محمد الصفّار
تناول الكثير من الكتاب والباحثين والدارسين في مختلف العصور، ومن مختلف الجنسيات، مواضيع نهج البلاغة، وألفت حوله الكثير من الشروح والقراءات والدراسات وغيرها، كما عقدت المؤتمرات والندوات التي أدارها المفكرون والمتخصصون والدارسون حول هذا السفر وما يمثله من وعي إنساني شامل.
وفي الحقيقة إن هذه التآليف والدراسات والمؤتمرات جاءت من خلال الحاجة الماسة التي يتلمسها هؤلاء الكتاب والمفكرون والمجتمع بصورة عامة إلى تعاليم هذا النهج، أو بالأحرى إلى الاقتداء بشخصية واضعه وهو، علي بن أبي طالب، (عليه السلام)م، الذي كان مثالاً لكل الصفات الإنسانية النبيلة.
إن إحدى المميزات البارزة لهذا النهج هو أنه يحاكي مفهوم الإنسانية والحضارة بأروع صورها فهو يشتمل على جميع القيم الفكرية والروحية والفلسفية والأخلاقية والجمالية والفنية التي تشكل في مجموعها الحضارة البشرية.
* شجاعة بغير القوة البدنية
لقد كان علي بن أبي طالب، (عليه السلام)م، ملتقى هذه الخصال الفريدة التي لم تجتمع في بشر قط، والتي حلقت فيها الشاعرية الإنسانية على مدى قرون طويلة، فاشترك في تعظيمه المحب والعدو وبلغ من حب بعضهم إياه أن عبده.
فلم يعرف تاريخ البشرية رجلاً اجتمعت فيه آداب الفروسية، وأخلاق الشجاعة في الحرب، والمروءة والنبل مع الأعداء بأروع صورها، كما اجتمعت عند علي بن أبي طالب، (عليه السلام)م، فقد كان مثالاً للمروءة مع الخصم، تلك المزية التي انفرد بها تاريخ علي، بين تواريخ غيره فأصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة البشرية، وإن قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون.
فرغم أنه كان يمتلك قوة جسدية بالغة وصلابة فلم يصارعه أحد إلّا صرعه، ولم يبارزه شجاع إلّا قتله، وبلغ من شجاعته في الحرب وصيته في المناجزة، أن عدّ الفرار من الحرب عاراً إلا من أمامه، إلّا أنه كان يمتلك في مقابل هذه الصفات التي لم يمتلكها غيره صفاتٍ أخرى نادرة وهي التورّع عن البغي، والمروءة مع الخصم، ونقاء في السريرة، وسلامة من الضغن والحقد والإنتقام.
ومن يتتبع سيرة علي، (عليه السلام)م، في الحرب لا يجد له نظيراً في التاريخ البشري فهو من موقع القوة لم يبدأ أحداً بقتال، فكان ينظر إلى جنود الخوارج وهم يفارقون معسكره ليحاربوه، فقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلو، وسيفعلون».
فقد كان متيقناً أنهم سيقاتلونه ولكن نبله وسمو نفسه أبت عليه أن يقاتلهم قبل أن يبادروه، وكذلك في كل حروبه فقد جاء في وصيته لابنه الحسن: «لا تدعون إلى مبارزة فإن دعيت إليها فأجب فإن الداعي باغ والباغي مصروع». كان يدعو للسلم وينهى رجاله عن البغي كما كان ينهاهم أن يجهزوا على جريح أو يتعقبوا من لاذ بالفرار.
* مروءة مصدرها المدرسة المحمدية
لقد كانت شخصية علي، (عليه السلام)م، في منتهى النبل والشجاعة منذ نعومة أظفاره وظهرت بوادر هذه الشجاعة منذ أن صدح النبي بالنبوة ونزلت آية {وأنذر عشيرتك الأقربين} فدعا، (صلى الله عليه وآله)، قومه وفيهم أعمامه أبو طالب، والحمزة، والعباس، وأبو لهب وغيرهم من بني هاشم، فقال (صلى الله عليه وآله): «إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم»، فأحجم القوم جميعاً إلّا علياً الذي قال:
«أنا يا نبي الله» فقال (صلى الله عليه وآله): «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا».
لقد كانت تلك الشرارة التي انبثق منها الإسلام، فكان علي المحامي والمدافع عن الإسلام، والمؤازر الأول لنبيه الكريم، والفدائي الذي وقاه بنفسه يوم المبيت على الفراش، والموطّن نفسه على الموت دونه.
فلما هجمت قريش على الدار وهم يظنون أن النبي فيه وقد انتضوا سيوفهم يقدمهم خالد بن الوليد، فوثب علي، وأخذ سيف خالد وشد عليهم كأنه صاعقة نزلت عليهم، فأجفلوا وارتعبوا وخرجوا من الدار، وفي بدر كان، (عليه السلام)م، أصغر القوم من المسلمين الذين بارزوا أشداء قريش ولكنه كان أشدهم بأساً، وكذلك في أحد فقد أجمعت المصادر على أنه هو الذي قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار وكانوا تسعة من أشدائهم، وكان بطلها الأوحد، وتتجلى شجاعته الفذة يوم الخندق حينما أحجم المسلمون عن قتال عمرو بن عبد ود، إلّا علي، الذي قال: «أنا له يا رسول الله»، فضربه ضربة ما كان في الإسلام أعزّ منها، وهو الذي فتح للمسلمين خيبر وقد عجز غيره عنها وقتل بطلها مرحباً. هذا هو علي، فارس المسلمين وبطلهم.
* نُبل وسط المعركة
كان يفيض شجاعة، وكان شريفاً نبيلاً حتى مع الخصم.. لقد أصاب الفرصة من قتل ألد أعدائه، عمرو بن العاص، لكن عفته وشرفه وسمو نفسه أبت له أن ينظر إلى عورة رجل جبان، فكان يريد أن يغلب عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف، رغم أن أعداءه كانوا في منتهى الخسة والوضاعة وكلما ازدادوا في دناءتهم ازداد سمواً ونبلاً.
ولو شاء أن يستغل أية فرصة تمكنه من أعدائه كما فعلوا هم، لأهلك جيش الشام من الظمأ حينما استولى جيشه على الماء، رغم أن معاوية منع الماء عن جيش العراق حينما استولى عليه، لكنه، (عليه السلام)م، أوصى أصحابه الذين أشاروا عليه بمنع الماء عن جيش الشام بقوله: «خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم فإن الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم».
كان يريد لأصحابه أن يتورعوا حتى عن الكلام الفاحش والبذيء، فلما سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام قال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب إلى القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لجّ به». كما لم تثره حمية الغضب على الإنتقام من الناكثين، (طلحة والزبير وعائشة)، حينما سمح لهم واليه عثمان ابن حنيف بالبقاء في البصرة إلى حين قدومه، (عليه السلام)م، لكنهم لم يفوا بعهدهم فهاجموا عثمان بن حنيف وهو يؤدي صلاة العشاء وكان صحابياً بدرياً جليلاً، وقتلوا أصحابه ثم نتفوا لحيته وشاربه وأوسعوه ضرباً، وأرسلوه إلى علي، واستولوا على بيت المال، ومع كل ذلك لم يحمله الغضب على التنكيل بخصومه بل كظم غيظه و واصل مسيره إلى البصرة وأرسل رسله إلى الناكثين يجادلهم بالحسنى، فكان من حرصه على السلم، وعدم إراقة الدماء، أن لا يدع فرصة دون أن يستنفدها. وينتصر، (عليه السلام)م، في المعركة فكان أول ما فعله بعد أن وضعت الحرب أوزارها أن أمر مناديه فنادى: «..أن لا يسلبن قتيل ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يحل متاع..». أجل؛ أعلن أن لا مغنم لجيشه وكل ما كان يمتلكه الناكثون مردود إليهم فأمر بجمعه في المسجد، وأرسل مناديه ينادي بأن من عرف له شيئاً له فليأخذه.
والآن لنتخيل أن هؤلاء الناكثين خرجوا على بيعة خليفة من الخلفاء الثلاثة أو الأمويين أو العباسيين أو أي ملك من ملوك التاريخ وظفر بهم ذلك الخليفة أو الملك فما سيكون مصيرهم؟! التاريخ سيجيب بدلاً عنا وسيقول أن حتى جثثهم بعد قتلهم شر قتلة، لن تنجُ من التمثيل وقطع الرؤوس، بل حتى أولادهم وبناتهم وزوجاتهم سيعاقبون شر عقاب، ولكن ماذا فعل علي، (عليه السلام)م، بعد أن ظفر بالناكثين بعد المعركة وهـــم عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وغيرهم من ألد أعدائه والمؤلبين عليه؟
لقد عفا عنهم بل إنه أرسل من نصبت له العداء، وألبت عليه الناس وقادت حرب الجمل إلى المدينة وأرسل معها أربعين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهن السيوف وهن يحفن بها من البصرة إلى المدينة.
ويطوف على قتلى الجمل فيسمع إحدى النساء بعد المعركة وهي صفية أم طلحة الطلحات، تسبه وتدعو عليه فلم يرد عليها فقال له رجل من أصحابه أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال له: «ويحك..! إنّا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات»؟ هذه هي مروءة علي ونبله، سنّها مع خصومه وألدّ أعدائه، ولم تفارقه حتى في مقتله، فكان يفيض من هذه المروءة والنبل حتى على قاتله فجاء في وصيته لابنه الحسن في الليلة التي مات فيها: «إسقه مما تشرب وأطعمه مما تأكل وإن أنا مت فاضربه ضربة بضربة، وإن أنا بقيت فأنا أولى بالعفو عنه».