الدكتور فتحي خطاب
بسم الله الرحمن الرحيم
التحضيض
الحضُّ في اللغة : هو الحث والطلب بقوة ، يقال حضه على الأمر : حثه بقوة ورغَّبه في فعله ، و التحضيض مصدر حضّض المزيد بتضعيف العين في (حضَّ) [١].
والتحضيض عند النحاة هو الحثُّ والتحريض على عمل شيء باستعمال حرف من حروف التحضيض.
ويشتمل أسلوب التحضيض على ثلاثة معان هي :
أ ـ التحضيض ، وهو التحريض على فعل شيء والترغيب فيه ، والحثُّ عليه حثاً قوياً.
ب ـ العرض ، وهو الطلب برفق ولين وأدب .
جـ ـ اللوم والتوبيخ على ترك الشيء المحضض عليه المرَغّب في فعله ، أو على فعل الشيء المذموم المرغَّب في تركه ، ومع اللوم والتوبيخ يكون التنديم [٢] .
ولهذا الأسلوب أدوات معينة تفيد معانيه السابقة ، وهي خمسة حروف هي :
١ ـ هلاّ : بتشديد اللام، مركبة من حرفين : هل ، لام [٣].
٢ ـ لولا : مركبة من حرفين : لو ، ولا ، وتختص بالمضارع أوما في تأويله [٤].
٣ ـ لوما : مركبة من حرفين : لو، وما.وزعم المالقي أنها لا تأتي إلا للتحضيض [٥] .
٤ ـ ألا بتشديد اللام : مركبة من حرفين : أن ، لا ، وتختص ّبالجمل الفعلية الخبرية [٦].
٥ ـ ألا : بتخفيف اللام : غير مشددة ، مركبة من حرفين : الهمزة ولا وتختص بالفعلية [٧] .
وهذه الحروف عند استعمالها في هذا الأسلوب تختص بالفعل ، ولا تدخل على غيره ظاهراً أو مُقَدَراً ، وهي عندما تكون للتحضيض أو العرض يجب أن تدخل على الفعل المضارع الدال على الاستقبال لفظاً ومعنى وقد تدخل على الفعل الماضي إذا كان معناه مستقبلاً لمعنى المضارع.
وسوف أقوم بدراسة أدوات التحضيض الواردة في كتاب نهج البلاغة وهي :
هَلاَّ
وهي أداة تحضيض تختص بالدخول على الفعل ، وتفيد مع المضارع الحث على العمل ، ومع الماضي التوبيخ غالباً ، وإذا وقع بعدها اسم فهو معمول لفعل مُضمر يُقدَّر حسب المعنى. وقد وردت (هلاّ) في خطبه وأقواله ـ كرم الله وجهه : خمس مرات هي :
قوله : (فَهَلا احْتَجَجْتُم عَلَيْهِم بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وَصَّى بِأَنْ يُحْسِنَ إلى مُحْسِنِهِم ، ويتجاوزَ عن مُسِيْئِهِم ) [٨].
وقوله : (ألا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَينِ يشترطانِ لِي دوامَ الْعِزِّ ، وبقاء الملك ؛ وهما بما تَرَوْنَ من حالِ الفقرِ والذلِّ ، فَهَلا أُلْقِىَ عليهما أساورةُ من ذهب إعظاماً للذهب وجمعه واحتقاراً للصوف ولبسه !) [٩] .
وقوله : (أَمْ هَلاّ خشينا فتنةَ الإسلامِ يومَ ابن عبد وِدًّ ) [١٠] .
وقوله : (وَهَلا بَادَرُوا يومَ العَشِيرَةِ ، إِذْ الأَسْنَانُ تَصْطَكُّ ، والآذَانُ تستكُّ والدروعُ تُهْتَكُ ؟ وهَلا كانت مُبَادرتُها يومَ بدر إذ الأرواحُ في الصعداء ترتقي والجيادُ بالصناديدِ تَرْتَدِي ، والأرضُ من دماءِ الأبطالِ تَرْتَوِي) [١١].
دخلت "هلاّ" في أقواله ـ كرّم الله وجهه ـ على الفعل الماضي لفظاً وتقديراً في قوله : (هَلاّ احتججتم ، هلاّ أُلقي ، هلاّ خشينا ، هلا بادروا ، هلا كانت) حيت إنّ الفعل مذكور بعدها مباشرة ، وهي بذلك تدل على التوبيخ ، لأنه يكون على فعل وسلوك مضى ووقع .
فـ (هلاّ) فيما سبق أداة توبيخ ولوم ، على عدم الاحتجاج عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وصى بالإحسان إلى محسنهم ، والتجاوز عن مسيئهم وهو تحضيض على الاحتجاج. ولذلك استعمل معها الفعل الماضي للدلالة على التوبيخ .
وكذلك قوله : (هلاّ ألقى) فهو توبيخ لهما ، لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة فهو يوبخ من معه على حبهم للدنيا والركون إليها ، وما فيها من ذهب وكنوز .
وكذلك قوله : (هلا خشينا) فهو ينجهم على عدم خشيتهم من الفتنة ، لأنها تدمر كل شيء وتأكل الأخضر واليابس ، قال تعالى : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [١٢] .
وكذلك قوله : (هلا بادروا ، هلاّ كنت) فهو يوبخهم على عدم مبادرتهم يوم العشيرة ويوم بدر .
ومن خلال ذلك نرى أن "هلاّ" تأتي للتوبيخ إذا دخلت على الفعل الماضي . وقد ورد نحو ذلك في كلام العرب ومنه قول عمرو بن كلثوم [الكامل] :
هَلا عَطَفْتَ عَلَى أَخِيْكَ إِذَا دَعَا بِالثكْلِ ويْلَ أَبِيْكَ يَا ابْنَ أَبِي شًمِر [١٣] .
هذا توبيخ ولوم لعدم عطفه على أخيه بقوله : (هلا عطفت) ، والشطر الثاني من البيت يوضح ذلك . وقول عروة بن الورد [البسيط] :
هَلاّ سَأَلْتَ بَنِي غَيْلانَ كُلّهُم عِنْدَ السّنِيْنِ إذَا مَا هَبَّتِ الرِّيْحُ [١٤] .
ومن خلال البحت والتدقيق لم تردْ "هلا" داخلة على الفعل المضارع في كتاب نهج البلاغة ، والراجــح في ذلك أنه قد وردت بقلَّة في خطبه ـ كرم الله وجهه ـ وأنَّ معرض الحديث فيها كان للتوبيخ واللوم ، وما ورد في هذا الأسلوب استعماله (أَلاَ) التي سوف نتحدث عنها .
أَلاَ :
وهي حرف من الحروف المهملة ولها مواضع :
أحدها : أن يكون تنبيها وافتتاحا للكلام ، نحو قوله تعالى : أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [١٥].
والثاني : أن يكون عرضاً نحو قولك : ألا تنزل فتصيب خيراً.
والثالث : أن يكون حرف تحضيض [١٦] ، نحو قوله تعالى : أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ [١٧] . والفرق بينها وبين العرض ، هو أن (ألا) التي هي للعرض تفيد الطلب برفق ولين ، والتي للتحضيض تكون أشدُّ توكيداُ من العرض [١٨].
وقد وضعها ابن هشام في باب واحد (العرض والتحضيض) [١٩].
وقد جاءت (ألا) التي للعرض والتحضيض في خطبه كـرم الله وجهه فـي قوله : (أَلا لا يَعْدِلَنَّ أحدُكُم عَن القَرَابَةِ يَرَى بها الخصاصة أن يَسُدَّها بالذي لايزيده إنْ أَمْسَكَهُ ولا ينقصه إن أهلكه) [٢٠].
وقوله : (ألا تَرْبَعُ أَيُّهَا الإنسانُ على ظَلَعِكَ) [٢١].
وقوله : (أَتَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ على ما أسمعُ ألا تَنْهَوْنَهُنّ عَنْ هَذضا الرَّنِيْنِ) [٢٢].
وردت "أَلاَ" في أقواله ـ كرّم الله وجهه ـ للتحضيض ، وقد وليها فعل مضارع (ألا لا يعدلنَّ ، ألا تربَعْ ، ألا تنهونهنَّ) فهو ـ كرم الله وجهه ـ يحض على عدم مقاطعة الأقارب ، وعلى المحافظة على صلة الرحم ، وعدم قطعها بقوله : (ألا لا يعدلنَّ) . وكذلك يحض الإنسان على الرفق أي : ألا ترفق بنفسك وتكفها ، ولا تحمل عليها مالا تطيقه [٢٣].
ويحثهم أيضاً على السيطرة على نسائهم وألا يسيطرنْ عليهم بالبكاء الذي يأتينه قهراً.
وهذه الأفعال التي وليت (ألا) دالة على الاستقبال مذكورة ملفوظ بها . ومنه قوله تعالى: أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ [٢٤].
قال الزجاج في هذه الآية : (( هذا على وجه التوبيخ ، ومعناه الحضُّ على قتالهم )) [٢٥] . أي هو حث على قتال هؤلاء القوم من الكافرين الذين نكثوا أيمانهم أي : نقضوا عهودهم مع المسلمين .
وقد ورد هذا الأسلوب في كلام العرب ومنه قول الخنساء [المتقارب] :
ألا تَبْكِيَانِ الجَرِيءَ الجَمِيلَ ألا تَبكِيانِ الفَتَى السَّيدَا [٢٦].
حيت جاءت (ألا) حرف تحضيض ، فهي تحثُّ عينيها على بكاء أخيها صخر وقد وَلى (ألا) فعل مضارع وهو (تبكيان).
هاتان الأداتان هما اللتان وردتا في كتاب نهج البلاغة في الدلالة على التحضيض ، ولم ترد كل من (لولا ، لوما ، ألا ). للدلالة على التحضيض وقد جاء هذا الأسلوب بقلَّة في نهجه ـ كرم الله وجهه ، لأن كتابه في جلَّه مواعظ ونصائح وعبر وتهديد ووعيد : وقد وافق العربية وقواعدها في استعماله لهذا الأسلوب.