب هو الدافع الأبرز لنشوء حالة الصراع، فأغلب الصراعات في المجتمعات البشرية هي صراعات على المصالح والمكاسب، سواء كانت هذه المصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، كما أنها في هذا الصراع قد تأخذ لها عناوين أخرى وتحت شعارات رنّانة، لكنها في جوهرها هي صراعات على المصالح أو المكاسب.
(٣) الحالة المزاجية وأسلوب التعامل
في بعض الأحيان لا يكون هناك اختلاف في الرأي أو صراع من أجل المصلحة، لكن سوء أخلاق التعامل يحدث صراعات وخلافات وحساسيات شخصية، وهذا ما نجده في الخلافات الزوجية، وبين الجيران، وبين الناس عمومًا في تعاملهم مع بعضهم بعضًا، فقد تخرج بعض الكلمات أو التعبيرات النابية، أو يصدر تصرف غير مناسب، وسرعان ما يولّد حالة من الانفعال والغضب، تصل في بعض حالاتها إلى نوع من الخلاف المحتدم والمتصاعد، وذلك بسبب هذه الحالة المزاجية أو سوء الأخلاق.
(٤) التدخل السلبي للأطراف الأخرى
قد تنشب بعض الصراعات بسبب وجود طرف ثالث يدفع باتجاه الاختلاف والصراع بين شخصين أو فئتين، ففي بعض الحالات قد لا يكون هناك مبرر كافٍ لبروز حالة الصراع، ولكن بسبب تدخل طرف خارجي أو داخلي يدفع باتجاه هذا النوع من الخلاف، تحدث هناك بعض حالات التصارع والنزاع.
أخلاقيات الصراع في نهج البلاغة
حينما نقرأ نهج البلاغة نجد أن الإمام علي تحدث كثيرًا حول هذا الموضوع، بل قد نرى أن الجزء الأكبر من نهج البلاغة هو لمعالجة مشكلة الصراع وأساليب التعامل معها.
وقد سجلتُ عناوين كثيرة حول هذا الموضوع وجدت أنها ذات علاقة مباشرة بمسألة أخلاقيات وآداب الصراع مع الآخر، وقد قضيتُ وقتًا ممتعًا في قراءة نهج البلاغة للبحث حول هذا الموضوع، فوجدتُ عناوين كثيرة فيه يمكن استنباطها واستنطاقها للحديث حول هذه المشكلة، وسأتحدث هنا بما يسمح به المجال حول بعضها، وهي كالتالي:
(١) التوجيه إلى تجنّب الصراع والخلاف
في نهج البلاغة توجيهات كثيرة من أمير المؤمنين حول تجنُّب الدخول في أي صراع أو خلاف ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلاً، لأن الصراع والخلاف ليس أمرًا ممتعًا ومريحًا، إنما هو عبء على نفس الإنسان، ويستهلك جهده وطاقاته ويجعله يعيش في حالة من الألم والضيق النفسي، كما أنه يبدّد طاقات المجتمع ويسبّب حالة من الفرقة والشقاق بين مجموعاته وأفراده، من هذا المنطلق ينبغي على الإنسان العاقل أن يتحلّى بالحرص على تجنّب أي صراع ما أمكنه ذلك، فلا يبادر بالخصومة مع الآخرين، ولا يكون سببًا في وقوع خصومة أو عداوة بينه وبين أي طرف، بل يحاول إيجاد المخارج والحلول، لا أن يقع فريسة الاستفزاز والاستدراج التي يمارسها البعض لإحداث الفتن والنزاعات داخل المجتمع، لكي يكون هو المستفيد منها.
لذلك على الواعين من أبناء المجتمع أن يمتلكوا الوعي لمثل هذه المؤامرات والاستفزازات، الخارجية والداخلية، لأن الصراع والخصومة نفق إذا دخلت فيه فئة من الفئات لا تعلم متى وبأي كيفية ونتائج ستخرج.
ومن أبرز التوجيهات الداعية إلى هذا الأدب في مسألة الصراع ما ورد بشأن اتصاف الإنسان بصفة الحلم في مواجهة حالة الانفعال والاعتداء من قبل الطرف الآخر، فهناك تأكيد من الإمام على صفة الحِلم، وذلك في مقابل ما يتعرّض له الإنسان من استفزازات، التي إذا استجاب لها برزت عوامل الصراع والخصومة، بينما إذا اعتصم الإنسان بالحلم سَلِمَ من الوقوع في ذلك الفخ.
ولذلك يؤكّد الإمام على موضوع الحلم، فيقول : «اكْظِمِ الْغَيْظَ، وتَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدَرَةِ، واحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ، واصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ، تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ» [١] ، في هذا النص يبيّن الإمام علي بأن الحليم هو المستفيد في عاقبة الأمور.
وفي كلمة بليغة له حول الخصومة، يقول فيها: «الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ» [٢] .
والفدام لغة: رباط الفم.
وهذه كلمة جميلة، يعبّر فيها الإمام علي عن الحالة التي تصيب السفيه عندما يحاول استفزاز شخص، فلا يستجيب لاستفزازه، وكأنه أخرسه، لأن الحليم عندما لا يستجيب لاستفزاز السفيه كأنه ربط لسانه.
وفي مسألة عدم الدخول في الصراعات ترد عن الإمام كلمة أخرى في ذلك، يقول : «إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ» [٣] .
لأن البعض قد يعتذر عن مسألة الغضب وسرعة الانفعال التي يقوم بها بحجّة أنه لا يتمالك نفسه، وبأن هذه صفة نفسية لا يستطيع التحكّم فيها، لذلك يوجّه الإمامُ علي الإنسانَ إلى أن يبذل جهده بأن يتحلّى ببعض الصفات، حتى لو لم تكن من طبعه وسجيته، فينصحه بأن يروّض نفسه على ذلك، حتى لو لم تكن هذه الحالة موجودة في نفسه إلى أن يوجدها.
ومن كلمه ووصاياه في مسألة تجنّب الصراع وصيته لمعقل بن قيس الرياحي، يقول فيها: «ولا تُقَاتِلَنَّ إِلا مَنْ قَاتَلَكَ» [٤] .
وفي عهده لمالك الأشتر حين أنفذه إلى مصر يقول فيه: «ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلادِكَ»، وهي كلمة يطبق فيها الإمام التوجيه القرآني الكريم الوارد في قوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [٥] .
فالإمام علي بن أبي طالب في هذا العهد التفصيلي الذي بعث به واليه على مصر مالكًا الأشتر يوصيه بأنه من آداب المعركة العسكرية ـ حينما تظهر لدى العدوّ بوادر لوقف القتال وفرص المصالحة ـ فعلى قائد المعركة أن يستجيب لهذه المبادرة.
ومن كلماته في نهج البلاغة بهذا الشأن مقولته الشهيرة: «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ ولا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ» [٦] .
حيث إن الإمام في هذه الكلمة يحذر الإنسان من الانجرار إلى الخلافات التي تكون بين أطراف بينهم مصالح وخلافات شخصية لا علاقة له بها، ويحذر الإنسان ألاَّ ينساق للدخول في صراعات لا مصلحة له فيها.
ومن كلماته المؤثرة في هذه النقطة كلمة يحذر فيها من أي خصومة، فيقول: «إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَماً» [٧] .
يريد بالقحم: المهالك، لأنها تقحم أصحابها في المهالك والمتالف.
وكلمة أخيرة نوردها في خصوص الابتعاد عن الخصومة، يقول : «مَنْ بَالَغَ فِي الْخُصُومَةِ أَثِمَ، ومَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظُلِمَ، ولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ مَنْ خَاصَمَ» [٨] .
لأن الإنسان إذا بالغ في الخصومة واستعمل في ذلك قوته لمواجهة خصمه أثم، في حين اعتدى على الخصم، وفي المقابل عندما يستعمل خصمه كامل قوّته ولا يقابله بما يدفعه عنه يُظْلم. ثمَّ يحذّر من مسألة الخصومة، لأن من يدخل في خصومة حادّة يصعب عليه ـ عادة ـ أن يراعي التقوى والالتزام بالحدود الشرعية، لأن الإنسان يجد نفسه في حال من الصراع والتنافس مع الطرف الخصم، فيريد ان ينتصر لذاته حتى لو خالف ذلك حدود التقوى.
(٢) حين يفرض الصراع دفاعًا عن المصلحة العامّة
في بعض الأحيان يُفْرَض الصراع على الإنسان، ويُضْطَّر إلى الدخول فيه، مراعاة للمصلحة العامّة، والدفاع عن الدين والمبدأ.
وقد واجه الإمام علي هذا النوع من الصراع، فقد خاض في فترة حكمه التي استمرّت لأقل من خمس سنوات ثلاثة حروب كبيرة (الجمل وصفّين والنهروان).
فالإمام وجد نفسه في موقع المسؤولية ومضطرًّا لخوض مثل هذه الصراعات، وقد تحدّث في أكثر من مورد بأنه كان مضطرًّا لمثل هذه المواجهة، ومن أمثلة ذلك عندما أشير عليه بألاَّ يتبع طلحة والزبير وألاَّ يرصد لهما القتال، فقال: «وَاللهِ لا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا ويَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا ولَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ» [٩].
الإمام في هذه الكلمة يريد أن يبيّن نقطة مهمّة، وهي بأن هناك من هو مقبل على الحق، وهناك من هو مدبر عنه معادٍ له، والمسؤولية التي يتحملها الإمام بما يتقلّده من منصب الخلافة والإمامة أن يحارب هؤلاء المحاربين والمعادين للحق بأولئك المؤمنين المقبلين على الحقّ.
وفي كلمة أوضح في هذا السياق يتحدّث الإمام حول معركة صفّين وكيف أنه خاض الحرب والصراع هناك وقاتل جيش معاوية، حيث يقول: «وقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الأمْرَ بَطْنَهُ وظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، ومَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآخِرَةِ» [١٠].
الإمام في هذا النص يريد أن يوضح نقطة مهمّة، وهي أنه يتحمّل مسؤولية وواجبًا شرعيًّا، فهو في موقع الإمامة وقيادة الأمة، ولا يستطيع أن يتخلّى عن تحمّل هذه المسؤولية، فما وجد حلاًّ يسعه إلا قتالهم أو يخالف ما جاءت به تعاليم الرسالة الإسلامية، فكان قتالهم أهون من مخالفة هذه التعاليم والمبادئ الإلهية.
وقال : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ولا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الإصْلاحَ فِي بِلادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ [١١].
وكلمة أخيرة أنقلها هنا عنه ، يقول: «وإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ» [١٢] . وهي كلمة بليغة تبيّن أن مسألة الدخول والصراع تكون آخر الحلول التي يلجأ إليها ، وذلك بعد استنفاذ جميع الحلول الأخرى.
(٣) تجاوز طرح موضوع الخلافة
تعد مسالة الخلافة وما دار حولها من خلاف من أكثر الموضوعات حساسية في تاريخ الإسلام، فتشعبت بسببها المذاهب والمدارس، حيث كان أساس الخلاف مسألة خلافة رسول الله ، وحصلت صراعات دامية بسبب الموقف من هذه المسألة الحساسة.
ونحن حينما نقرأ نهج البلاغة لنتتبّع موقف الإمام من إثارة هذه المسألة لا نجدها حاضرة بقوّة، مع أن الإمام علي هو المعني بالموضوع بالدرجة الأولى، لأنه ـ كما نعتقد وكما يشير هو ـ هو صاحب الحق الشرعي في هذا المقام، ولكنه مع ذلك كان يتجاوز إثارته، فما كان يتحدّث حوله، ولا كان يثيره، وحينما كان البعض يثيره فإن الإمام كان يمرّ عليه مرورًا سريعًا ولا يقف عنده طويلاً.
وهنا علينا أن نتساءل عن حالة الحماس التي نجدها عند الكثيرين في طرح هذا الموضوع بطريقة قد تكون مثيرة للأطراف الأخرى، بينما نجد أن صاحب القضية، وهو الإمام علي ما كان يطرح هذا الموضوع أو يقف عنده بهذه الصورة المبالغ فيها في بعض الأحيان.
إننا عندما نراجع خطب وكتب نهج البلاغة لا نرى الإمام يتطرّق كثيرًا إلى هذه المسألة إلا بشكل عام وبإعطاء الإشارات واللمحات، بل إن الخطبة الوحيدة التي تطرّق فيها بشيء من التفصيل لهذه المسألة ـ وهي الخطبة الشقشقية ـ لم تكن تلك العبارات التي تحدّث بها الإمام حول هذا الموضوع إلا في لحظة من لحظات التنفيس وزفرات الألم العابرة، ولم تكن موضوعًا يشغل بال الإمام .
وهي من نوادر الخطب التي تحدّث فيها الإمام عن الخلافة بهذا التفصيل، وهي الخطبة الثالثة في نهج البلاغة، يقول فيها : «أَمَا واللهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلانٌ وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، ولا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى، وفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً».
وفي هذه الخطبة يبيّن موقفه من استلام الخلافة في هذا الوقت وصراعه لمعاوية ليزيحه عن ولاية الشام، وهو الذي لم يصارع من أجل الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان، فيقول: «أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ إلا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ».
حيث يشير إلى أنه لو لا ما حصل من تدافع الناس عليه وإبدائهم النصرة له، وما أخذ الله على العلماء من واجب لرفع الظلم عن الناس، لألقى حبل الخلافة على غاربها، فهي لا تساوي عنده عفطة عنز.
وبعد هذا المقطع قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الإجَابَةَ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوِ اطَّرَدَتْ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ؟»، فَقَالَ: «هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فَوَاللهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلامِ إلا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ».
فالإمام في هذه الخطبة كان من الواضح أن حديثه عن موضوع الخلافة كان موضوعًا جانبيًّا، وما تحدّث به كان زفرة من زفرات الألم، وإلا فهو ليس من منهجه الإغراق في الحديث عن هذا الموضوع، لأنه موضوع قد انتهى وتجاوزه إلى واقع جديد.
وفي كلمة أخرى له يتحدّث فيها عن موضوع الخلافة، وذلك لمّا عزم المسلمون على بيعة عثمان، حيث قال : «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، ووَاللهِ لأسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ».
حيث يبين في هذه الكلمة حقّه في الخلافة، ولكنه يعلن عدم إثارته هذا الموضوع ما كان ذلك في سلامة ووحدة الأمة من الفتن والصراعات، بحيث لا يقع الحيف إلا عليه خاصّة.
وفي مناسبة ثالثة يسأله أحد أصحابه: «كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟»، فقال : «يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ، إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ، ولَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وحَقُّ الْمَسْأَلَةِ، وقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ: أَمَّا الاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ، ونَحْنُ الأعْلَوْنَ نَسَباً والأشَدُّونَ بِالرَّسُولِ نَوْطاً، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ، والْحَكَمُ اللهُ والْمَعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ،وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ».
وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ ***** ولَكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ
ان الإمام في هذه الكلمة حصر موضوع الخلافة في أنه لا يتجاوز كونه استئثار من فئة وتسلط واستبداد منها، بسبب ما اعتقدت من أنه مكسب لها، والإمام عندما لم يتنافس في السعي للخلافة، كان تساميًا منه على حطام هذا المنصب، وأن الحساب والمحاكمة بيد الله سبحانه الذي نعود إليه جميعنا يوم القيامة.
ثم يلفت السائل إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي ما كان المفترض أن يسأل ويهتمّ به، وهو الخطر الحاضر والماثل، وهو الصراع مع معاوية، لا أن يشغل باله بحدث تاريخي قد انقضى قبل أكثر من ثلاثين عامًا.
وهي إلفاتة من الإمام علينا أن نأخذ منها الدرس والعبرة، فنحن مطالبين أن نعيش اللحظة الراهنة وما نواجهه من أخطار وتحديات، لا أن نعيش الماضي بهمومه وصراعاته قبل أكثر من ألف وأربع مئة سنة.
وهذا لا ينافي أن تكون لنا نظرتنا للوقائع التاريخية الماضية، ففي هذه الوقائع تأسّست عقائدنا ورؤيتنا لكثير من القضايا والمواقف، ولكن ليس معنى هذا أن نستغرق في ذلك ونوجّه إليه جميع طاقاتنا وتوجّهاتنا غافلين عمّا تعيشه الأمة اليوم من تحديات ومخاطر تحدق بها من كل حدب وصوب.
وهنا يحضرني الاستشهاد برأي للمرجع المعاصر، وهو السيد البروجردي أحد أبرز مراجعنا الشيعة في هذا العصر، حيث ينقل عنه تلامذته بأنه كان يرى بأن يركّز الشيعة في كتاباتهم وخطابهم على توجيه الناس إلى مرجعية أهل البيت العلمية وتوضيح مكانتهم وقدرهم، لا أن يثار موضوع الخلافة، وأحقيتهم في ذلك، لما قد يثيره هذا الطرح من حساسية لا تخدم الواقع المعاصر كما أنها لا تغير شيئا من واقع قد مضى، و المهم هو أن تستفيد الأمة الآن من توجهات أهل البيت ومدرستهم الأصيلة.
(٤) مراعاة المصلحة العامّة
حينما يكون هناك صراع بين فئتين فمن المفترض أن يكون هناك مراعاة للمصلحة العامّة للأمة والدين، وهذه مسالة مهمّة جدًّا، وهذا ما نجده في أمير المؤمنين كمثال بارز في سيرته، ومن أمثلة ذلك ما دار بينه وبين عمّه العباس ومع أبي سفيان حينما جاءا إليه بعد وفاة الرسول يعرضان عليه البيعة، حيث رفض ذلك، لأنه رأى أن ذلك يصطدم مع المصلحة العامّة للإسلام، مع أنه كان يرى نفسه صاحب الحق، ولكنه رفض الانصياع للرغبة الشخصية حفاظًا على هذه المصلحة.
والأحداث التاريخية تثبت كيف كانت علاقة الإمام علي مع الخلفاء جيدة وإيجابية، وما ذلك إلا حفاظًا على الدين والأمة، فالإمام لم يجعل الخلاف على موضوع الخلافة حاجزًا يمنعه من أداء واجبه الشرعي في كل ما من شأنه حفظ ورعاية هذا الدين، ولذلك أشار على الخليفة عمر ألاَّ يخرج لغزو الروم، وألا يخرج شخصيًّا لقتال الفرس، وهناك أكثر من ثمانين موردًا تذكرها كتب التاريخ والسير أشار فيها الإمام علي على الخليفة عمر في شتى الأمور.
وهذا يدلّ على أن الإمام يأخذ المصلحة العامّة بعين الاعتبار، ولا يصح أبدًا أن يكون الخلاف ـ في نظره ـ على حساب مصلحة الدين والأمة.
وهناك كلمات كثيرة في نهج البلاغة تتناول هذه النقطة أعرضت عنها خوفًا من الإطالة.
ولكنّي أدعو إلى دراسة هذا الجانب في نهج البلاغة، وبخاصّة في مثل هذه الظروف التي تعانيها الأمة، وما نعيشه داخل كل توجّه من مزايدات مذهبية، وكأننا أحرص من الدين والمذهب من أئمة المذهب، بينما لو قرأنا كلام أمير المؤمنين وبقية الأئمة الطاهرين لعرفنا الحدود التي ينبغي أن نتحرّك فيها.
وأنقل هنا نصًّا للإمام ، يوضّح فيه رؤيته لمسألة الخلاف، يقول : «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ومُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي ولا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ولا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ، واطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَهَ» [١٣].
الإمام في هذا النص يبيّن استغرابه لتنحيته عن موقعه الشرعي، ولكنّه يبيّن أنه أمسك عن البيعة في البداية لكنه لما رأى خطر الردّة عن الإسلام وضياع هيبة الأمة، بايع الخلفاء وساعدهم في مواجهة التحديات.
(٥) تصنيف المخالفين وفرزهم
من الممارسات الخطأ التي أن نصنف جميع المخالفين ونضعهم في سلّة واحدة، وهذا منطق خطأ، فالإنسان في تعامله مع الآخرين عليه أن يكون دقيقًا في تصنيف الناس من حوله، حتى المخالف والخصم منهم، وهذا ما ينتهجه الإمام علي في تعامله مع خصومه.
لأن هذه حالة نمطية تعميمية في الحكم على الآخرين، فعندما نتحدّث عن الغرب ـ مثلاً ـ علينا ألاَّ نتحدث عنهم وكأنهم فكر واحد وطبيعة واحدة، بل علينا أن نفرّق بين الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم من القوميات والثقافات، كما يجب علينا أن نبحث عن المعتدلين منهم في النظرة إلينا، فهناك في الغرب عقلاء ومعتدلون يناصروننا في كثير من قضايانا.
بل نجد هذا الأمر لدى اليهود، ليس كل اليهود مع الصهيونية وضد قضايا وحقوق الفلسطينيين، فهناك جماعات منهم يناهضون الدعوة إلى قيام إسرائيل ومع عودة الحق الفلسطيني إلى أهله، حتى داخل الأراضي المحتلّة.
وفيما يخص الحالة المذهبية، فليس من المقبول أن ينظر إخواننا من أهل السنة إلى الشيعة نظرة واحدة، لأن الشيعة تجمع كبير، وليس من المنطقي أن ينظر إليهم وكأنهم نسيج ورأي وفكر واحد.
كما أنه ليس من المقبول أن ينظر الشيعة إلى إخوانهم من أهل السنة نظرة واحدة. ونتعدى ذلك إلى المدارس، فالمدرسة السلفية داخل المذهب السنّي لا يمكن النظر إليها بنظرة واحدة، واتخاذ موقف واحد من جميع أفرادها، ففي هذه المدرسة المعتدلون، كما أن فيها المتطرّفين المتشدّدين، لذلك من المفترض بالباحث أن يفرز بين هذه التوجّهات والخطوط المتعدّدة داخل كل تيار ومذهب وطائفة.
وهذا ما نراه جليًّا في نهج البلاغة في أكثر من مورد، ومن ذلك ما يروى عنه في واقعة الجمل، ففي الوقت الذي يعد كل من طلحة والزبير جبهة واحدة ضده ، كان يميز في أسلوب التعامل معهما، وذلك عندما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل، إذ قال له: «لا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ ويَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ، ولَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ، فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً».
وهذا درس وعبرة لنا عندما نواجه أي جبهة، حيث من المفترض أن نحاول أن ندرس هذه الجبهة المخالفة دراسة فحص وعناية، حتى نقع على ما يمكننا النفاذ بواسطته إلى هذه الجبهة، وذلك من خلال المعتدلين فيها، ومن يمكن الالتقاء معهم في بعض المواقف والآراء.
وهذا أمر نلحظه في تعامل الإمام مع خصومه، وذلك في كلمة له حول الخوارج، حيث فرَّق الإمام بينهم وبين معاوية، حيث أوصى بأن لا يقتل الخوارج من بعده، يقول : «لا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»، ويعلّق الشريف الرضي على ذلك بقوله: «يعني معاوية وأصحابه».
(٦) الحوار مع الآخر
عندما نطالع نهج البلاغة نجد أن عدد الرسائل التي بعثها الإمام علي إلى معاوية في نهج البلاغة فقط أربع عشرة رسالة.
كما أننا نجد في مواضع عدّة من النهج حوارات له مع الخوارج، وحوار له مع طلحة والزبير، وكذلك مراسلات لعمرو بن العاص وغيره من المخالفين.
وهذا يدل على أن الإمام يحاور من يخالفه أيًّا كان، بينما نجد بعض مظاهر الخلاف في مجتمعنا ذي المذهب الواحد والثقافة الواحدة، بحيث إذا تخالف بعض أفراده الذين قد ينتمون إلى توجّه يختلف في بعض الجزئيات عن التوجّه الآخر لا يقابلان بعضهما إلا بوجه مكفهر، ولا يسلمان على بعضهما بعضًا، ولا يتزاوران أو يجلسان في مجلس واحد.
هذا الأسلوب ينمّ عن تخلف في الرؤية، لأن الاختلاف في الموقف لا يفسد للودّ قضية، ولا يؤدي إلى هذا النوع من القطيعة، وهو خلاف التعاليم والآداب والمبادئ التي ورثناها عن أئمتنا ، فها هو الإمام علي يحاور معاوية والخوارج، وجميع خصومه وأعدائه، لأن هذا الموقف منه يدل على قوة في الرأي والحجّة يمتلكها من يتمسّك بمبدأ الحوار، وفي المقابل يدل موقف القطيعة وعدم المواجهة على ضعف في الحجة والرأي.
(٧) آداب وأخلاقيات الصراع
نكتفي في هذه النقطة بذكر موقفين للإمام، أولهما كلمة للإمام علي لما سمع بعض أصحابه يسبون أهل الشام، حيث قال لهم: «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ واهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، ويَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ والْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ».
فما قبل من أفراد جيشه أن يواجهوا جيش معاوية بأسلوب الشتم والسبّ، حتى لو كان ذلك في حال معركة وصراع مسلّح.
وفي موقفه من أم المؤمنين السيدة عائشة عندما سئل عنها، حيث تحدّث حديثًا مختصرًا، فقال: «وأَمَّا فُلانَةُ [أي السيدة عائشة]، فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ [الحالة العاطفية الغالبة على النساء]، وضِغْنٌ غَلا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ، ولَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ، ولَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الأولَى، والْحِسَابُ عَلَى اللهِ تَعَالَى».
فالإمام بعد أن يتحدّث عن موقف السيدة عائشة وما قامت به من دور سلبي في محاربته، فإنه بعد ذلك يقول: «ولَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الأولَى»، فلها مكانتها من أنها زوج الرسول وأم المؤمنين، وأن ما قامت به يحاسبها الله عليه القيامة، أما في الدنيا فلها احترامها ومكانتها.
كما أن الإمام علي زارها في منزلها بالبصرة بعد انتهاء معركة الجمل زيارة احترام، وأعادها بعد ذلك إلى المدينة المنوّرة معزّزة مكرّمة.
ولذلك أؤكّد هنا على أن يكون تعاملنا منسجمًا مع تعامل الإمام أمير المؤمنين مع السيدة عائشة، مع انسجامنا مع الإمام علي في موقفه منها، فنخطئ موقفها في حربها للإمام علي وندينه، ولكن علينا أن نراعي ـ في تعاملنا مع السيدة عائشة ـ حرمة رسول الله .
كلمة أخيرة
موضوع آداب وأخلاقيات الصراع في نهج البلاغة موضوع كبير وواسع، والنهج مليء بالأخلاقيات والآداب حول هذا الموضوع، ولا يمكن لهذه العجالة أن تفي بالموضوع حقّه، لذا أدعو من هذا المنبر إلى دراسة النهج انطلاقًا من هذه النقطة والتوسّع فيها، فهي نقطة غنية بمادتها ودلالتها ونتائجها، وحريٌّ بنا أن نسترشد الهدي العلوي في نظرتنا وتعاملنا مع الآخر من خلال ما لدينا في هذا السفر العظيم، الذي يضم في طياته علمًا جمًّا لمَّا يكشف عنه بعدُ، يتجدّد مع مرور الأيام وتعاقب الأزمان.