الأستاذ الدكتور: حاكم حبيب الكريطي
(جامعة الكوفة / كلية الآداب)
لانريد ابتداء أن نبين حدود دلالة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد فقد تكفلت مصادر المسلمين ببيان ذلك، ولكننا نريد أن نستكشف صفات أهل البيت (عليهم السلام) من أقوال الإمام علي(عليه السلام) ، وخطبه ورسائله في نهج البلاغة، على الرغم من أن توصيفه - في الغالب- في سياقات لا يراد منها ذلك فقط، وإنما يأتي ذلك استكمالا لأفكار يودعها في أحاديثه، ثم يأتي ذكر أهل البيت (عليهم السلام) بحسب ما يقتضيه المقام.
وعلى الرغم من ارتباط أغلب النصوص في نهج البلاغة بمناسبات معينة نص على ذكرها الشريف الرضي جامع النهج، فإن معالجات الإمام(عليه السلام) ، تأتي للحديث عن المناسبة الأتية في وقتها، ولما يصلح لغيرها في عصره وفي المستقبل، وهذا واحد من أسرار نص الإمام في النهج، وعلى السامع في عصره، وعلى الراوي والقارئ في العصور اللاحقة، أن يأخذ منها ما تعينه معرفته على استنباطه، لأن النص«ليس بناء قواعديا ودلاليا معينا، وإنما هو يستند أيضا الى فعاليات عملية مرتبطة بالعوامل الاجتماعية».
إن نص نهج البلاغة ينفتح على دلالات لا تنتهي، وتتعدد بتعدد الناظرين فيه، والمتأملين في ألفاظه وعباراته، ولا أدل على ذلك من كثرة الدراسات التي دارت حوله، وهي تختلف عن بعضها البعض باختلاف رؤية كل كاتب، وثقافتهوعلمه واهتمامه وتوجهاته، والى الآن، ما يزال نص نهج البلاغة، غضا طريا مكتنزا بالمعاني، معشبا مثمرا، يعطي ثمره منفتحا أمام العقل الذي يريد الانفتاح عليه، بما يمتلكه(أي العقل)من مؤهلات لغوية وعلمية وفكرية، بعيدا عن الهوى والميل والعاطفة.
فلغة نهج البلاغة على وفق هذه الرؤية، تمثل فكر الإمام(عليه السلام) ، وفي الوقت نفسه، تمثل الأداة التي تنقل هذا الفكر فهي(المحتوى والأداة).
واستنادا الى هذا، فإننا سنقف عند المفردات والتراكيب كثيرا، ونحن نقرأ النص قراءة تأويلية، أغرانا بها أكتناز أقوال الإمام بدلالات لا تعطي نفسها إلا بعد النظر المتأني في النص، وتأويله على وفق المعطيات اللغوية والاجتماعية والفكرية التي تحيط به.
ومن هنا فإن التدبر التأويلي في النص، سيعيننا على التقاط العلاقات المدهشة بين الألفاظ التي تشتبك وتتعالق مع بعضها اشتباكا دلاليا عجيبا، بما أسبغ عليها الإمام(عليه السلام) من حمولات جمالية ودلالية، وهذا ما بهر من سمعها ومن قرأها من العرب، وهذا ما بهر الشريف الرضي، الذي حس بهذا كله، بوصفه شاعرا كبيرا وأديبا بارعا، تحسس مواطن الجمال في شعره، ووجد ضالته الجمالية والفكرية في كلام الإمام(عليه السلام) فسماه (نهج البلاغة).
إن ما نريده في بحثنا التأويلي هذا عن أهل البيت (عليهم السلام) في نهج البلاغة، الوقوف المتأني على كلام الإمام(عليه السلام) الذي يذكر فيه أهل البيت، لنستخرج بعضا من صفاتهم، مستعينين بما يعطيه المعجم العربي من دلالات للألفاظ التي تتحرك في حقول دلالية متقاربة، ثم النظر الفاحص في طبيعة علاقات الألفاظ مع بعضها، وما ينتجه هذا النظر من دلالات ومعان ستكون تشكيلا عقليا، ربما يكون مسارا لقراءات أخرى، ثمت عناوين أخرى -إن شاء الله تعالى- إن البلاغة التي تجللت بها أقوال الإمام(عليه السلام) وخطبه ورسائله، أظهرت حسنا وجمالا، لم يألفه العرب في لغتهم باستثناء -لغة القران الكريم ولغة الحديث النبوي الشريف- ووجدوا فيها نمطا زاهيا من الكلام، يحمل ثراء معرفيا في الاتجاهات كلها، ويمكن أن نضع حسن بلاغة الإمام (عليه السلام) تحت ركنين:
أولا: - حسن حسي ومعرفي، ندركه من الوهلة الأولى بحواسنا ومشاعرنا، ونتجاوب معه نفسيا، فنشعر بجمال المعرفة وبقيمتها من جهة أخرى
ثانيا: - حسن عقلي: وهذا النمط يكشفه لنا استبطان النصوص وقراءة ما يختبئ خلفها من دلالات، تنتجها حركية النص لأنه حي يصلح للعصور كلها-كما أشرنا-، وهذا النصف هو الذي يعنينا في بحثنا هذا.
بقي أن نشير الى قضية أخرى؛هي أن هذا التوجه من القراءات التأويلية، قد يقود الى الانزلاق عن جادة الصواب، والذهاب يمينا أو شمالا عن معطيات النص، وهذا ما سنتحاشاه- إن شاء الله تعالى- ونلازم أنفسنا بتبني المعاني التي تقدمها لغة النص مع ما يتصل بها من مرجعيات مختلفة-يمكن أن يشير إليها الإمام(عليه السلام) وفي ضوء ما يقدمه المعجم من قراءات لمعاني المفردات.وهذا منهج مألوف في القراءات التأويلية.
يقول الإمام(عليه السلام) عن أهل البيت: «هم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق».
جعل الإمام(عليه السلام) أهل البيت-في هذا القول أزمة للحق، والأزمة في اللغة: جمع زمام، والزمام: خيط يشد في خشاش الناقة، ثم يشد في طرفه المفقود، فيجعل الناقة طوعه، تدور معه حيث دار، فالحق إذا يدور مع زمامه الممسك به-وهم أهل البيت-حيث داروا، والإمام(عليه السلام) يشير هنا الى نفسه-ومن خلال ذات نفسه الى أهل البيت، وكأنه يريد أن يذكر من نسي من المسلمين بقول النبي(صلى الله عليه وآله): «الحق مع علي يدور معه حيث دار».
وهذا التشكيل الجمالي في التعبير، جعل الحق وهو غاية يسعى إليها المؤمنون، مقادا الى أهل البيت (عليهم السلام) يتبعهم حيث كانوا، قيادة سيطرة وتوجيه، فإذاتحركت الناقة وأرادت أن تتفلت من زمامها، قد تخرم حركتها أنفها، فيصاب بالعطب، والناس إذا خالفوا أهل البيت يصابون بالأذى.
ومن هنا يتبين لنا دقة التعبير في جعل جمال النص وعقل المدرك ينهضان بمهمة توجيه النص الى الى ما يريده الإمام (عليه السلام).
أما قوله(أعلام الدين)، فالعلم«شيء ينصب بالغلوات تهتدي به الضالة»، فأهل البيت إذا منار هداية، نصبهم الله تعالى لتهتدي بهم الناس، في مكان يحتاج إليهم به، وقد يراد بالأعلام«الراية التي يجمع اليها الجند».
واجتماع الجنود الى الراية يشعرهم بالاطمئنان، لقربهم من أمرائهم الذي يرسمون لهم طرق الاشتباك مع الخصوم، ويجعلونهم قادرين على غلبتهم، ويوفرون لهم دريئة تحفظ حياتهم.
وهذا المعنى يكشف لنا أول خصم يلاقيه الإنسان، وهو نفسه، فهو في قتال دائم معها(هو جندي في معارك متلاحقة مع نفسه)فإذا النجاة، أعلام الدين، أهل البيت (عليهم السلام).
وإذا كان مراد الإمام(عليه السلام) بالأعلام الجبال، فهذا يعني أن أهل البيت أوتاد للدين، كما الجبال أوتاد للأرض، قال تعالى «ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا»، يحفظونه(أي الدين)، ويحفظون من يتبعهم من التأرجح أو الميل، فيكون الدين ثابتا بوجودهم، كما أن الأرض ثابتة بالجبال، ولاولاها لمادت بأهلها.
ويساند هذا القول قول آخر للإمام(عليه السلام) عن أهل البيت«...وجبال دينه»، فيتعاضد القولان لبيان رفعه أهل البيت وسموهم.
وثمة دلالة أخرى في العلم: وهي: رسم الثوب، يقال علمه: رقمه في أطرافه، جعل فيه علامة وجعل له علما.
فأهل البيت: هم رسوم الدين، هم علامات الدين التي تجعله واضحا بينا، بعد أن اختلطت أموره، وراح المخالفون للإمام يضعون علامات لدينهم.
ويبقى من نصّ الامام (عليه السلام) قوله « السنة الصدق »، وهذا التعبير من التعبيرات القرآنية، ورد في قوله تعالى «واجعل لي لسان صدق في الآخرين»، ولسان الصدق لاينطق إلا صدقاً يقول ابن ابي الحديد «جعلهم كأنهم ألسنة صدق، لايصدر عنها قول كاذب اصلاً، بل هي كالمطبوعة على الصدق». وكأنهم خُلقوا ليكونوا كذلك.
ويقول الامام (عليه السلام) في موضع آخر من النهج «هم أساس الدين، وعماد اليقين، اليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة».
فأساس الدين هنا مأخوذ من قولهم: الأساس: أصل البناء، وهو جمع أس، فيكون اهل البيت (عليهم السلام) أصلاً للدين، عليه يعتمد بناؤه، ومنهم تتفرع فروعه، وبقوتهم تتماسك قوته واليهم تلتفت مرجعيته.
واما ان يكون الاساس مأخوذاً من قولهم: أس الانسان: قلبه لانه اول متكوّن في الرحم، فهم قلب الدين الذي تكوّن اولاً، وهو اصل الحياة، الذي ان نُزع من موضعه كانت النهاية.
أما (عماد اليقين) الذي يريده الامام (عليه السلام) فهو مرتبط بالعبارة السابقة (اساس الدين)، لانَّ الآراء - في زمن الامام – تباينت، فتفرقت القلوب، وصار المسلم محتاجا ً الى من يبعث الطمأنينة في صدره، وهنا يظهر أثر أهل البيت، اذ سيجد فيهم المسلمون عماداً ليقينهم، يُبعدهم عن التشذر والتشتت.
«اليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق التالي »: جعل الامام (عليه السلام) أهل البيت هنا كالمقنب الذي يسير في الفلاة، والمقنب جماعة الخيل والفرسان زهاء ثلثمائة.
فالذي يغلو في سيره ويتقدم على المقنب ( أهل البيت ) يرجع اليهم اذا خاف العدو واذا خشي التيه والهلاك لبعده عن (مقنبه).
أما من تخلف عن (المقنب)، وصار تالياً له، فسيلحق به «اذا أشفق من أن يتخطف»، فالافتراق عن أهل البيت مهلكة وضياع.
وأهل البيت من جهتهم – يطمعون في لم شعث المسلمين (الغالي والتالي) على السواء، فاذا تيسرت لهم وسيلة إلى ذلك تمسّكوا بها وأمسكوا عمّا سواها، يقول الامام (عليه السلام) «... فاذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها».
أما قوله «خصائص حق الولاية»، فنقول الآتي: ـ
إنَّ هذه القضية في مقدمة القضايا التي قادت المسلمين إلى الفرقة والتناحر والتشتت، والسعي وراء سلطان الدنيا، والجفاء لخلود الآخرة، وسيكون مجدياً تماماً أن نقف عند خصائص حق الولاية التي يشير اليها الامام (عليه السلام) هنا.
لنتأن إذن قبل الحكم في جزئيات هذه القضية، ونضع أيدينا على مقاربة معرفية، تتمثل في أنَّ (حق الولاية) لله سبحانه وتعالى وللرسول (صلى الله عليه وآله) ولأولي الأمر، لقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا» ولا تكتمل هذه المقاربة التي أشرنا اليها الاّ بمعرفة أولي الأمر.
تحمل الآية الكريمة أمراً من الله تعالى للمؤمنين باطاعة الله وباطاعة الرسول وأولي الأمر منهم. فعلينا اذن أن نستنبط دلالة (أولي الأمر) من سياق الآية أولاً، مع استشارة المفسرين لنتثبت مما نقول، بغية الوصول إلى الفهم المقنع الذي سيعيننا على معرفة (خصائص حق الولاية).
انقسمت الطاعة في الآية الكريمة على طاعتين: طاعة الله تعالى وطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر، بمعنى ان طاعة اولي الأمر جزء من طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبدلالة عجز الآية المباركة، اذ يُرد التنازع في أي شيء إلى الله والى الرسول، وكأن الاشارة الاولى لـ(اولي الأمر) أغنت عن الثانية، فلم يذكر (أولو الأمر) مع الرسول لأنهم جزء منه بدلالة صور الآية، وهذا اسلوب معهود في القرآن الكريم.
ومن هنا فلا يمكن أن يكون (ولي الأمر) مطاعاً الا اذا سار على نهج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القول والفعل، وهذا قد لا ينطبق على السلاطين والأمراء أو أهل العلم الذين أشار اليهم المفسرون، وعدوهم مقاصد لدلالة (أولي الأمر) في الآية الكريمة.
وتوجيه المفسرين هذا يخلو من أي ضابط معرفي، وهو كلام عام، يجعل (ولاة الأمور) لا حصر لعددهم بين المسلمين في الأزمان المختلفة، ناهيك عن أن السير على منهج النبي (صلى الله عليه وآله) في القول والفعل، صار ركيزة خلاف بين المسلمين في العصور كلها، فما من فرقة من المسلمين الا وترى نفسها انها الأقرب إلى هذا الذي نقوله. وهنا نقول اننا أردنا البيان فجاءنا المفسرون بالغموض.
ولننظر الآن في آية اخرى في سورة النساء نفسها ورد فيها ذكر (أولي الأمر): «.... ولو ردّوه إلى الرسول والى اولي الأمر منهم العلمه الذين يستنبطونه منهم»
فأولو الأمر هنا – وبحسب السياق – هم الذين يقدرون على استنباط المعنى، ومن يقدر على ذلك يُعطي للقرآن أحسن تأويل بحسب الآية.
ان الاستنباط المشار اليه الذي لا يقدر عليه الا الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولو الأمر، وهذا ما يقدمه النص الكريم، سيكون هو الأصل في خصائص الولاية التي أشار اليها الامام (عليه السلام) في قوله السابق.
واذا اردنا أن نعيد صياغة الفكرة السابقة بعبارة اخرى نقول: ـ ان ولي الأمر الذي تتجسد فيه خصائص الولاية، هو من يعرف دلالات القرآن الكريم كلها، ويستنبط منها ما يغني المسلمين في حياتهم.
ولما كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء «ونزلنا عليك القرآن تبياناً لكل شيء» ، فان ولي الأمر هو الذي يعرف الوجود كله (بعد الرسول) (صلى الله عليه وآله)، لأن كل الوجود هو (كل شيء) الوارد في الآية المباركة.
ومن هنا فان القصور العقلي ومن ثم القصور المعرفي الذي يترتب عليه، يُبعد المسلم الحقيقي عن التفكير في ان يكون ولياً للأمر على وفق هذه الرؤية، وليس رؤية الولاية والسلطان والجاه والفقه والامره.
ويدع الأمر يذهب إلى أهله الحقيقيين، وهم أهل البيت (عليهم السلام) بحسب نص الامام. فهم الذين يمتلكون (حق الولاية)، ومن هنا توافق وصف الامام لأهل البيت (عليهم السلام) مع وصف القرآن الكريم لـ (أولي الأمر).
واذا اردنا أن نتبين من (أولي الأمر) في الحديث النبوي الشريف، لنتمنّ ما أفرزته لنا هذه القراءة لنص نهج البلاغة، فسنجد نصوصاً صريحة تدل على ما نريد، فقد ورد في الحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) : انَّ أولي الأمر في الآية السابقة هم «الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله)»، وقد اعتمد على هذا الحديث جمع من مفسري القرآن الكريم .
ومن هنا فأن ما قرأناه يقوي رواية الحديث وتوجيه المفسرين.
ولعل عودة سريعة إلى اشارة أوردها القرطبي في تفسيره تكشف لنا ان الذي يقدر على استنباط المعنى هو الامام علي (عليه السلام) يقول «وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل – وهو ستة أشهر – من قوله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، وقوله (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، فاذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستة أشهر».
بقي من النص قوله (عليه السلام) «وفيهم الوصية والوراثة».
يشير الامام (عليه السلام) هنا إلى وصية النبي (صلى الله عليه وآله) اليه، فكان وصيّه بحق، وشاع هذا اللقب، حتى عُرف به الامام (عليه السلام)، فاذا قيل الوصي، لا ينصرف الذهن الاّ اليه.
يقول ابن أبي الحديد «أما الوصية فلا ريب عندنا، انَّ علياً (عليه السلام) كان وصي رسول الله، وان خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد» .
ووصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعني شؤون الدين والدنيا والعمل للآخرة. ومن جملة ذلك (النص والخلافة)، ولكنَّ ابن أبي الحديد يرى ان المراد بالوصية شيء أشرف وأجل من هذا كله .
ولعله – هنا – يستند إلى قول آخر للامام (عليه السلام) اذ يقول «... بل اندمجتُ على مكنون علم لو بحتُ به إضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة» .
ومكنون العلم المشار اليه هنا يتصل بالوصية التي تلقاها من النبي (صلى الله عليه وآله)، والتي لو كشف عنها لاضطرب سامعوه اضطراب الحبل في البئر البعيدة القعر، هلعاً وخوفاً وخشية وشفقة على أنفسهم، مما وصل اليه منهم من تقصير أو أذى.
ويقول الامام (عليه السلام) في موضع آخر من النهج عن أهل البيت (عليهم السلام) « فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، ان نطقوا صدقوا وان صمتوا لم يسبقوا ».
ومعنى (كرائم القرآن) آياته. قال تعالى «انه لقرآن كريم»، والمراد هنا من الكرائم واحد من معنيين أو الاثنين معاً:
الأول: ما ذهب اليه ابن أبي الحديد وجمع من القدماء، وتابعهم الشيخ محمد عبده. وهو ان المراد بهذا الآيات الكريمات التي نزلت في أهل البيت (عليهم السلام).
والقرآن كله كريم، وهذه الآيات هي كرائم من كرائم.
الثاني: وفيه المعنى الاول، وتنضم اليه دلالة اخرى، توازي الدلالة الاولى، وتنطوي عليها بوصفها الحاضنة الكبرى، وهذه الدلالة تكمن في انّ (كرائم القرآن) يجسدها أهل البيت في عقولهم ومعارفهم وسلوكهم واحوالهم، فهم «القرآن الناطق والثقل الصادق، لأن القرآن لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان» ، وهم الذين يترجمونه بما وهبهم الله تعالى.
أما قوله (كنوز الرحمن)، فالكنز في اللغة «المال المدفون تحت الأرض وكل كثير مجموع يتنافس فيه كنز» ، والكنز فيه من النفاسة ما يجعله محلاً للتنافس، وما دام أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الوصف فهم كنوز الرحمن، والله سبحانه وتعالى يدّخر كنوزه لعباده.
وقد يُفسر الكنز بالعلم والصحف – كما فسر ابن عباس كنز أهل الكهف في قوله تعالى «وكان تحته كنز لهما» وهذا التوجيه للكنز يتماهى مع ما عُرف عن علم أهل البيت (عليهم السلام) وصحفهم. فعلمهم أشهر من أن يُشار اليه، وصحفهم وما فيها يمكن أن تكون (صحيفة فاطمة) (عليها السلام)، تصديقاً لها. والسياق يرجح هذا التوجيه، بمعونة المناسبة التي تنتظمه.
ومن جملة علم أهل البيت (عليهم السلام) معرفتهم بما في (كرائم القرآن) من معانٍ واسرار. ويمكن أن نلحظ شيئاً من هذا في هذه الرواية، التي تقول: ان الامام (عليه السلام) وصف جابراً بن عبد الله الأنصاري بالعلم، فقيل له: أنصف جابراً بالعلم، وأنت أنت، فقال: انه كان يعرف تفسير قوله تعالى «انَّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد» .
فتفسير آية واحدة، منح مفسرها العلم، بشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) فما بالك إذن بمن عنده العلم الذي كتمه عن أصحابه، رأفة بهم أو اشفاقاً عليهم – كما مر بنا –
ورب معترض يقول: ان القرآن نزل بلغة العرب، ومن يتقن هذه اللغة ويعرف أسرار التعبير بها، قد يقدر على تفسير القرآن.
ونجيب هنا عن هذا الاعتراض بالقول: ان من يمتلك هذه الصفات قد يفهم بعض معاني القرآن، وهي المعاني الظاهرة. يقول صاحب البرهان: «... وانما يفهم بعض معانيه، ويطلع على أسراره ومبانيه، من قوي نظره، واتسع مجاله في الفكر وتدبره، وامتد باعه ورقت طباعه، وامتد في فنون الأدب وأحاط بلغة العرب» .
أما المعنى الباطن فيتعذر الوصول اليه، الا ببيان نبوي، وهذا ما حصل عليه الامام (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) فهو وصيّه وباب مدينة علمه – كما سيرد -. ومن هنا يمكن أن نفهم تماماً قول السيوطي في الاتقان.
عن الامام (عليه السلام) «انَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف الاّ وله ظهر وبطن، وانّ عليَّ بن ابي طالب عنده منه الظاهر والباطن».
وثمة نص آخر ورد في النهج، يتصل بهذه النصوص، ويتعانق معها في بيان لطائف كرائم (أهل البيت)، وبيان علمهم، ورسخوهم فيه.
يقول الامام (عليه السلام): «اين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا» .
يستفهم الامام (عليه السلام) استفهاماً انكارياً، عن اولئك الذين يدعون أنهم راسخون في العلم دون أهل البيت (عليهم السلام). فكيف أدّعوا ذلك ؟
ان الاجابة عن هذا السؤال تستدعي العودة إلى الآية الكريمة التي ورد فيها ذكر (الراسخون في العلم). وهي الآية السابعة من سورة آل عمران.
قال تعالى: «هو الذي أنزل عليك الكتاب، فيه آيات محكمات هنّ ام الكتاب واخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله، وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم، يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا أولو الالباب» .
لقد اختلف المسلمون في قوله تعالى (والراسخون في العلم)، فقالت طائفة هو معطوف على اسم الجلالة، فيكون تأويل القرآن من علم الله تعالى وعلم (الراسخون في العلم)، وتكون (يقولون) حال.
أما الطائفة الاخرى من المسلمين، فتقول ان (والراسخون في العلم) الواو للاستئناف و(الراسخون في العلم) مبتدأ، خبره (يقولون) .
وقول الامام (عليه السلام)، يمتّن الرأي الأول ويقويه، ويضعف الرأي الثاني، فضلاً عن الضعف الذي يتسرب من المعنى المترشح للآية، فعلى وفق هذا يقول الراسخون في العلم: آمنا به كل من عند ربنا، وهذا «قول عامة المسلمين، فأنهم يعتقدون بأن القرآن كله من عند الله تعالى، بلا فرق بين عالمهم وجاهلهم وأهل البادية والسوق منهم، وسياق الآية سياق مدح... فيختص بقوم خاص ولا يعمّ كل من قرأ القرآن».
وفي المعجم الراسخ في العلم: الذي دخل فيه دخولاً ثابتاً وكل ثابت راسخ ومنه الراسخون في العلم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الراسخ في العلم والداخل فيه دخولاً ثابتاً، ومن تعلّم منه (وهم أهل البيت) هم أيضاً راسخون في العلم.
وهنا لا أرى مسوغاً للنظر في تفسير ابن الاعرابي للراسخين في العلم. اذ عدّهم (الحفاظ المذاكرون).
فنص الامام (عليه السلام) يحتّم علينا أن نوجه الاعراب بحسب المعنى، ومقولة (الاعراب فرع المعنى) تزداد لمعاناً هنا، وهي أيضاً تجبرنا على الأخذ بالقبول: ان التأويل من اختصاص الله تعالى، و(الراسخون في العلم)، وبصياغة اخرى: هو من اختصاص الله تعالى ومن ثم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم أهل البيت (عليهم السلام).
والآن ظهر كذب من يدّعي انه راسخ بالعلم دون أهل البيت – بحسب نص الامام (عليه السلام) وظهر بغيه: والبغي: الاستطالة على الناس، والبغي: الظلم والفساد، فهذا المدعي كاذب ومعتد على أهل البيت وباغ وظالم، لأنه قد يوهم بعض المسلمين بدعواه ويفسّر القرآن على هواه، فتجتمع فيه هذه الصفات كلها.
وبعد هذه القراءة التي اعتمد التأويل سبيلاً لها، في بيان صورة أهل البيت (عليهم السلام) في نهج البلاغة نخلص الى بعض النتائج التي توصل اليها البحث.
اولاً: ان قراءة نهج البلاغة قراءة تأويلية، كشفت لنا عن حمولات غنية من المضامين الفكرية والجمالية والتربوية، لم يلتفت اليها من قبل – فيما اظن-.
ثانيا: انَّ دلالات النصّ في نهج البلاغة تنفتح على دلالات قد لاتنتهي، والتأمل كفيل بالكشف عن بعض تلك الدلالات التي تثري المعرفة الانسانية.
ثالثاً: يمكن ان تصحح بعض الاحاديث النبوية، استناداً الى ما جاء في اقوال الامام (عليه السلام) وخطبه وحكمه.
رابعاً: قد يصح ان ينظر في بعض آراء المفسرين، استناداً الى نص النهج في المواطن التي ذكرها الامام (عليه السلام).
وفي الختام عسى الله تعالى ان ينفع بهذا البحث من يريد ان يتلمس بعضاً من شذرات اقوال الامام علي (عليه السلام) .