محمّد سبحاني
تعرّضنا في القسم الأوّل من المقال إلى ستة أمور من عوامل الموفقيّة في التبليغ. فيما يلي نشير إلى بعض عوامل الموفقيّة الأخرى.
٧ـ سعة الصدر
ينبغي أن يتمتع المبلّغ الذي يدور عمله في المجتمع مع أفراد متعدّدين، بسعة الصدر كما هو حال أنبياء الله العظام عليهم السلام الذين كانوا يطلبون من الله تعالى أن يمنحهم سعة الصدر في تبليغ دين الله.
عندما توجّه نبيّ الله موسى عليه السلام برفقة أخيه هارون لتبليغ دين الله لبني إسرائيل ودعوة فرعون إلى الله، واجها الكثير من المشاكل والصعوبات والحروب... توجّه إلى الله تعالى وطلب ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾[١].
شرح الصدر نعمة مَنَّ الله تعالى بها على الرسول، حيث يقول: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[٢].
ويُفهم من ذلك أنّ سعة الصدر أمر مهمّ للمبلّغ.
هناك بعض الأمور التي تؤثّر في روحيّة الإنسان في العمل التبليغيّ، من جملتها العرقلة، المصاعب، الآلام، المشكلات، الصعوبات، الفشل، التعرّض اللسانيّ و...، والمبلّغ الموفّق هو الذي يتمكّن من تخطّي هذه الأمور بهدوء وليونة وهو الذي يسعى بتدبيره لرفعها وإزالتها. يعتقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّ سعة الصدر وسيلة للقيادة ويقول: «آلة الرئاسة سعة الصدر»[٣].
ويشير الإمام عليه السلام في مكان آخر إلى أنّ من صفات المؤمن سعة الصدر وتحمل الآخرين ويقول: «أوسعُ شيء صدراً»[٤].
وبعبارة أخرى يجب أن يتمتّع المبلّغ الموفّق بسعة صدر ليتمكّن من استيعاب كافّة المشكلات.
من جملة الأمور الضروريّة واللّازمة في التبليغ تحمّل المشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة وعقائد المخالفين، فمن لم يكن له نصيب من النعمة الإلهيّة أي سعة الصدر، فسيواجه الكثير من الصعوبات في التبليغ. وكلّما تمكن الإنسان من استخدام قوّته وقدرته في المشاكل الماثلة أمامه، كانت نتائج تبليغه أكبر. يخاطب الإمام عليّ عليه السلام في رسالة وجّهها إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ والي البصرة، ويفرّق فيها بين الذين يتمتّعون بقدرة تحمّل أكبر والذين يتَّصفون بقدرة تحمّل أقلّ. يقول: «ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً والرواتع الخضِرة أرقّ جلوداً والنابتات العذبة أقوى وقوداً وأبطأ خموداً»[٥].
يواجه المبلّغون الذين يزورون مختلف أنحاء البلاد الكثير من الصعوبات ويشاهدون مظاهر الحرمان، لذلك يجب أن يكونوا كالشجرة البريّة القادرة على تحمّل أنواع الصعوبات ليتمكّنوا من اجتذاب الناس إلى دين الله.
٨ ـ معرفة المخاطب
بما أنّ الإنسان مخلوق حُرّ يمتلك إرادة وحريّة، لذلك يسعى إلى إيجاد تغييرات جديدة في حياته. والإنسان يطلب التغييرات دائماً في أوضاع حياته ويطلب أيضاً إيجاد ظروف أفضل للبيئة التي يعيش فيها.
والناس في كلّ عصر يعملون جاهدين على الانسجام بين أنفسهم والزمان الذي يعيشون فيه بهدف تحسين أوضاع حياتهم فلا يكونون متخلّفين عن زمانهم. وعلى مبلّغ الدين أن يعمل جاهداً للانسجام بين نفسه والظروف الزمانيّة المحيطة به وبالتالي عليه أن يمتلك معلومات كافية حول المستوى الثقافيّ، الأساليب، الرؤى والعقائد والآداب الرائجة بين الناس. وبعبارة أخرى فإنّ المبلّغ الذي يبلّغ الدين للجيل الذي يعيش بينه، يجب عليه أن يتعرّف بشكل دقيق على الناس في عصره ومستوى ثقافتهم. يوصي الإمام عليّ عليه السلام الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قائلاً: «يا بنيّ إنّه لا بدّ للعاقل أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه وليعرف أهل زمانه»[٦].
من جملة وظائف المبلّغين والمربّين، المعرفة الدقيقة بالمخاطبين والمتلقّين للخطاب. وهناك العديد من المبلّغين أصحاب الباع الطويل في البعد العلميّ إلّا أنّهم كانوا غير موفّقين على مستوى جذب المخاطبين والسبب في ذلك عدم الاهتمام أو عدم الاهتمام الكافي بهذا الأمر المهمّ.
وإمام الخطباء عليه السلام كان على معرفة كاملة بالمخاطبين وبالمستوى الثقافيّ للمناطق الإسلاميّة المختلفة، فكان يوضح للولاة خصوصيّات الناس من المناطق المختلفة. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في الرسالة التي كتبها الإمام عليه السلام إلى عبد الله بن عبّاس والي البصرة في العام ٣٦هـ.ق بعد حرب الجمل. قال عليه السلام: «اعلم أنّ البصرة مهبط إبليس ومفرس الفتن، فحادث أهلها بالإحسان واحلُل عقدة الخوف عن قلوبهم. وقد بلغني تنمُّرك لبني تميم وغلظتك عليهم وإنّ بني تميم لم يغب لهم نجم إلّا طلع لهم آخر وأنهم لم يسبقوا بِوَغْمٍ في جاهلية ولا إسلام»[٧].
وقد يؤدّي عدم اطلاع المبلّغ على مستوى مخاطبيه إلى عدم قدرته على نقل الخطاب إليهم كما يستحقّ، فالمبلّغ يجب أن يعرف عمر المجموعة التي يخاطبها وأن يعرف ما هي الخصوصيّات التي تمتاز بها كلّ مجموعة من المخاطبين ليتمكّن من اختيار الخطاب المناسب للفئة التي يخاطبها. شَبّه القرآن الكريم أرواح بعض الأشخاص بالأرض المستعدّة التي تصبح خضراء مع نزول المطر وشبه البعض الآخر بالأرض اليابسة الجدباء التي لا ينبت فيها سوى الشوك. وقد تكون قلوب البعض كالحجرة التي لا يؤثر فيها شيء، بينما تكون قلوب البعض الآخر ليِّنة بحيث تسيل الدموع عند سماع حديث حقّ. ينبغي لمبلّغ الدين قبل تبليغ الدين، معرفة كافّة خصوصيّات المخاطبين ومن كافّة الجوانب الفرديّة والاجتماعيّة لأنّ معرفة المخاطبين ومعرفة مستوى ثقافتهم، ذات أهمية كبيرة على مستوى إيصال المعارف الإلهيّة. أمّا الإمام عليّ عليه السلام فكان يتّخذ مواقفَ متعدّدة اتجاه المخاطبين وكان يحدّثهم حسب معرفتهم ومستواهم. وكان تعاطي الإمام يختلف أيضاً مع العدو المهاجم، والمنحرفين والمنافقين. والحقيقة أنّ الإمام عليه السلام كان يخاطب كلّ فئة حسب ما يناسبها.
تحدّث الإمام علي عليه السلام عام ٣٧هـ. في مسجد يصف أحوال الناس بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، يقول: «والناس على أربعة أصناف، منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلالة حدّه ونَضيض وَفْرِه ومنهم المصلت لسيفه والمعلن بشره والمجلب بخيله ورَجِلِه، قد اشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مِقنب يقوده أو منبر يفرعه... ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشَمَّر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة واتخذ سِتْر الله ذريعة إلى المعصية.
ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه وانقطاع سببه فقَصَرَتْه الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مَغْدَى»[٨].
٩ـ رعاية المناسبة بين الكلام والمخاطبين
بما أنّ الناس يختلفون في العقول والإيمان، فعلى المبلّغ أن يحدّث كلّ مخاطب بمقدار عقله وإيمانه وأن يطلب منه ما يمكنه الإتيان به. يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»[٩].
يجب أن يعرض المبلّغ المطالب التي يحملها بحيث تكون مفهومة عند المستمعين. وأن يراعي التناسب بينها وبينه فلا يتحدّث للمستمع بأيّ شيء. يجب على المبلّغ وقبل الشروع بالكلام أن يفكّر فيما سيقول ويقيس ذلك على الظروف التي سيُلقي فيها الخطاب، فإذا وجد أنّ المصلحة تقتضي الحديث، تحدّث. يقول الإمام عليّ عليه السلام: «لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه وإن كان شرّاً واراه»[١٠].
١٠ـ التشجيع وإنذار المخاطبين
التشجيع واحدةٌ من القدرات والقوى التي يستخدمها كلّ إنسان. ويرغب الإنسان منذ طفولته أن يشجّعه الآخرون ممّا يجعل سلوكه مؤيّداً. وعندما يكون التشجيع في مرحلة الشباب يكون بمثابة الاطمئنان القلبيّ الذي يجعل الشابّ هادئاً مطمئنّاً إلى صحّة ما يقوم به. ويمكن القول وبجرأة إنّ التشجيع أفضل وسيلة لاكتشاف الاستعدادات والنفوذ إلى قلوب المخاطبين.
شجّع الإمام عليّ عليه السلام الأشخاص على الإتيان بالأعمال الحسنة وحذّرهم الاقتراب من الأعمال القبيحة. وقد ظهر أسلوب الإمام هذا في رسالته إلى مالك الأشتر حيث يقول: «ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلًّا منهم ما ألزم نفسه»[١١].
إنّ كلّ إنسان يشعر بالخوف والمهمّ في المسألة توجيه وقيادة هذا الخوف؛ فإذا تمكّن المبلّغ من الاستفادة من هذه الحالة لجهة خوف الإنسان من الله، فقد جعل هذا الإحساس على الطريق الصحيح وتمكّن أيضاً من حَلِّ الكثير من المشاكل العقائديّة والأخلاقيّة. يجب إيجاد نوع من التوازن بين التشجيع والإنذار والابتعاد قدر المستطاع عن جعل المخاطب يائساً من رحمة الله والعمل لتشجيعهم على الامتثال لأوامر الله تعالى. يقول الإمام عليّ عليه السلام في هذا الخصوص: «الفقيه كلّ الفقيه من لم يُقَنِّط الناس من رحمة الله ولم يُؤيّسهم من روح الله ولم يؤمّنهم من مكر الله»[١٢].
١١ـ الانسجام بين العمل والقول
إنّ عمل المبلغ بما يقول يجعل تبليغه عمليّاً ومؤثّراً، بالأخصّ وأن الناس حسّاسون جدّاً فيما يتعلق بحياة المبلّغ وعائلته، وهم يتوقّعون الصفاء والإخلاص والتواضع والتقوى من الشخص الذي يتحدّث بحديث الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام.
يجب أن يعلم الشخص الذي جعل نفسه إماماً للناس وداعياً إلى الله أنّ «إنَّ رواة العلم كثير ورعاته قليل»[١٣].
وعمل المبلّغ بما يقول والذي هو خلاصة التعاليم الإلهيّة، يشير إلى عمله بتكليفه ودليل على طهارة قلبه وتقواه، ولكنّ الأهمّ من أداء التكليف الفرديّ، هداية الناس إلى الصراط المستقيم ونجاتهم من الضلال، وهذا ما يمكن القيام به من خلال العمل. يقول الإمام عليّ عليه السلام حول التناسب والتطابق بين العلم والعمل: «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل عنه»[١٤].
يتحدّث الإمام عليّ عليه السلام في أماكن أخرى عن الذين يدعون الناس إلى التعاليم الإلهيّة من دون أن يكونوا من العاملين: «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل ويُرجي التوبة بطول الأمل يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين... ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم ويبغض المذنبين وهو أحدهم»[١٥].
ويقول في مكان آخر: «وإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجّة عليه أعظم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم»[١٦].
المبلّغ الموفّق هو الذي تعبر مواعظه قوس العمل ليكون مؤثّراً، وما أجمل العبارة التي تحدّث بها الإمام عليه السلام عندما قال: «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر»[١٧].
فالتكليف الأساس للمبلّغ الذي يعمل لنشر الثقافة العلويّة أن «إذا علمتم فاعملوا»[١٨].
فإذا كان الأمر على هذا النحو لتمكّن من جذب الشباب إلى الدين ومنعهم من التفرّق عنه كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهارعليهم السلام.
١٢ـ التشجيع على العمل بتوضيح فوائده ونتائجه
على الرغم من أنّ القوانين الإسلاميّة سماويّة، فهي أرضيّة أيضاً، أي أنها تقوم على أساس المصالح والمفاسد الموجودة في الحياة البشريّة. يقول العلّامة الشهيد مطهّري رحمه الله في هذا الخصوص: «نحن نرى أنّ القرآن الكريم أشار إلى المصالح والمفاسد الموجودة في أحكامه والتي هي من ضروريّات الإسلام. وألّف الشيخ الصدوق كتاباً من الأحاديث أطلق عليه اسم علل الشرائع أي (فلسفة الأحكام) جمع فيه الأحاديث التي تشير إلى فلسفة الأحكام. وأشار إلى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كانوا يوضحون فلسفات الأحكام التي يبيّنونها للناس ومن جملة ضروريّات التشيّع والأكثرية السنية ـ لعلّ من الصحيح القول كافّة أهل السنة ـ أنّهم يقولون بأنّ الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد الحقيقيّة»[١٩].
يجب على المبلّغ أن يوضح في خطاباته الفوائد والنتائج المعنويّة والماديّة لأعماله وسلوكيّاته ليتمكّن من جذب المخاطبين. وقد اهتمّ الإمام عليّ عليه السلام بهذا الأمر المهمّ وذَكّر بالنتائج الدنيويّة والأخرويّة لأفعال المخاطبين، يقول: «فإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنّة وإن كان ذا مشقّة شديدةٍ ومذاقةٍ مريرة»[٢٠].
ويقول عليه السلام في مكان آخر:
«إنّ أفضل ما توسّل له المتوسّلون إلى الله سبحانه وتعالى، الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله، فإنّه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة وأقام الصلاة فإنّها الملّة وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة وصوم شهر رمضان فإنّه جُنّة من العقاب وحجّ البيت واعتمارُه فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإنّها مثراة في المال ومنساة في الأجل وصدقة السرّ فإنّها تكفّر الخطيئة وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان»[٢١].
١٣ـ النظم والتخطيط
تتوقّف موفقيّة كلّ إنسان على مقدار النظم والانضباط في الأعمال والتخطيط في النشاطات. وقد خصّ الإمام عليّ عليه السلام مسألة النظم بعباراته فقال: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم»[٢٢].
وإذا أردنا أن نترك أثراً إيجابيّاً في التبليغ فعلينا أن نعيد النظر في أعمالنا، والذين كانوا موفّقين في أعمالهم هم من الذين كانوا يخطّطون بشكل صحيح في حياتهم.
يقول الإمام عليّ عليه السلام: «للمؤمن ثلاث ساعات، فساعة يناجي فيها ربّه وساعة يرمّ معاشه وساعة يخلّى بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل، وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلّا في ثلاث، مرمّة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذّة في غير محرّم»[٢٣].
يُستفاد ممّا تقدّم ضرورة ولزوم حكومة النَّظْم والتخطيط على حياة كل إنسان، وهما أشدّ ضرورة للمبلّغ الذي يعتبر عمله من جملة الأعمال الحسّاسة.
والنَّظْم والتخطيط كانا واضحيْن في حياة الإمام الخميني قدس سره الذي كان موفّقاً في حياته. «لقد نظّم الإمام قدس سره وقتاً خاصّاً للمطالعة وقراءة القرآن في الأعمال المستحبّة حتّى للزيارات والأدعية غير المختصّة بزمان خاصّ وكان يأتي بكلّ عمل طبق ذاك التخطيط والتنظيم»[٢٤].
إنّ القيام بالأعمال طبق النظم والانضباط يؤدّي إلى أدائها في وقتها. والمبلّغ الذي يهتمّ بالنظم والانضباط في حركته وذهابه وإيابه، يترك نتائج أفضل. يقول الإمام عليّ عليه السلام: «وأمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه»[٢٥].
١٤ـ الأنس بالناس
من جملة الألطاف والعنايات التي مَنَّ الله تعالى بها على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام هو ذاك الحنان والعطف والأنس بالناس.
عاش المعصومون بين الناس واهتموا لأمورهم، وهكذا يجب أن يكون المبلّغ الموفّق إذ ينبغي له الالتفات إلى احتياجات الناس في المكان الذي يُبَلّغ فيه حيث يساهم هذا الأمر في بقاء النعم الإلهية. يقول الإمام عليّ عليه السلام مخاطباً جابر: «يا جابر من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء ومن لم يقم فيها بما يجب عَرَّضها للزوال والفناء»[٢٦].
ويوضح الإمام عليه السلام في مكان آخر طريقة التعاطي مع الناس: «خالطوا الناس مخالطة إن متُّم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم»[٢٧].
وعلى هذا الأساس يجب على مبلغ الدين في مسألة التعاطي مع الناس.
أوّلاً: رعاية العدل والإنصاف والتعامل مع الجميع انطلاقاً من الإنصاف كما قال الإمام عليه السلام: «أنصفِ الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيتك»[٢٨].
وثانياً: رعاية المساواة في التعاطي مع الناس: «وابسط لهم وجهك وألن لهم جانبك وآس بينهم في اللحظة والنظرة»[٢٩].
من جملة الأمور التي تدور حول الاهتمام بالناس والانتباه لأمورهم، عدم أذى الناس. ولا يجب أن يكتفي المبلّغ برضا الناس في سلوكه وتعاطيه الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ وغيره بل عليه أن يوصل العمل إلى مرتبة لا يحمل أدنى أذىً للناس.
يقول الإمام عليّ عليه السلام: «طوبى لمن... عزل عن الناس شرّه»[٣٠].
وقد كتب الإمام عليه السلام يوصي ولاته على المدن: «قد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كفّ الأذى وصرف الشذى»[٣١].
وعلى المبلغ أن يعتبر كلّ ما هو مضرّ لنفسه مُضرّاً لغيره وأن يفكّر باستمرار بسعادة وراحة الناس ليرضى الله تعالى عن عمله.
صحيح أنّ خدمة الناس والاهتمام بهم من ميز المبلّغ في الإسلام إلّا أنّ هذا لا يعني اعتبار كافّة الناس في كافّة الأزمنة. يقول الإمام عليّ عليه السلام: «أصبحت والله لا أصدق قولكم ولا أطمع في نصركم ولا أُوعِد العدوّ بكم»[٣٢].
هؤلاء الناس هم الذين ساهموا في غربة أمير المؤمنين عليه السلام: هؤلاء الذين كانت كلّ حياة الإمام عليه السلام وقفاً لهم، فنراه يشكو منهم: «أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها»[٣٣].
١٥ـ المعرفة بأدوات التبليغ
إذا أخذنا بعين الاعتبار التقدّم التكنولوجيّ المعاصر، بالأخصّ في أمر التعليم، فمن الضروري أن يَطّلع المبلّغ على أدوات التبليغ الحديثة. وإلّا فلن يكون بالإمكان جذب الشباب والناشئة وجيل الثورة الجديد من خلال الأسلوب التبليغيّ القديم، لا بل يجب الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة للتعريف بالدين. يجب التطور مع الزمان وعدم التخلّف عنه.
وإذا أيقنّا بحاجة الشباب إلى معارف أهل البيت عليهم السلام وأنّهم يمتلكون قلوباً صافية وطاهرة وكما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «قلب الحدث كالأرض الخالية التي ما ألقي فيها شيء قبلته»[٣٤]، لذلك يجب إيجاد الأرضيّة المناسبة للرشد والنموّ، فالله تعالى قد جعل الإسلام بحيث «لا عفاءَ لشرائعه»[٣٥]، فلكلّ زمان قوانينه وأساليبه المعاصرة ومن مسؤوليّة المبلّغ اللجوء إلى تلك الأساليب الحديثة.
انتهى .