للأستاذ إمتياز عليخان العرشي
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للَّه الذي هدانا إلى مناهج الإيمان والإسلام . وأرشدنا إلى معالم الحلال والحرام . والصلاة والسلام على نبينا نبي الرحمة الذي نبع من دوحة اللسن والفصاحة . وعلى آله أهل بيت الرحمة لا سيما على ابن عمه ووزيره ووصيه وخليفته في أمته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه صلوات اللَّه الملك الغالب .
اما بعد : فإنّ كتاب « نهج البلاغة » مجموع انتخبه الشريف أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي المعروف بالسيد الرضي - رضوان اللَّه عليه - من كلام الإمام أبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللَّه وسلامه عليه .
وجعله على ثلاثة أبواب : الخطب . الرسائل والحكم في الآداب والمواعظ .
هذا الكتاب الشريف أشرف الكتب بعد كتاب اللَّه تعالى ، وكلام أمير المؤمنين أفضل الكلام وأفصحه وأبلغه بعد كلام اللَّه وكلام رسوله صلى اللَّه عليه وآله وهو دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين ، وأجمع الكلام وأنفعه وأرفعه .
نهج البلاغة كتاب يشتمل على المعارف الإلهية ، والأسرار النبوية ، والأحكام الاسلامية ، والقواعد السياسية ، يستفيد منه الحكيم الإلهي والفقيه الربانيّ ، والواعظ الصمدانيّ ، والمصلح السياسي ، وجاء فيه آداب الحرب والشجاعة ، وتنظيم العساكر والجيوش .
من طالع نهج البلاغة وتصفّحه وتعمقه يرى نفسه مع خطيب إلهي ، تارة يتكلم في التوحيد ويبحث عن أسرار الكائنات ويكشف غوامض المسائل ويشرح مكنون
العلم ، وتارة يتكلَّم عن النبوّة وصفات الأنبياء والأولياء وما يتعلق بالعباد والزهاد ، وتارة عن فنون الحرب والسياسة والجهاد والشجاعة ، وتارة يعظ الناس ويحذّرهم عن الدنيا وزينتها ، ويرغبهم بالآخرة ونعيمها .
وقد اعتنى جماعة من المتقدمين والمتأخرين بحفظه وضبطه ، وشرحه ، وجزم كلّ منهم بأنّ الكتاب من تأليفات السيد الشريف الرضي ، وغلط جماعة من علماء العامة ونسبوه إلى أخيه السيد المرتضى - رضوان اللَّه عليه - وتبعهم في ذلك عدّة من المستشرقين وتعصّب الذهبي وابن حجر ومن حذا حذوهما وخالفوا الحقّ وعدلوا عن الطريق الواضح ، وادّعوا بأنّ نهج البلاغة من كلام السيد الرضي وهو الَّذي وضعه ونسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام ، ونحن نذكر ما ذكره الشّارحون حول نهج البلاغة وأجابوا عن شبهاتهم وردّوا أقوال المخالفين والمعاندين .
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : إنّ كثيرا من أرباب الهوى يقولون إنّ كثيرا من « نهج البلاغة » كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلَّوا عن النهج الواضح ، وركبوا بنيات الطريق ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام ، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول : لا يخلو إما أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعا منحولا أو بعضه والاوّل باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين .
وقد نقل المحدثون كلَّهم أو جلَّهم والمؤرّخون كثيرا منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك ، والثاني يدلّ على ما قلنا لانّ من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الأصيل والمولد ، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاما لجماعة من الخطباء أولاء ثنين منهم فقط فلابد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقين .
الا ترى . أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفّحنا ديوان أبي تمام فوجدناه
قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض ، ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشان حذفوا من شعره قصايد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، كذلك غيرهما من الشعراء ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة .
وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كلَّه ماء واحدا ونفسا واحدا وأسلوبا واحدا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه وآية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم الباقي الآيات والسّور ، ولو كان بعض « نهج البلاغة » منحولا وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك .
فقد ظهر لك لهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السّلام واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلَّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحة كلام منقول من رسول اللَّه وآله عليه السلام أبدا وساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع .
وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب وغير ذلك ، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي صلَّى اللَّه عليه وآله والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء فلناصرى أمير المؤمنين عليه السلام أن يستعيدو إلى مثله فيما يروونه عنه من « نهج البلاغة » وغيره وهذا واضح .
وقال أيضا : حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة . قال : قرأت على الشيخ أبي محمّد عبد اللَّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب وكان صاحب دعابة وهزل ، قال : فقلت له : أتقول إنها منحولة ، فقال : لا واللَّه ، وإني لأعلم أنها كلامه ، كما أعلم أنك مصدق .
قال : فقلت له : إنّ كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي - رحمه اللَّه - تعالى ، فقال : أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب ، قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر .
ثم قال واللَّه لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتى سنة ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي .
قلت وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلَّمى الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه اللَّه تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه اللَّه تعالى موجودا .
قال الشيخ محمّد عبده : فقد أوفي لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب « نهج البلاغة » مصادفة بلا تعمل أصتبه على تغير حال . وتبلبل بال ، وتزاحم أشغال ، وعطلة من أعمال ، فحسبته تسلية وحيلة للتخلية ، فتصفّحت بعض صفحاته ، وتأملت جملا من عباراته ، من مواضع مختلفات ومواضيع متفرقات .
فكان يخيل لي في كلّ مقام أنّ حروبا شبّت ، وغارات شنّت ، وأنّ للبلاغة دولة ، وللفصاحة صولة ، وأن للأوهام عرامة ، وللريب دعارة ، وإنّ جحافل الخطابة وكتاب الدراية ، في عقود النظام ، وصفوف الانتظام ، تنافح بالصفيح الأبلج ، والقويم الاملج إلى أن قال : وإنّ مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة ، هو حامل لوائها الغالب ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغير المشاهد ، وتحوّل المعاهد . فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواحا عالية ، في حلل من العبارات الزاهية .
وطورا كانت تنكشف لي الجمل عن وجوه باسرة ، وأنياب كاشرة ، وأرواح في أشباه النمور ، ومخالب النسور ، وقد تحفزت للوثاب ، ثمّ انقضت للاختلاف ، فخلت القلوب عن هواها ، وأخذت الخواطر دون مرماها ، واغتالت فاسد الأهواء ، وباطل الآراء .
وأحيانا كنت أشهد أنّ عقلا نورانيا ، لا يشبه خلقا جسدانيا ، فصل عن الموكب الإلهي ، واتصل بالروح الإنساني ، فخلعه عن غاشيات الطيبة ، وسما به إلى الملكوت الاعلى . ونما به إلى مشهد النور الأجلى ، وسكن به إلى عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس .
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الحكمة ، وأولياء أمر الأمة ، يعرفهم مواقع الصواب ويبرهم مواضع الارتياب ، ويحذرهم مزالق الاضطراب ، ويرشدهم إلى دقائق السياسة ويهديهم طرف الكياسة ، ويرتفع بهم إلى منصفات الرئاسة ، ويسعدهم شرف التدبير ، ويشرف بهم على حسن المصير .
ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي - رحمه اللَّه - من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه جمع متفرقة وسماه هذا الاسم « نهج البلاغة » ولا أعلم أسما أليق بالدلالة على معناه منه ، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه ، ولا أن أتى بشيء في بيان مزيته فوق ما أتي به صاحب الاختيار .
قال محمّد محيي الدين : كتاب نهج البلاغة وهو ما اختاره الشريف الرضي أبو - الحسن محمّد بن الحسن الموسوي ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي اللَّه عنه ، وهو الكتاب الذي جمع بين دفيته عيون البلاغة وفنونها ، وتهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة ودنا منه قطافها .
إذ كان من كلام أفصح الخلق - بعد الرسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - منطقا ، وأشدّهم اقتدارا ، وأبرعهم حجة ، وأملكهم للغة يديرها كيف شاء الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه ، والخطيب الذي يملأ القلب سحر لسانه ، العالم الذي تهيأ له من خلاط الرّسول وكتابة الوحي ، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه ، منذ حداثته ما لم يتهيأ لأحد سواه .
وليس من شك عند أحد من أدباء هذا العصر ، ولا عند أحد ممّن تقدمهم في أنّ أكثر ما تضمنه نهج البلاغة ، من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام ، نعم ليس من شكّ عند أحد في ذلك ، وليس من شكّ عند أحد في أنّ ما تضمّنه الكتاب جار على النهج المعروف ، عن أمير المؤمنين ، موافق للأسلوب الذي يحفظه الأدباء والعلماء .
فقد سبق إلى التشكك في شأن الكتاب ، واستبعاد نسبة جميع ما فيه إلى الإمام علي - رضي اللَّه عنه - قاضى القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الأربلي ولعلّ أبا العباس أول من أثار الشكوك في قلوب الباحثين بنسبة الكتاب إلى الشريف الرضي تأليفا ، ثم جاء من بعده الصفدي وغيره من كتاب التراجم ، فتابعوه على ذلك وحينئذ قوي الشكّ وتمكَّن .
شروح النهج
قد تصدّى لشرحه جماعة من فطاحل العلماء وجهابذة الأدباء منذ عصر المؤلَّف إلى زماننا هذا وبيّن كلّ منهم ما حوى « نهج البلاغة » من الحكم والأسرار ، وأوضحوا مشكلاته ، وشرحوا غوامضه ، وأول من شرحه السيد علي بن الناصر المعاصر لسيدنا الشريف الرضي ، شرحه وأسما شرحه « أعلام نهج البلاغة » وذكر العلامة المحقق الشيخ عبد الحسين الأميني - رحمه اللَّه - في المجلد الرابع من « الغدير » إحدى وثمانين شرحا لنهج البلاغة .
اسناد النهج إلى السيد الشريف الرضي
كلّ من شرح « نهج البلاغة » أو تكلم فيه ، وكذا علماء الرجال وأرباب التراجم الذين ذكروا السيد الرضي في كتبهم ، لم يشكَّوا بأنّ نهج البلاغة من تأليفاته وصرّحو بنسبة الكتاب إليه ، ومن أراد الزيادة في ذلك فليراجع كتب رجال الشيعة وسلسلة الإجازات ونحن نذكر ما ذكره العلامة الأميني - قدس سرّه - في « الغدير » .
١ - إجازة الشيخ محمّد بن علي بن أحمد بن بندار للشيخ الفقيه أبي عبد اللَّه الحسين برواية الكتاب في جمادى الأخرى سنة ٤٩٩ .
٢ - إجازة الشيخ علي بن فضل الحسيني لعلي بن محمّد بن الحسين المتطبب برواية الكتاب في رجب سنة ٥٨٩ : ٣ - إجازة الشيخ نجيب الدين يحيى بن أحمد بن يحيى الحلَّي للسيد عز الدين الحسن بن علي المعروف بابن الأبرز برواية الكتاب في شعبان سنة ٦٥٥ .
٤ - إجازة العلامة الحلَّى لبني زهرة في سنة ٧٢٣ .
٥ - إجازة السيد محمّد بن الحسن بن أبي الرضا العلوي جمال الدين بن أبي المعالي سنة ٧٣٠ .
٦ - إجازة فخر الدين محمّد بن العلامة الحلَّى لابن مظاهر في سنة ٧٤١ .
٧ - إجازة شيخنا الشهيد الأول للشيخ ابن نجدة سنة ٧٧٠ .
٨ - إجازة الشيخ علي بن محمّد بن يونس البياضي صاحب الصراط المستقيم للشيخ ناصر بن إبراهيم البويهي الحساوي سنة ٨٥٢ .
٩ - إجازة الشيخ على المحقق الكركي للمولى حسين الاستراباري في سنة ٩٠٧ .
١٠ - إجازة الشيخ المحقق الكركي للشيخ إبراهيم سنة ٩٣٤ .
١١ - إجازة المحقق الكركي للقاضي صفي الدين عيسى سنة ٩٣٧ .
١٢ - إجازة الشهيد الثاني للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي في سنة ٩٤١ .
١٣ - إجازة الشيخ حسن بن الشهيد الثاني الكبيرة .
١٤ - إجازة الشيخ أحمد بن نعمة اللَّه بن خاتون للمولى عبد اللَّه التستري في سنة ٩٨٨ .
١٥ - إجازة الشيخ محمّد بن أحمد بن نعمة اللَّه بن خاتون للسيد ظهير الدين الهمداني في سنة ١٠٠٨ .
١٦ - إجازة العلامة المجلسي الاوّل لتلميذه آقا حسين الخوانساري سنة ١٠٦٢ .
١٧ - إجازة العلامة المجلسي الأول الكبيرة لولده العلامة المجلسي المؤرخة سنة ١٠٦٨ .
١٨ - إجازة الشيخ صالح بن عبد الكريم للمولى محمّد هادي بن محمّد تقى الشولستاني سنة ١٠٨٠ .
١٩ - إجازة المجلسي الثاني للسيد مرزا إبراهيم النيسابوري سنة ١٠٨٨ ه .
٢٠ - إجازة العلامة المجلسي للسيد نعمة اللَّه الجزائري سنة ١٠٩٦ .
قد صرح هؤلاء الأعلام في إجازاتهم بانتساب نهج البلاغة إلى السيد الشريف الرضي ، ومن هنا يظهر فساد قول ابن خلكان والذهبي وابن حجر حيث قالوا وادعوا : بأنّ نهج البلاغة منحول متقول واتهموا الشريف الرضي بأنه وضع نهج البلاغة ، ونسب إلى الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام .
هذا ادعاء باطل ، ليس لهم دليل ولا برهان ، وإنما نشأ هذا القول من التعصب الشديد وجهلهم وعنادهم ، والسيد الشريف الرضي - رضوان اللَّه عليه - أجلّ شأنا وأكرم أرومة ، وأعظم موقفا ، من هذا الاتهام ، وهو الثقة الجليل ، العالم الزاهد ، الممدوح بكلّ لسان ، والمعظم في كل زمان نعوذ باللَّه من العصبية والكذب والافتراء .
مؤلف استناد نهج البلاغة
الأستاذ المحقق ، والبحاثة المدقق ، امتياز على خان العرشي الرامفوري الهندي من كبار علماء الاسلام وفضلائهم بالهند ، وهو اليوم أمين مكتبة « رضا » برامفور ، وقد تشرّفت بزيارته في مكتبه ومنزله برامفور واستفدت منه كثيرا وذلك في سنة ١٣٨٩ .
ولد الأستاذ برامفور وتعلَّم هناك واستفاد من علماء الهند ، ثم شرع في التأليف والتحقيق ، وحقّق متونا كثيرة وأشرف على طبع بعض الكتب الفارسية والعربية ، وهو عارف باللغات العربية ، والفارسية والإنجليزية إلى جانب اللغات الهندية .
استدعاه النواب السيد « رضا على خان » المعروف بنواب رامفور وفوض إليه أمر مكتبته ، وتلك المكتبة الكبيرة ، العامرة التي تعدّ اليوم من أعظم مكتبات الهند والشرق الأوسط ، وفيها أربعة عشر ألف من الكتب المخطوطة بالعربية والفارسية وبعضها منحصر بتلك المكتبة ولا يوجد في غيرها ، مثل كتاب « خصائص الأئمة » تأليف الشريف الرضي .
وقد رتب الأستاذ العرشي فهارس جامعة للمكتبة ، وكتبها باللغة الإنجليزية في مجلَّدات ، وخدم الملأ العلمي بمجاهدته وسعيه ، وكتابه « استناد نهج البلاغة » دليل على تبحّره ، ودقة نظره وحسن انتخابه ، والف الأستاذ كتابه هذا باللغة الإنجليزية وأجاب عن الشبهات التي جاءت حول النهج ، وقال لي : « إني ألفت هذا الكتاب لأمير المؤمنين عليه السّلام » وفقه اللَّه وأيده لمرضاته .
يعد كتاب « نهج البلاغة » من الكتب التي لها أسمى مكانة في الأدب العربي وهو يحتوي على نخبة من خطب سيدنا علي بن أبي طالب ورسائله وحكمه . ومما يضاعف الكتاب أهمية ، أن علي بن أبي طالب كان ، على بلاغته المبتكرة ، أحد الخلفاء الراشدين ، أو إماما معصوما عند طائفة من المسلمين .
والشائع بين أبناء الأدب أن مؤلف الكتاب ، هو الشريف الرضي ذو الحسين أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي الشيعي ( ٤٠٦ ه ، ١٠١٥ م ) .
وكان أخوه الأكبر الشريف المرتضى ذا المجدين علي بن الحسين المشهور بعلم الهدى ( ٤٣٦ ه ، ١٠٤٤ م ) .
روى ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الشقشقية عن أستاذه أبي الخير مصدق بن شبيب الواسطي ( ٦٠٥ ه ، ١٢٠٨ م ) أنه قال : « قرأت على الشيخ أبي محمد عبد اللَّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة . . . . فقلت له : « أتقول إنها منحولة » فقال : « لا واللَّه ،وإني لأعلم أنه كلامه كما أعلم أنك مصدق » .قال فقلت له :« إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه اللَّه تعالى» .
فقال : « أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضي ، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر » . ( شرح نهج البلاغة ، ج ١ ص ٤٠ ) .
وقال ابن أبي الحديد في محل آخر : « إن كثيرا من أرباب الهوى يقولون إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره . وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلوا عن النهج الواضع ، وركبوا بنيات الطريق ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام » . ( أيضا ج ١ ص ٥٤٣ ) .
ويظهر مما سبق أن كثيرا من علماء القرن السادس الهجري كانوا يزعمون أن معظم ما في نهج البلاغة لا يصح إسناده إلى علي بن أبي طالب ، وإنما ألفه قوم من فصحاء الشيعة ، من بينهم السيد الرضي .
وقال ابن خلكان ( المتوفي ٦٨١ ه ، ١٢٨٢ م ) في كتابه « وفيات الأعيان » حين ترجمته للشريف المرتضى : « قد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الامام علي بن أبي طالب رضى اللَّه عنه ، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي .
وقد قيل : إنه ليس من كلام على . وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه واللَّه أعلم » . ( ج ١ ص ٤٧٨ ) .
ولا يكاد يختلف من قول ابن خلكان هذا ، أقوال ابن الأثير الجزري في مختصر الوفيات وصلاح الدين الصفدي في « الوافي بالوفيات » والعلامة اليافعي في« مرآة الجنان » . ( ج ٣ ص ٥٥ ) وابن العماد في شذرات الذهب ( ج ٣ ص ٢٥٧ ) .
فهم جميعا أعادوا في ترجمة الشريف الرضي قول ابن خلكان ، مما يدلنا على أنهم الآخرين وافقوه على هذا الرأي .
وقال العلامتان الذهبي ( المتوفي سنة ٧٤٨ ه ، ١٣٤٧ م ) في ميزان الاعتدال ( ج ٢ ص ٢٠١ ) وابن حجر العسقلاني ( المتوفي ٨٥٢ ه ، ١٤٤٨ م ) في « لسان الميزان » ( ج ٤ ص ٢٢٣ ) : « وهو ( الشريف المرتضى ) المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة . وله مشاركة قوية في العلوم ، ومن طالع كتابه « نهج البلاغة » جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين على رضى اللَّه عنه ، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر ، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم من بعدهم من المتأخرين ، جزم بأن أكثره باطل » .
ونستنتج من أقوال ابن خلكان ومن حذا حذوه :
١ - أن العلماء اختلفوا في مؤلف نهج البلاغة ، فمنهم من نسبه إلى الشريف المرتضى ، ومنهم من عزاه إلى الشريف الرضي .
٢ - أن المرجح عندهم أن جامعه هو الشريف المرتضى ، بدليل أنهم تعرضوا لذكر الكتاب في ترجمة الشريف المرتضى .
٣ - أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن ما في نهج البلاغة من الخطب والحكم ليست من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، بل وضعها جامعه وعزاه إلى أمير المؤمنين .
وأما العلامتان الذهبي والقسطلاني ، فواضع الكتاب عندهما هو الشريف
المرتضى ، وهو الذي نسبه إلى علي بن أبي طالب رضى اللَّه . وذلك لأن الكتاب فيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضى اللَّه عنهما وتتناقض بياناته ويشتمل على الأشياء الركيكة والعبارات التي لا تتفق ونفس الصحابة ، وتقرب من طباع المتأخرين .
وفيما يلي نناقش مزاعم ابن خلكان والذهبي ، ونفحص حججهما وبراهينهما لنعلم مؤلفه الحقيقي ومكانة الكتاب .
المؤلف
وندرس أولا من كتب التراجم ما عاصر مؤلفوها الأخوين الشريف الرضي والشريف المرتضى ، وذكروهما في كتبهم .
١ - يتيمة الدهر ، وتتمة يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي ( المتوفي ٤٢٩ ه ، ١٠٣٨ م ) .
٢ - كتاب الرجال للعلامة النجاشي ( المتوفي ٤٥٠ ه ، ١٠٥٨ م ) .
٣ - كتاب الفهرست لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي [ المتوفي ٤٦٠ ه ، ١٠٦٨ م ] .
٤ - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي [ المتوفي ٤٦٣ ه ، ١٠٧١ م ] .
ويأتي بنا البحث في هذه الكتب إلى أن الطوسي لم يذكر الشريف الرضي بتاتا ، كما لا يذكر نهج البلاغة في ترجمة الشريف المرتضى [ في فهرسته ٢١٨ ] ولا يعده من مؤلفاته . وذكر الثعالبي [ في اليتيمة ج ٢ ص ٢٩٧ وتتمتها ج ١ ص ٥٣ ] والخطيب البغدادي [ في تاريخه ج ٢ ص ٢٤٦ وج ١١ ص ٤٠٢ ] الأخوين كليهما ، لكنهما لم يذكرا شيئا عن نهج البلاغة ، وأما النجاشي فذكرهما ومؤلفاتهما
[ في كتابه ١٩٢ و ٢٨٣ ] وذهب إلى أن مؤلف نهج البلاغة هو الشريف ، ولا يخفي ما لشهادة النجاشي والطوسي من أهمية ، حتى نستطيع أن نعتمد عليها ، ونجعلها قولا فصلا ، إلا انى أرى أن أذكر شواهد أخرى ، داخلية وخارجية ، إيضاحا للحقيقة وقضاء على جميع الملتبسات والموهمات .
قال المؤلف في خطبة الكتاب : « فاني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن ، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام . يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم ، حدانى عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب ، وجعلته إمام الكلام ، وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الزمان ومماطلات الأيام . وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا ، وفصلته فصولا ، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في الحكم والأمثال والآداب ، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة . فاستحسن جماعة من الأصدقاء والاخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره ، معجبين ببدائعه ، ومتعجبين من نواصعه ، وسألونى عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وآداب . إلخ » [ نهج البلاغة ج ١ ص ١ ] .
ويظهر من كلامه هذا أن جامع نهج البلاغة جمعه بعد تاليف كتابه خصائص الأئمة ،ويؤيده ما قال الجامع في شرح الخطبة العشرين :«قد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها»[ ج ١ ص ٥٤ ] .
توجد من « خصائص الأئمة » نسخة ثمينة قديمة في مكتبة رامبور ، وفي ختامها أن كاتبه عبد الجبار بن الحسين بن أبي القاسم الحاج الفراهانى فرغ من كتابتها سنة ٥٥٣ ه [ ١١٥٨ م ] ، وكتب الكاتب نفسه بخطه : « كتاب خصائص الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، تصنيف السيد الإمام الرضي ذي الحسين أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي رضى اللَّه عنه » .
وتدل هذه العبارة أن مؤلفه هو الشريف الرضي ، ويؤيده كذلك نص الإجازة المكتوبة تحت اسم المؤلف ففيه أن عبد الجبار قرأ الكتاب على أبي الرضا فضل اللَّه بن علي الحسين الراوندي في ذيقعده ٥٥٥ ه [ ١١٦٠ م ] واستجازه عن أبي الفتح إسماعيل بن الفضل أحمد الأخشيد السراج عن أبي المظفر عبد اللَّه بن شبيب عن أبي الفضل الخزاعي وكان تلميذا للشريف الرضي ، ويظهر من هذا أن فضل اللَّه الراوندي كان الآخر يرى أن مؤلف كتاب الخصائص هو الشريف الرضي .
ويؤيده ما ذهب إليه النجاشي في كتاب الرجال [ ٢٨٣ ] حيث عد كتاب الخصائص من مؤلفات الشريف الرضي .
وأقوى الدلائل هي العبارات الواردة في الكتاب نفسه .
ففي شرح قول أمير المؤمنين « قيمة كل امرئ ما يحسنه » : « قال السيد الرضي أبو الحسن رضى اللَّه عنه ، وهذه الحكمة التي لا قيمة لها ولا كلام يوزن بها » [ الصفحة الف ٢٠٠ ] .
وهذا إلى جانب ما ورد في الصفحات ٢٠٢ ألف و ٢٠٧ ب و ٢٠٨ ألف ، « قال الشريف الرضي رضى اللَّه عنه » مما ينص على أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي ، وفي خاتمة الكتاب أضيفت كلمة « ذو الحسنبين » إلى اسم المؤلف ولقبه وكنيته .
فإذا ثبت أن مؤلف الخصائص الشريف الرضي ، ثبت أنه كذلك مؤلف نهج البلاغة .
الدليل الثاني
ذكر النجاشي وغيره من المؤرخين أن الشريف الرضي له مؤلف آخر في تفسير القرآن موسوم ب « حقائق التنزيل » وبالأسف أن الحدثان أباده إلا مجلدا خامسا قد طبع في النجف الأشرف [ سنة ١٣٥٥ ه ، ١٩٣٧ م ] فلنلاحظ ما جاء في الصفحة ١٦٧ من هذا التفسير : « من أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك ، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه بنهج البلاغة وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع الانحاء والأغراض والأجناس والأنواع من خطب وكتب ومواعظ وحكم .
وبوبناه أبوابا ثلاثة ليشتمل على هذه الأقسام مميزة مفصلة » .
ولا خفاء في أن العبارة المذكورة لا تشير إلا إلى نهج البلاغة الذي نحن بصدده وتوكد أن مؤلفه هو صاحب حقايق التنزيل ، وهو الشريف الرضي كما حققنا
الدليل الثالث
يعد العلامة النجاشي وغيره « كتاب مجازات الآثار النبوية » من مؤلفات الشريف الرضي ، ونجد في نسخته المطبوعة ما نصه : « يبين ذلك قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلام له « تخففوا تلحقوا » . وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه ، [ ص ٢٢ ] .
وفي الصفحة ٤١ من نفس الكتاب :
« ومثل ذلك قول أمير المؤمنين علي عليه السلام من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة . . . . وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة » .
يشير المؤلف في العبارة المذكورة إلى الحكم والأمثال التي أوردها في نهج البلاغة . وبما أنه لا خلاف في أن مؤلف المجازات هو الشريف الرضي ، يثبت أن نهج البلاغة كذلك تأليفه ، ويليق بنا أن نذكر أن المؤلف يشير في نهج البلاغة أيضا إلى كتابه « المجازات » . حيث يقول « وقد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم « بمجازات الآثار النبوية » [ ج ٣ ص ٢٦٣ ] .
ويريد المؤلف من الاستعارة المشار إليها قول أمير المؤمنين « العين وكاء السه » الوارد في كتابه « مجازات الآثار النبوية » [ ص ١٨٧ ] وفوق ذلك كله نجد بين عباراتهما في هذا المحل من تماثل وتقارب مما لا يدعنا نتخيل أن الكتابين لمؤلفين لا لمؤلف واحد .
ولا يخيل إلى أحد أن الإشارة الواردة في مجازات الآثار إلى نهج البلاغة تدل على أن المؤلف قد جمع نهج البلاغة قبل تأليفه « المجازات » ، وإلا فكيف يذكر السابق في المسبوق ، وذلك أن المؤلف قال في ختام « نهج البلاغة » [ ج ٣ ص ٢٦٧ ] : « وتقرر العزم كما شرطنا أولا على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب ليكون لاقتناص الشارد واستلحاق الوارد وما عسى أن يظهر لنا بعد الغموض ، ويقع إلينا بعد الشذوذ » .
ولا نجد نسخة من نسخ نهج البلاغة الشائعة ، مطبوعة ومخطوطة ، تشير إلى أن هذه الإشارة إلى مجازات الآثار من العبارات التي أضافها المؤلف في ما بعد ، اللهم إلا نسخة خطية توجد في مكتبة رامبور كتبها عبد الجبار كاتب الخصائص ، فنجد في خاتمة هذه النسخة بأنها منسوخة من نسخة السيد ضياء الدين تاج الاسلام أبي الرضا فضل اللَّه بن علي بن عبيد اللَّه الحسيني ، في ١٩ من جمادى الأول ٥٥٣ ه [ ١٨ يونيو ١١٨٥ ] وأن الكاتب لازم السيد ضياء الدين مدة نسخ الكتاب . وأن الكاتب قرأ الكتاب مع زميل له على تاج الاسلام سنة ٥٥٤ ه .
وفي ختام المتن من هذه النسخة : « زيادة من نسخة كتبت على عهد المصنف رحمة اللَّه عليه وسلامه » [ ١٦٩ الف ] . فالظاهر أن كل مندرج في ذيل هذا العنوان مما أضيف إلى الكتاب فيما بعد ، ونجد الإشارة المذكورة إلى مجازات الآثار في ذيل هذا العنوان .
الدليل الرابع
نجد في بعض نسخ نهج البلاغة أن الشرح يبدأ باسم الرضي ، وأهم هذه النسخ ما صححها محمد محي الدين عبد الحميد الأستاذ بجامع الأزهر ونشرها تحت عنايته ، من مطبعة الاستقامة بالقاهرة ، وراجع المصحح ثماني نسخ ، إحداها مذيلة بشرح ابن أبي الحديد وأخرى بشرح ابن ميثم . وكان الأستاذ يراجع إلى نسخة ثمينة أخرى من شرح ابن ميثم ، ونشر كتاب نهج البلاغة بعد هذه الدراسة العميقة ، ونجد في هذه النسخة المطبوعة تارة بعد تارة : « قال الرضي أو قال الرضي أبو الحسن « ولا نكاد نظن أن المصحح هو الذي أضاف هذه الجمل إلى المتن إلا إذا وجدها في بعض النسخ الموجودة أمامه عند المراجعة ، ولا سيما نجد جميع النسخ خالية من ذكر المرتضى ، فلو كان هو المؤلف فما هو الداعي لذكر الرضي . ويؤيده ما ورد في نسختنا بمناسبة قول أمير المؤمنين حين نصحه جابرا رضى اللَّه عنه : « فمن قام للَّه فيها بما يجب ، عرضها اللَّه للدوام والبقاء ، ومن لم يقم للَّه فيها بما يجب ، عرضها للزوال والفناء » [ ج ٣ ص ٢٤٣ ] ففي حاشية نسختنا [ ١٦٥ الف ، السطر ٨ ] « في نسخة الرضي ، فان أقام بما يجب للَّه فيها عرض نعمته لدوامها وإن ضيع ما يجب للَّه فيها عرض نعمته لزوالها » .
وهذا يدلنا على أن الكاتب أو المصحح تمكن من قراءة نسخة كانت مملوكة للشريف أو بيده نفسه . وهذا كذلك يقرر أن الكتاب من تأليف الشريف الرضي .
الدليل الخامس
يبلغ عدد شروح نهج البلاغة بالعربية والفارسية ما ينيف على أربعين .
وأجمع الشراح الذين تلى أسماءهم ، على أن الكتاب من تأليف الرضي .
١ - شرح نهج البلاغة للسيد علي بن ناصر العلوي الموسوم ب « إعلام نهج البلاغة » ، وكما يظهر من المراجعة إلى كشف الحجب ، كان الشارح من معاصري مؤلف نهج البلاغة . وتوجد لهذا الشرح نسخة في مكتبة رامبور . ويقول الشارح في الورق ١٩ ب يشرح كلمة ملطاط : « قال السيد الأجل الرضي رضى اللَّه عنه ، يعنى بالمطاط السمت الذي أمرهم بلزومه » . ونجد نفس هذا الشرح في نهج البلاغة [ ج ١ ص ٩٤ ] مما يدل على أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي لا غير .
٢ - شرح الشيخ أبي الحسن ( أو الحسن ) أبي القاسم زيد بن محمد بن علي البيهقي النيشابوري المعروف ب « فريد خراسان » .
وكان الشارح أفقه عصره وأبرع المتكلمين وأستاذ الابن شهرآشوب المازندراني مؤلف مناقب آل أبي طالب [ المتوفي ٥٨٨ ه ، ١١٩٢ م ] وتوجد للشرح نسخة عند الشيخ محمد صالح بن الشيخ أحمد آل طعان القطيفي البحريني ، تدل على أن الشارح قرأ نهج البلاغة سنة ٥١٦ ه [ ١١٢٢ م ] على حسين بن يعقوب ، وقرأ يعقوب على الشيخ جعفر ، وقرأ الشيخ جعفر على الشيخ الرضي نفسه واستجازه ، فهذا السند الآخر يدل على أن المؤلف هو الشريف الرضي .
٣ - شرح ابن أبي الحديد المعتزلي [ المتوفي ٦٥٥ ه ، ١٢٥٧ م ] .
طبع هذا الشرح الممتع في إيران ومصر ، ونسب الشارح المتن في خطبة الشرح إلى الشريف الرضي وفصل الكلام على حياته ، كما ذكر غير مرة اسم الرضي .
٤ - شرح ابن ميثم البحراني [ المتوفي ٦٧٩ ه ، ١٢٨٠ م ] .
طبع هذا الشرح الآخر في إيران ، ويرى الشارح أن نهج البلاغة تأليف الشريف الرضي ويوجد غير هذه الشروح ما تلى أسمائها ، والغالب أنهم كذلك قرروا بأن المؤلف هو الشريف الرضي ، وإلا فلذكره عبد العزيز جواهر الكلام في فهرسته .
١ - شرح قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة اللَّه بن الحسن الراوندي[ المتوفي ٥٧٣ ه ، ١١٧٧ م ]المعروف ب « منهاج البراعة » .
ذكره صاحبا روضات الجنات [ ٣٠١ ] وكشف الحجب [ ٣٦٥ ] وتوجد منه نسخة في المكتبة الحكومية بطهران .
٢ - شرح النفائس المؤلف ٧٥٩ ه [ ١٣٥٨ م ] ولم يعرف اسم المؤلف ، لكنه توجد له نسخة في مكتبة رضوى .
٣ - شرح كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم العتائقي الحلى المؤلف سنة ٧٧٠ ه [ ١٣٦٨ م ] ومنه نسخة في خزانة أمير المؤمنين بالنجف الأشرف .
ومختصر القول إن هذه الدلائل قاطعة على كون الكتاب تأليف الشريف الرضي لا تأليف الشريف المرتضى أخيه الأكبر . فمن نسبه إلى الشريف المرتضى من عهد العلامة ابن خلكان إلى زمن الأستاذ بروكالمان الألمانوى فلعدم البحث الصحيح المحقق ، وإلا فكيف والدلائل باهرة جلية على كونه عمل الشريف الرضي لا أخيه الكبير المرتضى .
يتبع ......