مقدمة حول شخصية أمير المؤمنين علي(ع)
لا شك بأن الحديث عن شخصية فذة في حجم شخصية أمير المؤمنين الإمام علي(ع) قد يوقعنا في ما يشبه الحيرة والارتباك الشديدين، خاصة عندما نحاول الاقتراب عملياً وليس نظرياً فقط من العالم الذاتي الداخلي لهذه الشخصية الفريدة لنفهمها ونعيها ونتأسى بقيمها وأخلاقيتها الإنسانية السامية..
وبمعنى آخر: لنحولها إلى كائن حي ملموس في سلوكنا وممارساتنا وأفعالنا الحياتية، أي أن نحاول الاستنارة والاستهداء بها، والعمل بآفاقها على مستوى التطبيق العملي من خلال ما امتاز به علي(ع) من خلقيات وشمائل وفضائل ذاتية وأخرى موضوعية على صعيد الحكم الممتدة والمتسعة برحابة الوجود الإنساني كله.. والتي لم تتمكن أية شخصية في التاريخ الإنساني كله من أن تبلغ مبلغ هذا الإمام الكبير، أو تتجاوزه في حجم الروح الكبيرة وعظمة المبادئ والخصال النفسية الرفيعة سوى حبيب علي ورفيقه وسيده وقدوته رسول الله محمد(ص).. الذي وصفه الله تعالى بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".. والذي كان يجسد نموذج الإنسان الكامل أسوة علي(ع) في الأخلاق والممارسة..
والحديث عن علي هو حديث عن جانب مشرق وبهي من هذا التاريخ الذي عرفناه بأعمال وأفكار وقيم وحكم الرسول(ص) والإمام علي(ع) وباقي الأئمة الكرام، وهو حديث نحاول فيه أن نثير حركية التفكير الموضوعي في محاولةٍ لاكتشاف طبيعة هذه التجربة الحيّة الغنية من خلال استنطاق مفردات النص في حركة الواقع الإسلامي ككل، ولاسيّما في وعي الإمام علي(ع) ـ الذي نتحدث عنه في هذه الدراسة ـ في تجربته الإنسانية المعطاءة والغنية الرائدة، أو للانفتاح على الدلالات الموحية في المعنى الذي يختزنه النصّ كقاعدةٍ فكريّةٍ مفتوحة على كل مواقع الحكم في المسيرة الإسلامية الطويلة الممتدة في ساحات الفكر والواقع.
ونحن عندما قلنا بأننا نعيش حالة من الحيرة عندما نتحدث عن هذا الإمام العظيم، فإن الحيرة –حقيقةً- ليس لها أية دوافع أو أسباب ذاتية، بل علتها وسببها كائن في عدم وجود سفينة يمكن أن تقلنا للإبحار في محيط بحر هذا الإمام العظيم المتسع والمتلاطم الأمواج.. ولكننا مع ذلك سنحاول في هذا المبحث تلمّس بعض الأفكار والمعارف التي نطق بها ومارسها(ع)، مع الوقوف عند بعض الحكم العملية (ودراستها ووعيها ومحاولة إعادة دراستها على ضوء معطياتنا الراهنة وآفاقنا الحاضرة) التي قالها وطبقها هذا الإمام العظيم الذي "أخفى مبغضوه فضائله طمعاً، وأخفاها محبوه خوفاً، فظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين"..
مع علي منذ بداية عهد الرسالة .
ولد الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) في مكَّة المكرّمة في البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل.
أبوه أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
بقي عليّ(ع) في رعاية أمّه إلى أن بلغ الثامنة من عمره، واتفق في ذلك الوقت أن أصابت قريشاً أزمة شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها شديداً على أبي طالب، لأنَّه كان كثير العيال، وفي قلّةٍ من المال لا يفي بنفقة رجل مثله، فقال محمَّد(ص) لعميه الحمزة والعباس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟ فجاؤوا إليه وسألوه أن يسلّمهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم. فأخذ العباس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ محمَّد(ص) عليّاً.
وجاء عنه أنَّه قال: لقد اخترت من اختاره الله لي عليكم، وكان عليّ يوم ذاك في الثامنة أو السادسة من عمره، وظلّ معه في رعايته يرعاه وينفق عليه ويتعهَّده بالتعليم والتوجيه، ويبثّ في روحه دقائق الحكمة وأسرار الكون والمعرفة، حتَّى أدرك من الحقائق ما لـم يدركه بعد رسول الله(ص)أحدٌ غيره، ولـم تكن فيه صفة إلاَّ وهي مشدودة إلى صفة من صفات النبيّ(ص) .
وكان النبي محمد(ص) قبل البعثة يتأمّل في آفاق الله وآفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل تبلغه الرِّسالة، وكان يُشرك عليّاً في أجواء ومناخات هذه التأمّلات، ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميّزت شخصيته، فكان رسول الله الصَّادق الأمين، وربّى عليّاً على أن يكون الصَّادق الأمين.
وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق(ع)، عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلّمني شيئاً أبلغ به المنـزلة العليا عندك، قال: "انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنـزلة عند رسول الله فافعله، فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغ لأنَّه كان الصَّادق الأمين".
كان صدقه(ع) هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة... وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنَّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثِّل أمانة الله عنده، في علاقته بكلِّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلِّ المراحل التي عاشها، وفي كلّ المواقع التي تحرّك فيها.
ذلك هو عليّ(ع) الذي عاش مع اللّه سبحانه، حتَّى إذا بُعث رسول الله (ص)، دعاه إلى الإسلام، فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره.
ويذكر بعض المؤرخين، أنَّ عليّاً(ع) كان أوَّل من أسلم من الصبيان، يريدون من ذلك أن يوحوا بأنَّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبي. ولكن رسول الله(ص) عندما دعاه، كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاَّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟..
وهكذا عندما انطلق الإمام(ع) في حياته العملية، والتي لم يسجد فيها إلا لله عز وجل، كان متفرداً في كل شيء، وكان يمتلك روحاً كبيرة وثّابة منطلقة، كما كان(ع) يستصغر كل من حوله أمام الله، ولهذا لم يكن يخشى أو يخاف من أحد سوى ربه، لأنّ محبة الله قد شغلته عما عداه من أعمال وسلوكيات، ولأنّ شعوره بعظمة الله جعله ينشغل عن النظر في عظمة الآخرين. ولذلك كان يقول ويؤكد بأنه "ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله معه وقبله وبعده".. وأنه "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً".
ومنذ بداية تفتحه على الحياة والوجود، أراد ابن عمه رسول الله(ص) أن يتعرف المسلمون على عمق المعرفة عند علي(ع)، وسعة العلم والمعرفة الحقّة لديه، وعن مواهبه وقدراته السلوكية الفريدة التي نحتتها تعاليم ومبادئ الإسلام العظيم.. حيث كان يقول لهم: "أنا مدينةُ العلْم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها".. ذلك لأنّ علياً(ع) عاش علم رسول الله كله، ومن ثَمَّ كان الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة أو قضية ما إلاّ وأجاب عنها بكل ثقة ووعي وإيمان.
وكان الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة أو قضية تبحث عن حل، بل كان المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في كلٍّ أمورهم الدينية والدنيوية.. حتى قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ "سيبويه" في النحو ومخترع علم العروض ومؤلف أول قاموس في اللغة العربية، قيل له: لم آثرت أو فضلت علياً(ع) على غيره؟ وكان الخليل يلتزم ولاية الإمام علي(ع).. فقال: "إن احتياج الكل إليه (أي لم نجد أحداً لم يحتج لعلي) واستغناؤه عن الكل (لم نجد علياً محتاجاً لأحد) فذلك دليل على أنه إمام الكل".
طبعاً لم تكن كلمات رسول الله(ص) التي قالها في حق علي ومنها قوله المذكور أعلاه "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وقوله "علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" وقوله "علي مع القرآن والقرآن مع علي.. اللهم أدر الحق معه كيفما دار".. الخ.. لم تكن عنواناً تشريفياً وخصوصية للذات، بل هي عنوان المسؤولية في الدور من خلال خطِّ الحاكمية في حركة الحاكم في الإسلام.. كما لم تكن واردة أو منطلقة على أساس وجود علاقة حالةٍ ذاتية عاطفيّة، بل كانت منطلقة من موقع إظهار آفاق تلميذه الذي تلمَّذ عليه في كلِّ شيء، فكان عليّ(ع) من رسول الله بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعده كما جاء في الحديث.
وقد جاء عن عليّ(ع): "علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم ينفتح لي من كلِّ باب ألف باب"، فكان(ع) يعتز بأنه تلميذ رسول الله وتلميذ القرآن الكريم، ولهذا كانت حياته كلّها قرآناً يتحرّك في كلِّ خطوة من خطواته.
وكان(ع) يعيش الإسلام بكلّ صفائه ونقائه وحركته وانفتاحه، وكان يواجه الحياة على أساس أنّ الإسلام لم يترك في نفس المسلم أيّ فراغٍ يمكن لشيء آخر أن يملأه، وذلك ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:٣٨).
كما لم تكن تلك العلاقة بين الرسول والإمام أيضاً منطلقة من وجود وشائج قربى بينهما، بل كانت مبنية على قاعدة صلبة هي قاعدة الرسالة وقاعدة القرآن الكريم الذي كان أيضاً هو الأساس البنائي الأول لها، وكان أُسّها اختيار الحاكم الخليفة بعد رسول الله(ص).. وهذا الاختيار كان مبنياً على: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْم الْكَافِرِينَ﴾(المائدة:٦٧).
حيث وقف النبي(ص) ليبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، ليضمن للرسالة معنى الثبات والامتداد والاستمرارية في معنى الفكر الذي يحمل كل فكر الرسالة في مواقع القمة، وفي عمق الروح التي تعيش روحية الرسالة في عمق الحب لله والإخلاص له، وفي قوّة الحركة، في صلابة الإرادة وشجاعة الموقف وانفتاح القرار على المسؤوليَّة كلِّها.
وبقدوم علي(ع) إلى مواقع الفكر والعمل، وبالحجم والتأثير النوعي الكبير له في حركة التاريخ العربي والإسلامي، شعت أنوار العلم والمعرفة والهداية والحكم العملية التي تجسدت في كل ممارساته وأساليب إداراته للمجتمع والدولة التي حكمها خلال فترة وجيزة لم تتجاوز السنوات الخمس، وقد كان(ع) رجل دولة بامتياز حتى عندما كان خارج الحكم (أي وهو في صفوف المعارضة البناءة) كنت تراه يشارك في بناء الدولة واستقرار الحكم وتطور المجتمع..
هذا ما كان خلال فترات حكم الخلفاء الأوائل ابتداءاً من أبي بكر وانتهاء بعثمان بن عفان.. حيث رأيناه ناصحاً وناقداً ومرشداً وهادياً ومسدداً للرأي أو ناقداً له، ومشاركاً بالحكم ـ بصورة غير مباشرة ـ من خلال آرائه وأفكاره ومعارفه حول السياسة والمجتمع والحكم والقيادة والفتوحات وغيرها..
وكان(ع) يسالم عندما يرى أنّ قضايا المسلمين تفرض عليه أن يسالم، ويحارب عندما يرى أنّ حياة المسلمين ومصلحة الإسلام تفرض عليه أن يحارب، أي كانت حربه كانت منطلقة في طريق الله بهدف نيل رضاه، وكان سلمه متحركاً في طريق الله أيضاً.. ولذلك رأيناه يقول بعد ما حدث من تحولات وتغيرات في المجتمع الإسلامي الوليد خلال الفترة التي أعقبت رحيل الرسول(ص): "والله لأسلمن (لأسالمن) ما سلمت أمور المسلمين، ولو لم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة".. إنه يريد أن يحافظ على وحدة الصف الإسلامي، ووحدة المسلمين في مواجهة صعوبات وتحديات نشر الإسلام، ورعاية بيضة الدين، والحفاظ على عوده الذي لا يزال غضاً طرياً يحتاج للرعاية والسقاية كما المولود الصغير في بداية تفتحه على الحياة.. ولذلك فهو(ع) لم يكن يريد أن يفسح في المجال أمام المصطادين في الماء العكر ـ وما أكثرهم في كل عصر ودهر ـ لإثارة الفتن والمشاكل والأزمات التي ستعطل حتماً انتشار واتساع رقعة هذا الدين العظيم إلى الآفاق الكونية كلها.. وهو ـ وإن كان يشعر بينه وبين نفسه بأحقيته للحكم والقيادة والرئاسة واستلام مقاليد رئاسة الدولة ودفة الحكم الإسلامي ـ لكنه رفض أن يأتي إلى موقع القيادة مع وجود مناخ الفتنة والانقسام الحاصل بين صفوف المسلمين، وعدم قدرة الكثيرين على التمييز بين الحق والباطل، واشتباه الأمور على الناس.. ولهذا تنحى جانباً عن موقع القيادة الفعلية العملية، مع بقائه إماماً للقلوب والعقول، ووافق على أن يكون جندياً في جيش هذه الدولة الفتية، خادماً للإسلام والمسلمين في أي موقع كان..
طبعاً لا بد أن نلاحظ هنا بأنه وعلى الرغم من ذلك كله فقد بقي الإمام يثير قضية الحكم وأحقيتة في خلافة الرسول(ص) في مدى الفترة التي عاشها قبل خلافته وفي أثنائها بأساليب متنوعة متعددة على أساس النص، وعلى أساس الكفاءة، ومن خلال الخلل في الموقف الآخر، وكان لا ينطلق في ذلك من عقدة الذات التي تبحث عن موقع، لتؤكد موقعها بالدفاع عن الحق الذي تملكه فيه، بل كان ينطلق من المبدأ في الانفتاح على قضية الحكم في شخصية الحاكم، وعلى رسالة الحاكم في خطِّ حكمه، ولذلك كانت المسألة لديه أن يقيم الحق ويدفع الباطل، كما جاء في حديثه مع ابن عباس، وهو يحدثه عن النعل التي كان يخصفها بنفسه، وهو خليفة: "إنها أعظم عندي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".(من محاضرة للعلامة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، ألقاها بمناسبة ولادة الإمام علي(ع) بتاريخ ٢٣-٣-١٩٨٦م. موقع بينات على شبكة الانترنت) .
والواضح أمامنا هنا إن الإمام أمير المؤمنين (ع) استطاع ـ بوعيه الإسلامي العميق المنفتح الحريص على الإسلام الرسالي ـ أن يعي ويدرك عملياً أن على المسلمين أن يتحركوا في خلافاتهم بناءً على الطريقة القرآنية التي تمثِّل المنهج الموضوعي، الذي يجعل الفكرة في مواجهة الفكرة، ويحوّل الخلاف إلى تنافس في الوصول إلى الحق من خلال الأسس التي يرتكز عليها الحق، أي بأدوات الحجة والبرهان، ليكون الجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، وليقول الناس كلهم الكلمة التي هي أحسن، فذلك هو السبيل للتفاهم.
وفي هذا الجو، يمكن لهم أن يطرحوا كل وجهات النظر التي تختلف فيها الأفكار، من دون أن يخافوا الوقوع في سلبيات العداوة والبغضاء والتقاتل، فلا تبقى هناك حقيقة غامضة، ولا قناعة قلقة، بل كل ما هناك الوضوح والثبات والانفتاح على الإسلام كله. وهذا هو النهج الذي أراد للناس أن ينتهجوه في حياتهم لاحقاً، ليكون كل همّهم وطموحهم إطفاء الباطل وإحياء الحق، لا بلوغ لذة أو شفاء غيظ، كما جاء في كتابه لابن عباس: "أمّا بعد، فإنَّ المرء ليفرحُ بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطلٍ وإحياء حق، وليكن سرورك في ما قدّمت وأسفك على ما خلَّفت، وهمّك في ما بعد الموت".
ولا عجب في ذلك كله، فقد كانت تربية علي(ع) – كما ذكرنا - في حضن الرسول ومهبط الوحي وبيت الرسالة، وهو ترعرع وشب منذ نعومة أظافره في منزل ابن عمه رسول الله، ما سمح له بأن يعايش أجواء نزول الوحي، وينفتح على أخلاقيات الرسالة وقيمها ومبادئها في المهد، وأن يتشرب قيم ومعارف القرآن الكريم، ويعرف عن قرب، بل ويشارك في السيرة النبوية، ليتعرف عملياً على أخلاقيات الرسالة من نبعها الحقيقي الصافي، وما تبناه الرسول الأكرم (ص) من أساليب الفكر والممارسة والحكم.. وهذا ما ظهر لاحقاً ورأيناه جلياً في التطبيق العملي والتجسيد الواقعي خلال فترة حكم الإمام علي(ع)، والتي كان عنوانها الحقيقي "مبادئ المواطنة والحكم الصالح" الذي دعا إليه ومارسه وطبقه أمير المؤمنين علي(ع) خلال خمس سنوات، هي فترة وجوده العملي كقائد للدولة والمجتمع.. وهذه المبادئ التي تصلح لنهضة أي مجتمع وأية قيادة أو دولة حاكمة له، هي:
١- العمل على إقامة دولة العدل والقانون والنظام.
٢- احترام التعددية الفكرية والسياسية والاعتراف بالآخر المختلف.
٣- احترام حرية الاعتقاد وقبول الآخر، والتسامح مع الآراء المختلفة والمتعارضة مع مبدأ الدولة طالما بقيت في نطاق الدعوة السلمية.
٤- احترام حق الإنسان في المشاركة السياسية وصنع القرار ومشاورة الناس.
٥- احترام مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.
٦- احترام كرامة الإنسان وحفظ هويته وثقافته الخاصة.
إذاً هنا يكمن سر علي(ع) وجوهر نجاحه الإنساني والرسالي الكبير.. إنه في هذه المحبة الفياضة اللامتناهية لله والإخلاص للدين والرسالة الإسلامية.. وهذا ما نجده واضحاً في كل مسيرته العملية منذ أن انطلق في بداية الدعوة مع الرسول الكريم(ص) ليؤكد على أهمية أن يكون هذا الدين حاضراً بقوة في قلوب ونفوس الناس الذين كان يريدهم أيضاً، أن يفتحوا قلوبهم على الله تعالى، وعلى محبّة الله والخوف منه والابتهال إليه، وذلك من أجل نيل رضاه لأن الله تعالى هو الغاية وهو المنتهى ولابد أن سبحانه حاضراً في كل ممارسات وأعمال الناس، وقبل ذلك في فكرهم وحسّهم وشعورهم وضميرهم، ليشعروا بحضور الله في كلّ مواقع وامتدادات حياتهم المتنوعة. كان يؤكّد هذا المعنى في كلِّ مجال يتحرّك فيه، وعندما كان يخاطب الناس، كان يذكّرهم بالله قبل أن يذكِّرهم بمشاكلهم في الحياة وبحلولها، كان عندما يخطب بجنوده في الحرب، يذكّرهم بالله قبل أن ينفتحوا على الحرب، حتى ينطلقوا إليها من موقع إحساسهم بالمسؤولية أمام الله، كي لا يظلموا الناس فيها..(من محاضرة للعلامة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، م.س نفسه..)
وهذه الروح المسؤولة الواعية لم تقتصر على حالة الحرب بل كان يطلب(ع) من محبيه ومريديه وشيعته ومن كل المسلمين بأن يلتزموا بها حتى في دقائق وتفاصيل حياتهم، في حبهم وبغضهم، في موالاتهم ورفضهم، في سلمهم وحربهم.. ومن باب الاستشهاد التاريخي على ذلك يروى عنه(ع)، أنّه عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، اندفع إليهم والمعركة محتدمة، وأراد أن يخطّ لهم الخطَّ الّذي يربطهم بالآفاق الروحية التي لا تتحرك من مواقع الحرب، بل من مواقع الرسالة، فقال لهم: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".
فهو لم يكن يريد أن يثير الحقد في نفوس الذين يقاتلون ليقوِّي الحقد موقفهم، بل كان يريد أن يقوِّي الإيمان الواعي موقفهم، حتى يحاربوا من موقع الوعي الرسالي لحركة السَّاحة في الحرب، لا من موقع الحقد الذاتي الأعمى الذي لا يرى صاحبه إلا من خلال عين الثأر وعقلية الحقد الشخصي المنطلق بعيداً عن كلِّ رؤية واضحة مبنية على الإيمان والوعي الموضوعي لحركة الفكرة في الواقع.
وهذا – إن دلنا على شيء - فهو يدلنا على وجود إدارة متوازنة عقلانية هادئة عند الإمام علي(ع) لحل المشاكل والخلافات وعدم تحويلها إلى عناصر ذاتية من أجل تصحيح الوعي القاصر أو الضعيف، وتركيز المفاهيم الصحيحة، واستقامة الخط الأصيل، وذلك لكي يتمكن المسلمون من العيش بوعي ومسؤولية تجعلهم قادرين على اتخاذ القرارات الصحيحة والحاسمة، وبحيث لا تكون القضية لديهم في أمثال هذه الأمور قضية شيء في الذات، لينفعل الإنسان به من خلال عناصره الذاتية في الإثارة الشعورية المضادّة، بل تكون قضيته هي قضية الخطِّ في معنى الخصوصية الإسلامية، وفي عمق المشاعر الإيمانية، فيتعامل معها بمسؤولية الإيمان في موضوعية النظرة والحوار، ليتعرف وجه الحق والباطل في احتمالاتها المتعدّدة، تماماً كأية فكرةٍ مجرّدة تتحرك في العمليات الفكرية للإنسان.
إن القضية هنا – كما أشار العلامة المرجع الراحل فضل الله- تعيش في نطاق تربية الذهنية الموضوعية في الحسّ النقدي للإنسان المسلم، ليواجه الحياة بطريقة عقلانيةٍ لا بطريقةٍ انفعاليةٍ، فيحاكم الأمور بالمنطق لا بالعاطفة، وبذلك، لا يستطيع الآخرون أن يفرضوا على المسلمين الرساليين أيّة معركةٍ لا يختارونها من خلال عناصر الإثارة، واستناداً إلى هذا التوجه، سيمتلك الرساليون صلابة الأرض وقوّة الموقف ووضوح الأفق واستقامة الطريق وواقعية النظرة إلى التجربة.. وهذا ما يمكن أن نستوحي من حركة الخلاف في جانب الخلافة في النطاق المذهبي، أن المسلمين كانوا يواجهونها بطريقة متوازنة بعيداً عن حالة التشنج والتعقيد بالشكل الذي نواجهه الآن، ولذلك فقد نلاحظ في ذلك، أنّ المسألة في وعي الذين عاشوا تجربة العناصر الأولى للخلاف كانت أكثر انفتاحاً مما يعيشه المسلمون الذين ورثوا الاختلاف الآن.
ولو نظرنا حالياً إلى واقعنا العربي والإسلامي الراهن لرأينا العجب العجاب في أقوال وممارسات رؤساء وزعامات وقيادات هذا الزمان حيث يتم تظهير الخلافات بصورة شبه حربية، وتعميم حالة الانقسام والتنابذ بين أبناء المجتمع الواحد، وهيمنة أفراد وأحزاب أحادية معينة على مقاليد الحكم وإدارة الدول والمجتمعات منذ فترات زمنية طويلة، وعدم تحمل هؤلاء لمسؤولياتهم التاريخية الجسيمة عند أي منعطف حاد قد يتعرض له بلدهم أو مجتمعهم.. وهذا أمر للأسف عجيب غريب حيث أن مسؤولينا العرب ومعظم قادة المسلمين حالياً لا يسمحون لأحد في أن يشاركهم القرار والسلطة، ولا يشركون الآخرين في الحكم ليشاركوهم تحمُّل مسؤولية الأخطاء والخطايا، ولكن عند حدوث الانفجارات الشعبيًّة وخروج الناس للاعتراض على سياساتهم الاقتصادية المدمرة التي أدت بمجتمعاتهم إلى الخراب والهلاك فهم يرفضون تحمل المسؤولية لا بل يلقونها في أحضان من ليس لهم حول ولا طول، ومن لا علاقة له بالمسؤولية لا من قريب أو بعيد.
وكلنا يعلم بأن موضوع "مسؤولية" مالكي السلطة وأصحاب القرار، ومن يدير دفة قيادة المجتمعات هو من أهم المواضيع والمباحث الفكرية والمعرفية المهمة التي بحثت ودرست في كثير من مراجع الفكر السياسي على مستوى الأفكار والشخصيات، وهو من الموضوعات الخلافية بالنسبة للموازين والقيم التي تحكم المسؤولية، بل وحتى بالنسبة لأهداف تلك المسؤولية.
وترتبط المسؤولية هنا بموضوع آخر وهو المحاسبة والمساءلة وتعزيز روح وحس النقد البناء في المجتمعات أفراداً وتيارات وأحزاباً.. حيث أنه من وضع نفسه أو وضعه أبناء مجتمعه في مواقع صنع القرار ومواضع المسؤوليات الكبرى المفضية لبناء وتطوير الدول والمجتمعات وازدهارها ونجاحها وخدمتها للناس، لا بد وأن يكون قادراً على القيام بأعباء السلطة بروح واسعة وصدر رحب وأخلاق عالية وحس قانوني رفيع، ولكن المشكلة عندنا في حياتنا السياسية العربية هو غياب أي واقع أو بعد عملي واضح ومحدد لمفردة المسؤولية واختلاط الحابل بالنابل كما يقولون، وسير المجتمعات بشكل أقرب ما يكون للتخبط الأعمى العشوائي وضياع أو تضييع المسؤوليات.. والسبب في ذلك هو عدم وجود حياة سياسية واضحة ومقوننة.. فلا ديمقراطية ولا تعددية سياسية ولا مساءلة أو محاسبة حقيقية يمكن أن تجري في مجتمعاتنا العربية.. بل هناك شبه غياب كامل لنظام تقاسم وتوزيع للسلطة الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى عدم وجود توزيع واضح ودقيق للمسؤوليات على اختلاف المواقع والمستويات.. ما يضيع على الناس فرص تفعيل وجودها وتطوير حياتها على النحو الأفضل والأرقى..
علم وحكم الإمام وعلاقتها بالعمل والممارسة
(نماذج للدراسة والاعتبار من حكمه ومواعظه)
لقد تمكن أمير المؤمنين الإمام علي(ع) – على الرغم من فترة حكمه المحدودة زمنياً والغنية فكرياً وعملياً على مستوى الإدارة والقيادة ونظم الحكم وإدارة شون الناس- من تجسيد أفضل نموذج لتطبيق مبادئ وأفكار الدين الإسلامي التي تشربها ووعاها وتعلمها من خلال الرسول والرسالة.. حيث رأيناه ينطلق محاولاً تنفيذ رؤيته الإسلامية في الكثير من القضايا الحياتية على مستوى تطبيقات أفكاره ورؤيته لمفهوم نظام الحكم والإدارة، وأسس بناء الدولة العادلة والقادرة، وتشكيلات القضاء، والجيش والعسكر وغيرها..
ولم يكن باستطاعة الإمام علي(ع) أن يتحرك في هذا الخط (خط بناء الدولة وتأصيل قيم الإسلام المحمدي الأصيل الذي حاول الكثيرون دمجه ومزجه بالأفكار والطبائع القبلية الجاهلية) لو لم يكن ممتلكاً لعلوم ومعارف نظرية وعملية دفينة، ومسؤوليات رسالية جسيمة.. أي أنه لم يكن من الممكن له – وهو وصي رسول الله وخليفته وزوج ابنته الوحيدة - أن يصل إلى ما وصل إليه من حكم عملية عالية ومعرفة حقيقية يقينية (لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقيناً) لو لم يمتلك ذاته، ويسيطر على هواه، ويتجرد من قوى المادة، وشراك المزاج والنفس الخاطئة، ويتخلى عن مكتسبات ومغانم وأهواء الدنيا (يا دنيا غري غيري..)، ويهب نفسه ووجوده كله لله والإنسان (ما وجدت شيئاً إلا وكان الله قبله وبعده ووو..)..
وقد ظهرت أمامنا تلك المعارف والرؤى ومناهج التفكير العملية من خلال حكمه وخطبه العملية (وليس القولية فقط، فقد كان فعله يسبق قوله) في نهج البلاغة على وجه الخصوص حيث رأيناه كيف يعالج كلَّ شيءٍ يُطرَحُ عليه أو يواجهه من موقع الإسلام، لأنّه يعتبر أنّ الله بعث رسوله برسالة الإسلام ليجيب عن كلِّ ما يتعلق بتنظيم حياة الناس وبحركة حياتهم.
ولهذا كان(ع) لا يكتفي بأن يبدأ الناس بالتعليم، بل كان يستنهضهم ليسألوا، فكان(ع) يقول لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني"، وقد قالها مراراً في مسجد الكوفة، من أجل أن يَنْفُذَ إلى عمق تفكير كلِّ شخص ليخرج منه كل علامات الاستفهام، ليقدِّم لهم الجواب عنها. وهو بهذا كان يريد أن يؤكّد للناس أنّهم ليسوا معذورين في أن يبقوا جاهلين أو حائرين وهو بينهم، فكان يقول لهم: "إن هاهنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة"، كان يشعر بمسؤولية أن لا يبقى المجتمع الذي يعيش فيه جاهلاً يبحث عن العلم، أو حائراً يبحث عن الهدى، أو ضالاً يبحث عن الطَّريق، بل كان يرى أنّ من واجبه أن ينفذ إلى كل فرد ليحقّق له شيئاً ويرتفع بمستواه بحسب ما يستطيع. ومن هنا نفهم أنّه لا يمكن لأيِّ عالم أن يكون حيادياً أمام قضايا الجهل والتخلّف، بل لا بدّ لكلِّ عالم، في أيّ موقع من مواقع العلم الذي يرتبط بحياة الناس، من أن يعرِّفهم إيّاه، وعلي(ع) كان يرى أنّ من واجب العلماء أن يلاحقوا النَّاس حتى يفرضوا عليهم العلم، ويفتحوا قلوبهم على العلم، لأنه ليس لأيّ مثقف أو صاحب خبرة الحرية في أن يجلس في بيته ويقول لا شغل لي ولا مسؤولية، لأنَّ علياً(ع) يفهم من موقع الإسلام، أنّ علم الإنسان ليس ملكه، وأن خبرته ليست ملكه، كما إن قوته ليست ملكه، فعلم الإنسان هو أمانة الله عنده للآخرين، وخبرته وكل طاقاته له وللآخرين.
وقد جاء في الحديث: "ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلَّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا"، إذا سألك الناس فأجبهم، وإذا لم يسألك فابتدئهم، وإذا لم يأتوا فاذهب أنت إليهم وحاول أن تُهيئ لهم الجو لكي يتعلّموا. لهذا لا يمكن أن نحلّ مشكلة العلم ومشكلة الهدى في حياة الناس إذا جلس كل واحدٍ منّا في بيته. ولم يتصدَّى لمسؤولية تعليم الناس وحلّ مشاكلهم. وعلي(ع) كان يفكّر بهذه الطريقة من أجل أن يتحمّل كلّ إنسان مسؤوليته في الحياة.
وسنحاول في هذه الدراسة الوقوف الواعي المدروس والمتأمل عند بعض حكمه ومواعظه العملية التي جادت بها نفسه الكبيرة على الناس في كل زمان ومكان.. مع إجراء تحليل معاصر لبعض تلك الأفكار والمعارف العظيمة..
١- ثقافة التقوى من خلال نظرة على بعض حكمه(ع): إذا عدنا إلى خطب أمير المؤمنين الإمام علي(ع)، وأقواله – التي جمعت في كتاب "نهج البلاغة"، وغيره من الكتب والمظان التاريخية الأخرى- فسنلاحظ بدايةً أن هناك وجوداً قوياً، وحضوراً غنياً وواسعاً لـ" ثقافة التقوى"، والدعوة إلى الالتزام بها، واعتبارها جوهر الحركة الإيجابية الفاعلة للإنسان في الحياة.. ولذلك حاول إمامنا أن يزرع هذه الملكة النفسية في تربة المجتمع الإسلامي آنذاك..
وكان(ع) يدرك – انطلاقاً من عمق إيمانه بالإسلام- أن بناء الإنسان المسلم بناء حقيقياً يقتضي تغيير محتواه الداخلي من كل الترسبات والتراكمات الذاتية المعيقة لتكامله ونموه المبدع.. أي أنه(ع) كان يؤمن بأن تأسيس الإنسان من الداخل هو القاعدة الراسخة لقيام أي مشروع حضاري إسلامي في الأمة.. لأنه عندما يتصالح الإنسان مع ذاته، وينسجم إيجاباً –وعن وعي وقناعة صحيحة- مع ما يعتقده من أفكار ومفاهيم وقيم، وينطلق بقوة إلى مواقع التطبيق العملي في مساحة الحياة كلها من دون أن يجد أي تباين أو ازدواجية بين ما له وما عليه، فإننا نكون عندئذ قد وصلنا إلى مرحلة صنع الإنسان المنتج والفاعل في مجتمعه وأمته.
ويبدو لنا أن تركيزه الإمام علي(ع) على مفردة التقوى – واستخدامه لأغنى المفاهيم وأغزر الكلمات والمعاني في تعبيره عن "ثقافة التقوى"- لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كان(ع) يريد من خلال ذلك (وهو الإمام المعصوم واجب الطاعة والإتباع، والذي كان يرى الأمور بمنظار العصمة والرسالة المختلف كلياً ،في جوهره وحقيقته، عن رؤية كل الخلفاء "والزعامات التقليدية" الذين عاصروه، أو سبقوه، أو حتى عن أولئك الذين حكموا الأمة لاحقاً) كان يريد أن يتصدى بقوة للنزعة المادية الصنمية، ويواجه ما يحدث في أمته من "طغيان الرؤية المادية" – والنزعة الحياتية اليومية - على واقع المجتمع كله.. خصوصاً وأنها أدت إلى اضمحلال مشاعر التدين الصحيح بين الناس، وانحراف تصوراتهم الإسلامية العملية القائمة أساساً على قاعدة التقوى.
ولذلك كان من الطبيعي – تبعاً لمبدأ أن النتائج تأتي بحسب المقدمات - أن تنتج هذا الرؤية المنحرفة مجتمعاً إسلامياً (شكلاً لا مضموناً) مفككاً، وملوثاً بالدوافع والاتجاهات غير الدينية التي لا تحمل شيئاً من هم وطموح بناء الأمة الحصينة والمقتدرة.. أي أن المجتمع آنذاك كان غارقاً حتى الثمالة – كما يقولون - بهموم اكتساب المال، وجمع غنائم الفتوحات، وحصد أكبر ما يمكن حصده من جوائزها المادية التي دفعه "أولو الأمر!" إليها دفعاً تحت ستار "نشر الدعوة والرسالة" بين الناس جميعاً..
والواقع أن نظرة الإمام علي(ع) كانت على طرفي نقيض من نظرة القائمين بالأمر في ذلك الوقت، حيث لم يرد(ع) للخلفاء (والأمة ككل) أن ينساقوا وراء عواطفهم وأمانيهم على طريق "الفتوحات الإسلامية"، وتوسعة رقعة الدولة الإسلامية الفتية، في ظل وجود مجتمع إسلامي طري العود، وحديث العهد بالإسلام، ولا يمكنه – بالتالي- تنفيذ مثل هذه المهام الحضارية الجسيمة، خصوصاً وأن هذا المجتمع كان يعاني من تفشي مظاهر الفساد السياسي والتنظيمي، ولذلك كان الإمام علي(ع) يهدف إلى تنظيم أمور البلاد على صورة الإسلام الأصيل والنقي، الإسلام الذي لم تدخل فيه رواسب الجاهلية الأولى.. وهو(ع) لم يكن مستعداً أن يتنازل قيد شعرة عن تحقيق هذا الطموح الإسلامي الكبير إدراكاً منه لحقيقة أساسية، هي أن توسيع رفعة البلاد الإسلامية – وتوافر غنائم وموارد الحروب بين أيدي الناس- سيضعف الشعور الديني عندهم على حساب ارتفاع نزعات الاستغراق في الدنيا، وحب التملك، وسيطرة مفاهيم الطمع والفردانية والذاتية، والحصول على المكاسب والرفاه المطلوب بأي شكل وثمن كان.
من هذا المنطلق ركز الإمام علي(ع) – في كل خطبه ومواقفه العملية - على ضرورة استرجاع عقيدة الإيمان بالله تعالى إلى النفوس، وإزالة حجاب "الإنشداد إلى الدنيا" عنها. أي التركيز على ضرورة عدم الانغماس في الدنيا، والتحذير من طلبها، والسير وراء زخارفها وأمانيها.
لقد جاءت كلمات الإمام علي – في هذا الإطار- غنيةً بمفهوم التقوى، من حيث كونها ملكة روحية مقدسة تمنع الإنسان- من خلال قوة الإيمان بالله تعالى - عن سلوك طرق الانحراف عن خط الاستقامة والعدل في الحياة..
يقول(ع): "إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه. وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم"( نهج البلاغة، خطبة رقم ١١٢)..
إنه يؤكد على أهمية الالتزام بحقيقة التقوى قولاً وعملاً بما يؤدي إلى التأسيس لتلك الحالة المعنوية العالية التي يصل إليها الإنسان من خلال عمق انفتاحه على الله، وإيمانه بقيمه، والالتزام بأوامره ونواهيه التي تمنعه من إتباع الهوى والانحراف عن جادة الحق والصواب.. وهو يشير أيضاً إلى أن مخافة الله أثر إيجابي كبير من الآثار العملية لحركية الالتزام بجوهر التقوى. والخوف الوارد في هذا الحديث لا يساوي التقوى، ولا يعبر عنها أبداً.. وإنما التقوى تجعل مخافة الله تلازم القلب على الدوام، لتكون حاضرة مع الإنسان في كل مواقعه، وحركاته.
وفي قولٍ آخر يعتبر الإمام علي(ع) أن التقوى "دواء داء قلوبكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس نفوسكم". والواضح هنا أن الإمام (ع) يُرجع شقاء البشر – ومعاناتهم، وآلامهم، وابتلاءاتهم - إلى عدم فهم القيمة العظيمة للتقوى، ومن ثم عدم الالتزام بها.. وهو بذلك يكرّس وجود الإنسان في الحياة، وطبيعة الدور الرسالي الملقى على عاتقه، والأهداف الكبرى التي يُراد له أن يحققها في حياته.
وتقوم تلك النظرة على اعتبار أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس في حركة الوجود الإنساني كله، من حيث ضرورة أن يتم بناؤه على قيمة ومعنى التقوى، والإيمان بالله تعالى. والإسلام نفسه سمّى عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان – على قيم ومبادئ الإسلام الأصيل - بالجهاد الأكبر.
من هنا يكون التغيير الداخلي للإنسان – استناداً إلى ركيزة التقوى- هو القاعدة الأساسية المطلوبة لتغيير سلوكه الخارجي على صورة معطيات ومضامين هذا الداخل.. كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: من الآية ١١) وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة التقوى الذاتية الداخلية، فإنه يكون مقتنعاً بحدوده، وراضياً بحقوقه، ومالكاً لروح مطمئنة، هادئة ومستقرة، وقلب سليم معافى.. أي أنه يكون متصالحاً مع نفسه ووجوده، ومنسجماً مع توجهاته الفكرية، ولا يعيش مع ذاته حالة التناقض والانفصام، ولا تشغله الأطماع والغرائز، بما يؤثر سلباً على حياته، وعمره، وسلامة جسده.. وحتى على عمله، وإنتاجه في الحياة.
وعندما ندرس (ونحلل) الحوادث والمتغيرات البشرية الكبيرة - الحافلة بالصراعات والتناقضات والابتلاءات - فإننا نجد أن السبب الأبرز لوجودها وظهورها هو عدم تصالح (وانسجام) الإنسان مع ذاته، وبالتالي عدم توافر القدرة (والإرادة) عنده، والتي قد تدفعه باتجاه احترام القوانين والتشريعات، والأنظمة العملية، والحدود التي تضعها المجتمعات والأمم.. أي أن الطريق الصحيح هنا ينحصر في وعي الناس، وفي إيمانهم، وفي تقواهم العملية.. ونحن هنا لا نريد أن نبسط الأمور، ونشير فقط إلى وجود سبب واحد لتلك المتغيرات والمشاكل، فهناك أسباب أخرى كثيرة ساهمت في وصول البشرية إلى هذه الحالة المزرية التي نعيشها الآن من سيطرة مفاهيم العنف والقوة والصراع والتنابذ والقهر والظلم على مجمل العلاقات بين الأمم والحضارات.
وعلى كل حال نحن نعتبر أن التقوى – سواء كانت هذه التقوى دينية إلهية أم غير ذلك - لها آثار معنوية ومادية كثيرة على الإنسانية إذا ما التزمت بها، لأنها لازمة ضرورية من لوازمها في مسيرتها التكاملية في الحياة، باعتبار أنها تستلزم الترك والمنع والاجتناب.. ومن يريد أن يتكامل تقوائياً في مسيرة الحياة يجب ألا يسمع دائماً كلمة الـ"نعم"، بل لا بد أن يسمع –إلى جانب ذلك- كلمة الـ"لا".. حيث يمكن لهذه الـ"لا" أن تكون مفيدة – وفي محلها الصحيح - أكثر من كلمة الـ"نعم".
والتقوى نفسها – كقيمة عملية - تلزم الإنسان (في أكثر الأوقات)،إذا أراد بناء ذات مستحكمة وموثوق بها، بسلوك الصعاب، واقتحام التحديات، خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على العيش في النعيم والملذات والحياة الرغيدة.. وهي (أي التقوى) عندما تمنع الإنسان عن الكثير من هذه الملذات – التي تحجبه عن الحق - فإنها ليست قيداً أو سجناً، وإنما هي صيانة له إذا عرف كيف يصون نفسه من خلالها، وكذلك كيف يصون قيمة التقوى ذاتها من الأخطار التي تتهددها في المجتمع.. ولهذا قال عنها الإمام علي(ع): "ألا فصونوها، وتصونوا بها.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب".(نهج البلاغة، خطبة رقم ١٢٨).
أجل إن التقوى تمنح الإنسان القوة العملية التي يحتاجها في مواجهة عبودية الهوى والرغبة الجامحة، كما وأنها ترفع عنه قيود الحرص والطمع والحسد والشهوة.. أي أنها تطلق روح الإنسان – وفكره، وعقله - إلى رحاب الحرية والمسؤولية، بعد أن تحرره من أسر العبودية النفسية والمادية التي تتجسد في عبودية المقام والجاه والثروة. وفي هذا يقول الإمام علي(ع): "وعتق من كل ملكة".
من هنا يمكن التأكيد على أن اهتمام الإمام علي(ع) – في سياق هذا النمط المتطور من التفكير الإنساني العميق- بمسألة شديدة الصلة بجوهر وجود الإنسان في الحياة، يدلنا دلالة قاطعة على أن التزام جانب التقوى هو الذي يمكن أن يحفظ للإنسانية وجودها المعنوي الحقيقي الذي يشكل القاعدة الصحيحة المتينة لوجوده المادي العضوي. ولذلك عليها (على الإنسانية) أن تبذل قصارى جهدها لبلوغ ذاك المعنى وتلك الحقيقة الوجودية الرائعة من خلال السعي والعمل والحركة.. يقول(ع): "إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه"(خطبة ١٠٠)..
ويقول(ع): "أوصيكم (وهو هنا يوصي الإنسانية كلها، وليس فقط أصحابه، وشيعته) عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله". لأنها تنير لكم البصر والبصيرة والفؤاد، وتنزع عنكم الخوف والمعاناة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً.... وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.... وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾. أي أن للتقوى تأثيراً كبيراً في حياة الإنسان من حيث كونها الطريق الأسلم للخروج من الشدائد والأزمات، ومواجهة الصعاب والتحديات والمصائب التي تعترض حياة الإنسان، وتسلب منه كل سعادة دنيوية وأخروية.. وهذا ما يؤكد عليه الإمام علي(ع) في قوله: "واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم".(خ ١٨١).
وقوله(ع): "فمن أخذ بالتقوى غربت عنه الشدائد بعد دنوها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها".(خ١٩٣)..
وآية ذلك هو أن الإنسان المتقي – الذي بنى كيانه النفسي والروحاني على توجيه طاقاته وقواه في طريق الخير والعمل الصالح - هو الأكثر قدرة على تحمل الصعاب، ومواجهة التحديات والمحن والشرور، وهو الأكثر قدرة حركية على اتخاذ القرارات المصيرية الصائبة والحاسمة، لأنه وفر – من خلال تقواه العملية - طاقاته وقواه النفسية لأوقات الشدة والمتغيرات الشائكة.
يتضح من كل ما تقدم أن الإمام علي(ع) – الذي لم ترد حكمة أو خطبة أو نص له(ع) إلا وكانت التقوى (تقوى الله في العاطفة والفكر والحياة) حاضرة فيه، ومتجذّرة في بنيانه ومفرداته كلها - لم يتعرض لبحث مسألة التقوى داخلياً. أي أنه لم يصفها من خلال بنيتها الذاتية، وإنما اكتفى بوصفها خارجياً، وتبيان ميزاتها، وفضلها، وثمارها، والتشويق إليها، والاعتصام بحبلها.. كما جاء في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (*) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(البقرة: ٢- ٣)..
وقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(*)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران:١٣٣- ١٣٤).
ويريد الإمام(ع) من الناس أن يتقوّوا عملياً بتقوى الله لأنها هي الأساس في أعمالهم ونشاطاتهم وممارساتهم الحياة، ولأنّها تعني مراقبة الله في دواخلهم، وكلما راقبنا الله أكثر كلما ضبطنا مواقع خطواتنا في الحياة أكثر. يقول الإمام(ع): "أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم".. إنّه يخاطب(ع) النّاس بضرورة أن ينهجوا نهج التقوى العملية من خلال محاولتهم تنظيم أمورهم وعلاقاتهم وأوضاعهم في القضايا الّتي يختلفون فيها، وأن يعملوا على نظم أوضاعهم في القضايا التي يتفقون فيها، حتى يتمكنوا من مواجهة علاقاتهم بعضهم بالبعض الآخر، من موقع التنظيم الواعي لأمورهم، في كل ما يلتقون عليه، وفي كل ما يفترقون فيه.
وهكذا فقد حاول الإمام علي((ع)) تقديم ثقافة تقوائية للأمة كلها، تصلح للعيش في امتداد الحياة الإنسانية.. لأنه استمدها(ع) من الإسلام، وكل فكره من فكر الإسلام الذي عاشه(ع) - في كل تجاربه ومواقعه - قوة والتزاماً ووعياً حركياً دائماً..
وكان(ع) يعمل –على هذا الصعيد - على تثقيف الأمة والناس بالإسلام.. حيث كان يشعر دائماً – من خلال مسؤوليته الشرعية، وإيمانه العميق بالله والإسلام - بأن علمه ليس ملكاً له، وإنما هو ملك الله، والحياة، والأمة التي تحتاجه في مسيرتها الحضارية والتكاملية إلى من يعلمها، ويربيها، ويقوم حركتها باستمرار.
ولذلك نجده(ع) لا يترك فرصة سانحة إلا ويبادر إلى استثمارها في تعليم الناس، وتثقيف الأمة بقيم الإسلام، ومبادئ الرسالة السمحاء من أجل أن يزيل عنهم شبهة هنا، أو يفتح لهم باباً إلى الحق والعدل هناك، أو يخطط لهم منهجاً، أو ينقذهم من طريق الضلال والانحراف.
وقد كان(ع) من القادة النادرين الذين بادروا – عن وعي وإدراك كاملين - إلى التركيز الشديد على تعليم شعوبهم، وتثقيفهم، ورفع المستوى الثقافي لهم، على عكس أولئك الحكام الذين كانوا يلعبون على عواطف الناس، ويستثيرون مشاعرهم ورغباتهم ليرتبط الشعب بهم، وبخطهم، ومنهجهم فقط، حتى لو تكلفت الأمة – نتيجة ذلك - كثيراً من الدماء والدموع. وهذا ما يبدو أمامنا واضحاً وجلياً – كما ذكرنا - في خطب نهج البلاغة، حيث كان الإمام(ع) يستفيد من كل مناسبة هنا وهناك – حتى وهو مسجى على فراش الموت - لتوعية أبناء المجتمع بكل ما تعج به الساحة من هموم وقضايا وتحديات..
وهذه هي مسؤوليتنا الكبيرة – نحن جمهور المثقفين، والعلماء، وأصحاب الدعوة والتبليغ الذين يدركون جميعاً حاجة الناس للعلم والمعرفة الإسلامية الصحيحة - في ضرورة أن نلاحق قضايا الأمة، وهموم الناس. ونتابع مشاكل الحياة الخاصة والعامة، من خلال انفتاحنا على الواقع الذي يعيشه أبناء المجتمع، لتعليمهم وتثقيفهم، وانتهاز كل الفرص لرفع مستواهم الفكري والروحي، لاسيما أننا نعيش اليوم في أجواء الفتن والاضطراب والتخلل في الفكر والعمل، وفي كثير من المواقع والامتدادات، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً أن نواجه ذلك بعقول مسؤولة وقلوب واعية، حيث أنه لا يجوز مطلقاً أن نخوض، ونتجادل، ونتحاور – سواء كنا في موقع المسؤولية الرسمية أو الشعبية - مع بعضنا البعض في مواقعنا الذاتية، والآخر يقتحم علينا وجودنا، ويعمل باستمرار على بث أفكاره - ومفاهيمه وثقافاته - إلى داخل مجتمعاتنا، وعقول أبنائنا.
وهذا هو الأساس في سلامة كل مجتمع من المجتمعات، إنه في أن تكون علاقته بعضه بالبعض الآخر، علاقات ترتكز على أساس القواعد الّتي تنظّم للمجتمع دوره في حركة أفراده، ودوره في علاقات أفراده بعضهم بالبعض الآخر. وهذه هي المشكلة الّتي لا يزال المسلمون يعيشون فيها على مستوى كل مجتمعاتهم، فإنّهم يتحرّكون كأفراد، ولا يتحرّكون كمجتمع، بحيث إنّ كل فريق يتصور نفسه كلّ شيء، أو كلّ شخص يتصوّر نفسه أنّ الحياة له، وليس لأحدٍ حقّ الحياة معه، وأنّ السّاحة له وليست لأحد غيره.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى العشائر، وعلى مستوى الأحزاب، وعلى مستوى الطوائف.. الكل يريد أن يلغي وجود الطرف الآخر، وبذلك يتصرّف كما لو كان الطرف الآخر ليس موجوداً.
٢- الأخلاق وتغير الزمان (الثابت الأخلاقي والمتغير الزمني): يقول الإمام علي(ع): "ولا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم، فإنّهم خلقوا لِزَمانِ غير زمانكم".. وهو يعني بهذا أن هناك كثيراً من الأمور والأشياء لا تبقى على حالها كما كانت في بداية وجودها بل تتغيّر بتغير الأيام والأزمان، وذلك من خلال ما يكتشفه الناس وما يمكن أن تستحدثه المجتمعات من طرق وأساليب في اللباس، والأكل والشرب، والتدفئة والتبريد، ومختلف أنماط وسلوكيات البشر في طبيعة العلاقات الّتي يتحرّك فيها النّاس، فهذه أمور قابلة للتحول والتغير، والثابت الوحيد فيها هو المتغير والانتقال من حال إلى آخر..
وهذا ما يؤكّده الإمام علي(ع) من حيث أنه يوجه الناس إلى ضرورة عدم إلزام بعضهم البعض –خاصة من هم في مواقع الإشراف والتوجيه الأسري من آباء وأمهات- على الالتزام بعادات وتقاليد محددة، بل ويجب على الأب عدم تعويد ابنه على عاداته، أو قسره على طريقته وعمله. ولكن عليه أن يترك له الحرية والاختيار في اتخاذ القرار الملائم فيما يخص طريقته في تحديد كثير من أنماط سلوكه وعاداته خاصة على مستوى طريقة في اللباس وفي الأكل، لأنّه عاش في زمن يحتاج إلى ما هو فيه، ولكن ولده يحتاج إلى طريقة مختلفة في الكلام والتخاطب والآداب والعلاقات الحياتية .