وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                

Search form

إرسال الی صدیق
أدب الدعاء في نهج البلاغة (دراسة دلاليّة)

المدرس الدكتورة  هناء عبد الرضا رحيم         

المدرس الدكتور مرتضى عبّاس فالح

جامعة البصرة - كليّة التربية

تقديــم:

   يمثّل الدعاء جانباً مهمّاً من آداب العربيّة، أغفل البعض الإشارة إلى بلاغته، على الرغم من أنّه نثر فنّيّ رائع، وأسلوب ناصع من أجناس الكلام المنثور، ونمط بديع من أفانين التعبير، وطريقة بارعة من أنواع البيان، ومسلك معجب من فنون الكلام([١]).

   والدعاء قبل أن يتبلور في ألفاظ وجمل وعبارات إنّما هو نور مضيء ينقدح في قلب العبد ليفيض بعد ذلك على لسانه، وبمقدار صفاء ذلك القلب وخلوّه من الكدر يكون نور دعائه منبعثاً في الآفاق لا تحدّه حدود ليبلغ ملكوت الرحمن([٢])، خاصّة إذا كان العبد قد خلصت نفسه للعبوديّة الحقّة، فكيف إذا كان هذا العبد قد مثّل العبوديّة بحدّ ذاتها، رجل شهد له أعدائه قبل محبّيه في تقدّمه في فنون البلاغة والفصاحة والبيان، رجل ترك أثراً ظاهراً وملمحاً لا يمكن نسيانه على مرّ الأجيال والعصور، تمثّل ذلك الأثر في كتابه نهج البلاغة، ولا نحتاج بعد ذلك إلى ذكر الإسم لأنّ الكتاب عبّر عن قدرة صاحبه وتقدّمه في البلاغة والبيان أجمل تعبير وأكمله.

   ولا شكّ في أنّ معاني الدعاء التي من الممكن أن تتبلور في نفس شخص اجتمعت له هذه الخصال عبّرت عن قمّة النقاء الروحيّ المتحقّق في التوجّه العميق الى الله سبحانه وتعالى في كلّ ما يخصّ القضايا الروحيّة الذاتيّة، أو ما ارتبطت بها من قضايا روحيّة عامّة تخصّ مجتمعه: سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً.

  ولأنّ (نهج البلاغة) مثّل معلماً في البلاغة والبيان- مثلما ذكرنا سابقاً- وكلمات صاحبه فيه كانت بمثابة القلائد المنظومة من الأحجار الكريمة والنفيسة في الوقت نفسه فإنّ الدعاء داخل هذه الهالة الكبيرة من الأنوار عكس المعاني القيّمة من الصدق المتناهي الذي تبلور في نفس الإمام، معبّراً عن النقاء الروحي المتحقّق في انسان مبتهل خاشع، متوجّهاً توجّهاً حقيقيّاً إلى الله سبحانه وتعالى، فقد عُرف عنه أنّه كان رجلاً دعّاءً، وقد جاءت أدعيته آية من آيات البلاغة العربيّة، في كلّ ما يخصّ القضايا الروحيّة المتعلّقة بها، فضلاً عن أنّ الدعاء يعدّ سمة من سمات العبوديّة الخالصة لله سبحانه، وعليّ بن أبي طالب (ع) أجدر من يتّصف بهذه الصفة عبر ما حفظه لنا التأريخ من سيرته العطرة. 

   من هذا المنطلق كان (أدب الدعاء) و(نهج البلاغة) بالذات هما منطلقا هذا البحث عبر محاور ثلاث، هي:

- أولاً: مفهوم الدعاء في (نهج البلاغة).

- ثانياً: تراكيب الدعاء في (نهج البلاغة).

- ثالثاً: السمات الدلاليّة للدعاء.

  وسنعرض هذه المحاور تباعاً.

- أولاً: مفهوم الدعاء في (نهج البلاغة):

   الدعاء ( لغة ) يعني الاستغاثة، والرغبة إلى الله سبحانه وتعالى، يقال: دعا الرجل دعْواً ودُعاءً: ناداه، ودعوتُ فلاناً، إذا صحْتُ بهِ واستدعيْتُهُ، وإنّما سميّ دعاءً لأنّه يصدّر بالقول: يا الله، يا ربّ، يا رحمن([٣]). وفي (الاصطلاح) فإنّ الدعاء يمثّل أسلوباً إنشائيّاً قائماً بذاته، مقترناً بصيغتين بلاغيّتين هما: الأمر والنهي. وعلى هذا الأساس فإنّ الدعاء يشمل نمطين، الأوّل: مباشر يعتمد الاستعمال اللغويّ لدلالة لفظة (دعا)، والثاني: غير مباشر يعتمد الاستعمال المجازيّ لأسلوب (الأمر)، و(النهي) في البلاغة.

   وقد تحقّق وجود الدعاء بنوعيه في نهج البلاغة، والمتأمّل لمواضع ورود الدعاء فيه يجد أنّ بعض أساليبه ورد في أثناء الخطب التي ألقيت في مناسبات خاصّة، وبعضها ورد في صيغ انشائيّة بلاغيّة، وبعضها ورد في كلمات قصار احتوت على جوامع الكلم، أو ورد بهيئة النصح والإرشاد والموعظة فجاء في جمل قصيرة اشتملت على السجع ليدلّ على العناية بخصوص الكلمات والألفاظ الواردة فيه، فضلاً عن نصوص الأدعية المأثورة الواردة في ظرف معيّن من زمان أو مكان أو مناسبة خاصّة.

   ومع هذا التعدّد في الأساليب فقد اشتمل الدعاء أيضاً تعدّداً في المضامين، فقد اشتملت أدعيته مضامين عالية في مجالات مختلفة، منها: العقيدة والسلوك والوجدان، والبلاغة والفصاحة والبيان، والمنطق والفلسفة والإلهيّات، فضلاً عن أنّنا نرى شخصيّة المعصوم واضحة من خلالها.

   وقد شكّل الدعاء وسيلة ناجحة لتوجيه الأمّة وتبليغها بما ينبغي أن تكون عليه من تصفية القلوب وصلاح الأعمال، فهو أسلوب غير مباشر ولكنّ نتائجه فعّالة، وهو المفضّل والمؤثّر أكثر في التبليغ، وقد استعمله النبيّ ابراهيم الخليل (عليه السلام) في تذكير قومه بانحرافهم عن عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد، إذ عبدوا الشمس والقمر والنجوم التي سرعان ما تزول وتأفل ([٤]).

  إضافة الى أهمية هذا الأسلوب في تنقية الإنسان من شوائب الذنوب فهو الوسيلة المختارة للتحاور مع الله سبحانه وتعالى وبثّ الشكوى إليه لغرض استجلاب الثواب والجزاء العميم؛ لذا تكرّر الحثّ على الدعاء في أكثر من مناسبة وحدث في (نهج البلاغة)، والغرض من هذا التكرار التأكيد على ضرورة تعميق علاقة الإنسان المؤمن بربّه ليزداد إيمانه بوجود الخالق الذي يسمع ويرى كلّ شيء.

   وقد اشتمل الكتاب على عدّة موضوعات تخصّ الدعاء، من: طريقة صوغ الدعاء، وشروطه لتحقيق الإجابة، وعلّة تأخّرها، وفائدته في التحقّق أو عدمه، وغيرها، وسنحاول أن نعرض بعضاً ممّا يسمح به البحث من هذه المفردات الثريّة.

   من الموضوعات التي تحدّث عنها الإمام فيما يخصّ الدعاء الحديث عن أنّ أبواب الدعاء مفتوحة على الدوام لكلّ إنسان مهما بلغ ذنبه، وأنّ المعصية هي التي تمنع العبد من الدعاء والتذلّل إلى الله سبحانه وتعالى وطلب المغفرة، لا أنّ الأبواب مغلقة في وجهه، فأبواب السماء مفتوحة على الدوام لإجابة الدعاء، والله – سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يغلق أبواب الإجابة وهو الذي أمرنا بالدعاء عند كلّ مناسبة، فقال (عليه السلام): (( ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عنه باب الزيادة، ولا ليفتح على عبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة، ولا ليفتح لعبد باب التوبة ويغلق عنه باب المغفرة ))([٥]).  

   وقال: (( من أعطي أربعاً لم يُحرم أربعاً: من أعطي الدعاء لم يُحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة لم يُحرم القبول، ومن أعطي الإستغفار لم يُحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يُحرم الزيادة ))([٦]).

   وقد وضع الإمام المعادلة التي تقوم عليها فكرة الدعاء برمّتها، إذ قال: ((وأعلم أنّ الذي بيده خزائن السموات والأرض، قد أذن لك في الدعاء، وتكفّل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه))([٧])، بموجب هذه المعادلة ضمن الإنسان الكرامة والحرّيّة والإستقلاليّة البعيدة عن أي شكل من أشكال الخنوع والخضوع إلا لله سبحانه وتعالى.

   أمّا الشرط الواجب لتحقّق الدعاء، ويعدّ من أوائل مقدّماته إذ بدونه لا ينعقد الدعاء إلا بعد أن تذكره، وأن تلهج به قبل أن تلهج بدعائك فهو أن تقدّم الصلاة على محمد وآل محمّد قبل الدعاء، وعلّة ذلك حسبما يفسّرها الإمام في قوله: (( إذا كانت لك الى الله سبحانه حاجة، فأبدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلّى الله عليه وآله، ثمّ سل حاجتك، فإنّ الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي أحداهما، ويمنع الأخرى ))([٨]).

   أمّا الفائدة المتحقّقة من الدعاء بشتّى صوره فيبيّنها الإمام لنا، وهي:

- إنّه وسيلة مهمّة لدفع  البلاء الذي يتعرّض له الإنسان في الحياة الدنيا، إذ قال: (( سوسوا ايمانكم بالصدقة، وحصّنوا أموالكم بالزكاة، وأدفعوا أمواج البلاء بالدعاء ))([٩])، فالدعاء من الأمور اليقينيّة الوقوع، وهي ملازمة للثواب العميم مثلما هو حال الصدقة والزكاة.

- ولغفران الذنوب والمعاصي وطلب التوبة والمغفرة: (( ولم يمنعك- أي الله سبحانه- إن اسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيّرك بالإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيّسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب ))([١٠]).

- ولطلب أمور المعاش التي لا يستطيع تلبيتها سواه: (( وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على اعطائه غيره، من زيادة الأعمار، وصحّة الأبدان، وسعة الأرزاق، ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه، بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته))([١١]).

    فإذا ما تأخّرت إجابة الدعاء فإنّما هو لمصلحتك وخيرك، وليس لأذيّتك وعقوبتك، (( فلا يقنطنّك غبطاء إجابته؛ فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه، عاجلاً أو آجلا، أو صرف عنك بما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبت فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له ))([١٢]).

  ثمّ إنّ الحاجة الى الدعاء ليست حاجة ماسّة للإنسان المحتاج إلى الدعاء فقط، بل هو أمر أشدّ ضرورة، وأكثر فائدة للإنسان المعافى من سواه المبتلى، إذ قال: (( ما المبتلى الذي قد اشتدّ به البلاد بأحوج الى الدعاء من المعافى الذي يأمن البلاء ))([١٣])؛ لانّه يدفع البلاء قبل وقوع الهمّ والحزن الذي لا يُهتدى لدفعه.

    والدعاء متاح لكلّ إنسان، فليس بينك وبين الله سبحانه من وساطة أو شفاعة فتتكبّد المعاناة في سبيل الوصول إليه، وإنّما طريقك سالك للتخاطب معه – سبحانه- مباشرة في أيّ مكان وفي أيّ وقت، (( فإذا ناديته سمع نداءك، وإذا ناجيته علم نجواك فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثت ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، وأستعنت على أمورك ))([١٤]).

   وبذلك فالدعاء يمثّل اسلوباً ناجحاً في تربية الأمّة وتوجيهها الوجهة الصحيحة في كلّ الميادين الاجتماعيّة، والأخلاقيّة، والسياسيّة، والدينيّة؛ لأنّه الوسيلة السهلة واليسيرة التي يمكن من خلالها التخاطب مع عقول أبناء الأمّة على اختلاف مستوى إدراكهم.

ثانياً: تراكيب الدعاء في نهج البلاغة:

   لقد اختلفت تراكيب الدعاء التي استعملت في الأدعية الواردة في نهج البلاغة، فاشتملت على صيغ مختلفة، منها:

  • صيغة الخبر.
  • استعمال الجمل الفعلية والجمل الإسميّة.
  • الفعل الماضي المسبوق بـ(لا) النافية، أو الفعل المضارع المسبوق بـ(لا) النافية.
  • صيغة فعل الأمر الخارج إلى الدعاء مجازاً.
  • صيغة النهي الخارجة إلى الدعاء مجازاً.
  • أسلوب النداء المتمخّض للدعاء.
  •  صيغة المصدر.
  • صيغة الجملة الاعتراضيّة.
  •  معاني الدعاء المضمّنة في الكلام عبر دلالات تراكيب ألفاظها مجتمعة.

   وفي سياق الكلام لا ينفرد الدعاء باستعمال صيغة من دون صيغة أخرى، أو تتّحد الصيغ، وإنّما نجد الصيغ تتداخل فيما بينها، والجمل تترابط في نصوصها، لتشكّل نسقاً مترابطاً في نصّ واحد.

   ومن صيغ الدعاء التي استعملت في نهج البلاغة – مثلما لاحظنا سابقاً- الدعاء بصيغة الجملة الخبريّة التي فعلها ماض أو مضارع، من ذلك قول الإمام في الترغيب بالآخرة: ((...فلو شغلت قلبك، أيّها المستمع، بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقاً إليها، ولتحمّلت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً بها، جعلنا الله وإيّاكم ممّن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته ))([١٥])، فقد جاء الدعاء بصيغة الجملة الخبريّة التي فعلها ماض (جعلنا الله...)، جاعلاً الدعاء شاملاً للطرفين: الإمام أوّلاً، والمخاطبين ثانياً؛ لأنّ الإمام هو القدوة للآخرين فقدّم الدعاء لنفسه على الدعاء للآخرين لهذه العلّة، وقد جاء مقدّم الدعاء ممهّداً ومشوّقاً لما ختم به (ع) الكلام، فالصورة المشرقة التي طبعت تصويره للآخرة من أنّها مجموعة من المناظر المشرقة التي قد يتصوّرها العقل الصافي إنّما هي صورة قد توهم السامع أنّه (ع) يتحدّث عن الدنيا لا الآخرة، ولكنّ الأمر يزول من خلال النظر إلى يقين القلب وصدقه فإذا ما تحقّق هذا الأمر تحقّقت الرؤيّة وتحقّق الشوق إلى هذه المنازل، فجاء الدعاء خاتماً لهذه الصورة من خلال الجمع بين شخص الإمام وشخص المتكلّمين.

    فضلاً عن ّأن الدعاء بصيغة الفعل الماضي ممّا يبعث على التفاؤل بتحقّق الدعاء وكأنّ التوفيق الالهيّ قد تمّ ([١٦])، وهذا الأمر يعزّز الدلالة التي ذكرناها سابقاً.

  ومثل ذلك قوله عليه السلام من كتاب له إلى معاوية: (( عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها، إلا أ ن يدّعي مدع ما لا أعرفه، ولا أظنّ الله يعرفه، والحمد لله على كلّ حال ))([١٧])، فالإمام يتوجّه بالدعاء إلى الله سبحانه من خلال الحمد له والشكر على ما آلت إليه الأمور من مساواة بعض الناس له (عليه السلام)- على ما له من المنزلة القديمة في الاسلام- ومعاوية في منزلة واحدة وهذا الأمر عجيبة من عجائب الدهر وغرائبه؛ فلا أحد يعلم بمعاوية أكثر منه إلا أنّ يدّعون معرفة العلم الإلهيّ الذي اختّصه سبحانه وتعالى به وهو أمر غير واقع في حقيقة الأمر لهم؛ لذا خصّ الحمد بالله سبحانه وتعالى لأنّه عليه السلام في معرض الابتلاء لا الإختبار.  

    إلى جانب هذه الصيغة نجد أنّ استعمال صيغة النداء (اللهمّ) في الدعاء كثيرة الورود في نهج البلاغة، وهذه الصيغة إذا اقترنت بالدعاء أفادت الشكوى إلى الله سبحانه، مثال ذلك قوله (عليه السلام) حين سمع قوماً يسبّون أهل الشام أيّام حرب صفين: (( اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ مَنْ جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به))([١٨]).

فقد استفتح الإمام الدعاء بأسلوب النداء في (اللهمّ)، وهو أسلوب متعارف عند العرب الفصحاء، ثمّ استعمل صيغة فعل الأمر الخارج مجازاً إلى الدعاء في (احقن، اصلح، اهد)، وتبدو جماليّة هذا الدعاء في تعميمه له على الطرفين، فهو دعاء لأنصاره وأعدائه معاً. 

   وقد تقترن صيغة النداء بـ (اللهمّ) بشكل من أشكال الطلب الأخرى كالأمر والنهي فيفيد التوسّل بالله سبحانه وتعالى في هذه الحالة، مثل قول الإمام: ((اللهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به منّي، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة... اللهمّ اغفر ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي. اللهمّ اغفر ما تقرّبت به إليك بلساني ثمّ خالفه قلبي. اللهمّ اغفر لي رمزات الالحاظ، وسقطات الالفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللسان ))([١٩])، فقد جاء الدعاء بصيغة فعل الامر (اغفر) لأنّ المغفرة من الصفات الذاتيّة لله عزّ وجلّ لم يشاركه فيها أحد، ومن ثمّ لا يحمل الامر هنا على الحقيقة بل يحمل على المجاز، فكان التوسّل مخصوصاً بالله سبحانه من دون أن تتضمّن الصيغة الدعاء على أحد، فضلاً عن أنّ أسلوب التكرار للصيغة منحها بعداً دلاليّاً أسهم في توكيد الرغبة في تحقّق الدعاء وتحقّق الإجابة.

 ومثله قول الإمام في حقّ طلحة والزبير: (( اللهمّا إنّهما قطعاني وظلماني، ونكثا بيعتي، وألبسا الناس عليّ، فأحلل ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا، ولقد استثبتهما قبل القتال، واستأنيت بهما أمام الوقاع، فغمطا النعمة، وردّا العافية))([٢٠])، وهنا يعرض الإمام شكواه إلى الله سبحانه بحقّ طلحة والزبير، فكأنّه يبيّن أنّه ما لجأ إلى الدعاء عليهم إلا لأنّهما خالفا أمر الله سبحانه في أمر خلافته، فهما قطعا صلة رحمه، وظلماه، ونكثا بيعته؛ إذ بايعاه ثمّ ارتدّا، ولم يكتفيا بذلك بل حشّدا الناس عليه وقلبوهم عليه، فضلاً عن ذلك فالإمام يعرض لنا أنّه حاول معهم كلّ جهده كي يتراجعا عمّا اقدما عليه ولكن لم ينفع معهما ذلك، فكانت كلّ تلك الاسباب مجتمعة سبباً ودافعاّ له عليه السلام للدعاء عليهم.  

   وصيغة النهي الخارجة إلى الدعاء مجازاً أيضاً تدلو بدلوها في هذا الميدان، من ذلك قوله (عليه السلام): (( اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني افضل ممّا يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون))([٢١])، فقد تضمّن الدعاء التوسّل إلى الله سبحانه وتعالى وطلب عدم المؤاخذة عن المكنون في القلوب، والمغفرة عن الذنوب عبر أسلوب النهي (لا تؤاخذني)، والأمر (إجعلني)، و(اغفر) الخارجين مجازاً إلى الدعاء.  

   ومثله قوله عليه السلام: (( اللهمّ إنّا نسألك أن لا تردّنا خائبين، ولا تقبلنا واجمين، ولا تخاطبنا بذنوبنا، ولا تقايسنا بأعمالنا ))([٢٢])، والملاحظ من خلال استعمال صيغة النداء (اللهمّ) أنّ ما بعدها جاء بصيغة الطلب: (نسأل) فأفادت الصيغة التوسّل بالله سبحانه وتعالى.

إلى جانب ذلك فإنّ الإمام يراعي الملحظ البيانيّ الذي يتناسب واستعماله للصيغ، ففي موقف التقرير والإخبار تكثر الجمل الخبريّة، ولا سيّما في أنماط الدعاء المباشرة، أمّا الجمل الإنشائيّة – النداء، والأمر، والنهي- فتكثر عندما يكون الغرض من الدعاء هو الوعظ للانسان المتهالك على حطام الدنيا مع ما تؤدّيه الصيغ من معانيها الأصليّة ([٢٣]).

فإذا ما تعدّدت أساليب الدعاء بين الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة، والالتذاذ بالقرب منه سبحانه ومن مشاهد كرامته، وأسلوب التعليم للعباد فممّا لا شكّ فيه أنّ الصيغ تتعدّد بحسب مقامات هذه الأساليب، مثل استعمال أسلوب الشرط في الدعاء، من ذلك قوله عليه السلام: (( اللهمّ إن فههت عن مسألتي، أو عميت عن طلبتي فدلّني على مصالحي، وخذ قلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من هداياتك ولا ببدع كفاياتك ))([٢٤])، فاشترط تحقّق الدعاء من خلال تحقّق جملة الشرط، أي إن أصابتني فترة وغفلة عن معرفة المسألة التي اقصدها، والطلبة التي أريدها، فيا الهي دلّني عليها، وخذ بيدي الى طريق الرشد والهداية، والإمام في هذا الإشتراط متيقّن من الإجابة فهو أمر ليس بمنكر عند ربّ العباد.

 ومثله قول الإمام: (( اللهمّ إن أظهرتنا على عدوّنا، فجنّبنا البغيّ، وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا، فأرزقنا الشهادة، وأعصمنا من الفتنة ))([٢٥]).

   وصيغة الدعاء بالمصدر كان لها حضور فاعل في نهج البلاغة، فاستعمالها يفيد الدلالة على المبالغة والتأكيد فهي تدلّ على الحدث مضافاً إليها دلالتها على الاسميّة، من ذلك قول الإمام في سياق حديثه عمّن لحق بمعاوية من أهل المدينة: (( ... وإنّما هم أهل دنيا، مقبلون عليها، ومهطعون إليها، قد عرفوا العدل، ورأوه، وسمعوه، ووعوه، وعلموا أنّ الناس عندنا في الحقّ أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعداً لهم وسحقاً ))([٢٦])، والملاحظ أنّ الإمام يستعمل الجمل الاسميّة لوصف هؤلاء المرتدّين: (مقبلون على الدنيا)، (ومهطّعون إليها)، فضلاً عن أنّ الجمل الفعليّة جاءت مؤكّدة بصيغة (قد): (قد عرفوا الحقّ، ورأوه، وسمعوه، ...)؛ ممّا يدلّ على ثبات هذه الأوصاف وثباتها فيهم فناسب ثبات الدعاء عليهم أن يأتي بصيغة المصدر ( فبعداً لهم، وسحقاً)، وهذا الدعاء يشتمل على الدلالة الدنيويّة والأخرويّة، فالدعاء بالبعد عنهم – من قبل الإمام- مرغوب فيه في الدنيا والآخرة.   

   وقد يستعمل المصدر المؤول بدلاً من المصدر الصريح، مثل قول الإمام: ((وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة أن يوفّقني وإيّاك لما فيه رضاه ))([٢٧])، فقد جاء السؤال بالتوفيق لأداء العمل الصالح عبر المصدر المؤول. 

ومن الأساليب التي استعملها الإمام صيغة الجملة الاعتراضيّة المتضمّنة للدعاء، فالغرض الذي تحقّقه الجمل الاعتراضيّة في الكلام إنّما هو التوسّع في الكلام من خلال إضافة معنى جديداً فيه، وقد تراوحت هذه الجمل بين الدعاء بالخير أو بالشرّ، من ذلك قول الإمام في خطبة له: (( اعملوا – رحمكم الله- على اعلام بيّنة، فالطريق نهج، يدعو الى دار السلام، وانتم في دار مستعتب على مهل وفراغ، والصحف منشورة، والأقلام جارية، والأبدان صحيحة، والألسن مطلقة، والتوبة مسموعة، والأعمال مقبولة ))([٢٨])، فجملة ( رحمكم الله) فيها نوع من التلطّف والترحّم مع المخاطبين، إذ أفادت الدعاء لهم بالرحمة، فكأنّ سياق الكلام استوجب هذا النوع من الدعاء لأنّه عليه السلام في معرض الحديث عن مطلق الاعمال الصالحة الحاصلة في دار الحياة الدنيا حيث الصحف لم تزل منشورة تسجّل فيها الأعمال، فلم تغلق السجلات بعد، مثلما هو الأمر في يوم القيامة، وأبواب التوبة لا زالت مفتوحة، ففي الكلام نوع من الحثّ والتوجيه لهذه الأعمال.

   ومثله قول الإمام في الوصيّة بالتقوى: (( فسابقوا- رحمكم الله- إلى منازلكم التي امرتم أن تعمّروها، والتي رغبتم فيها ودعيتم إليها ))([٢٩])، وهنا أيضاً كان المقام مقام تلطّف لأنّه عليه السلام يحثّهم على التزوّد للآخرة.

ولا تتحدّد دلالة الجملة الاعتراضيّة بهذا السياق، وإنّما قد تأتي في سياق الشدّة والذمّ، من ذلك قوله عليه السلام في الحثّ على الجهاد وذمّ المتقاعسين عن النهوض به: (( يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم، معرفة ، والله، جرّت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرّعتموني نغب التهامّ أنفاساً ))([٣٠])، فالجملة (قاتلكم الله) أفادت الدعاء عليهم من باب الذمّ لهم لأنّهم تخلّفوا عن ركن مقدّس من أركان الاسلام الذي لا يسقط عنهم بتخاذلهم، ولهذا كان تشبيهم بـ (حلوم الأطفال)، و(عقول ربّات الحجال) إنّما هو من باب إسقاط هذا الركن عنهم لأنّهم اتّصفوا بسمات حرمتهم من صفة الرجولة لأنّ عقولهم إلى عقول الأطفال والنساء أقرب، وهو من باب الذمّ لهم أيضاً.

ولا تتحدّد صيغة الجملة الاعتراضيّة في الدعاء بالشرّ عند هذه الصيغة بل نجد في نهج البلاغة استعمالاً لصيغ أخرى عرفها العرب وألفوها في كلامهم، منها صيغة (لا أبا لكم)، في مثل قوله في ذمّ أصحابه: (( فلم آت – لا أبا لكم- بُجراً، ولا ختلته عن امركم ولا لبّسته عليكم ))([٣١])، وصيغة (لله ابوهم)، في مثل قوله عن الحرب وأهوالها: (( لله أبوهم- وهل أحد منهم أشدّ مراساً وأقدم فيها مقاماً منّي ! ))([٣٢])، وسياق استعمال الصيغتين هو الذمّ.

- ثالثا: السمات الدلاليّة للدعاء:

تميّز أسلوب الدعاء في نهج البلاغة بخصائص مميّزة جعلت منه درراً مضيئة في وسط كتابات الإمام علي (ع) النورانيّة، ومثّلت في الوقت نفسه الملامح والمميّزات الفنيّة التي اتسمت بها أدعيته (ع)، ومن هذه الخصائص:

  • تأثّر أسلوب الإمام كثيراً بأسلوب القرآن، فنجد في أدعيته إشارات كثيرة ( إقتباسات) لألفاظ قرآنيّة وأحاديث نبويّة.
  • اقترن أسلوبه بالظواهر البلاغيّة التي جمعت بين الشكل والمضمون فجاءت عباراته سلسلة متتالية خالية من التكلّف.
  • اعتمد أسلوبه على المنطق، حيث يقنع المخاطب بالحجّة، والدليل العقليّ؛ لذا اتسم دعاؤه بمخاطبة العقول قبل القلوب.
  • يعتمد على التصوير الرائع فجاءت عباراته أعمق أثراً في النفس من خلال استعماله لفنون البيان: التشبيه والاستعارة والكناية.
  • مثّل السجع والتوازن والازدواج والمحسّنات معلماً بارزاً لأسلوب الإمام وإن لم يلتزم به في كلّ أسلوبه ولكنّه يبقى السمة البارزة التي اتّصف بها الاسلوب الأدبيّ في عصر الإمام.
  • دقّة استعمال الألفاظ، وحسن الديباجة والرصف.
  • عبّرت أدعيته عن الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والبيئيّة المعاصرة لحياة الإمام.
  • الصدق المتناهي في المشاعر ممّا عكس تجربته الثريّة في الحياة وحقّق التأثير الفعّال في متلقيه، فصدق الخطاب والتجربة يعدّ عنصراً فعّالاً في الصدق الفنّي المتحقّق في أدعيته.
  • تأثر معانيه بمبادﺉ الاسلام، وقيم الفضيلة السامية، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وطغيان الجدّية على نصوص أدعيته.
  •  شملت أدعيته خلاصة المعارف الدينيّة من الناحية الخلقيّة والتهذيبيّة للنفس، فضلاً عن الآراء الفلسفيّة والمباحث الالهيّة.

  وسنحاول استيفاء هذه الملامح الدلاليّة جميعها في أثناء البحث.

- التأثّر بأسلوب القرآن:

يبدو تأثّر الإمام عليّ (عليه السلام) واضحاً بنصوص القرآن الكريم ومعانيه من خلال جانبين: الأوّل: الاستشهاد بالنصوص القرآنيّة في معرض أدعيته.

والثاني: الاقتباس الشموليّ لألفاظ القرآن وتعابيره، فضلاً عن الاقتباس من آيات القرآن.

وقد يبدو للناظر أنّ كلا الجانبين يصبّان في مجرى واحد وهو التأثّر الواضح لأسلوب الدعاء بالقرآن وإن كانا يختلفان في أنّ الجانب الأول لا يخلو من ذكر لفظ (قوله تعالى)، أو (قال تعالى) قبل إيراد النصّ القرآنيّ، والجانب الثاني يخلو من هذا القول تماماً ليرد النصّ القرآنيّ مندمجاً ومتداخلاً مع كلام الإمام نصّاً أو معنى.

وللإستشهاد بالنصّ القرآنيّ وظيفة دلاليّة تضاف إلى دلالات الألفاظ، فالنصّ يستمدّ دلالات إضافيّة بما يوفّره استحضار الغرض الرئيس الذي ذكر فيه النصّ القرآنيّ، وما أحاطته من معاني جديدة، ولا يخفى على كلّ باحث منصف أنّ عليّ بن أبي طالب تربّى في حجر النبوّة، وتلازم وجوده مع نزول القرآن وتعاليمه على الرسول الكريم، فلا شكّ في أنّ بيانه ومنطقه تشبّع بهذا النصّ الإلهيّ الفائق في بلاغته وفصاحته كلّ فصاحة، وبهذا البيان الرساليّ للرسول الكريم جاءت ألفاظه انعكاساً لما تغذّى عليه من رحيق مختوم.

ومن الشواهد التي يمكن من خلالها الاستدلال بتأثر أسلوب الدعاء في نهج البلاغة بنصوص القرآن قوله عليه السلام في الاستسقاء: (( إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، واغلاق خزائن الخيّرات، ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر. وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق، ورحمة الخلق، فقال سبحانه:  ﴿  اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا % يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا % وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ فرحم الله امرأ استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيّته))([٣٣])، فالنصّ القرآنيّ – ربّما- يستحضر حالة الصبر على الشدائد التي عاشها نوح (ع) مع قومه، مع تفانيه في دعوتهم حتّى أمتدّ به العمر طويلاً، فكأنّ الإمام يستحضر حالة النبيّ نوح ويطبّقها على علاقة قومه بالله سبحانه وتعالى أوّلاً، وعلاقتهم به ثانياً، وهذا الاستحضار لهذه الدلالات ما كان له أن يكون إلا من خلال الإستدلال بالنصّ القرآنيّ في داخل السياق الوارد فيه، فالاستغفار هو السبيل لدرور أنواع الرزق من الغيث والأموال والبنين.   

ومثله قوله (عليه السلام) في كتاب له إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة، (( ومُر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً، فإنّ الله سبحانه يقول: ﴿سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾. فالعاكف: المقيم به، والبادي: الذي يحجّ إليه من غير أهله، وفّقنا الله وإيّاكم لمحّابه، والسلام))([٣٤])، فالإمام يبيّن لنا أنّ التوفيق الالهيّ يأتي من خلال أداء محابّه، ومن هذه المحابّ عدم أخذ الأجر من الحجّاج: من قبل أهلها، أو من غير أهلها مستدلاً بالنصّ القرآنيّ الذي أشار إلى هذا الأمر.

وقال (عليه السلام) في توجيه الناس إلى كيفيّة الدعاء للتخلّص من الفتن التي ظهرت بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم )، أو ستظهر بعد وفاته: (( لا يقولنّ أحدكم: ( اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة)؛ لأنّه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإنّ الله سبحانه يقول: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ  ﴾ ))([٣٥])، فالإنسان المؤمن يجهل حجم الفتن المحيطة به أو مدى قربها منه، والآية القرآنيّة تشير إلى أنّ الأموال والأبناء من جملة الفتن التي قد يتعرّض لها الإنسان في حياته، والاستعاذة من الفتن يشملهم؛ لذا كان التوجيه بأن يستعيذ الإنسان من مضلات الفتن التي تبتعد بالإنسان عن دينه لا من مجمل الفتن التي من ضمنها نعم الله سبحانه على العبد التي هي فتن يختبر الله سبحانه عباده من خلالها.

إلى جانب هذا التأثّر الواضح – بالقرآن- في أسلوب الإمام نجد في أدعيته اقتباسات متعدّدة، تراوحت بين الألفاظ، والعبارات، والجمل والتراكيب، ولم تكن هذه الاقتباسات مقحمة على أسلوب كلامه لغرض التزويق اللفظيّ، وإنّما تداخلت مع نصوص الأدعية خاصّة، ومع كلّ نصوص نهج البلاغة عامّة، فلا نكاد نشعر بوجودها لشدّة سبكها مع النصّ، ولا نكاد نحسّ بها إلا وهي موجودة في نصّ بشريّ بعد أن كانت موجودة في نصّ الهيّ.

- إقتباس المفردات القرآنيّة:

   يبدو أثر القرآن واضحاً بشكل لا يمكن إغفاله، (( فالنصّ القرآنيّ له حضوره، وتجلّى بمظاهر عدّة، يأتي في مقدّمتها اقتباس المفردة القرآنيّة والتي تبدو إشارة مركّزة لنصّ غائب قد تكفي المفردة لاستحضار فاعليّته ))([٣٦])، فالاستعمال الأوليّ للألفاظ يبدو حاضراً في نصوص الإمام لا منقطعاً عنها أو دالاً على دلالات مغايرة لما وجدت عليه أصلاً، وهذا أمر يمكن التنبّه إليه بشكل واضح جدّاً، فاستحضار هذه المفردات بدلالاتها الأصليّة ضمن سياقات نصوصها أمر حاضر بكلّ حيثيّاته في كلّ نماذج المفردات القرآنيّة التي وردت في نماذج أدعيته، من دون أن تكون الألفاظ دالّة على معانيها المعجميّة الأصليّة فقط.

    ومن أمثلة ذلك قوله عليه السلام: (( اللهمّ ربّ السقف المرفوع، والجوّ المكفوف، الذي جعلته مغيضاً لليل والنهار، ومجرى الشمس والقمر، ومختلفاً للنجوم السيّارة، وجعلت سكّانه سبطاً من ملائكتك، لا يسأمون من عبادتك، وربّ هذه الأرض التي جعلتها قراراً للأنام، ومدرجاً للهوامّ والانعام، وما لا يحصى ممّا يرى وما لا يرى، وربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتاداً، وللخلق اعتماداً، إن أظهرتنا على عدوّنا، فجنّبنا البغي، وسدّدنا للحقّ، وإن أظهرتهم علينا، فأرزقنا الشهادة، وأعصمنا من الفتنة))([٣٧])، فأنظر إلى هذا النصّ كيف تظافرت الألفاظ التي تستحضر دلالاتها من النصّ القرآنيّ، فهي ألفاظ لم تكن معهودة في كلام العرب قبل نزول القرآن، فضلاً عن المعاني الجديدة التي لم يألفها الإنسان العربيّ وإلا فالإمام يعرض للسماء وما اشتملت عليه من كواكب ونجوم سيّارة، وملائكة، ثمّ يعرض للأرض التي هي قرار المخلوقات من بشر وهوامّ وأنعام، وموازنتها من خلال الجبال، وهذه الحقائق لم تكن مألوفة ولا معروفة أصلاً قبل نزول القرآن الذي تحدّث عن هذه الحقائق بإسهاب، وقد استحضر الإمام الألفاظ الدالة على هذه الحقائق كي يظهر لنا من خلال التوجّه إليه سبحانه بالدعاء استقلاليّته بإجابة الدعاء.    

    ومثله قوله عليه السلام: (( واعظم ما هنالك بليّة تزول الحميم، وتصلية الجحيم، وفورات السعير، وسورات الزفير، لا فترة مريحة، ولا دعّة مريحة، ولا قوة حاجزة، ولا موتة ناجزة، ولا سنّة مسليّة بين أطوار الموتات، وعذاب الساعات، إنّا بالله عائذون))([٣٨])، وهنا نوع آخر من إظهار القدرة وذلك من خلال تصوير جهنّم، وما فيها من ألوان العذاب وهذه الفكرة عن عذاب اليوم الآخر جديدة في المجتمع الإسلاميّ، فانظر إلى هذه الألفاظ: (الحميم، الجحيم، السعير، الزفير) التي اسندت بدلالاتها التي وردت في القرآن المضامين التي تحدّث عنها الإمام في سياق الكلام الذي أوردها فيه.

- إقتباس التراكيب القرآنيّة:

  اشتملت إقتباسات التراكيب على نوعين:

أ- الإقتباس المباشر (النصّيّ): 

وفي هذا النوع من الإقتباس يتمّ إقتباس آية بنصّها من دون تغيير، وفي هذا النوع نستجلي دلالات الآية الأصليّة لتدلّ عليه داخل نصّ جديد، مثال ذلك قوله في دعائه لاستسقاء الناس: (( اللهمّ أنشر علينا غيثك، وبركتك، ورزقك ورحمتك، وأسقنا سقياً ناقعة مرويّة، معشبة، تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات، نافعة الحيا، كثيرة المجتنى، تروى بها القيعان، وتسيل البطنان، وتستورق الأشجار، وترخّص السعار، إنّك على ما تشاء قدير))([٣٩])، ففي إيراد قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ في سياق هذا الدعاء إنّما هو استحضار للسياق الذي وردت فيه هذه العبارة في داخل النصّ القرآنيّ، من قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([٤٠])، فمفاتيح الخير كلّها بيد الله سبحانه وباب هذه المفاتيح هو الدعاء فهو المالك والمعزّ والمذلّ ولا تحقيق لهذه المفاتيح إلا من خلاله.

ومثله قوله تعالى في ملاقاة الأعداء: (( اللهمّ اليك أفضت القلوب، ومدّت الأعناق، وشخصت الأبصار، ونقلت الأقدام، وأنضيت الأبدان، اللهمّ قد صرّح مكنون الشنآن، وجاشت مراجل الأضغان، اللهمّ إنّا نشكو اليك غيبة نبيّنا، وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، ﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ ))([٤١])، فسياق الآية القرآنيّة  تداخل مع سياق الدعاء بحيث لم ينفصل أحدهما عن الآخر، فجسّدت الآية القرآنيّة مفهوم الدعاء بأكمله من الدعوة إلى الفتح والنصر.

وقد يغيّر الإمام سياق الآية لتتناسب مع مقام الكلام، فالكلام موجّه من العبد الى سيّده ومولاه، وإذا ما وجّه كلاماً أو آية من النصّ القرآنيّ وفيه يتحدّث – سبحانه - عن نفسه فإنّ الكلام سوف يعود مدلوله على الإمام (ع)؛ لذا تأدّباً فإنّه يغيّر دلالة الضمير في هذه الآيات لتتناسب مع المقام، مثل قوله في الاستسقاء: (( اللهمّ سقياً منك تُعشب به نجادنا، وتجري به وهادنا، ويخصب بها جنابنا، وتقبل به ثمارنا، ..، وأنزل علينا سماء مخضلة، مدراراً هاطلة، يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلّب برقها، ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، ولا شفّان ذهابها، حتّى يخصب لأمراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المُسنِتُون، فإنّك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الوليّ الحميد))([٤٢])، فقول الإمام: ( فإنّك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك، وأنت الوليّ الحميد) هو كلام مقتبس من قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾([٤٣]) ولمّا كان الكلام في النصّ القرآنيّ في مقام الغيبة، فإنّ الإمام غيّر صيغة الكلام ليكون دالاً على الخطاب المباشر مشيراً بذلك الى أنّ الله سبحانه وتعالى حاضر في مقام دعائنا له في كلّ الأحوال.

ب- الإقتباس غير المباشر:

   ويضمّن النصّ القرآنيّ في هذا النوع من الإقتباس داخل السياق فلا تجده يُنقل بنصّه وإنّما يُنقل بمعناه، فيستدعيك النصّ عند قراءته مشيراً إلى النصّ الأصليّ بالبنان، من ذلك قول الإمام في الوصيّة بالقرابة والعشيرة: (( إنّ المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام، فأحذروا من الله ما حذّركم من نفسه، وأخشوه خشية ليست بتعذير، نسأل الله منازل الشهداء، ومعايشة السعداء، ومرافقة الانبياء ))([٤٤])، فقد أشار النصّ في قوله: ( إنّ المال والبنين حرث الدنيا) إشارة واضحة إلى قوله تعالى: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ﴾ ([٤٥])، وقوله تعالى: ﴿  الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾([٤٦])، أمّا قول الإمام: (والعمل الصالح حرث الآخرة) ففيه إشارة واضحة إلى قوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾([٤٧]) ويختم  النصّ بالدعاء: ( نسأل الله منازل الشهداء، ومعايشة السعداء، ومرافقة الانبياء) وفي هذا الدعاء إلماحة واضحة لقوله تعالى: ﴿  وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾([٤٨])، فالنصّ كثّف العبارات الموصلة إلى فكرة الدعاء عبر عبارات موجزة شملت كلّ هذه الآيات القرآنيّة في مضامينها.

    ومن ذلك أيضاً قوله عليه السلام: (( اللهمّ داحي المدحوّات، وداعم المسموكات، وجابل القلوب على فطرتها، شقيّها وسعيدها، إجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك))([٤٩])، فقد استحضر السياق من خلال عباراته قوله تعالى في حديثه عن السماء: ﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾([٥٠])، فكان الدعاء مضمّناً معنى القول القرآنيّ مع توجيه الكلام إلى الله سبحانه وتعالى.

- الإقتباس من الحديث والأمثال العربيّة:

    لا يقتصر التأثّر الحاصل في نهج البلاغة على القرآن الكريم بل يظهر تأثيراً واضحاً للحديث النبويّ الشريف والمثل العربيّ في سياق أدعيته، من أمثلة ذلك قوله عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام بعد حرب الجمل: (( اللهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد، اللهمّ أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، ولا يجمعهما غيرك؛ لأنّ المستخلف لا يكون مستصحباً، والمستصحب لا يكون مستخلفاً ))([٥١])، فقد كان مقدّم الدعاء مرويّاً عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ثمّ أعقبه الإمام بتتمّة تكمل الدعاء وتعلّل له فالله سبحانه وتعالى ليس من جنس الموجودات حتّى ينعدم وجوده في مكان بمجرّد إنتقاله إلى مكان آخر، فهو خارج عن أن تحيط بكنهه المخلوقات ([٥٢]).

    ومثله قوله في ذمّ أصحابه: (( الذليل والله من نصرتموه، ومنْ رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل، وإنّكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإنّي لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع الله خدودكم، وأتعس جدودكم، لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ ))([٥٣])، فقول الإمام: (كثير في الباحات، قليل تحت الرايات) نقيض لما قاله الرسول الكريم عن الأنصار، مادحاً لهم: ( إنّكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطمع )([٥٤])،   

   وفي سياق حديث الإمام فقد جاء قسمه (والله) مؤكداً حقيقة أصحابه ومبيّناً معدنهم الحقيقيّ، ساعده على ذلك استدعاء أكبر قدر ممكن من التوكيدات الممثّلة بـ ( إنّ، القسم، اللام)، رغبة منه في توكيد حالهم، وتيقّنه منهم، فضلاً عن استعماله للمفردات: ( الباحات، الرايات) التي تمثّل كنايتين مبيّنتين حقيقة موقفهم المتناقض من: الغنائم والجهاد في الحرّ من واقع الطباق المعنويّ الذي مثّلته اللفظتان، فضلاً عن الطباق اللفظيّ بين: (كثير، و قليل)، فهم كثير في وقت الدعّة والأمان، والغنائم، قليل في الحروب والدفاع عن الإسلام.

    وقد يتضمّن الدعاء إقتباساً من المثل القرآنيّ وهذا الإقتباس أفاد الدلالة على الدعاء، مثل قول الإمام في توبيخ أصحابه على التباطؤ على نصرة الحقّ: (( ... أشهود كغيّاب، وعبيد كأرباب، أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي  على آخر قولي حتّى آراكم متفرّقين أيادي سبأ ...))([٥٥])، فالمثل المضمّن في السياق (أيادي سبأ) يضرب للتفرّق والفرقة، وأصله مأخوذ من قوله تعالى عن أهل سبأ: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾([٥٦])، ويقال: ذهبوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي ذهبوا متفرّقين، ويضرب هذا المثل لبيان تفرّق الجمع المقصود بهم، وللدعاء عليهم، أي لا تفارقه الفرقة، فيكون تضمين المثل في كلام الإمام دعاء عليهم بهذا التفرّق([٥٧]).

- إعتماده على المنطق:

   الملاحظ أنّ الإمام في نهج البلاغة عامّة، وفي أدعيته خاصّة يعتمد على المنطق وأسلوب الجدل والمحاججة، حيث يقنع المخاطب بالحجّة والدليل العقليّ، فهو لا يترك الأمور على علاتها، وهذا الأسلوب أوقع في التأثير على المتلقّي، وإحداث التأثير المطلوب في نفسه، من ذلك قوله: (( الحمد لله الذي لم يصبح بي ميّتاً ولا سقيماً، ولا مضروباً على عروقي بسوء، ولا مأخوذاً بأسوأ عملي، ولا مقطوعاً دابري، ولا مرتدّاً عن ديني، ولا منكراً لربّي، ولا مستوحشاً من إيماني، ولا ملتبساً عقلي، ولا معذّباً بعذاب الأمم من قبلي، أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي، لك الحجّة عليّ، ولا حجّة لي، لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولا أتّقي إلا ما وقيتني))([٥٨])، فالتوجّه إلى الله سبحانه والشكر له كان معلّلاً بتعداد كلّ هذه النعم التي ذكرها، ولو ذكرنا واحدة منها لكان قليلاً أمام هذا الشكر الذي نقدّمه إلى الله سبحانه وتعالى، وقد استعمل الإمام أسلوب ذكر لوازم النعم من دون النعم ذاتها؛ لتكون أبلغ في استحضار المعنى، فالموت والسقم يستجلبان ضدّها وهي نعمة الصحّة، ووقوع البلاء والعقوبة بسبب الذنوب تستجلب البعد عن إيقاع السيئات والعبادة الحقّة، والإرتداد عن الدين والكفر يستجلبان الإيمان، وعدم وقوع الشكّ في الدين أو المسّ في العقل يستجلبان سلامة السريرة وصفائها، فكلّ هذه النعم إذ تحقّقت فهي مدعاة لتحقّق العبوديّة المطلقة لله سبحانه، هذا الأسلوب من تعداد النعم إنّما هو وسيلة بسيطة تتلائم مع عقول البسطاء من الناس فضلاً عن العلماء تبيّن علّة وقوع العبوديّة للإنسان والقصور عن الإحاطة بنعم الله عليه أو تمام شكره عليها.   

ومثله قوله في التظلّم من قريش: (( اللهمّ إنّي استعديك على قريش ومن أعانهم، فإنّهم قد قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به من غيري))([٥٩])، فالدعاء على قريش كان بسبب استوجب وقوعه، فهم قطعوا رحمه، وأبعدوه عنهم، ونافسوه في حقّه، وانتزعوه منه، فكلّ هذه الأمور كانت سبباً وجيهاً لأن يطلب معونة الله سبحانه وتعالى للنصر عليهم. 

ومثله قوله في ذمّ الدنيا وزينتها: (( وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ولنعيم يفنى، ولذّة لا تبقى !! نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل، وبه نستعين ))([٦٠])، فالزهد في هذه الدنيا إنّما لأنّ نعيمها زائل، ولذّتها غير باقية، فاستعاذ الإمام بالله سبحانه من وقوع السبات في العقل لأنّه مدعاة إلى الركون إليها والإغترار بزينتها.

- التصوير الرائع:

   لم يغلّب الإمام (ع) في نهج البلاغة أعلى نصّ بيانيّ بعد كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله، لم يغلّب في إستعماله للدلالات الدلالة المجازيّة على الحقيقيّة؛ إذ لم يكن دافعه الجمال الشكليّ الذي تحقّقه البلاغة في مضامينها التحسينيّة، ولكنّ هذه الدلالات تعاضدت وتوازنت لتؤدّي الوظيفتين: الحقيقيّة والمجازيّة من دون خلل أو اضطراب وهذه السمة وسمت نهج البلاغة في كلّ مضامينه الدلاليّة.

وتظهر القدرة التصويريّة- التي تمثّل واحدة من الدلالات المجازيّة- في أدعية نهج البلاغة من خلال استعمال الفنون التصويريّة المختلفة من تشبيه، واستعارة، وكناية، هذه الفنون لم تكن طارئة على أسلوب الكلام ونسقه، وإنّما وظَفت توظيفاً متناسقاً لتخدم الأسلوب وتظهره بشكل آخر تتّسع فيه الدلالات لتشمل أموراً لا يمكن إظهارها إلا من خلال هذه الفنون، بل إنّ التصوير هو العنصر الفعّال الذي يوصل إلى الدعاء ويعطي الحقّ والرغبة في تحقّقه، والقول بأنّ الدعاء لا يحتمل الركون إلى التصوير في غالب الأحيان لأنّه يميل إلى المباشرة والتقريريّة ([٦١]) رأي فيه إطلاق غير مبرّر؛ إذ قد يصدق الأمر مع الدعاء عند طبقة العامّة من الناس أمّا مع إمام البلاغة والفصاحة والبيان فهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر.  

فمثلاً قوله: (( رحم الله امرأً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأنّ ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن، وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل، وكلّ معدود منقضٍ، وكلّ متوقّع آتٍ، وكلّ آتٍ قريب دانٍ))([٦٢])، فالتشبيه في هذا النصّ استند إلى أساس من المقابلة بين متضادّين، هما: الدنيا والآخرة، محدثاً مفارقة ساخرة بين قليل الدنيا الذي لا يغني شيئاً لتفاهته بدلالة الوصف (لم يكن)، ومنبّهاً على عظمة قليل الآخرة بدلالة الوصف ( لم يزل)، وهو وصف يتجاوز الحاضر الى المستقبل ممّا يكسبه صفة الديمومة والخلود.

وانظر الى قوله في كتاب له إلى أحّد عماله: (( ... وكأنّك إنّما كنت تكيد هذه الأمّة عن دنياهم، وتنوي غرّتهم عن فيئهم، فلمّا أمكنتك الشِّدَّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وايتامهم، اختطاف الذئب الأزلّ، دامية المعزى الكسيرة، فحملته الى الحجاز رحيب الصدر بحمله، غير متأثّم من أخذه، كأنّك -لا أبا لغيرك- حدرت الى أهلك تراثك من ابيك وامّك))([٦٣])، فالتشبيه في هذا النصّ يوحّد بين طرفين، الأوّل: صورة أحّد عمّاله- عمرو بن العاص- وهو يستغلّ الأمانة التي اؤتمن عليها من خلال منصبه، فيسلب أموال الايتام والأرامل. والطرف الثاني: صورة الذئب الخفيف، السريع الذي يهجم على المعزى الكسيرة الدامية، فيكون الجامع بين الطرفين ضعف الآخر، واستلاب حقّه، ووضع قدرة المطاولة في غير موضعها، وكان هذا التشبيه ممهّداً للدعاء عليه بهذه الصيغة (لا أبا لغيرك)، متجاوزاً الصيغة المعهودة عند العرب ( لا أبا لك)؛ لأنّ الذين أوصلوه إلى هذا الأمر ومكّنوه منه هم الآخرين بتزيين الأمر له وسكوتهم عنه، فكان الدعاء شاملاً له ولهم.

ومثله قوله في الإستسقاء: (( اللهمّ اسقنا ذلل السحاب دون صعابها ))، فقد جرى التشبيه في هذا الدعاء على غير أساليب التشبيه المألوفة، إذ (( شبّه السحب ذوات الرعود والبوارق، والرياح، والصواعق، بالإبل الصعاب التي تقمص برحالها، وتتوقّص بركبانها، وشبّه السحائب الخالية من تلك الزوابع بالإبل الذلل، التي تحتلب طيّعة، وتقتعد مسمحة ))([٦٤])، فالدعاء باستجلاب هذا النوع من السحب دون النوع الآخر؛ لأنّ هذه السحب هي التي ستحقّق المراد منها من سقي الأرض وتحقّق صفة الإحياء والنماء بكلّ يسر وسهولة فيكون أدعى لحصول البهجة في النفس والرضا والإطمئنان.

ومثله في الدعاء على طلحة والزبير: ((... فأحلل ما عقدا، ولا تُحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أمّلا وعملا ))([٦٥])، فقد وقعت الإستعارة التصريحيّة في الألفاظ: (احلل) و(لا تحكم) وسيلة لتقريب مفهوم الكلام إلى الذهن، وتصوير ما وقع فعلاً على أرض الواقع من التعاقد على إلحاق الضرر بالدين من خلال محاربة الإمام والخروج على بيعتهم له، وإحكامهم لهذا العقد وإبرامه إبراماً، فكان استحضار وصف الحبل وعقده وإبرامه وسيلة مضمونة لبيان المقصود من الكلام.

ومن التراكيب الاستعاريّة التي حفلت بها أدعية الإمام قوله في الإستشفاء: (( اللهمّ صن وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فأسترزق طالبي رزقك، واستعطف شرار خلقك، وأبتلى بحمد من أعطاني، وأفتتن بذمّ من منعني ))([٦٦])، فالإستعارة في صون الوجه إنّما هو تعبير مبيّن عن مدى الحاجة الملحّة لحماية كرامة الإنسان وعزّته المتحقّقة من دلالة الوجه باليسار، فهو السبيل إلى حماية الوجه من كلّ ما يشينه ويقلّل من عزّه، فكان استهلال الدعاء للإستشفاء بهذه الصيغة الإستعاريّة إنّما هو السبيل لبيان أنّ لا ملجأ لتحقّق الشفاء إلا هو سبحانه، ولا ملجأ إلا إليه.

وقد تتظافر الصيغ المجازيّة مع بعضها بعضاً في نصوص الدعاء، من ذلك قوله: (( اللهمّ إليك أفضت القلوب، ومُدّت الأعناق، وشخِصت الأبصار، ونُقلت الأقدام، وأُنضيت الأبدان، اللهمّ قد صرّح مكنون الشنآن، وجاشت مراجل الأضغان، اللهمّ إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا، وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، ربّنا أفتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين ))([٦٧])، فالكنايات المتلاحقة عبّرت عن الرغبة الملحّة في تحقّق الهدف المراد من النصر، فإفضاء القلوب، وامتداد الأعناق، وشخوص الأبصار، ونقل الأقدام، ونضوّ الأبدان إنّما هي كنايات عبّرت عن التطلّع إلى رحمة الله سبحانه وتعالى وكرمه، ثمّ جاء التعبير بالصور الاستعارية معبّراً عن العجز أمام هذه الابتلاءات، (صرّح مكنون الشنآن)، و(جاشت مراجل الأضغان)، فتشخيص الحقد وتصريحه بذاته عن الضغائن المكنونة المزروعة في نفوس أعداء الإسلام، وغليان الأضغان استعداداً للانفجار إنّما هو تصوير رائع لشدّة الحاجة لوجود الرسول الكريم بين ظهرانينهم كي يخفّف عن شخص الإمام بعضاً من هذه الفتن من غيبة الناصح الأمين، وكثرة العدو، وتمزّق الأمّة بين أهواء ونزعات متعدّدة.

- إستعماله المحسّنات البديعيّة:

ذكر بعض الباحثين أنّ نهج البلاغة اتّسم بصفة عامّة غلبت على مفاصله وهي سمة التنميق الأدبيّ القائم على السجع والتزويق اللفظيّ ممّا لم يعهده العصر الاسلاميّ الأوّل، والحقّ أنّ هذه السمة لم تكن واردةً إلا عرضاً، وحسبما تقتضيه الأصول البلاغيّة، وبشكل أقلّ ممّا ورد في القرآن([٦٨])، وعندما نذكر قضيّة السجع والتزويق اللفظيّ فإنّنا لسنا بمعزل عن النظر إلى هذه المحسّنات البديعيّة في أدب الدعاء، إذ إنّ قضيّة التأثير في الذوق العربيّ تأخذ مداها عندما تتقارب المقاطع محدثة إيقاعاً خاصّاً بها، وهذا التقارب لا يحدثه السجع فقط بل تشترك فيه أغلب المحسّنات البديعيّة التي تعدّدت في أساليب الدعاء الواردة في نهج البلاغة، فتحقّق الإيقاع الذي كان سمّة مميّزة لأسلوب نهج البلاغة عامّة، وأسلوب الدعاء خاصّة، ومن هذه النصوص التي نستدلّ بها على استعمال المحسّنات البديعيّة استعمالاً مدروساً قوله عليه السلام في وصيّته: (( أمّا وصيّتي، فالله لا تشركوا به شيئاً، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) فلا تضيّعوا سنّته، اقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، ... ربّ رحيم، ودين قويم، وإمام عليم، أنا بالامس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم، غفر الله لي ولكم))([٦٩])، ففي هذا النصّ أكثر من فنّ بديعيّ، فمثلاً المقاطع المستعملة في هذا النصّ متوازنة من حيث الوزن الموسيقيّ: ( فالله لا تشركوا به شيئاً )، و( ومحمّد فلا تضيّعوا )، و(اقيموا هذين العمودين)، و( أوقدوا هذين المصباحين )، وقد ساند هذا الجانب الموسيقيّ ورود السجع في العبارات اللاحقة: (اليوم عبرة لكم)،(غداً مفارقكم)،( غفر الله لي ولكم) فتحقّق التوازن اللفظيّ والمعنويّ في النصّ.

ومثله كلام الإمام عن أهل الكوفة يقول: (( يا أهل الكوفة: منيت بكم بثلاث واثنتين: صمّ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا أخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم))([٧٠])، فقد جمع السياق بين التوازن الموسيقيّ، وحسن التقسيم المتأتي من أسلوب التعداد (منيت بثلاثة واثنتين) وهو أسلوب معروف عند الإمام، فضلاً عن الطباق الجامع بين أطراف العبارات، إضافة إلى الفاصلة غير الموحّدة الجامعة بين العبارات والموازنة بينها، وقد بلغت مقاطع العبارات في نهج البلاغة من التوازن ما لا يقارن به أيّ نصّ فصيح آخر عدا القرآن الكريم.

ومن المحسّنات الواردة أيضاً الطباق، في مثل قوله: (( الحمد لله  على ما تأخذ وتعطي، وعلى ما تعافي وتبتلي ))([٧١])، فقد جمع السياق بين لفظتيّ: تأخذ، وتعطي، وهما متضادّتان، ومثلها لفظتيّ: تعافي وتبتلي، والصيغ التي كانت عليها الألفاظ هي صيغ موحّدة من الفعل المضارع الدالّ على استمراريّة هذه القدرة الالهيّة، والمسوّغ لهذا الجمع بين هذه الصفات المتضادّة هو تحقّق القدرة الإلهيّة على هذه الصفات مجتمعة؛ ولهذا لم يستحق الحمد إلا الله سبحانه وتعالى.

ومثله: (( اللهمّ...إجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحقّ بالحقّ))([٧٢])، في هذا السياق افترقت صيغ الطباق، إذ جُمع بين: (الفاتح) وهي صيغة اسم الفاعل، و(انغلق) وهي صيغة فعل ماضي، وفي باب الدلالة فإنّ صيغة الاسم أقوى وأثبت فأفاد الطباق الحادث بين اللفظتين أنّ سمة الفتح هي السمة الغالبة على شخص الرسول الكريم، هذا الفتح يشمتل على الفتح المعنويّ والمادّيّ.

ومن أمثلة الطباق أيضاً قوله عليه السلام: (( اللهمّ إنّي أعوذ بك أن افتقر في غناك، أو أضلّ في هداك، أو أضام في سلطانك، أو أضطهد والامر لك))([٧٣])، وسياق الطباق في هذا النصّ يقترب من سياق النصّ السابق، فالطباق الواقع بين (افتقر) و(غناك)، و(أضلّ) و(هداك)، و(أضام) و(سلطانك)، و(أضطهد) و(الامر لك)، والملاحظ أنّ الطباق في وجهه الأول الخاصّ بالعبد جاء بصيغة الجمل الفعليّة التي فعلها فعل مضارع ممّا دلّ على الحاجة المستمرّة إلى الله سبحانه، والوجه الثاني الخاصّ بالله سبحانه وتعالى جاء بصيغة الأسماء المعرّفة بالاضافة إلى ضمير المخاطب، ممّا يشير إلى ثبوت هذه الصفات بذات الله سبحانه وتعالى فهو المستقلّ بهذه القدرة.

والملاحظ في هذه الأمثلة جميعها أنّها توازنت موسيقيّاً فتظافرت المحسّنات من سجع وطباق وحسن تقسيم وموازنة وغيرها من المحسّنات في خدمة التوازن الخارجيّ فضلاً عن التوازن الداخليّ الذي اشتملت عليه.

- دقّة إستعماله الألفاظ:

ممّا لا شكّ فيه أنّ فصاحة أيّ نصّ وبلاغته تعتمد اعتماداً كليّاً على حسن إنسجام ألفاظه مع بعضها بعضاً، وعمليّة الإنسجام هذه تنطلق تبدأ من إختيار اللفظة المفردة ووضعها في موضعها الذي لا ينبو عنه أو يتخلخل في دلالته، وإذا ما نظرنا إلى نهج البلاغة نجد أنّ صاحب الفصاحة والبيان أبدع أيّما إبداع في توظيف الألفاظ عبر دلالات محدّدة ومقصودة في الوقت نفسه، إذ لم تكن اختياراته نابعة من منطلق تناسب الألفاظ لتحقيق التزويق اللفظيّ فقط، وإنّما نابعة من ضرورة ملحّة يستدعيها اللفظ مع المعنى.

ومن الأمثلة التي تؤيّد ما ذكرناه سابقاً قول الإمام للمغيرة بن الأخنس: ((أبعد الله نواك، ثمّ أُبلُغ جهدك فلا أبقى الله عليك إن بقيت ))([٧٤])، وقد استعمل الإمام في الدعاء عليه لفظة (نواك) وهي لفظة شاع استعمالها عند العرب في الدعاء، والمراد منها: نوءك، من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها، وكانوا إذا دعوا على إنسان قالوا: أبعد الله نوءك، أي خيرك([٧٥])، والمراد من إستعمال هذه الصيغة الدعاء عليه بالبعد والإشارة إلى أنّه لا خير في قربه أو بعده.

ومثله قوله (ع) في الإستسقاء: (( اللهمّ انشر علينا غيثك وبركتك، ورزقك ورحمتك، وأسقنا سقياً نافعة مرويّة، معشبة، تنبت بها ما قد فات، وتحيي بها ما قد مات ، نافعة الحياء، كثيرة المجتنى، تروي بها القيعان، وتسيل البطنان، وتستورق الاشجار، وترخص الأسعار، إنّك على ما تشاء قدير))([٧٦])، فالألفاظ تعاضدت لتؤدّي المعنى أكمل تعبير وأتمّه، فلفظة (أنشر) تعني البسط للغيث الذي يمثّل عنوان البركة والرزق والرحمة على كلّ جزئيّات الأرض المقفرة، العطشة، فالبسط يعطي معنى شموليّة هذه العنوانات مجتمعة من دون تميّز لجانب أو منطقة على أخرى، وقد تعاضدت الألفاظ الدالّة على الرغبة في تحقّق الرحمة والحياة وهو الغرض من الدعاء للإستسقاء، مثل: ( نافعة، مروية، معشبة، تنبت، تحيي، نافعة الحياء، كثيرة المجتنى)، فضلاً عن ذلك فإنّ الدعاء تضمّن الوصول إلى ما يتجاوز حدود إرواء العطش فقط إلى ما ريّ الأراضي الواسعة من قيعان الأرض، فتكون سبباً في أن تستورق الأشجار، وتنمو الثمار فيكون ذلك مدعاة إلى رخص الأسعار بسبب بذلها وتوفّرها.

ومثله قوله (ع): (( نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان ))([٧٧])، فلمّا كانت نعم الله سبحانه وتعالى في الماضي معلومة جعل الحمد بأزائه، أمّا المجهول الذي لا يدرك فلا يُحمد عليه وإنّما نستعين الله عليه، على ما فيه من خير أو شرّ؛ لذا جعل الإستعانة بأزائه؛ لأنّ الماضي لا يستعان عليه، ولقد ظرف وأبدع (ع) في سؤاله المعافاة في الأديان والأبدان؛ وذلك أنّ للأديان سقماً وطبّاً وشفاءً كما للأبدان([٧٨]).

- التعبير عن الاوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والبيئيّة المعاصرة:

   لقد كان للظروف التي عاصرها الإمام: الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة أثراً فاعلاً في الخصائص الأدبيّة لكلامه عموماً؛ لأنّه عايشها وتفاعل معها، وقد تأثّرت أدعيته غير المباشرة وهي التي تندرج ضمن موضوعات أخرى بالغرض الرئيس الذي يتحدّث عنه، فمثلاً في مجال حديثه عن الأمور السياسيّة، من دعوة الى الإستعداد للحرب، أو الجهاد، أو رسائله الى أعدائه نجد أنّ أسلوبه يميل إلى الشدّة فإمّا أن يكون الدعاء لهم أو عليهم أو لنفسه، أي أنّ الدعاء يكون مندرجاً في السياق نفسه الذي يندرج فيه كلام الإمام العامّ.

ونلحظ هذه الشدّة في الخطاب في كتاباته إلى معاوية، فهو يقول له في أحد كتاباته تلك: ((ومتى كنتم - يا معاوية- ساسة الرعيّة، وولاة أمر الأمّة ؟ بغير قدم سابق، ولا شرف باسق، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء، وأحذّرك أن تكون متمادياً في غِرّة الأمنية، مختلف العلانيّة والسريرة ))([٧٩])، فالدعاء وإن كان للنفس إلا أنّه جاء متناغماً مع ما افتقده معاوية للمطالبة بإمارة الشام من السبق في الدخول للإسلام، أو شريف النسب، فجاء الدعاء للنفس بهذه الصيغة ( نعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء)، فالسابقة حتى وإن تحقّقت لا بدّ من أن تقترن بإيمان حقيقيّ، لا أن يكون السبق متحقّق لمعاوية في إرتكاب المعاصي التي توجب الشقاء في جهنّم، فضلاً عن أنّ الجناس المتحّقق بين قوله (باسق)، (سابق) وجمعه على (سوابق) يربط بين المفترض الذي ينبغي أن يكون عليه معاوية، وبين ما هو عليه في الحقيقة.

ومثله قوله (عليه السلام) في التبرّؤ من الظلم: (( والله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ولنعيم يفنى ولذّة لا تبقى !! نعوذ بالله من سُبات العقل، وقُبح الزلل، وبه نستعين ))([٨٠])، وهنا تبدو البلاغة والفصاحة في أوجها، فكأنّ الدعاء الذي اختتم به كلامه مثّل الحدّ الفاصل بينه وبين الوقوع في الظلم لنفسه أو للآخرين: ( نعوذ بالله من سبات العقل).

أمّا الأثر الاجتماعيّ فيبدو واضحاً في دعوته إلى مكارم الأخلاق، والإبتعاد عن الغيبة، والنميمة، والدعوة إلى الثقة بين المسلمين، والحديث عن الساعة، أو الجنّة والنار، أو الدنيا، والحثّ على أداء الحقّ على وجهه الصحيح، والتأكيد على طاعة الله سبحانه، والإبتعاد عن المعصية، مثال ذلك قوله عليه السلام: ((وأعلموا أنّه ما من طاعة الله شيء لا يأتي إلا في كره، وما من معصية الله في شيء إلا يأتي في شهوة، فرحم الله رجلاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النفس أبعد شيء منزعاً، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى))([٨١]).

وقوله في التحذير من الموت وأهواله: (( تجهّزوا- رحمكم الله- فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلّوا العُرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزّاد، فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لا بدّ من الورود عليها، والوقوف عندها ))([٨٢]).

أمّا أثر بيئته الجغرافيّة فيبدو واضحاً في وصفه المظاهر الطبيعيّة السائدة في بيئته من جبال أو صحارى أو وديان، وهذا الأمر يتحقّق كثيراً في أدعيته للاستسقاء، أو في وصفه لأراضي المعارك التي ستجري في منطقة ما، من ذلك قوله في الإستسقاء: (( اللهمّ خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، واخلفتنا مخايل الجود، فكنت الرجاء للمبتئس، والبلاغ للملتبس، ندعوك حين قنط الأنام، ومُنع الغمام، وهلك السوام، ألا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا، وأنشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق، سحّاً وابلاً، تحيي به ما قد مات، وتردّ به ما قد فات))([٨٣])، فأنظر إلى روعة التشبيه في صورة (الحدابير) وهي النوق الهزيلة التي انكشفت فقار ظهورها بسبب ذوبان شحم السنام من شدّة الجوع والقحط، فالجامع بين النوق والمعنى الأصليّ الذي أخذت منه اللفظة -(الحدب)- هو التحدّب والقفر، وإضافتها إلى (السنين) التي هي مقحطة مجدبة أصلاً للمبالغة في وصف الجوع والقحط لهذه السنين المتوالية المتتابعة، فكأنّ وصف النوق الهزيلة أصبح ملازماً لهذه السنين ([٨٤]).

وانظر إلى الإستعمال الجميل للألفاظ الدالّة على السرعة والإمتلاء في نطقها الصوتيّ: (المنبعق)، و( المغدق)، و(المونق)، إذ عكست هذه الألفاظ الحالة التي يدعو إليها الإمام من الرغبة في سرعة إجابة الدعاء، وأنّه ينبغي أن يكون من الجواد الكريم سبحانه ريّاً غزيراً محيلاً هذا الجدب والقحط إلى ربيع وخضرة زاهرة.

     ومثله قوله: (( اللهمّ قد انصاحت جبالنا، وأغبرّت أرضنا، وهامت دوابّنا، وتحيّرت في مرابضها، وعجّت عجيج الثكالى على أولادها، وملّت التردّد في مراتعها، والحنين إلى مواردها، اللهمّ فأرحم أنين الآنّة، وحنين الحانّة، اللهمّ فأرحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها))([٨٥])، فالدعاء عكس طبيعة البيئة الجغرافيّة للمنطقة التي يصفها الإمام من: تشقّق الجبال إثر جفاف التربة من شدّة العطش، واغبرار الأرض من تيبّس النباتات التي تعلوها، وهيام الدوابّ، وتحيّرها في مرابضها فلا ملجأ تذهب إليه لتروي عطشها، أو تسدّ جوعها، وتتلخّص هذه الأحوال جميعاً في صورة التشبيه التي أوردها الإمام للدلالة على حالة اليأس والجوع والشدّة التي يمرّون بها من خلال قوله ( وعجّت عجيج الثُكالى على أولادها) فقد شكّل التشبيه منعطفاً غير مألوف في قواعد التشبيه إذ شبّه البهائم التي تئنّ من شدّة الجوع والقحط بحالة النساء الثُكالى في عويلهنّ على أبنائهنّ الأموات الذين لا يرجى عودتهم أبداً، فاليأس من عودتهم قد بلغ مداه لديهنّ.

- الصدق المتناهي في المشاعر:

   يبدو واضحاً للعيان من خلال النصوص التي تضمّنت الدعاء بأشكاله عامّة أنّه (ع) يتحدّث فيها حديث الخبير بالأمور، العارف بحيثيّات وقوعها؛ ولذلك صدرت أدعيته عليه السلام عن المتكلّم الواعي لحقائق الأمور، العارف بها يقين المعرفة، فعلمه عليه السلام مستمدّ من علم الرسول الكريم الذي أخذ علمه عن جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى، فهو الناطق عن الله سبحانه، لا ينطق عن الهوى، ومن كان منطقه منطق رسول الله لأحقّ أن يتّبع كلامه فهو غصن من شجرة النبوّة الطيّبة.

    فمن تصريحات الإمام في أدعيته، قوله: (( فو الذي لا إله إلا هو إنّي لعلى جادّة الحقّ، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل، أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم))([٨٦])، فالإمام على يقين من إيمانه، وأنّه على الحقّ لا يحيد عنه، وأنّ أعداءه على الباطل. 

ومن حديثه المقترن بصدق المشاعر وكلّه صادق قوله عن خبّاب بن الأرت- أحّد عمّاله- بعد وفاته: (( يرحم الله خبّاب بن الأرت، فلقد أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله، وعاش مجاهداً ))([٨٧]). فقد لخّص حياة (خبّاب) بأوجز عبارة وأدلّها، وقد صدّر كلامه عنه بالدعاء له بصيغة الجملة الفعليّة (يرحم الله)، فهو المطالب له بالرحمة الالهيّة التي تتجاوز ميزان العدل الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ثمّ أنظر إلى وصفه له (ع) بأنّه ( رضي عن الله) ولكنّه لم يوضّح لنا الموقف الإلهيّ من رضوان الله سبحانه عنه؛ لأنّه أمر متروك له سبحانه.

ومثله قوله في ذمّ أصحابه: (( أضرع الله خدودكم، وأتعس جدودكم، لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ ))([٨٨])، فانظر إلى حديثه عنهم حديث المتيقّن بهم وبتصرفاتهم، بما اكتسبه من خبرة عن أحوالهم تجاوزت حدود المعرفة العاديّة إلى المعرفة اليقينيّة، وقد اسند هذه المعرفة القيم الدلاليّة التي تظافرت لخدمتها وبيانها على أكمل وجه وأتمّه. 

ومنه قوله عليه السلام لبعض أصحابه في علّة أعتلّها: (( جعل الله ما كان من شكواك حطّاً لسيئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، ولكنّه يحطّ السيئآت، ويحثّها حثّ الأوراق، وإنّما الأجر في القول باللسان، والعمل بالأيدي والأقدام، وإنّ الله سبحانه يُدخل بصدق النيّة والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنّة))([٨٩])، وقد (( صدق عليه السلام إنّ المرض لا أجر فيه؛ لأنّه ليس من قبيل ما يُستحقّ عليه العوض؛ لأنّ العوض يُستحقّ على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجري مجرى ذلك، والأجر والثواب يستحقّان على ما كان في مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بيّنه عليه السلام كما يقتضيه علمه الثاقب ورأيه الصائب))([٩٠])، فدعاء الإمام نبع عن شخص صادق في إيمانه، وكان فيه على درجة عالية منه فاستحقّ منزلته بجدارة.

- التأثّر بمباديء الاسلام والدعوة الى مكارم الاخلاق:

اجتمعت للإمام عليه السلام خصال انفرد بها ولم تجتمع لأحد غيره من الصحابة، وهي العلم الغزير والشجاعة العالية، والفصاحة الباهرة القويّة، ومجاهدة النفس، وصدق السريرة، ونبل الهدف وسموّه، يضاف إلى ذلك محامد الأخلاق ومكارم الطباع ([٩١])، التي ما خرجت عن مباديء الإسلام ومكارمه، وقد اكتسب كلامه (عليه السلام) بشدّة التأثير في سامعيه؛ لأنّه كلام نابع عن ناصح أمين، وواعظ على درجة عالية من الايمان، وباب الدعاء خير من تضمّن الدعوة إلى هذه المحامد والمكارم؛ لأنّه من باب التوجّه الصادق إلى الله سبحانه وتعالى، وفي هذه اللحظة يتجرّد الإنسان من شوائب النفس الشيطانيّة فيكون أقرب ما يكون إلى النفس الرحمانيّة المبنيّة على الفطرة، ومن أمثلة ذلك قول الإمام، (( اللهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به منّي، فإن عدت فعد لي بالمغفرة، اللهمّ اغفر لي ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي، اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني ثمّ خالفه قلبي، اللهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللسان))([٩٢])، فقد انطلق الإمام من الدعاء للنفس إلى أسلوب تدريب الأمّة وتهذيبها على حسن العبادة وأسلوب التذلّل إلى الخالق، فالعمل لا بدّ من أن يقترن بالنيّة الصادقة التي تبتعد عن كلّ ما يكدّرها أو يحوّلها إلى نيّة سيئة بفضل الجوارح.

ومن مكارم الاخلاق التي دعا إليها الإمام وهي مبدأ من مباديء الإسلام: الدعوة إلى الصدق، وتجنّب الغدر، وهذه الصفة وإن كانت غالبة على المجتمع، فعلى المؤمن أن يجنّب نفسه الوقوع في براثن هذه الخصلة؛ لأنّ الايمان مانع له وناهي من الوقوع في الإنحراف الأخلاقيّ، مثلاً قوله عليه السلام: (( أيّها الناس إنّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنّة أوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم – قاتلهم الله- قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين ))([٩٣])، ويبيّن لنا سياق الكلام أنّ من توافرت فيه صفة الوفاء، فلا بدّ من أن تجتمع معها صفة الصدق، فهما توأمان يجتمعان معاً ولا يفترقان، ويكشف لنا عن حقيقة أخرى وهي أنّ إطلاق المسمّيات الرنّانة التي تجيز الخروج عن مبدأ من مباديء الإسلام لا تنطلي على الإنسان المؤمن؛ لأنّه ينظر بعين البصيرة التي تمنعه من الوقوع في الزلل متّبعاً أمر الله ونهيه.

ومن المباديء التي أقرّها الاسلام وحثّ عليها نهج البلاغة من هذا المنطلق نصرة الحقّ والإعانة عليه، إذ قال عليه السلام: (( رحم الله امرأ رأى حقّاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحقّ على صاحبه ))([٩٤])، فنصرة الحقّ تبعد الإنسان عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة التي قد يتيحها التملّص من قول الحقّ وترك الأمور وزمامها بيد من لا يرعون حقّ الله في عباده.

ومثله قوله في نصرة المظلوم: (( اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا إلتماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطّلة من حدودك ))([٩٥])، وهذا الذي يبيّنه الإمام هو جوهر قضيّة نصرة الحقّ وهو: إقامة حدود الله، وتحقيق الإمان للعباد، والدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بهذه الحقيقة التي لم تكن خافية عليه، وإنّما الغرض من هذا الدعاء إنّما تهذيب أخلاق العباد وتوجيهها نحو الإقتداء بهذه المباديء وتطبيقها.

ومن هذا الباب أيضاً ما رسمه الإمام لنا في بعض أدعيته بعضاً من مواصفات الوالي على الأمّة، إذ قال: (( اللهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصلاة، وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج، والدماء، والمغانم، والأحكام، وإمامة المسلمين، البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه))([٩٦])، فإمامة المسلمين ليست منصباً فخريّاً يعطى بحسب الأهواء فيتولّاه تبعاً لذلك: البخيل، والجاهل، والقاسي؛ وإنّما هو منصب يتولاه من هو أجدر بذلك؛ لتعلّق حقوق العباد من الحفاظ على الشرف، والدمّ، وأموال المسلمين. 

- شملت ادعيته خلاصة المعارف الدينيّة من الآراء الفلسفيّة والالهيّة:

وصف ابن أبي الحديد هذا الوجه الدلاليّ عند الإمام عليّ (عليه السلام) بقوله: (( إنّ التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الالهيّة، ما عرفت إلا من كلام هذا الرجل، وإنّ كلام غيره من اكابر الصحابة لم يتضمّن من ذلك أصلاً، ولا كانوا يتصوّرونه ولو تصوّروه لذكروه، وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله (ع) ))([٩٧])، ومن مزايا هذا الرجل الذي عاش بين ظهرانيّ أهل مكّة، ولم يخالط الحكماء والفلاسفة أنّه مثّل التلميذ النابه لأستاذ الحكمة وسيّد الحكماء الرسول الكريم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الذي انتقاه سبحانه وتعالى لمنصب النبوّة بفضل مواصفاته الفريدة التي أهّلت له هذا الانتقاء؛ ليكون الاستاذ والمعلّم والمربّي لشخص الوصيّ (عليه السلام).

   لقد تجسّدت المباحث الالهيّة بشكل واضح في أسلوب الدعاء؛ لأنّه الميدان الذي يظهر فيه ذلّ العبد وخضوعه لسلطان الله وعظمته، فهو الواهب الفرد، والمنعم بالعطاء من دون سواه، وقد تداخلت هذه المباحث مع جزئيّات الدعاء بحيث لا نشعر بوجودها، ولا نحسّ باستقلالها، من ذلك قوله عليه السلام في بيان عظمة الله سبحانه: (( أمره قضاء وحكمة، ورضاه أمان ورحمة، يقضي بعلم، ويعفو بحلم، اللهمّ لك الحمد على ما تأخذ وتعطي، وعلى ما تعافي وتبتلي، حمداً يكون أرضى الحمد لك، وأحبّ الحمد لك، وأفضل الحمد عندك، حمداً علا على ما خلقت، ويبلغ ما أردت، حمداً لا يحجب عندك، ولا يقصر دونك، حمداً لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده ))([٩٨])، فتقدّم الكلام ببيان نتيجة الأوامر الالهيّة وما ترتّب عليها من قضاء وحكمة، وأمان ورحمة للعبد، وتخصيص هذا الوصف بذات الله سبحانه وتعالى يتجّسد في سياق الكلام بتقديم الخبر المتألّف من الجار والمجرور (لك) على مبتدأه، ومجيء الجمل الواصفة لأفعال الله سبحانه بصيغ فعليّة فعلها مضارع: (تأخذ، تعطي، تعافي، تبتلي) يفيد استمراريّة هذه الصفات، ثمّ إنّ استعمال الصيغ الدالّة على مواصفات الحمد الذي يوجّهه الإمام إلى الله سبحانه وتعالى: ( أرضى، أحبّ، أفضل)، جاءت بصيغ التفضيل التي تمثّل المرتبة العليا على ما سواها، فضلاً عن الأوصاف الأخرى التي تثبّت الحمد له- سبحانه- وتقصره عليه من دون سواه: ( لا يحجب عنك، ولا يقصر دونك، لا ينقطع عدده، لا يفنى أمده).

   ولا يهمل الإمام وهو في معرض الدعاء مقام التوحيد الذي ينزّه الله سبحانه من أن يكون له شريك في الملك فيستحقّ الدعاء من سواه، يقول الإمام في هذا المقام: (( اللهمّ وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك، ولم ير مستحقّا لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك لا يحبر مسكنتها إلا فضلك، ولا ينعش من خلّتها إلا منّك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك، إنّك على ما تشاء قدير ))([٩٩])، فكأنّ مقام الكلام فيه تربية للنفس البشريّة، فالدعاء لا بدّ من أنّ يكون فيه رضا الله متحقّقاً عن العبد كي يضمن الإجابة عليه، وإلا ما الفائدة في دعاء لإنسان سخط الله عليه وغضب فكيف يجيبه إلى ما طلبه، وإلا فهذه الحالة لم تتحقّق لدى الإمام وإنّما كان الغرض منها تهذيب النفوس وتربيتها.

    ومثله قوله عليه السلام في وصف نعم الله على عباده: (( اللهمّ أنت أهل الوصف الجميل، والتعداد الكثير، إن تؤمّل فخير مؤمّل، وإن ... فأكرم مرجوّ، اللهمّ وقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحد سواك، ولا أوجهه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبة، وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين، والثناء على المربوبين المخلوقين، ... وقد رجوتك دليلاً على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة))([١٠٠])، فمن اتّصف بصفات القدرة والكمال استحقّ أن يُعبد، وأن يُلجأ إليه، وأن يُثنى عليه من دون الخلق.

    وفي الختام فهذا غيض من فيض من دلالات أدعية الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة، استعرضنا بعضاً منها وما أحطنا بها كلّها، ولكنّنا حاولنا قدر الإمكان، وإلا فما اشتمل عليه أسلوب الدعاء في نهج البلاغة يتجاوز ما ذكرناه بمرّات؛ لأنّ الكلام لم يكن صادراً من شخص عاديّ بلغ مرتبة من الفصاحة والبيان مع تمتّعه بذوق أدبيّ لا بأس به، وإنّما صدر عن ربيب القرآن وبيت النبوّة، صاحب الفصاحة كلّها، والبلاغة والبيان، فكيف تكون كلماته وتراكيبه؟؟ لا شكّ في أنّها بلغت الذروة في الأداء الدلاليّ، بعضه وصلنا إليه إعتماداً على مفهومنا القاصر، وبعضه نتركه للأيّام تظهره لنا، ومحاولتنا تأتي في باب استكشاف بعضاً من هذه الدلالات وتوضيحها، ومن الله التوفيق.

------------------------------------------------------
[١]) ظ: الصحيفة السجاديّة: حسين علي محفوظ، مقال منشور في مجلّة (البلاغ) الكاظميّة، السنة الأولى، ع ٦.  
[٢]) ظ: من أدب الدعاء في الإسلام: ٣.
[٣]) ظ: لسان العرب: ابن منظور، مادّة (دعا): ١٧/ ١٣٨٥.
[٤]) ظ: عقائد الإماميّة: محد رضا المظفّر: ٨٩، وينظر: سورة الأنعام: ٧٦- ١٨٠. 
[٥]) نهج البلاغة: شرح محمد عبدة: ٤/ ٧٢٣.
[٦])  المصدر السابق: ٤/ ٦٥٧.  
[٧]) المصدر السابق: ٣/٥٣٤.
[٨]) المصدر السابق: ٤/ ٧٠٧.
[٩]) المصدر السابق: ٤/ ٦٥٩.
[١٠]) المصدر السابق: ٣/ ٥٣٤- ٥٣٥.
[١١]) المصدر السابق: ٤/٥٣٥. 
[١٢]) المصدر السابق نفسه.
[١٣]) المصدر السابق: ٤/ ٦٩٥.
[١٤]) المصدر السابق: ٣/٥٣٥.
[١٥]) المصدر السابق: ٢/ ٣٣٨.
[١٦] ) ظ: علم المعاني: د. قصي سالم علوان: ١١٠.
[١٧]) المصدر السابق: ٣/ ٤٩٨.
[١٨]) المصدر السابق: ٢/ ٤٣٧، ٤٣٨.
[١٩]) المصدر السابق: ١/ ١٥٥.
[٢٠]) المصدر السابق: ٢/ ٢٨٥، ٢٨٦.
[٢١]) المصدر السابق: ٢/ ٤١٦.
[٢٢]) المصدر السابق: ٢/ ٢٩١.
[٢٣]) ظ: روائع البيان في خطب الإمام: ٩٥.
[٢٤]) نهج البلاغة: ٢/ ٤٧٢.
[٢٥]) المصدر السابق: ٢/ ٣٤٥.
[٢٦]) المصدر السابق: ٣/ ٦١٧.
[٢٧]) شرح ابن أبي الحديد: ١٧/ ١١٧.
[٢٨]) المصدر السابق: ١/ ٢١٣.
[٢٩]) المصدر السابق: ٢/ ٣٨٦.
[٣٠]) المصدر السابق: ١/ ٩٢.
[٣١]) المصدر السابق: ٢/ ٢٦٥.
[٣٢]) المصدر السابق: ٢/ ٧٥
[٣٣]) المصدر السابق: ٢/٢٩٠، والسورة الواردة في النصّ: (نوح/ ١٠- ١٢).
[٣٤]) المصدر السابق: ٣/٦١٤، والسورة الواردة في النصّ: (الحجّ/ ٢٥).
[٣٥]) المصدر السابق: ٤/٦٤٥، والآية الواردة في النصّ: (الانفال/ ٢٨).
[٣٦])  الإقتباس والتضمين في نهج البلاغة: ١٦.
[٣٧]) نهج البلاغة: ٢/ ٣٤٥.
[٣٨]) المصدر السابق: ١/ ١٧٣، ١٧٤.
[٣٩]) المصدر السابق: ٢/٢٩١.
[٤٠]) آل عمران/٢٦.
[٤١]) نهج البلاغة: ٣/٥٠٤.
[٤٢]) المصدر السابق: ١/٢٥٤- ٢٥٥.
[٤٣])  الشورى/٢٨.
[٤٤]) نهج البلاغة: ١/٨٢.
[٤٥]) البقرة/٢٢٣.
[٤٦]) الكهف/٤٦.
[٤٧]) الشورى/ ٢٠.
[٤٨]) النساء/ ٦٩.
[٤٩]) نهج البلاغة: ١/ ١٤٦.
[٥٠]) النازعات/٢٨- ٣٠.
[٥١]) نهج البلاغة: ١/ ١٢٠.
[٥٢]) ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: ٣/ ١٦٦.
[٥٣]) نهج البلاغة: ١/ ١٤٣.
[٥٤]) النهاية في غريب الحديث: ٢/ ٤٤٣.
[٥٥]) نهج البلاغة: ١/ ٢١٦.
[٥٦]) سبأ/ ١٩.
[٥٧]) ظ: الأمثال في نهج البلاغة: ٢٩.
[٥٨]) نهج البلاغة: ٢/٤٤٨.
[٥٩] ) المصدر السابق: ٢/٤٥٣.
[٦٠] ) المصدر السابق: ٢/٤٦٩.
[٦١]) ظ: البلاغة الحديثة، في ضوء المنهج الاسلاميّ: د. محمود البستاني: ١٥١- ١٥٢.
[٦٢]) نهج البلاغة: ١/ ٢٢٥.
[٦٣]) المصدر السابق: ٣/ ٥٥٣.
[٦٤]) المصدر السابق: ٢٠/ ٢٢٩.
[٦٥]) المصدر السابق: ٢/ ٢٨٥، ٢٨٦.
[٦٦] ) المصدر السابق: ٢/ ٤٦٩.
[٦٧] ) المصدر السابق: ٣/ ٥٠٤.
[٦٨]) ظ: ملامح من عبقرية الإمام: د. مهدي محبوبة: ١٠٩.
[٦٩]) نهج البلاغة: ٢/ ٢٩٨.
[٧٠]) المصدر السابق: ١/ ٢١٦، ٢١٧.
[٧١]) المصدر السابق: ٢/ ٣١٨.
[٧٢]) المصدر السابق: ١/ ١٤٦.
[٧٣]) المصدر السابق: ٢/ ٤٤٨.
[٧٤] ) المصدر السابق: ٢/ ٢٨٤.
[٧٥] ) شرح ابن أبي الحديد: ٨/ ٣٠١.   
[٧٦] ) نهج البلاغة: ٢/ ٢٩١.
[٧٧] ) المصدر السابق: ١/ ٢١٩.
[٧٨] ) شرح ابن ابي الحديد: ٧/ ٨١.
[٧٩]) نهج البلاغة: ٣/ ٤٩٩.
[٨٠]) المصدر السابق: ٢/ ٤٦٨، ٤٦٩.
[٨١]) المصدر السابق: ٢/ ٣٥٣.
[٨٢]) المصدر السابق: ٢/ ٤٣٥.
[٨٣]) المصدر السابق: ١/ ٢٥٣، ٢٥٤.
[٨٤]) ظ: غريب نهج البلاغة: ١٨٣، ١٨٤.
[٨٥]) نهج البلاغة: ١/ ٢٥٣.
[٨٦]) المصدر السابق: ٢/ ٤٢٥.
[٨٧]) المصدر السابق: ٤/ ٦٣٧.
[٨٨]) المصدر السابق: ١/ ١٤٣.
[٨٩]) المصدر السابق: ٤/ ٦٣٦.
[٩٠]) المصدر السابق: ٤/ ٦٣٧.
[٩١]) ظ: روائع البيان في خطاب الإمام: ١٩٣.
[٩٢]) نهج البلاغة: ١/ ١٥٥.
[٩٣]) المصدر السابق: ١/ ١١٥.
[٩٤]) المصدر السابق: ٢/ ٤٣٧.
[٩٥]) المصدر السابق: ٢/ ٢٧٨.
[٩٦])  المصدر السابق: ٢/ ٢٧٨، ٢٧٩.
[٩٧]) شرح ابن أبي الحديد: ٦/ ٣٤٦.
[٩٨]) نهج البلاغة: ٢/ ٣١٨.
[٩٩]) المصدر السابق: ١/٢٠٨.
[١٠٠]) المصدر السابق: ١/ ٢٠٨.

مصادر البحث ومراجعه:

- القرآن الكريم.

- الإقتباس والتضمين في نهج البلاغة، دراسة أسلوبيّة: كاظم عبد فريح، أطروحة دكتوراه مقدّمة إلى جامعة البصرة/ كليّة التربية بإشراف الدكتور سوادي فرج مكلّف، ١٤٢٧هـ، ٢٠٠٦م.

- الأمثال في نهج البلاغة: محمد الغروي، ط١، منشورات فيروز آبادي، قم، ١٤٠١ه.

- البلاغة الحديثة، في ضوء المنهج الاسلاميّ: د. محمود البستاني، ط١، دار الفقه للطباعة والنشر، قمّ المقدّسة، ١٤٢٤هـ.

- روائع البيان في خطاب الإمام، الجوانب البلاغيّة واللغويّة في بيان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: د. رمضان عبد الهادي، ط١، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، ١٤٢٣هـ، ٢٠٠٢م.

- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، ط٢، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ١٩٣٧م.

- الصحيفة السجاديّة: حسين علي محفوظ، مقال منشور في مجلّة (البلاغ) الكاظميّة، س١، ع٦.

- عقائد الإماميّة: محمد رضا المظفّر، تحقيق: محمد جواد الطريحيّ، المكتبة الحيدريّة، النجف، ١٣٧٠ه.

- علم المعاني: د. قصي سالم علوان، ط٢، مطابع جامعة البصرة، ٢٠٠٥م.

- غريب نهج البلاغة، أسبابه، أنواعه، توثيق نسبته، دراسته: د. عبد الكريم حسين السعداوي، ط١، مكتبة الغدير، طهران، ١٤٢٩ه، ٢٠٠٨م.

- لسان العرب: ابن منظور (ت٧١١هـ)، دار صادر، بيروت، (د. ت).

- ملامح من عبقريّة الإمام: د. مهدي محبوبة، مطبعة الزهراء، ١٩٦٧.

- من أدب الدعاء في الإسلام: السيّد محمد رضا الحسيني الجلاليّ، جزء من كتاب: الدعاء في الإسلام، ما هو؟ وكيف؟ ولماذا؟ منشور على الانترنت: www.m.alhassanain.com/ad٣yah/adab.

- النهاية في غريب الحديث: ابن الأثير (ت٦٠٦هـ)، تحقيق: طاهر أحمد الراوي، ومحمود محمد الطناحي، مؤسّسة اسماعيليان، ط٤، قمّ المقدّسة، ١٣٦٤هـ.

- نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضيّ من كلام سيّنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح الإمام محمد عبدة، ط١، مطبعة ذوي القربى، قمّ المقدّسة، ١٣٨٤م .

 

 

 

****************************