الشیخ حیدر فاضل الشکري
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی أشرف الأنبیاء والمرسلین حبیب إله العالمین أبي القاسم محمد وعلی أهل بیته الطیبین الطاهرین
قال الله تعالی في محکم کتابه الکریم: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ[١].
رکز الإسلام من خلال القرآن الکریم وسیرة النبي الأکرم (صلی الله علیه وآله وسلم) علی أهل البیت (علیهم السلام) وبین مکانتهم ومنزلتهم وعظمتهم وفضلهم علی جمیع الناس حتی علی الأنبیاء ما عدا خاتمهم الحبیب المصطفی (صلی الله علیه وآله وسلم)، وخیر مثال علی ذلك آیة التطهیر وآیة المباهلة وسورة الدهر، وکذلكَ أحادیث الغدیر والمنزلة والسفینة وغیرها من الآیات والأحادیث والروایات الکثیرة.
ورغم هذا نجد عدول الأمة عن الأئمة (علیهم السلام) ومن أبرز أسباب هذا العدول جهل الناس بحقیقة أهل البیت (علیهم السلام) من هم ما هي مکانتهم ما هي أفکارهم؟
أخلاقهم ومناهجهم؟ لا یعرفون عنهم إلا أنهم ذریة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لیس أکثر من ذلك. وهذا لا یقتصر علی المتقدمین أوعلی أهل غیر إطار التشیع وإنما حتی علی من ینتمي إلی هذا الإطار. وهذا دلیل علی النقص في معلوماتنا الدینیة، فأهل البیت (علیهم السلام) لا نتعامل معهم کأشخاص عادیین وإنما نتعامل معهم کمدرسة فکریة للإسلام، فأي نقص في فهمنا لهم (علیهم السلام) وهونقص في الصورة الإسلامیة کما في حدیث الثقلین:
عن أبي سعید الخدري قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): إني قد ترکت فیکم الثقلین واحدهما أکبر من الآخر: کتاب الله حبل محدود من السماء إلی الأرض، وعترتي أهل بیتي، إلا أنهما لن یفترقا حتی یردوا علي الحوض أي أن الدین لا یکتمل إلا بالعترة الطاهره (علیهم السلام)، ودراستنا لأهل البیت (علیهم السلام) لیست فقط کجانب تأریخي في استعراض حیاتهم وظروفهم وأدوارهم وإنما القضیة قضیة اعتقاد مرتبط بدین الفرد بالدرجة الأولی، فالدین لا یمکن أن نأخذه بشکل کامل إلا بمعرفظ سیرة ومواقف أهل بیت العصمة (علیهم السلام) تماما مثلها إنسان یجهل سنة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لا تکتمل صورة الدین في ذهنه لأن القرآن الکریم رسول الخطوط العامة فجاءت السنة فأکملت لنا صورة الدین وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا[٢] وقال تعالی: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[٣] وأهل الذکر هم أهل البیت (علیهم السلام).
إذن فالکتاب والسنة أحالا علی العترة الطاهرة (علیهم السلام) حتی تکتمل الصورة الإسلامیة عند المسلم.
وقد تناولنا في هذا البحث مکانة، دور، ذکر أهل البیت (علیهم السلام) في نهج البلاغة لنتأمل في الجوانب المشرقة لهذه الشخصیات المقدسة من خلال خطب وکلمات علي بن أبي طالب (علیه السلام)، وحاولنا إلقاء الضوء علی مضامین ودلالات کلماته (علیهم السلام( في هذا المعنی لکشف ظلمات الجهل بحقیقة أهل البیت (علیهم السلام) وبیان بعض الحقائق التي عمد البعض وعلی مر العصور إلی إخفائها عن الناس وذلك لإبعادهم عن أعظم مدرسة فکریة في الإسلام. سائلین المولی عزوجل التوفیق والقبول.
(١) لا تخلوالأرض من قائم لله بحجة. إما ظاهراً مشهوراً، أوخائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته[٤].
لقد ورد هذا المعنی في أحاديث وروايات أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ومنها ما جاء في علل الشرايع بإسناده عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): تبقی الأرض بغير إمام؟ قال: لوبقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت[٥].
وبإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قلت له: تكون الأرض ولا إمام فيها؟ فقال: إذاً لساخت بأهلها[٦].
إن ضرورة وجود قائم الله بحجة تكمن في أن حجة الله علی عباده لا تتم إلا بأمرين يكمل أحدهما الآخر:
الأمر الأول: الحجة الدستورية وهوالقرآن الكريم.
والأمر الثاني: وهوالحجة البشرية المعصومة كشخصية النبي (صلی الله عليه وآله وسلم).
فلوا أن الله عزوجل أنزل كتاباً معلقاً بين السماء والأرض ودعمه بأية من الآيات تدل علی أنه من الله تعالی مع ذلك لا تتم الحجة، لماذا؟
اقتضت حكمة ومشيئة الله تعالی أن تكون هناك حجة بشرية معصومة إلی جانب الحجة الدستورية وذلك لأمرين يقتضيان هذا المعنی؟
أولا: أن الكتاب المنزل من السماء يتضمن الخطوط الرئيسية فهوبحاجة إلی بشر معصوم ناطق يتكلم ويشرح مجملات الكتاب ويرد المتشابه إلی المحكم ويوضح تطبيقات الكتاب.
ثانياً: أن الكتاب المنزل هولإقامة النظام الاجتماعي والسياسي والإداري فط الأمة وإقامة هذا النظام موقوف علی قائد معين من قبل الله تبارك وتعالی، فيقوم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بوصفه أنه ولي الله يقوم بوظيفته كقائد للأمة.
ولا يخفی ما في هذا الكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) من دلالة واضحة علی قضية الأمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) ويعضده ما جاء من الأحاديث والروايات عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد رواها الفريقان ومنهما ما جاء في بحار الأنوار عن الصدوق بسنده عن جابر الجعفي عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): المهدي من ولدي أسمه أسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً، يكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثامن يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً[٧].
(٢) ألا إنّ مثل آل محمد صلی الله عليه وآله كمثل نجوم السماء. إذا خوی نجم طلع نجم[٨].
خوی: أي مال للمغيب (خوي)[٩]: من مادة (خوي) بمعنی: (غرب).
أي أن الأرض لا يمكن أن تخلومن معصوم من العترة الطاهرة (عليهم السلام) كما ورد في حديث الثقلين الذي رواه العامة والخاصة، وممن رواه من العامة ابن حجر في الصواعق المحرقة ونقله بألفاظ متعددة عن أحمد في مسنده وعن الترمذي وعن مسلم والطبراني: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): أيها الناس يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وأن اللطيف الخبير أخبرني أهما لن يفترقا حتی يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما[١٠].
هناك مجموعة من الدلالات في هذا النص لأمير المؤمنين (عليه السلام):
١- شبه الإمام (عليه السلام) أهل البيت (عليهم السلام) بنجوم السماء. ويستفاد من هذا أن الهداية لا تحقق إلا في ظل هدي آل الرسول (عليهم السلام) كما أن النجوم كان يهتدي بها الناس في سفرهم في البر والبحر في ظلمات الليل. حين قال تعالي: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ[١١]، وقوله تعالي: وَهُوالَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[١٢].
٢- كما أن السماء لا تخلولياليها من النجوم فكلما غابت نجمة طلعت أخري، قأهل البيت (عليهم السلام) كذلك كما رحل إمام جاء بعده إمام إلی قيام المهدي المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشريف).
٣- هذا النص يشير إلی الحديث النبوي المشهور حيث قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم): النّجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمّتي من الإختلاف[١٣] رواه النيسابوري من علماء العامة في كتاب المستدرك عن ابن عباس وقال هذا حديث صحيح الإسناد.
ورواه ابن حجر في صواعقه بهذا اللفظ: النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي[١٤].
وهذه الدلالة تبين أن أهل البيت (عليهم السلام) أمان لهذه الأمة من الاختلاف والفرقة.
(٣) انظروا إلی أهل بيت نبيكم فألزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدی، ولن يعيدوكم في ردی، فإن لبدوا فالبدوا، وأن نهضوا فانهضوا ولاتستبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا[١٥].
السمت: يعني الطريق[١٦].
لبدوا: من مادة (لبود) الإقامة في المكان[١٧].
المراد بأهل البيت (عليهم السلام) هنا هم أئمة العصمة (عليهم السلام) الذين قال فيهم الحق تبارك وتعالي: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[١٨].
يشير الإمام (عليه السلام) هنا إلی حديث الثقلين الذي ذكرناه سابقاً والذي يؤكد علی التمسك بالقرآن والعترة الطاهرة (عليهم السلام) اللذان لن يفترقا حتی يردا الحوض، منهما طريق الهداية لهذه الأمة وهما طريق الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
وكذلك ما ورد عن النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) من الروايات ومنهما:
قال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم):يا عمّار إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك النّاس كلهم واديا آخر فاسلك مع علي، فإنّه يدلّيك في ردّى ولن يخرجك من هدى[١٩].
من مناقب الخوارزمي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه الإمام محمد بن علي الباقر، عن أبيه الإمام جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه الإمام محمد بن علي الباقر، عن أبيه الإمام علي بن الحسين، عن أبيه الإمام الحسين بن علي الشهيد (عليهم السلام) قال: سمعت جدي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: من أحب أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذريته الطاهرين أئمة الهدی، ومصابيح الدجی من بعده، فإنهم لم يخرجوكم من باب الهدی إلی باب الضلالة[٢٠].
أميرالمؤمنين (عليه السلام) يأمر بالتزام طريقهم واتباعهم في كل الأمور إن كان في الإقامة علی أمر أوالنهوض بالحرب، وذلك علی اعتبار أن لكل إمام دور معين يقوم به وفق ما تقتضيه مصلحة الدين. فمثلاً نجد في سنة ٤١ هـ اقتضت الحكمة والمصلحة أن يصالح الإمام الحسن المجتبی (عليه السلام) معاوية للحافظ علی الدين، ولكن بعد مرور عشرين سنة أي في ٦١ هـ اقتضت الحكمة والمصلحة أن يقوم الحسين (عليه السلام) ضد يزيد بن معاوية لأن بقاء الدين آنذاك مرهون بالقيام وبذل الدماء.
وهكذا نجد أن أدوار أئمة العصمة (عليهم السلام) اختلفت حسب الظروف الزمانية والمكانية والتي هي في تغير مستمر والأمة (عليهم السلام هم أعلم الناس بهذه الظروف.
ثم أن الإمام (عليه السلام) يقول: ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا، أي: لا تسرعوا فيها تأنوا به فتضلوا أوتتأخروا في أمر يوجب عليكم التقدم فتهلكوا، وفي هذا إشارة إلی حديث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عندما قال:إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من دخلها نجا، ومن تخلف عنها غرق[٢١]. وقد ورد هذا الحديث في مصادر الفريقين.
فكما كانت سفينة نوح (عليه السلام) هي الوسيلة الوحيدة للنجاة من الطوفان، فكذلك أهل البيت (عليهم السلام) هم الوسيلة الوحيدة للنجاة من الضلال الذي يوجب العذاب الأخروي.
وأما دلالات هذه الصفات التي ذكرها أميرالمؤمنين (عليه السلام) لأهل البيت (عليهم السلام) فنستطيع أن نلخصها بما يلي:
١- إنّها دليل علی مقام العصمة لهم (عليهم السلام).
٢- إنّ الإمامة لا تصح لغير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فليس هناك في الناس من يحمل العصمة فيكون جديراً بأن تقتدي الناس به وتسلم له أمر دينهم ودنياهم.
٣- الوصية هنا بالولاية الحقيقية لأهل البيت (عليهم السلام) في إطاعتهم وامتثال أوامرهم في كل شيء علی مستوی القول أوعلی مستوی الفعل.
٤- وصية الإمام (عليه السلام) ليست خاصة بزمن معين بل هي لكل العصور والأجيال.
(٤) إنما الأئمة قوام الله علی خلقه، وعرفاؤه علی عباده، ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. ولايدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه[٢٢].
قوام: يقال قيم المنزل: أي المدبر له. وقوام هنا أي أن الأئمة (عليهم السلام) هم الذين يقومون بتدبير شؤون الخلق ويقومون بمصالحهم من قبل الله تعالی.
وعرفاؤه علی عباده: عرفاء: جميع عريف بمعنی رئيس القوم الذي يدير أمورهم ويعرفه جميعهم.
فأهل البيت (عليهم السلام) يعرفون الخلق وعندهم علم بمصالح ومفاسد الناس وعلم بكل ظروفهم الزمانية والمكانية.
وقوله (عليه السلام):ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه، فهوتأكيد لما ذكره (عليه السلام) في العبارات السابقة:.
ومثل هذه المقامات الرفيعة لا توجد إلا عند من اختاره الله عزوجل وليس عند من يختاره الناس.
ورد في الحديث الشريف أنّ النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال لأميرالمؤمنين (عليه السلام): ثلاثة أقسم أنهن حق: إنك والأوصياء من بعدك عرفاء، لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتكم، وعرفاء لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه، لا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه[٢٣].
إن أهم ما نستدل عليه من هذه الكلمات لأميرالمؤمنين (عليه السلام)، أنّ هذه المقامات هي نفسها ما يتصف بها رجال الأعراف. قال تعالی: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ[٢٤].
يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: (علی أن ما يصفهم الله تعالی به في الآيات التالية من الأوصاف ويذكرهم به من الشؤون أمور تأبی إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة والمكانة وأصحاب القرب والزلفی...) إلی أن يقول: (إنّهم جعلوا علی الأعراف ووصفوا بأنّهم مشرفون علی أهل الجمع عامة، ومطلون علی أصحاب الجنة وأصحاب النار يعرف كل إنسان منهم بسيماه الخاص به ويحيطون بخصوصيات نفوسهم وتفاصيل أعمالهم)[٢٥].
وينقل السيد الطباطبائي في هذا المقام روايات أهل بيت العصمة (عليهم السلام) والتي تبين بأن رجال الأعراف هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومنها:
في البصائر بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام): وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ قال: نحن أصحاب الأعراف من عرفنا فمآله إلی الجنة ومن أنكرنا فمآله إلی النار.
وفيه بإسناده عن الأصبغ بن نباته قال: كنت عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال له رجل: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ فقال له علي: نحن الأعراب نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يُعرف الله إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه. وذلك قول الله عزوجل.
وفي المجمع روی الحاكم أبوالقاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلی الأصبغ بن نباته قال: كنت جالساً عند علي (عليه السلام) فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية فقال: ويحك يا ابن الكواء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار[٢٦].
(٥) نحن الشعار والأصحاب والخزانة والأبواب، ولاتؤتی البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً[٢٧].
الشعار: ما يلي البدن من الثيباب فهوأقرب من سائرها إليه[٢٨].
أي أن أهل البيت (عليهم السلام) أحض الناس وأقربهم للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم).
والخزانة والأبواب: يعني هم خزنة العلم وأبوابه فهم ورثة علم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، وكل من يريد ان يقتدي بهديه (صلی الله عليه وآله وسلم) أويريد أن ينال من تعاليمه (صلی الله عليه وآله وسلم) لابد له (عليه السلام) أن يمر من خلالهم.
ثم قال (عليه السلام): ولا تؤتی البيوت إلا من أبوابها، قال تعالی: لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا[٢٩].
وفي هذا إشارة إلی ما ورد في حق علي (عليه السلام) من الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها[٣٠]، ثم قال (عليه السلام): فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً.
يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج: (وهذا حق ظاهراً وباطناً: أما الظاهر فلأن من يتسور البيوت من غير أبوابها هوالسارق، وأما الباطن فلان من طلب العلم من غير أستاذ محقق فلم يأته من بابه؛ فهوأشبه شيء بالسارق[٣١].
عن ابن جبير قال: سأل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عن قول الله عزوجل: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فقال: أنا السور، وعلي الباب، وليس يؤتي السور إلا من قبل الباب[٣٢].
يقول العلامة المجلسي في بحاره: (لعل المعنی أن السور والباب في الآخر صورة مدينة العلم وبابها في الدنيا، من أتی في الدنيا المدينة من الباب يكون في الآخرة مع من يدخل الباب إلی باطن السور، فيدخل في رحمة الله، ومن لم يأتها في الدنيا من الباب ولم يؤمن بالوصي يكون في الآخرة في ظاهر السور في عذاب الله[٣٣].
(٦) فیهم کرائم القرآن، وهم کنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم یسبقوا[٣٤].
القرآن کله کریم وآیاته کریمات ولکن هنا یراد بالآیات الکریمات التي نزلت بشأن أهل البیت (علیهم السلام)، فهذه الآیات کرائم من کرائم وهذا ما ذهب إلیه ابن أبي الحدید وجمع من القدماء وتابعهم الشیخ محمد عبده[٣٥].
وقد یکون المعنی هوأنهم (علیه السلام) القرآن الناطق وهم ترجمانه حیث أنهم جسدوا آیات القرآن الکریم بأقوالهم وأفعالهم وفي کل علومهم ومعارفهم.
ویقول الإمام (علیه السلام): وهم کنوز الرحمن: الکنز اسم للحال إذا أحرز في وعاء. وقیل: الکنز المدفون. وقیل: وتسمي العرب کل کثیر مجموع یتنافس فیه کنزا[٣٦].
وما أورع هذا التشبیه حیث أن الإمام علي (علیه السلام) شبه أهل البیت (علیهم السلام) بکنوز الرحمن التي أدخرها لعباده لحل مشکلاتهم ولإیضاح ما التبس علیهم ولکل ما یحتاجونه في أمور الدین والدنیا وذلك لما عندهم من أحکام الله تعالی وتعالیم السماء، وکذلك لما عندهم من ظاهر وباطن القرآن الکریم.
وفي الإتقان للسیوطي یقول عن أمیرالمؤمنین (علیه السلام): إن القرآن أنزل علی سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وأن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن[٣٧].
ثم قال (عليه السلام): إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم یسبقوا: أي أن منطقهم الصدق فقد طهرهم الله تعالی من کل الدنائس والأرجاس ومنها الکذب کما في آیة التطهیر: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[٣٨].
ثم أنهم (علیه السلام) الصادقون في قوله تعالی: كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ[٣٩]. کما فسرت لنا ذلك الروایات الواردة في مصادر العامة والخاصة ومنها:
العلامة الثعلبي في تفسيره فقد روی: أن ابن عباس قال في تفسيره هذه الآية: (مع الصادقين يعني مع علي بن أبي طالب وأصحابه)[٤٠].
ينقل العلامة الكنجي في (كفاية الطالب) والعلامة سبط بن الجوزي في (التذكرة) عن طائفة من العلماء مايلي: قال علماء السير معناه كونوا مع علي (عليه السلام) وأهل بيته، قال ابن عباس: علي (عليه السلام) سيدالصادقين[٤١].
عن جابر بن عبدالله الأنصاري عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في تفسير آية (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ): يعني محمد وآل محمد[٤٢].
روی بريد بن معاوية عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: إيانا عنی[٤٣].
وفي تفسير البرهان ينقل من كتاب نهج البيان: روي أن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) سئل عن الصادقين فقال:هم علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم الطاهرون إلی يوم القيامة[٤٤].
وقال الإمام علي (عليه السلام): وإن صمتوا لم يسبقوا: أي أن صمتهم لا يعني أنهم عاجزون عن الإجابة، بل إنّ صمتهم علی صوء الحكمة والمصلحة ولا يمكن لأحد أن يسبقهم أبداً.
وكما هومعروف بأن الصمت في بعض الأحيان خير من الكلام، بل نستطيع أن نقول بأنه قد يكون كلاماً فعلاً.
ومن هنا نستدل ومن خلال كلمات أميرالمؤمنين (عليه السلام) عن غير هم بهذه الصفات وهذه المنزلة فلا يمكن لأحد أن يداينهم بشرف أبداً.
وهذا في الواقع يوجب إتباعهم والسير وفق سيرتهم الطيبة الطاهرة روفق منهجم في الحياة.
(٧) لا يقاس بآل محمد صلی الله عليه وآله من هذه الأمة أحد، ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين. إليهم يقيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والورثة[٤٥].
يقول الإمام (عليه السلام): لا يقاس بآل محمد صلی الله عليه وآله من هذه الأمة أحد: فهم وكما خاطبهم الحق تبارك وتعالی في كتابة الكريم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[٤٦].
ليس هناك في الأمة من صرح القرآن الكريم بعصمته إلا أهل البيت (عليهم السلام) كما في آية التطهير وغيرها، وليس هناك في الأمة من قرنه النبي (صلی الله عليه وآله) بالقرآن إلا أهل البيت (عليهم السلام) كما في حديث الثقلين. وليس هناك في الأمة من هونفس النبي (صلی الله عليه وآله) إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما في آية المباهلة. إضافة إلی ذلك فليس في الأمة من عنده علوم ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) والتي يقصح عنها نهج البلاغة والصحيفة السجادية ورسالة الحقوق. وكذلك ما ورد من الأحكام الشاملة الواسعة عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) بشأن جزئيات المسائل الدينية، وكذلك مناظرات الإمام الرضا (عليه السلام) مع أصحاب الأديان حول مختلف المسائل العقائدية وغيرها من المسائل.
إضافة إلی ذلك يقول الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام)، في الخطبة الشقشقية: ينحدر عني السيل[٤٧]، أي أن نعم الله عز وجل علی عباده إنما هي ببركة أهل البيت (عليهم السلام) وعلی رأسهم أميرالمؤمنين (عليه السلام).
هذه هي نعمة أهل البيت العصمة (عليهم السلام) وما أعظمها من نعمة جرت علی هذه الأمة! فهل يمكن أن يسوی بهم من جرت نعمتهم عليه؟!
هم أساس الدين: (الأساس): أصل البناء. وأهل البيت (عليهم السلام) هم أصل الدين فهوقائم بهم.
وعماد اليقين! هذا يعني أن اليقين الذي يبعث علی الطمأنينة في القلوب يعرف بهم (عليهم السلام).
إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي: (يفيء): أي يرجع[٤٨]، (الغالي): من (الغلو) أي: تجاوز الحد الذي ينبغي إلی ما لا ينبغي[٤٩]، (والتالي): أي التابع. وهنا يبين الإمام (عليه السلام) أنهم القادة لهذه الأمة، وكل من يتقدم عن هذه القيادة أويتخلف عنها فهذا يعني الضلال بعينه.
ولهم خصائص حق الولاية: أي اقتصار هذا الأمر عليهم (عليهم السلام) فهم أولوالأمر في قوله تعالي: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[٥٠].
أي أن طاعتهم (عليهم السلام) مرتبطة بطاعة الله تعالی وطاعة رسوله (صلی الله عليه وآله). والغريب أنك تجد من المسلمين من عرف (أولوالأمر) علی أنهم الملوك والسلاطين وكل من جاء إلی السلطة ولوبطريق غير شرعي، وهذا بالتأكيد لايصح لأن الله تعالی لا يأمر بطاعة من يجوز عليه الظلم والذنوب والمعاصي، ولا تجري الطاعة التي تذكرها الآية الكريمة إلا لمن كان معصوماً وهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
وفيهم الوصية والورثة: أي أن وصية النبي (صلی الله عليه وآله) ووراثته لم تكن لأحد سوی الأنمة المعصومين (عليهم السلام) لما حملوا من الخصائص والمقامات الرفيعة والتي لا يمكن لأحد من الناس بلوغها.
ووصية النبي (صلی الله عليه وآله) بالأنمة من بعده والذين ذكرهم بأسمائهم وألقابهم إنما تعني كل شؤون الدين والدنيا والآخرة.
ومن دلالات كلام علي (عليه السلام):
١- التسوية بين أهل البيت (عليهم السلام) وبين غيرهم باطلة لأن المنعم أفضل من المنعم عليه.
٢- أنهم (عليهم السلام) الحق بين المقصر والغالي وأن أي افتراق عنهم من جانب الإفراط والتفريط فهذا يعني الهلكة الدنيوية والأخروية.
٣- لوالتحق الغالي والتالي بهم (عليهم السلام) لتحققت وحدة المسلمين ولنبذت الفرقة بينهم.
(٨) هم موضع سره، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه[٥١].
تللجأ: أي الملجأ، والموئل: أي المرجع[٥٢] من آل يؤول إلی كذا إذا رجع وانتهی إليه.
والانحناء: أي الاعوجاج، والفرائص: جمع فريصة وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف لا تزال ترعد من الدابة[٥٣].
والضمائر هنا كلها راجعة إلی الله تعالی إلا الضمير في ظهره وفرائصه فإنهما إما أن تكونا عائدتين للرسول (صلی الله عليه وآله) أوإلی الدين. وقيل بأن كل الضمائر راجعة إلی الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله).
هم موضع سره: إحاطتهم بالأسرار الإلهية كونهم ينهضون بمسؤولية زعامة الدين وإمامة الأمة بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله).
وهذه الأسرار هي عبارة عن علوم لا يحتملها غيرهم (عليهم السلام).
ولجأ أمره: مرجع الأمة إليهم (عليهم السلام) وتلقي أوامرهم وامتثال تعاليمهم ووصاياهم الخاصة بالأوامر التشريعية.
وعيبة علمه: أي أنهم (عليهم السلام) وعاء علوم الله سبحانه تعالی من أسرار وأوامر ومن جميع العلوم اللازمة لهداية الأمة، فهم خزنة هذه العلوم وعلی الأمة الرجوع إليهم في الاختلافات علی المستوی الفكري أوالقضائي لغرض نبذ الفرقة والهداية إلی سواء الصراط.
وموئل حكمه: أي مرجع حكمه بما يخص فلسفة وحكمة الأحكام الإلهية والتي هي من علوم الأنبياء والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، ولعل المراد هنا مطلق الأحكام الشرعية أوخصوص الحكم بمعنی القضاء.
وكهوف كتبه: بمعنی أن كل الكتب السماوية موجودة عندهم (عليهم السلام)، وكما ورد عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنه قال: يا معاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلی الله عليه وآله، هذا ما زقني رسول الله زقاً زقاً، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لوثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت: أهل التوراة بتوراتهم حتی تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فّي، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتی ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فّي، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتی ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فّي، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً، فهل فيكون أحد يعلم ما نزل فيه؟ ولولا آية في كتاب الله عز وجل لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هوكائن إلی يوم القيامة، وهي هذه الآية: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[٥٤].
وجبال دينه: إشارة إلی ما ورد في القرآن الكريم بشأن خصائص الجبال ودورها في حفظ استقرار الأرض ونزول البركات والخيرات كما في قوله تعالي: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[٥٥].
والواقع أن الجبال تقوم باحتواء الضغوط المسلطة علی الأرض من بطنها وظاهرها وبالتالي فهي معين لا ينضب من المعادن النفيسة.
ثم يواصل الإمام (عليه السلام) كلامه فيقول: بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه، فأما انحناء ظهره فهي كناية رائعة لشدة المعضلات التي طالت الدين من قبل الأعداء العلماء والأصدقاء والجهلاء، فانبری لها أهل البيت (عليهم السلام) ليبقوا الدين شامخاً لا يناله تحريف المنحرفين ولا فتن المبطلين، والتعبيرارتعاد فراصه فهي كناية لطيفة عن الاضطراب والاختلال الذي يطيل الدين من قبل المدارس الإلحادية والانحرافات الدينية والتي وقف بوجهها أئمة الهدی (عليهم السلام) ليقضوا عليها ويعيدوا للدين صبغته الحقيقة الناصعة.
ومن هنا يتبين لنا ما يلي:
١- إنّ كل ما يحتاجه الناس في كل عصر وزمان بما يحض أمور دينهم ودنياهم سيجدونه عند أهل البيت (عليهم السلام).
٢- إنّ من يحمل هذه المعارف والعلوم الإلهية كأن كانت غيبية أوتشرعية أوقضائية وإحاطته بكل ما أنزل من الرسالات السماوية فهوالأولی بإمامة الناس دينياً وسياسياً؛ لأنه سيكون المرجع والملاذ لكل الناس مع اختلاف ظروفهم الزمانية والمكانية.
٣- إنّ من حفظ أصالة الدين هم أئمة هذا البيت الطاهر (عليهم السلام) ولولاختلطت أوراق الحق مع أوراق الباطل، وذلك من خلال مواقفهم بوجه الباطل والمبطلين والمنحرفين والمدارس الضالة والتي نشأت وخاصة بعد اتساع رقعة البلاد الإسلامية حيث دخلت الخرافات والأساطير والعقائد الفاسدة والتفاسير المشبوهة التي أوردها الغلاة والغلاة للنيل من الإسلام المحمدي الأصيل.
ومثال علی ذلك: أننا لوتصفحنا تأريخ الفرق والمذاهب الإسلامية البعيدة عن أهل البيت (عليهم السلام) لرأينا الانحراف العقائدي الخطير من قبيل السقوط في شباك الجبر والتفويض والتشبيه والإلحاد في أسماء الله وصفاته وهناك من الفرق من هبطت بالذات الإلهية المقدسة فوصفته بأنه شاب أمرد صبيح الوجه عليه كساء أسود، وممن تبنی هذا الفكر الفاسد مدرسة ابن تيمية والتي سار علی نهجها الوهابيون الذين يمثلون اليوم شوكة في قلب الإسلام والمسلمين.
٤- إنّ أهل البيت (عليهم السلام) مصدر حفظ وسكينة الأفكار وري القلوب وإغناء الأمة بما يختزنونه من معادن نفيسة. كما أنهم (عليهم السلام) معتصم وملاذ من وصمات الشياطين وتبديلهم وتحريفهم مثلما يعتصم الخائف بالجبل ممن يؤذيه.
(٩) فأين تذهبون! وأنی تؤفكون، والإعلام قائمة والآيات واضحة، والمنار منصوبة! فأين يتاه بكم! وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم! وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش[٥٦].
تؤفكون: أفك: بمعنی أنصرف والمعنی يكون إلی أين تنصرفون عن الحق.
الأعلام: جميع (علم) وأصله الجبل أوشيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة[٥٧]، والمراد أعلام الحق التي يستدل بها عليه والآيات الدالة علی رضا الله تعالی وأمره ونهيه واضحة لا لبس فيها.
والمنار منصوبة: (المنار) هوالمحل الذي يوضع عليه السراج[٥٨] ليلاً للاهتداء نحوالطريق والمراد به الجنس ولذا قال (عليه السلام) منصوبة موجودة.
فأين يتاه بكم: (التيه) يعني الضلالة.
وكيف تعمهون: (العمه) التحيّر والتردد كما في لسان العرب[٥٩]، والمقصود هنا عمی البصر وعمی القلب الذي يوجب الضلالة والحيرة وفي هذا إشارة إلی قوله تعالي: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوفِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)[٦٠].
وبينكم عترة نبيكم: وهم أهله الأدنون أي أقرب الناس إليه وقد بين النبي (صلی الله عليه وآله) في حديث الثقلين من هم؟ وذلك يقوله (صلی الله عليه وآله): وعترتي أهل بيتي، وفي مقام أخر حين نزلت آية التطهير ووضع الكساء علی علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس.
وهم أزمة الحق: جمع زمام وهوالشيء الذي يقاد به الحيوان كأنّه جعل الحق دائراً معهم حيثما داروا وذاهباً معهم حيثما ذهبوا، كما أن الناقة طلوع زمامها. وهذا ما أشار له النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله) عندما قال: علي مع الحق، والحق مع علي، اللهم أدر الحق معه حيث دار[٦١].
وألسنة الصدق: لقد مر الكلام سابقاً وقلنا بأنهم (عليهم السلام) من خصهم الله تعالی يقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[٦٢].
كذلك يشير الإمام (عليهم السلام) هنا إلی قوله تعالی: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ)[٦٣].
فأنزلوهم منازل القرآن: أي وجوب طاعتهم والانقياد لهم (عليهم السلام) كما هوالتعامل مع القرآن الكريم فهم القرآن الناطق. ولعل المراد هنا أن يكون إعظامهم وإجلالهم ومنزلتهم في القرآن هي منطلق التعامل معهم (عليهم السلام).
وردوهم ورود الهيم العطاش: أي كونوا ذي حرص وانكماش علی أخذ العلم والدين منهم كحرص الهيم ـ الإبل ـ الظماء علی ورود الماء كما يذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج[٦٤].
ومما نستدل عليه من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام):
١- إنّ العترة الطاهرة (عليهم السلام) معصومة بصفتها عدلا للقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه هي عقيدتنا فشرط الإمامة الإلهية هوالعصمة كما في قوله تعالی: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[٦٥]. والعهد هنا يعني الإمامة وهي لا تصل إلی الظالم مهما كان نوع الظلم، من ظلم النفس بارتكاب الذنوب والمعاصي أوظلم الآخرين.
٢- الباب الوحيد لعصمة الأمة من الضلالة والعمی هم أئمة الهدی (عليهم السلام) الذي حرص القرآن الكريم وحث الأمة علی مودتهم بقوله تعالی: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[٦٦].
كذلك الروايات عن طريق الفريقين في ضرورة حبهم وطاعتهم واتباعهم.
ومن تلك الروايات ما أورده الفخر الرازي في تفسيره الكبير عن الزمخشري في الكشاف[٦٧] أنّ أنّ رسول الله (صلی الله عليه وآله) قال:
ألا من مات علی حب آل محمد مات شهيداً.
ألا من مات علی حب آل محمد مات مغفوراً له.
ألا من مات علی حب آل محمد مات تائباً.
ألا من مات علی حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان.
ألا من مات علی حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة.
ألا ومن مات علی بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله.
وفي حديث عنه (صلی الله عليه وآله) قال: أنا أول وافد علی العزيز الجبار يوم القيامة، وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي، ثم أسألهم: ما فعلتم بكتاب الله وبأهل بيتي؟[٦٨]
(١٠) فإنهم عيش العلم،وموت الجهل؛ هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم؛ لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه[٦٩].
فإنهم عيش العلم، وموت الجهل: وهذه من الألفاظ المجازية التي أطلقها أميرالمؤمنين (عليه السلام) فوصفهم بأنهم حياة العلم لما في وجود الحياة من وجوه للانتفاع بها، وهنا أطلق (عليه السلام) أسم السبب علی المسبب علی اعتبار أنهم من أحيوا العلم بوجودهم المقدس، وكذلك فإن الجهل بهم يموت ويعدهم.
وإذا كان الماء هومصدر الحياة وبعدمه يكون الموت، فإن أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين سقوا العلم من نمير علومهم ومعارفهم التي أخذوها عن الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله) عن الله تعالی.
هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم: لعل الإمام (عليه السلام) هنا يريد مطلق الأحكام القضائية وما جاء من وصاياهم وبياناتهم والتي تحكي عما يحملون من العلم والمعرفة.
وصمتهم عن منطقهم: يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج: (صمت العارف أبلغ من نطق غيره، ولا يخفی فضل الفاضل وأن كان صامتاً)[٧٠] ، والصمت في غير محل النطق إنما هودليل علی العلم بما يقول في كل النطق..
وظاهرهم عن باطنهم: أي أن ما كان يصدر عنهم من قول أوفعل إنما يفصح عن حسن ما يضمرون في باطنهم. بمعنی أن هناك توافق بين صورة الظاهر وصورة الباطن عندهم (عليهم السلام).
لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه: وهذه سمة أخری من سماتهم (عليهم السلام) حيث أن مالهم من مقام العصمة ومن الإحاطة التامة بأحكام الله عز وجل والسنة النبوية ينفي حصول أي مخالفة عندهم بهذا الدين. وكل ما يصدر عنهم (عليهم السلام) هوواحد لا اختلاف فيه بين إمام وإمام أخر، فهم السلسلة الذهبية المعصومة من الخطأ لأن مصدر ما عندهم هوالسماء.
وهذا المعنی صرح به أئمة العصمة (عليهم السلام) كما هوما ورد عن أبي عبدالله (عليه السلام) حيث قال: إن النبي وأميرالمؤمنين وذريته الأئمة حجتهم واحدة وطاعتهم واحدة[٧١].
وعنه (عليه السلام): نحن في الأمر والفهم والحلال والحرام يجري مجری واحداً فأما رسول الله صلی الله عليه وآله وعلي فلهما فضلهما[٧٢].
ولا يخفی ما في كلام أميرالمؤمين (عليه السلام) في هذه الخطبة من دلالات:
١- إن الحياة الحقيقية ليست بالحركة وتناول الطعام والشراب فكم من الناس من يمشي في الأسواق ويأكل ويشرب ولكنه في واقع الأمر ميت، لأنّ حياته هذه لا تتعدی حياة البهائم والأنعام، بينما الحياة الحقيقية هي حيات العلم وأما الجهل فهوالموت بعينه.
٢- إن معرفة مواطن الصمت ومواطن الكلام يقتضي وجود الحكمة في نفس الإنسان حتی لا يتكلم في مواطن الصمت ولا يصمت في مواطن الكلام.
٣- صورة الظاهر مرتبطة بصورة الباطن بل أنها تعكس صورة الباطن عند الإنسان.
كما قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): القلب مصحف البصر[٧٣].
٤- إن الاختلاف دليل وقوع الجهل وهذا لا يمكن أن يحصل عند من أخذ علومه عن سيد المرسلين (صلی الله عليه وآله) ئهم أئمة الهدی (عليهم السلام).
(١١) ألا بأبي وأمي هم من عدة، أسماؤهم في السماء معروفة، وفي الأرض مجهولة[٧٤].
العدة هنا هم الأئمة المعصومون الأحد عشر من ولده (عليهم السلام).
أسماؤهم في السماء معروفة: أي تعرفها الملائكة الذين أعلمهم الله تعالی بأسمائهم.
وفي الأرض مجهولة: أي عند من استولی عليه الضلال من البشر.
إن أسماء أهل بيت العصمة (عليهم السلام) معروفة في السماء منذ خلق آدم (عليه السلام) حيث أن الله عز وجل خلقهم أنواراً تحيط بعرشه قبل خلق آدم، وعندما خلق الله آدم علمه أسمائهم كما في قوله تعالی: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[٧٥].
يقول السيد السبزواري في تفسيره مواهب الرحمن: (إنّ المقصود الأصلي من الأسماء إنما هومقام الخلافة الإلهية وأسماء إنما هومقام الخلافة الإلهية وأسماء الخلفاء ليكون آدم علی بصيرة من أمره من أن الأرض أرضه، والبشر نسله، والخلفاء ذريته ولا سيما سيدهم ـ صلی الله عليه وآله ـ، وهذا مما لا ريب فيه. فقد روی الفريقان عنه ـ صلی الله عليه وآله ـ: كنت نبياً وأدم بين الماء والطين، فهوصلی الله عليه وآله ـ مقدم علی آدم علماً وإن كان مؤخراً خارجاً)[٧٦].
أهم ما يدل عليه هذا المقطع من خطبة أميرالمؤمنين (عليه السلام) هوعلوشأنهم ورفعة قدرهم (عليهم السلام) الذي يستحيل علی الناس العاديين إدراكه أوالوصول إلی كنه معرفتهم (عليهم السلام) فهم من المنزلة السامية التي يمتلكونها بحيث لا أحد يعرفهم ويعرف أسرارهم إلا الله عز وجل ورسوله الكريم (صلی الله عليه وآله).
(١٢) نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة[٧٧].
يشير الإمام (عليه السلام) هنا إلی حديث النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله) الذي أخرجه الحاكم عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام):يا علي، الناس من شجر شتی وأنا وأنت من شجرة واحدة، ثم قرأ رسول الله (صلی الله عليه وآله): (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ)[٧٨]. هذا حديث صحيح الإسناد.
إنها شجرة النبوة المثمرة جذرها وساقها النبي (صلی الله عليه وآله) وفروعها وأغصانها أولاده (عليهم السلام) وثمرتها التي تحملها هي هداية الناس إلی طريق الحق.
ومحط الرسالة: أي موضع هبوط الرسالة.
ومختلف الملائكة: (مختلف) من مادة (اختلاف) وهي بمعنی الذهاب والإياب فيكون معنی (مختلف) هنا محل الذهاب والإياب، فهم (عليهم السلام) موضع اختلاف الملائكة في صعودها ونزولها إن كانوا ملائكة الوحي أوجميع الملائكة وذلك للخدمة والبشارة وأمثال ذلك، وهذا لا يعني بان الوحي يهبط غير رسول الله (صلی الله عليه وآله).
ومعادن العلم وينابيع الحكم: فهم ورثة علوم النبي (صلی الله عليه وآله) وحفظة الكتاب والسنة. يقول الإمام (عليه السلام): علمني رسول الله إلف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب[٧٩].
نلاحظ هنا التعبير اللطيف للإمام (عليه السلام) بوصفهم ينابيع الحكم إشارة إلی إفاضتهم علی الناس من خلال علمهم ومعرفتهم وحكمهم.
ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة: وهذه بشارة لمن تعلق بهم (عليهم السلام) ونصرهم، وكذلك تهديد بالعذاب الإلهي لكل من نصب العداء لأهل هذا البيت الطاهر، وفي هذا المعنی نقلنا روايات عن النبي (صلی الله عليه وآله) عن العامة والخاصة فمن شاء فليراجع.
ومما سبق يتضح لنا ما يلي:
١- إن شجرة النبوة والتي منها أهل بيت العصمة (عليهم السلام) هي أشرف ما خلق الله عز وجل في هذا الوجود.
٢- إن هناك فرق بين مقام النبوة ومقام الرسالة، فالنبوة تعني نزول الوحي من قبل الله تعالی، أما الرسالة فتمثل القيام بالدور الفكري والثقافي وبمعنی آخر دور إبلاغ الرسالة له وبيانها للناس، وهذان المقامان كانا لرسول الله (صلی الله عليه وآله) إضافة إلی المقام الثالث وهوالأرفع والمتمثل بمقام الإمامة الإلهية وهي القيادة الاجتماعية والسياسية والإدراية للأمة والتي جرت من بعده للأئمة المصعومين (عليهم السلام).
٣- الحث علی حب أهل البيت (عليهم السلام) ونصرتهم للفوز بالفلاح الدنيوي والأخروي.
(١٣) عترته خير العتر، وأسرته خيرالأسر، وشجرته خيرالشجر، نبتت في حرم، وبسقتْ في كرم، لها فروع طوال، وثمر لا ينال[٨٠].
عترة الرجل: أي أهله الأقربون كما مر بنا سابقاً.
خير العتر: جمع عترة.
وأسرته: رهطه وجماعته.
خير الأسر: جمع أسرة.
وشجرته خير الشجر: الشجر للجنس والشجرة للمفرد.
والمقصود بالعترة هم أهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله) العترة الطيبة الطاهرة، والأسرة هي أسرته الكريمة، وشجرته التي هي شجرة وجوده (صلی الله عليه وآله) وتمثل العترة الطاهرة فروع هذه الشجرة وهي مصداق قوله تعالی: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)[٨١].
وقد نبتت هذه الشجرة المباركة (في حرم) أي مكة المكرمة، وقد يعني به المنعة والعز كما ذكر ابن الحديد في شرح نهج البلاغة[٨٢].
وبسقت: إشارة إلی فضيلة الكرم التي تميزت بها شجرة النبي (صلی الله عليه وآله) حيث أن جده وهوهاشم إنما سمي هاشماً لكرمه فكان يهشم الثريد لقومه.
لها فروع طوال: المقصود امتداد ذرية الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله).
وثمر لا ينال: أراد الإمام (عليه السلام) نفسه ومن يجري مجراه من أهل البيت (عليهم السلام). فلا يمكن لأحد أن يصل إلی مكانتهم وعلوشأنهم.
وخاصة القول أن أميرالمؤمنين (عليه السلام) وصف هذه الشجرة بهذه الأوصاف لأنها بلغت أرفع مراتب الشرف والكمال وأعطت ثمارها التي لا يمكن الوصول إليها أوأدراك غموضها وأسرارها.
وما مر بنا في هذا المقطع من خطبة أميرالمؤمنين (عليه السلام) فيه إشارة إلی جملة من الأحاديث النبوية الشريفة في هذا لمعنی ومنها:
عن النبي (صلی الله عليه وآله): إن الله اصطفی من العرب معدّاً، واصطفی من معد بني النضر بن كنانه، واصطفی هاشماً من بني النضر، واصطفاني من بني هاشم[٨٣].
وقال (صلی الله عليه وآله) إن جبرئيل قال لي: يا محمد قد طفت الأرض شرفاً وغرباً فلم أجد فيها أكرم منك ولا بيتاً أكرم من بني هاشم[٨٤].
وقال (صلی الله عليه وآله): نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلی الأرحام الزكية[٨٥].
وقوله (صلی الله عليه وآله): إن الله تعالی لم يمسسني بسفاح في أرومتي ـ أرومة: يعني أصل ـ منذ إسماعيل بن إبراهيم إلی عبدالله بن عبدالمطلب[٨٦].
وقوله (صلی الله عليه وآله): أكركم الله في أهل بيتي[٨٧].
(١٤) لما انتهت إلی أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله (صلی الله عليه وآله) قال (عليه السلام): فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله ـ صلی الله عليه وآله وسلم ـ وصی بأن يحسن إلی محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال (عليه السلام): لوكانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم، ثم قال (عليه السلام): فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنّها شجرة الرسول (صلی الله عليه وآله).
فقال (عليه السلام): احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة[٨٨].
بعد وفاة النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله) جرت مشاجرات في السقيفة بين المهاجرين والأنصار لغرض الوصول إلی سدة الحكم وإمارة المسلمين في الوقت الذي كان فيه الخليفة الشرعي وولي أمر المسلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مشغولاً بتجهيز النبي (صلی الله عليه وآله) ودفنه. وأخذ من المهاجرين والأنصار يدعي أحقيته بالخلافة واحتج كل منهما علی الأخر بماله من مناقب وسوابق. فلما بلغ الإمام (عليه السلام) ما جری بينهما من احتجاج كل منهما علی آخر في تلك السقيفة، قال (عليه السلام) بما هورد علی احتجاج قريش بأنها شجرة الرسول (صلی الله عليه وآله): احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة. ومن الواضح أنالثمرة قصد بها أميرالمؤمنين (عليه السلام) نفسه وأهل البيت (عليهم السلام)، فهم أقرب الناس للنبي (صلی الله عليه وآله) وهم الأولی بخلافة الرسول (صلی الله عليه وآله) الشرعية، فهم الشجرة الطيبة في القرآن الكريم والتي ورد في الرواية عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل:
(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)، قال: أما الشجرة فرسول الله (صلی الله عليه وآله) وفرعها علي (عليه السلام) وغصن الشجرة فاطمة بنت رسول الله (صلی الله عليه وآله)، وثمرها أولادها، وورقها شيعتنا[٨٩].
قال الكراجكي في كنزه: (ومن العجب أن يجتمعوا في السقيفة لطلب الخلافة فتحتج الأنصار بأنها تستحقها بنصرتها للنبي (صلی الله عليه وآله) ويحتج المهاجرون يقربهم منه (صلی الله عليه وآله) وليس فيهم من يذكر أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي لا يلحقة الأنصاري في نصرته ولا يدانيه القريشي في قرابة، ومن العجب قول القريشي: إن الخلافةلا تكون إلا من حيث النبوة وإنها تستحقها بذلك لأن النبي (صلی الله عليه وآله) من قريش، ولم يقل لها احد في الحال: أن بني هاشم أولی منكم بها علی هذه الحجة لأن النبي (صلی الله عليه واله) من بني هشام)[٩٠].
مما تستدل عليه من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام):
١- إنما يراد من الشجرة ثمارها، فإذا أغفلنا ثمارها فمن الأولی أن لا نلتفت إليها.
٢- إن الخلافة الشرعية للنبي (صلی الله عليه وآله) هي خلافة آل الرسول (صلی الله عليه وآله) والذين هم ثمرة شجرته المباركة، وهذا يعني أن خلافة من سبقه خلافة، خلافة باطلة فهي لا تحمل أي وجه شرعي، وهذا يعني أيضاً أن إدعاه كل من المهاجرين والأنصار باطل.
٣- إن كلام الإمام (عليه السلام) عندما قال: وأضاعوا الثمرة فيه إشارة واضحة لما يترتب من النتائج الفاسدة لهذه المقدمة الفاسدة في تنحية أميرالمؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) عم مقامهم الشرعي في خلافة النبي (صلی الله عليه وآله)، فما جری علی هذا البيت الطاهر من المصائب والمظلومية هوأعظم دليل علی تلك المقدمة الفاسدة، وكما هومعروف فإن النتائج توافق المقدمات.
(١٥) إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح علی سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم[٩١].
الأئمة من قريش: هذه العبارة مأخوذة من الحديث النبوي المعروف عند القريقين. فقد روی مسلم في صحيحه مسنداً عن حصين بن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي علی النبي (صلی الله عليه وآله) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتی يمضي فيه اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفي قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش[٩٢].
ونقل حديث: أن الأئمة أثنا عشر وكلهم من قريش العلامة المجلسي في بحاره بأسانيد مختلفة ومن شاء فليراجع الجزء السادس والثلاثين من بحار الأنوار صفحة: (٢٩٧) وما بعدها.
غرسوا في هذا البطن: المعين (من هاشم)، وهنا خص الإمام (عليه السلام) نفسه والأئمة الأحد عشر من أبنائه (عليهم السلام).
لا تصلح علی سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم: أي أن الإمامة مختصة بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) وهي إمامة وخلافة كبری معينة من قبل الله تعالی ولا تعتمد علی بيعة الناس، ولهذه الإمامة والخلافة الإلهية خصائص وشروط غير موجودة في غيرهم (عليهم السلام) كما نص أميرالمؤمنين (عليه السلام) بهذا المعنی عندما قال: ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة[٩٣].
ومن هنا نستدل علی ما يلي:
١- ما قاله (عليه السلام) يفيد الحصر بأن الأئمة من قريش ومن هاشم بالذات.
٢- فساد دعوی كل من قال بعدم اشتراط النسب في الإمامة وأنها تصلح للقرشي وغير القرشي، وكذلك من قال أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة، فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرطاً فيها.
(١٦) إن أمرنا صعب مستصعب لا يجمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان[٩٤].
مستصعب: من مادة (صعب) بمعنی المشكل وصعوبة فهم الشيء.
إن المقامات السامية لأهل البيت (عليهم السلام) التي وضعهم الله تعالی بها وكذلك المعرفة بالله عز وجل وما عندهم من العلوم المشتملة علی عالم التكوين وعلوم الغيب وغيرها عن طريق النبي (صلی الله عليه وآله). وكذلك ما عندهم من الولاية التكوينية والتشريعية مضافاً إلی كل هذا تحملهم للأذی في جنب الله عز وجل من أجل الحفاظ علی أصالة هذا الدين، وكذلك تحمل مشاق التقوی والصبر عليها، كل هذا إنما هوأمر صعب مستصعبلا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. وهذا في الواقع تعبير قرآني: قال تعالی: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)[٩٥].
ومن المناسب في هذا المقام أن نذكر بعض الشواهد التي تبين لنا أن أمرهم (عليهم السلام) صعب مستصعب يستحيل علی الناس العاديين إدراكه وتحمله ومنها:
يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) في نفس هذه الخطبة: أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض.
ومن رواة العامة في هذا المعنی: قال يحيی بن سعيد بن المسيب ـ حسب نقل الاستيعاب ـ: (ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير علي بن أبي طالب رضي الله تعالی عنه)[٩٦].
وفي رواياتنا حديث ذكره محمد بن يوسف البلخي في كتابه. فقد روی: أن علياً خطب الناس فقال: سلوني قبل أن تفقدوني. سلوني عن طرق السماوات فإني أعرف بها من طرق الأرض. فقام إليه رجل من وسط القوم وقال له: أين جبرئيل في هذه الساعة. فرمق بطرفه إلی السماء ثم رمق بطرفه إلی المشرق ثم رمق بطرفه إلی المغرب فلم يجد موطناً فالتفت إليه فقال: يا هذا الشيخ أنت جبرئيل. فقال الرجل: بخ بخ لك يا علي بن أبي طالب إن الله يباهي بك ملائكته. قال ذلك ثم صفق طائراً من بين الناس[٩٧].
ولا يخفی هنا ما أراده الإمام (عليه السلام) في خطبته من الترغيب والتمسك بأهل البيت (عليهم السلام) ومعرفة سيرتهم الطاهرة وذلك للالتحاق في زمرة المؤمنين الممتحنين.
(١٧) وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلی نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه[٩٨].
دعائم الإسلام: أي أركانه.
وولائج الاعتصام: ولائج جمع (وليجة) وهي الموضع يدخل إليه ويستتر فيه ويعتصم به[٩٩].
وهناك معنی أخر لـ(وليجة) وهومن (الولوج) وتطلق علی حامل أسرار الشخص أوجامعها ولكن ليس من أهله، ويقال وليجة لكل من يرد قوماً من الخارج ويجمل أسراره وهي قريبة من مفردة البطانة[١٠٠].
يبين الإمام (عليه السلام) من خلال هذه الصفات التي ذكرها بحق أهل البيت (عليهم السلام) بأنّ بقاء الإسلام إنما هوببركتهم (عليهم السلام) فهم الذين حفظوا أصالته بتضحياتهم النفيسة التي لم يسبقهم إليها أحد حتی علی مستوی الأنبياء. وكذلك فإن آل محمد (صلی الله عليه وآله) هم خيمة الدين وأوتادها وكل من يريد الاعتصام من مكائد الشيطان ووساوس النفس الإمارة بالسوء فعليه ولوج هذه الخيمة.
ثم يقول الإمام (عليه السلام): بهم عاد الحق إلی نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه.
يشير الإمام (عليه السلام) هنا إلی ما حصل في السقيفة من الانقلاب وكيف أن أهل الباطل نكثوا ببيعتهم له (عليه السلام) وخاسوا بعهودهم مع الله ورسوله (صلی الله عليه وآله) فأقاموا الباطل مقام الحق، وما حصل من الانحرافات بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله) علی عهد الخلفاء الثلاثة خير شاهد علی هذا المعنی.
ولكن بعد تولي أميرالمؤمنين (عليه السلام) زمان الأمور عاد الحق إلی نصابه، فلقد استطاع الإمام (عليه السلام) أن ينحّي الباطل وأتباعه الذين فعلوا الأفاعيل ونهبوا بيت مال المسلمين وخاصة علی عهد الثالث.
ومن دلالات هذا المقطع من خطبة أميرالمؤمنين (عليه السلام):
١- إنّ من يتخذ وليجة دون أهل البيت (عليهم السلام) فقد ضل سواء السبيل.
٢- إنّ الحق معهم (عليهم السلام) ولا يفارقهم أبداً كما في الحديث النبوي الشريف قال (صلی الله عليه وآله): علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي، ولن يفترقا حتی يردا علّي الحوض[١٠١].
٣- لوتسلم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مقاليد الأمور بعد النبي (صلی الله عليه وآله) ليبقی الحق قائماً شامخاً ولزال الباطل واندحر ولعاش المسلمون سعادة الدنيا والآخرة.
(١٨) شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة[١٠٢].
لقد شبه الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) الفتن بالبحر الهائج الذي تتلاطم أمواجه ويوصي بالاعتصام بسفن النجاة والتي تمثل الوسيلة الوحيدة للوصول إلی شاطیء الأمان، وأي سفينة أعظم من أهل البيت (عليهم السلام)؟!
ولا يخفی علينا هذا الترابط بين كلام علي (عليه السلام) وبين الحديث المشهور عن النبي (صلی الله عليه وآله) حيث قال: مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخلها نجا ومن تخلف عنها غرق[١٠٣].
إنها سفينة الأمان وسفينة الهداية ومنها ينبعث النور ليضيء دكنة الطريق إلی حيث الوصول لمرضاة الله عز وجل والفوز بالنعيم الأخروي.
وبهذا المعنی يقول أميرالمؤمنين (عليه السلام): أيها الناس، عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تغدرون بجهالته فإن العلم الذي هبط بها آدم (عليه السلام) وجميع ما فضلت به النبيون ـ إلی محمد خاتم النبيين ـ في عترة (نبيكم) محمد ـ صلی الله عليه وآله ـ، فأين يتاه بكم بل أين تذهبون؟
يا من نسخ من أصلاب السفينة هذه فيكم فاركبوها، فكما نجا في هاتيك من نجا، فكذلك ينجوفي هذه من دخلها، أنا رهين بذلك قسماً حقاً وما أنا من المتكلفين الويل لمن تخلف (عنهم) ثم الويل لمن تخلف. أما بلغكم ما قال فيهم نبيكم ـ صلی الله عليه وآله ـ، حيث يقول في حجة الوداع: (إني تارك فيكم الثقلين: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتی يردا علّي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيها). ألا هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا[١٠٤].
ويستدل من هذه العبارة من خطبة الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنها تمثل وصية لهذه الأمة في كيفية التعامل مع الفتن الضالة والمضلة وذلك بالالتحاق والتمسك بأئمة الهدی (عليهم السلام)، وهذه الوصية ليست خاصة بعصر علي (عليه السلام) وإنما لكل العصور ولكل الأجيال.
(١٩) أین الذین زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا کذباً وبغیاً علینا[١٠٥].
ینکر الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام)علی أولئك القوم من الصحابة الذین کانوا ینازعونه الفضل ویدعون أنهم راسخون في العلم دون أهل البیت (علیهم السلام) بالرغم من تسلیمهم له (علیه السلام) بأنه أقضی الأمة ولم یستطیعوا الاستغناء عنه (علیه السلام) فی الکثیر من الأحکام القضائیة وکذلك المعضلات التي کانت تمر بهم، وقد عرف عن عمر بن الخطاب أنه کان دائماً ما یقول: (لولا علي لهلك عمر)[١٠٦]. وقوله: (لا عشت لمعضلة لیس لها أبوالحسن)[١٠٧].
الراسخون في العلم: هذا التعبیر قد ورد في القرآن الکریم حیث قال جل وعلا: (هُوالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ)[١٠٨].
اختلف المفسرون بآرائهم حول هذه الآیة، فهل أن المراد في قوله تعالی: (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ و(يَقُولُونَ) خبره، وهذا یعني أن علم التأویل ینحصر بالله تعالی. ویعني أیضاً أنّ الناس جمیعاً تتساوی بأنهم راسخون في العلم بعض النظر فیما إذا کانوا علماء أوجهلاء لأن عامة الناس تؤمن بأن القرآن کله من عندالله تعالی. وهنا نقول هل ینسجم هذا الرأي مع سیاق الآیة الذي یبین انقسام الناس بین متبع للمتشابه لوجود زیغ في قلبه، وبین من هوراسخ في العلم (الرسوخ هوأشد الثبات) یتبع محکم الکتاب ویؤمن بمتشابهه، ثم أضافه إلی ذلك فإن القرآن الکریم في هذه الآیة في مقام مدح لهؤلاء الراسخون في العلم وذم لأولئك الذین عندهم زیغ في قلوبهم. فهل یتساوی من هوراسخ في العلم مع من عنده میل واضطراب في قلبه؟!
وقال البعض الآخر من المفسرین: إنّ (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوف علی اسم الجلالة، فیکون تأویل القرآن الکریم من علم الله تبارك وتعالی وعلم (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وتکون (يَقُولُونَ) حال. وهذا رأي قوي ومتین وینسجم مع کلام الإمام (علیه السلام) ومع الروایات الواردة عن أهل البیت العصمة (علیهم السلام).
ومنها ما أورده صاحب المیزان في الجزء الثالث، عن أبي عبدالله (علیه السلام) أنه قال: إنّ القرآن محکم ومتشابه فأما المحکم فتؤمن به وتعمل به وتدین، وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به، وهو قول الله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا). والراسخون في العلم هم آل محمد[١٠٩].
نعم إنهم (علیهم السلام) الراسخون في العلم والذین أخذوا علومهم من النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله) وعلی رأسهم علی أمیرالمؤمنین (علیه السلام) الذی قال: علمني رسول الله ألف باب من العلم یفتح لي من کل باب ألف باب[١١٠].
ولهذاا فإن کل من یدعي أنه راسخ في العلم دون أهل البیت (علیهم السلام) ـ کما في نص الإمام (علیه السلام) ـ فهوکاذب وباغ علیهم وظالم لهم، وإن مثل هذا قد یوهم المسلمین بدعواه ویفسر القرآن علی هواه.
وأعظم دلالة في کلام أمیرالمؤمنین (علیه السلام) أنّ أهل البیت (علیهم السلام) هم أعلم الناس بعد النبي (صلی الله علیه وآله) فلا یستطیع أحد أن یقول أنا أعلم الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله) غیر علي بن أبي طالب (علیه السلام) الذی ملأ الخافقین بعلمه.
(٢٠) بنا اهتدیتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلیاء، وبنا أفجرتم عن السرار[١١١].
أي: خرجتم من ظلمات الجهل والضلالة إلی أنوار العلم والهدایة.
روی الکلیني في قوله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[١١٢]. قال: هم الأئمة ـ صلوات الله علیهم ـ[١١٣].
وتسنمتم العلیاء: أي علا ذکرکم ورفع قدرکم بهدایة أهل البیت (علیهم السلام).
وبنا أفجرتم عن السرار: (السرار) آخر لیلة في الشهر یختفي فیها القمر ویعبر عنه بالمحاق، وهذا کنایة عن الظلام. وتحمل هذه العبارة وجهین في معناها فإما أن یکون المراد هوانفجار العین من الأرض، أوالدخول في الفجر، ولعل المعنی الثاني أقرب لاستعارة الإمام (علیه السلام) لفظة (السرار) للتعبیر عما کانوا علیه من ظلمات الجهل والکفر، فبین الإمام علي (علیه السلام) هنا أن خروجهم من تلك الظلمات إلی نور الإسلام واستضاءتهم بضیاء صباح الهدایة الذي أشرق ببرکة وجود أهل البیت (علیهم السلام) کما قال عز من قال: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)[١١٤].
قال أمیرالمؤمنین (علیه السلام) لابن الکوا حین سأله عن ذلك:يعني ظلمة الليل وهذا ضربه الله مثلاً لمن ادعی الولاية لنفسه وعدل عن ولاة الأمر. قال: فقوله (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) قال: يعني بذلك الأوصياء يقول: إن علمهم أنور وأبين من الصبح إذا تنفس[١١٥].
لقد قام أهل البيت (عليهم السلام) بوظائف الإمامة والتي تقتضي منهم حفظ الدين ورعايته وتعليمه والدعوة إليه.
لقد مرت بهذه الأمة وإلی يومنا هذا موجات من التحريف لهذا الدين ومن تأويل للجهلة وشبهات الضالين والمخالفين، وتصدی أئمة هذا البيت الطاهر (عليهم السلام) لكل هذا، وما أكثر ما حوت بطون كتب المحدثين والمؤرخين من الفريقين من نماذج لاحتجاج أئمة الهدی (عليهم السلام) مع مثل هؤلاء. ومثال علی ذلك ما ذكره ابن حجر في صواعقه في ترجمة الإمام العسكري (عليه السلام) أنّه: (لما حبسه المعتمد ابن المتوكل وقع قحط شديد فخرج المسلمين للاستسقاء ثلاثة أيام فلم يستسقوا، فخرج النصاری ومعهم راهب، فلما مد يده إلی السماء غيمت فأمطرت في اليوم الأول، ثم في اليوم الثاني كذلك، فشك بعض جهلة المسلمين وارتد بعضهم، فشق ذلك علی المعتمد فأمر بإحضار الحسن الخالص ـ العسكري ـ وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (صلی الله عليه وآله) قبل أن يهلكو، فقال الحسن: يخرجون غداً وأنا أزيل الشك إن شاء الله، وكلم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن فأطلقهم له، فلما رفع الراهب يده مع النصاری غيمت السماء، فأمر الحسن ـ رضي الله عنه ـ بالقبض بما في يد الراهب، فإذا عظم آدمي في يده، فأخذه من يده وقال: استسق، فرفع يده إلی السماء فزال الغيم وظهرت الشمس، فعجب الناس من ذلك. فقال المعتمد: ما هذا يا أبا محمد؟ فقال: هذا عظم نبي قد ظفر به هذا الراهب، وما كشف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر. وزالت الشبهة عن الناس ورجع الحسن إلی داره[١١٦].
وهذه الحادثة التي تصدا لها الإمام العسكري (عليه السلام) هي غيض من فيض لما قام به الأئمة الهداة (عليهم السلام) من أدوار للوقوف بوجه كل الانحرافات العقيدية والاجتماعية والأخلاقية التي عصفت بهذه الأمة لكي يبقي هذا الدين قائماً وناصعاً واصيلاً. ونستدل من كلام الإمام (عليه السلام) أن كل من يريد الهداية والتسامي والرفعة في الدنيا والآخرة وإدراك الفجر الصادق للخروج من الظلمات فلابد له الإقتداء بأئمة الهدي (عليهم السلام) وفي هذا إشارة إلی حديث النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله) عند ما قال: أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم[١١٧].
(٢١) فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا تصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج، خاتمةالأئمة، ومنقد الأمة، وغاية النور، ومصدر الأمور. فنحن أفضل المخلوقين، وأشرف الموحدين، وحجج رب العالمين. فليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا، وقبض علی عروتنا[١١٨].
مقامات رفيعة لا يمكن أن تنسب إلی أحد إلا المعصومين الأربع عشر (عليهم السلام) وفي مقدمتهم الحبيب المصطفی محمد (صلی الله عليه وآله) والذي دلت الروايات علی أن الله تعالی ابتدأ الخلق بنوره (صلی الله عليه وآله) وأنوار أهل بيته (عليهم السلام) ومنها:
عن جابر بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله: أول شي خلقه الله تعالی ماهو؟
فقال: نور بينك، خلقه الله ثم خلق منه كل خير[١١٩].
وبإسناده عن أحمد بن علي بن محمد بن عبدالله بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّ الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق نور الأنوار الذي نوّرت منه الأنوار، وأجری فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهوالنور الذي خلق منه محمداً وعلياً، فلم يزالا نورين أولين إذ لا شيء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتی افترقا في أطهر طاهرين في عبدالله وأبي طالب عليهما السلام[١٢٠].
يقول العلامة المجلسي في بحاره: (ولعلّ المراد بنور الأنوار أولاً نور النبي (صلی الله عليه وآله) إذ هومنوّر أرواح الخلائق بالعلوم والهدايات والمعارف، بل سبب لوجود الموجودات، وعلة غائية لها)[١٢١].
وبإسناده عن المفضل عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبوجعفر (عليه السلام): يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين فكانوا أشباح نور بين يدي الله، قلت: وما الأشباح؟
قال: ظل النور، أبدان نورانيه بلا أرواح، وكان مؤيداً بروح واحد وهي روح القدس، فيه كان يعبدالله وعترته، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل، ويصلون الصلوات، ويحجون ويصومون[١٢٢].
وهذه الروايات هي مصاديق لكلام أمير المؤمنين (عليه السلام): فنحن أنوار السماء والأرض.
ثم قال (عليه السلام): فبنا النجاة: فهم سفن النجاة من الهلكة الدنيوية والأخروية وقد مر الكلام سابقاً بهذا المعنی.
ومنا مكنون العلم: فهم عيبة علم الله تبارك وتعالی بما يحمل من أسرار كونيه وغيبية وكذلك من علوم تكوينية وتشريعية.
وإلينا تصير الأمور: لعل الإمام (عليه السلام) هنا أراد رجوع أمور الخلق إليهم (عليهم السلام) في كل شؤونهم الدينية والدنيوية.
ثم عرج الإمام (عليه السلام)بخطبته إلی منقذ الأمّة المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشريف) حيث قال: وبمهدينا تنقطع الحجج، خاتمة الأئمة، ومنقذ الأمّة، وغاية النور، ومصدر الأمور.
مبيناً أنّه أخر حجج الله تعالی علی عباده وبه (عجل الله تعالی فرجه الشريف) خاتمة الأئمة الاثني عشر من أهل بيت العصمة (عليهم السلام) والذي بظهوره سيزيل غيوم الظلم والطغيان والشرك والإلحاد والضلال لتشرق شمس الهداية والعدل والحرية في كل أنحاء المعمورة.
ثم قال (عليه السلام): فنحن أفضل المخلوقين، وأشرف الموحدين، وحجج رب العالمين.
ولا يخفی ما في هذه العبارات من الأفضلية والأشرفية لأهل البيت (عليهم السلام) علی باقي الناس ويعضد هذا ما جاء في وصية النبي (صلی الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي إن الله عز وجل أشرف علی الدنيا فاختارني منها علی رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك علی رجال العالمين بعدي، ثم أطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك علی رجال العالمين بعدك، ثم أطلع الرابعة فاختار فاطمة علی نساء العالمين[١٢٣].
ثم أعطی (عليه السلام) البشارة لكل من تمسك بولايتهم (عليهم السلام) وهذه هي النعمة الكبری التي تمت في يوم الغدير بإعلان ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث اكتمل الدين وتمت هذه النعمة وارتضی الله تعالی لعباده هذا الدين كما في قوله تعالی: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[١٢٤].
وكذلك من قبض علی عروتهم الوثقی وفيها إشارة إلی قوله تعالی: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا)[١٢٥].
فالإيمان الحقيقي. بالله تبارك وتعالی والتوحيد الصادق لا يكون من دون ولاية الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وكما هووارد في حديث السلسلة الذهبية الذي ينقله الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن إسحاق بن راهويه أنّه سمع الإمام (عليه السلام) يقول: لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي، قال: لما مرت الراحلة نادانا: بشروطها وأنا من شروطها[١٢٦].
ومما مر من بيان لكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الخطبة نستطيع أن نستدل علی ما يلي:
١- إنّ هذه الخطبة وأمثالها نستند عليها في إثبات عقيدتنا بأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
٢- إنّ لهم شرف الخاتمية لحجج الله عز وجل حيث أنهم خاتمة الحجج وبالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشريف) تنقطع حجج الله تبارك وتعالی.
٣- جميع النعم الإلهية تمثل ثمرة النعمة الكبری وهي ولاية أهل البيت (عليهم السلام).
(٢٢) إن ملنا فيكم كمثل الكهف لأصحاب الكهف، وكباب حطة وهوباب السلم فأدخلوا في السلم كافة[١٢٧].
عندما نتأمل في كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) نلاحظ أنه لا يفترق عن القرآن الكريم بحيث نجد أن كل ما ورد عنه (عليه السلام) له أصل وجذور في كتاب الله عز وجل، فهوالقرآن الناطق الذي لا يفترق عن القرآن الصامت كما في حديث النبي (صلی الله عليه وآله): علي مع القرآن والقرآن مع علي، فإنهما لن يفترقا حتی يردا علي الحوض[١٢٨].
في المقطع الأول من خطبة الإمام (عليه السلام) يشير إلی ما ذكره الله تعالی في سورة الكهف: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)[١٢٩].
وفي المقطع الثاني أشار (عليه السلام) إلی قوله تعالی: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)[١٣٠].
ونظير هذا المعنی جاء في سورة الأعراف في الآية (١٦١-١٦٢).
وفي المقطع الثالث يأمر الإمام (عليه السلام) الناس بما أمرالله تعالی به في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُومُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[١٣١].
وما أورع الأسرار العجيبة الكامنة في هذا الترابط الوثيق بين الآيات السابقة وكلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومنها:
١- هناك أوجه شبه بين الأمم السابقة وهذه الأمة، وأن ما حصل فيها يحصل في هذه الأمة كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالی: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)[١٣٢].
قال (عليه السلام): لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين وأحوالهم[١٣٣].
٢- كما كان الكهف لأصحاب الكهف ملاذاً لهم وأمنة من شياطين الجن والإنس كذلك أهل البيت (عليهم السلام) هم الملاذ والأمن لهذه الأمة من الوقوع في حبائل الشيطان ووساوس النفس الأمارة بالسوء وإتباع الهوی.
٣- إنّ عبادة الله حق عبادته وتوحيده تعالی لا يكون إلا بدخول كهف أهل البيت (عليهم السلام) وبخلافه يكون الكفر والضلال والحيرة ويعضد هذا المعنی ماورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) بإسناده عن بريد قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: بنا عبدالله، وبنا عرف الله، وبنا وحد الله، ومحمد صلی الله عليه وآله حجاب الله[١٣٤].
٤- أهل البيت (عليهم السلام) هم محط رحمة الله عز وجل وبهم ينزل الله بركاته علی عباده.
٥- إنّ الانصراف عن خط أهل البيت (عليهم السلام) يعني إتباع لخطوات الشيطان وهذا ما يوجب وقوع الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
٦- السلم والسلام لا يمكن أن يتحققا بعيداً عن أهل البيت النبوة (عليهم السلام).
(٢٣) من مات منكم علی فراشه وهوعلی معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره علی الله، واستوجب ثواب ما نوی من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته بسيفه، فإنّ لكل شيء مدة وأجلاً[١٣٥].
والمعنی أن من مات علی فراشه وهومذعن بتوحيد الله عز وجل ورسالة رسوله (صلی الله عليه وآله) ومعتقداً بإمامة أهل بيته (عليهم السلام) فسينال درجة الشهداء ويفوز بثواب السعداء ويستحق الأجر علی نيته كما كان يريد الإتيان به من العمل الصالح.
جاء في بحار الأنوار: قال له (عليه السلام) بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليری ما نصرك الله به علی أعدائك ـ بعد انتصار الإمام في صفين ـ فقال (عليه السلام): أهوی أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال (عليه السلام): فقد شهدنا ولقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان، ويقوی بهم الإيمان[١٣٦].
وفي هذا المورد ما جاء عن جابر بن عبدالله الأنصاري فی زیارته لشهداء کربلاء عنداما قال: أشهد أنا شارکناکم فیما دخلتم فیه، وعندما سأله غلامه عطیة العوفي: وکیف شارکناهم ونحن لم نعلوجبلاً ولم نهبط وادیاً ولم نضرب بسیف ولم نطعن برمح والقوم قد فرق بین رؤوسهم وأبدانهم وأوتمت أولادهم ورملت نساؤهم؟ فأجابه جابر: لقد سمعت حبیبی رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقول: من أحب قوماً حشر معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم، والله یعلم أنّ نیتي ونیة أصحابي کانت علی ما مضی علیه الحسین وأصحاب الحسین (علیهم السلام).
ومما یتبین لنا من الاستدلال من کلام علي (علیه السلام) مایلی:
١- إنّ الدین الإسلامي هودین المعرفة وهذا ما أکدته الروایات الشریفة ومنها ما ورد عن أمیرالمؤمنین (علیه السلام) عندما قال: إول الدین معرفته[١٣٧]. أي معرفة الله عز وجل.
وکذلك ما جاء عنه (علیه السلام) عندما قال: یا کمیل ما من حرکة إلا وأنت محتاج فیها إلی معرفة[١٣٨].
وما جاء في الدعاء في زمن الغیبة مصداق لما تحدث عنه الإمام (علیه السلام) من المعرفة بحق الله تعالی ورسوله وأهل بیته ـ صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ـ: اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسک لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك فإنك أن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك أن لم تعرفني حجتك ضللت عن دینی، اللهم لا تمتني میتة جاهلیة ولا تزغ قلبي بعد إذ هدیتني[١٣٩].
ومن هذا المنطلق نستدل علی أن الضلال هوفي الجهل بإمام الزمان الذي یمثل الصراط المستقیم الذي یوصل العبد إلی غایته وهي مرضاة الله تبارك وتعالی وهوأقصر الطرق للوصول إلی هذه الغایة کما هوثابت علمیاً أن الخط المستقیم هوأقصر الطرق للوصول إلی الهدف. وما یؤکد هذا المعنی ما جاء بإسناده عن معاویة بن وهب قال: سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) یقول: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: من مات لا یعرف إمامه مات میتة جاهلیة[١٤٠].
٢- إنّ النیة مع المعرفة یقومان مقام الفعل ویوجبان تحقق الأجر والثواب. ویعضد هذا المعنی ما ورد بإسناده عن الفضیل قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) یقول: من مات ولیس له إمام فموته میتة جاهلیة، ولا یغدر الناس حتی یعرفوا إمامهم. ومن مات وهوعارف لإمامه لا یضره تقدم هذا الأمر أوتأخره، ومن مات عارفاً، کان کمن هومع القائم في فسطاطه[١٤١].
(٢٤) قال (علیه السلام) ـ بعد أن أقدم أحدهم علی الکلام فحصرـ: ألا وإن اللسان بضعة من الإنسان، فلا یسعده القول إذا امتنع، ولا یمهله النطق إذا اتسع وإنا لأمراء الکلام، وفینا تنشبت عروقه، وعلینا تهدلت غصونه[١٤٢].
البضعة: هي القطعة.
واللسان: قطعة من اللحم تملأ تقریباً جمیع فضاء الفم تحت الأسنان، وهوآلة النطق التي تفصح عن مکنون ما یحمل الإنسان في داخله من الأفکار والرغبات والنوایا وبالتالي فهوالوسیلة التي من خلالها نستطیع التعرف علی الهویة الشخصیة لکل إنسان، وبما یحمل من الحسن والقبیح، یقول الإمام أمیرالمؤمنین (علیه السلام): تکلموا تعرفوا، فإن المرء مخبوء تحت لسانه[١٤٣].
واتساع اللسان في نطقه أوامتناعه یعود إلی روح الإنسان فهي المسیطر علی کل فعالیات البدن ومنها النطق، فهي من تعطي الإیعاز للسان بالنطق في حال دعوتها إلی الکلام.
یقول: (علیه السلام): وإنا لأمراء الکلام وفینا تنشبت عروقه، وعلینا تهدلت غصونه.
أي تنشبت عروقه (عروق) جمع (عرق) وهوأصل الشيء وأساسه، وتهدلت من مادة (هدل) أي متدلیة أونازلة ومعلقة.
لقد شبه الإمام (علیه السلام) الکلام بالشجرة ذات الجذور والأغصان ووصفها بأنها متجذرة أصولها فیهم (علیهم السلام) وأغصانها متهدلة علیهم (علیهم السلام)، ومن هنا صاروا أمراء الکلام حقاً ولا یختلف في هذا المعنی الأقربون والأبعدون. وما نهج البلاغة والصحیفة السجادیة وخطبتي سیدة نساء العالمین فاطمة الزهراء (علیها السلام) وخطب الإمام السجاد (علیه السلام) وزینب (علیها السلام) في الکوفة وفي الشام وغیرها إلّا شواهد لهذا المعنی وأن تسمیة أمراء الکلام لا تلیق إلا بأهل هذا البیت الطاهر (علیهم السلام).
فیما مر بنا نستدل بما یلي:
١- التأمل في عجیب صنع الله عز وجل من خلال عمل اللسان وکیف یرتب حروف اللغة بحرکته بشکل یظهر لنا صورة الباطن وما یحمل الإنسان من هواجس ومن رغبات مادیة ومعنویة.
٢- تلاحظ أن هناك ارتباط وثیق بین الجانب الروحي والجانب الجسدي عند الإنسان بحیث أن الروح تتحکم بعمل اللسان فإذا خرجت عند الموت توقف اللسان عن النطق.
٣- الحالات النفسیة عند الإنسان من الفرح والحزن والهدوء والاضطراب وغیرها له تأثیر کبیر علی الکلام وهذا ما أشار له أمیرالمؤمنین (علیه السلام) عندما تحدث عن الامتناع والاتساع.
٤- إنّ المهارة في النطق متفاوته عند الناس، فکم من الناس من صعد المنبر وتلعثم لسانه وتوقف عن الکلام، وقد ذکر ابن أبيِ الحدید في شرح نهج البلاغة لأشخاص ارتقوا المنبر وأعیتهم الألفاظ[١٤٤].
المصادر والمراجع
القرآن الکریم.
١- الإتقان في علوم القرآن / لجلال الدین السیوطي (ت ٩١١هـ).
٢- إحقاق الحق / للقاضي نورالدین المرعشي التستري.
٣- الاختصاص / للشیخ المفید محمد بن محمد بن النعمان بن عبدالسلام الحارثي العبکري.
٤- الاستیعاب / للنمري القرطبي أبوعمر یوسف بن عبدالله (ت ٤٦٣هـ).
٥- أصول الکافي / للشیخ محمد بن یعقوب الکلیني (ت ٣٢٩هـ).
٦- الأمالي / للشیخ الصدوق محمد بن علي بن الحسین بن موسی بن بابویه (ت ٣٨١هـ).
٧- الإمامة والتبصرة / لأبي الحسن علي بن الحسین بن بابویه القمي (ت ٣٢٩هـ).
٨- بحار الأنوار / للعلامة المجلسي محمد باقر (ت ١١١١ هـ).
٩- البدایة والنهایة / لابن کثیر أبوالفداء إسماعیل بن عمر بن کثیر الدمشقي (ت ٧٧٤هـ).
١٠- تاریخ الخلفاء / للسیوطي جلال الدین (ت ٩١١ هـ).
١١- تاریخ الطبري / لمحمد بن جریر الطبري (ت ٣١٠هـ).
١٢- تاریخ الیقعوبي / لأحمد بن أبي یعقوب بن جعفر (ت٢٨٤هـ).
١٣- تاریخ بغداد / للخطیب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت (ت ٤٦٣هـ).
١٤- تاریخ دمشق / لابن عساکر أبوالقاسم علي بن الحسن الدمشقي (ت ٥٧١ هـ).
١٥- تفسیر البرهان / للسید هاشم البحراني (ت ١١٠٩هـ).
١٦- التفسیر الکبیر / للفخر الرازي فخرالدین (ت ٦٠٤هـ).
١٧- الخصال / للشیخ الصدوق محمد بن علي بن الحسین بن موسی بن بابویه (ت ٣٨١هـ).
١٨- سفینة البحار / للشیخ القمي عباس (ت ١٣٥٩هـ).
١٩- شرح الأخبار / لأبي حنیفة النعمان بن محمد التمیمي المغربي.
٢٠- شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحدید المعتزلي (ت ٦٥٦هـ).
٢١- صحیح ابن حبان / لمحمد بن حبان بن أحمد بن حبان (ت ٣٥٤هـ).
٢٢- صحیح مسلم / لأبي الحسین مسلم بن الحجاج القشیري (ت ٢٦١هـ).
٢٣- الصواعق المحرقة / لابن حجر الهیثمي (ت ٨٠٧هـ).
٢٤- عیون أخبار الرضا (علیه السلام) / للشیخ الصدوق (ت ٣٨١هـ).
٢٥- الغدیر / لشیخ الأمیني عبدالحسین (ت ١٣٩١هـ).
٢٦- فرائد السمطین / للحمویني (ت٧٢٢هـ).
٢٧- فضائل الصحابة / لأحمد بن حنبل (ت ٢٤١هـ).
٢٨- کنز العمال / للمتقي الهندي علاء الدین علي بن حسام الدین (ت ٩٧٥هـ).
٢٩- لسان العرب / جمال الدین أبوالفضل محمد بن مکرم بن منظور الأنصاري الأفریقي المصري (ت ٧١١هـ)، ط. دار الکتب العلمیة بیروت.
٣٠- لسان المیزان / لابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢هـ).
٣١- مجمع الزوائد / لابن حجر الهیثي (ت ٨٠٧هـ).
٣٢- المحاسن / للبرقي أحمد بن محمد بن خالد (ت ٢٧٤هـ).
٣٣- المستدرك علی الصحیحین / للحاکم النیسابوري محمد بن عبدالله أبوعبد (ت ٤٠٥هـ).
٣٤- مسند أحمد بن حنبل / لأبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشیباني (ت ٢٤١هـ).
٣٥- مصباح المتهجد / للشیخ الطوسي أبوجعفر محمد بن الحسین (ت ٤٦٠هـ).
٣٦- المعجم الوسیط مجمع اللغة العربیة، ط ٢ /١٩٧٣م، القاهرة.
٣٧- مناقب الخوارزمي الموفق أحمد بن محمد المکي (ت ٥٦٨هـ).
٣٨- مناقب علي بن أبي طالب / لابن المغازلي الشافعي (ت ٤٨٣هـ).
٣٩- مواهب الرحمن في تفسیر القرآن / للسید عبدالأعلی السبزواري (ت ١٤١٤هـ).
٤٠- میزان الاعتدال في نقد الرجال / للذهبي شمس الدین (ت ٧٤٨هـ).
٤١- المیزان في تفسیر القرآن / للعلامة الطباطبائي (ت ١٤٠٢هـ).
٤٢- نفحات الولایة في شرح نهج البلاغة / لمکارم شیرازي.
٤٣- نهج السعادة في مستدرک نهج البلاغة / للمحمودي.
٤٤- نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة / للشیخ محمد تقي التستري.
٤٥- نورالثقلین / للعروسي الحویزي الشیخ عبد علي بن جمعة (ت ١١١٢هـ).