وقال (عليه السلام): مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ، و َلاَ يَرْزُقُ نَفْسَهُ، وَلاَ يَدفَعُ حَتْفَهُ.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً.                

Search form

إرسال الی صدیق
الأسلوب والعبقرية الخطابية

جورج جرداق

ـ بيانٌ لو نطق بالتفريع لانقضّ على لسان العاطفة انقضاضاً. ولو هدة الفساد والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواءٌ وأصوات. ولو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحسّ وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سوقاً ووصلك بالكون وصلاً.
ـ ويندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ تموج والريح إذ تطوف.
ـ أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود وجمال الخلق فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء.
ـ ومن اللفظ ماله وميض البرق، وابتسامة السماء في ليالي الشتاء . هذا من حيث المادّة .
أمّا من حيث الأسلوب، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء. والأدب لايكون إلا باسلوب ، فالمبني ملازمٌ فيه للمعنى ، والصورة لا تقلّ في شيءٍ عن المادة . وأيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقلّ شأناً من شروط المادّة؟
وإن قسط عليّ بن أبي طالب من الذوق الفنّي ـ أو الذوق الجمالي ـ لممّا يندر وجوده . وذوقه هذا كان المقياس الطبيعيّ الضابط للطبع الأدبيّ عنده .
أمّا طبعه هذا ، فهو طبع ذوي الموهبة والأصالة الذين يرون فيشعرون، ويدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم ، وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاً عفويّاً . لذلك تميّز عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته. وما الصدق إلا ميزة الفنّ الاولى ، ومقياس الأسلوب الذي لا يخادع.
وإنّ شروط البلاغة ، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديبٍ عربيّ، كما اجتمعت لعليّ بن أبي طالب .
فإنشاؤه أعلى مثلٍ لهذه البلاغة ، بعد القرآن .

فهو موجزٌ على وضوح، قويٌّ جيّاش، تامّ الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الاذن موسيقيّ الوقت. وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدّة . ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف ، ولا سيما ساعة يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة . فاسلوب علي صريحٌ كقلبه وذهنه ، صادق كطويّته ، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة!
وقد بلغ اسلوب عليّ من الصدق حداً ترفع به حتى السجع عن الصنعة والتكلّف. فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة أبعد ما يكون عن الصنعة وروحها ، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.
فانظر إلى هذا الكلام المسجع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع : "يعلم عجيج الحوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار العامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات  [١].
أو إلى هذا القول من إحدى خطبه: "وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات ، والألسن المختلفات... الخ" [٢] .
واوصيك خيراً بهذا السجع الجاري مع الطبع : "ثمّ زيّنها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب  [٣] وأجرى فيها سراجاً مستطيراً [٤] وقمراً منيراً، في فلكٍ دائر، وسقفٍ سائر...الخ"  [٥].
فإنّك لو حاولت إبدال لفظٍ مسجوع في هذه البدائع جميعاً بآخر غير مسجوع لعرفت كيف يخبو إشراقها، ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته، وهما الدليل والمقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورةٌ فنّيةٌ يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصنعة امتزاجاً، حتى لكأنّهما من معدنٍ واحد، يبعث النثر شعراً له أوزانٌ وأنغامٌ ترفق المعنى بصورٍ لفظيّة، لا أبهى منها ولا أشهى .
ومن سجع الإمام آياتٌ ترد النغم على النّغم ردّاً جميلاً ، وتذيب الوقع في الوقع على قراراتٍ لا أوزن منها على السمع ولا أ؛بّ ترجيعاً.
ومثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثمّ هذه الكلمات الشهيّات على الاذن والذوق جميعاً: "أنا يومٌ جديد ، وأنا عليك شهيد ، فاعمل فيّ خيراً ، وقل خيراً" [٦] .
وإذا قلنا: إنّ اسلوب عليّ توفّر فيه صراحة المعنى ، وبلاغة الأداء، وسلامة الذوق الفنّي، فإنّما نشير إلى القارىء بالرجوع إلى نهج البلاغة ليرى كيف تتفجر كلمات عليّ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، وبأية حلّةٍ فنّيةٍ رائعة الجمال تمور وتجري. وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: "المرء مخبوء تحت لسانه" [٧] وفي قوله: "الحلم عشيرة" [٨] أو في قوله: "من لان عوده كثفت أغصانه" [٩]  أو في قوله: "كل وعاءٍ يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنّه يتّسع" [١٠] أو في قوله أيضاً : "لو أحبّني جبلٌ لتهافت" [١١] .
أو في هذه الأقوال الرائعة : "العلم يحرسك وأنت تحرس المال [١٢] .
رب مفتونٍ يحسن القول فيه [١٣].
إذا أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه [١٤] .
ليكن أمر الناس عندك ي الحق سواء [١٥] .
افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبيرٌ وقليله كثير [١٦] .
هلك خزان المال وهم أحياء . ما متّع غنيٌّ إلا بما جاع به فقير"  [١٧] .
ثمّ استمع إلى هذا التعبير البالغ قمّة الجمال الفني وقد أراد به أن يصف تمكّنه من التصرف بمدينة الكوفة كيف ششاء ، قال: "ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها..."  [١٨].
فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورةٍ مطلقة ولا تفوته إلا إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها.
ويبلغ السلوب عليّ قمة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجياشة ، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صورٌ حارةٌ من أحداث الحياة التي تمرس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه وتتدفّق على لسانه تدفق البحار. ويتميز اسلوبه، في مثل هذه المواقف ، بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات وباختيار الكلمات الجزلة  [١٩] ذات الرنين المتدفّق عذوبةً ومتانة، وقد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبارٍ إلى استفهامٍ إلى تعجبٍ إلى استنكار.
وتكون مواطن الوقف فيه قويةً شافيةً للنفسز وفي ذلك ما فيه من معنى البلاغة وروح الفنّ. وإليك مثلاً لهذا خطبة الجهاد المشهورة، وقد خطب عليّ بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق وقتل عامله عليها:
"هذا أخو غامدٍ قد بلغت خيله الأنبار، وقتل حسّان بن حسّان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها وقتل منكم رجالاً صالحين.
وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها، وقلبها، ورعاثها ، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلمٌ، ولا أريق لهم دم، فلو أنّ امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ، ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً [٢٠] .
فيها عجباً، والله يميت القلب ويجلب الهمّ اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ، فقبحاً لكم حين صرتم غرضاً يرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون" [٢١].
فانظر إلى مقدرة الإمام الفنية في هذه الكلمات الموجزة، فإنّه تدرّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم إلى ما يصبو إليه. وسلك إلى ذلك طريقاً تتوفّر فيه بلاغة الأداء وقوة التأثير. فإنّه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبار، وفي ذلك ما فيه من عارٍ يلحق بهم. ثم أخبرهم بأنّ هذا المعتدي إنما قتل عامل أمير المؤمنين في جملة من قتل ، وبأنّ هذا المعتدي لم يكتف بذلك فإغمد سيوفه في نحورٍ كثيرة من رجالهم وأهليهم .
وفي الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين، إلى مثار العزيمة والنخوة من نفس كلّ عربي وهو شرف المرأة.
وعلي يعلم أنّ من العرب من لا يبذل نفسه إلا للحفاظ على سمعة أمرأةٍ وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين، وما نالت رجلاً منهم طعنةٌ ولا اريق لهم دم!
ثم إنّه أبدى ما في نفسه من دهشٍ وحيرةٍ من أمرٍ غريب: فإنّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، ويدينون بالشرّ فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحقّ، فيخذلونه ويفشلون عنه.
ومن الطبيعيّ أن يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كلّ ما في نفسه من الغضب، فتأتي حارّةً شديدةً مسجعةً مقطعةً ناقمة: "فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى : يغارعليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ويعصى الله وترضون!" [٢٢] .
وقد تثور عاطفته وتتقطع، فإذا بعضها يزحم بعضاً على مثل هذه الكلمات المتقطعة المتلاحقة: "ما ضعفت ، ولا جبنت ، ولا خنت، ولا وهنت!" [٢٣] .
وقد تصطلي هذه العاطفة بألمٍ ثائرٍ يأتيه من قومٍ أراد لهم الخير وما أرادوه لأنفسهم لغفلةٍ في مداركهم ووهنٍ في عزائمهم. فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب، قائلاً : "مالي أراكم أيقاضاً نوما، وشهوداً غيبا، وسامعةً صماء ، وناطقةً بكماء الخ...؟" [٢٤].
والخطباء في العرب كثيرون، فالخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام ولا سيّما في عصر النبي والخلفاء الراشدين؛ لما كان لهم بها من حاجة . أمّا خطيب العهد النبوي الأكبر فالنبيّ لا خلاف في ذلك. أمّا في العهد الراشدي، وفي ما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ ابن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى عليّ كان من عناصر شخصيّته، وكذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً، ثم إن الله يسرّ له العدّة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا. فقد ميّزه الله بالفطرة السليمة، والذوق الرفيع، والبلاغة الآسرة [٢٥] ، ثمّ بذخيرةٍ من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجةٍ قائمة، وقوّة إقناع دامغة، وعبقريةٍ في الارتجال نادرة. أضف إلى ذلك صدقه الذي لا حدود له، وهوة ضرورةٌ في كلّ خطبةٍ ناجحة، وتجاربه الكثيرة المرّة التي كشفت لعقله الجبّار عن طبائع الناس وأخلاقهم وصفات المجتمع ومحرّكاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها، وذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، وبطهارة القلب وسلامة الوجدان وشرف الغاية.
وإنّه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذاً ، غير عليّ بن أبي طالب، ونفرٍ من الخلق قليل، وما عليك إلا استعراض هذه الشروط، ثمّ استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أن قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه.
وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش، شديد الثقة بنفسه وبعدل القول، ثمّ إنّه قويّ الفراسة سريع الإدراك، يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخرٌ جنانه بعواطف الحريّة والإنسانية والفضيلة، حتّى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه ادرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الحامدة.
أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلا بأنّه أساسٌ في البلاغة العربية.
يقول أبو هلال العسكري صاحب "الصناعتين": ليس الشأن في إيراد المعاني ـ وحدها ـ وإنّما هو في جودة اللفظ ، أيضاً ، وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحّة السبك والتركيب والخلوّ من أود النظم [٢٦] والتأليف.
من الألفاظ ما هو فخمٌ كأنّه يجرّ ذيول الأرجوان أنفةً وتيها. ومنها ما هو ذو قعقعةٍ كالجنود الزاحفة في الصفيح. ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين. ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها، ويخفّف من شدّتها. ومنها ماله ابتسامة السماء في ليالي الشتاء ، فمن الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد. ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعدّ للرضى والغفران. ومنه ما يضيء كالشهاب وهو كلام التعظيم. كذلك من الكلام ما ليس له طابع خاصّ، فيؤتى به لتقوية الجملة ودعم المعنى ، فهو يلائم كلّ حال.
كلّ ذلك ينطبق على خطب عليّ في مفرداتها وتعابيرها. هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت كخطب ابن أبي طالب تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته وجلاله؟
وإليك ما جاء في فصلٍ سابقٍ لنا من هذا الكتاب تحت عنوان "الضمير العملاق" بصدد بيان الإمام علي، لا سيّما ما كان منه في خطبه:
نهجٌ للبلاغة أخذٌ من الفكر والخيال والعاطفة آياتٍ تتصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الإنسان، وما بقي له خيالٌ وعاطفةٌ وفكر، مترابطٌ بآياته متساوق، متفجّر بالحسّ المشبوب والإدراك البعيد ، متدفقٌ بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلفٌ يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج، حتّى ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكلُ بالمعنى ، اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء. فما أنت إزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر، والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة على ما هو كائنٌ عليه من الوحدة، لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها وتجعلها إلى غير كون!
بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً! ولو هدّد للفساد والمفسدين لتفجر براكين لها أضواءٌ وأصوات! ولو انبسط في منطقٍ لخاطب العقول والمشاعر فأقفل كلّ بابٍ على كل حجةٍ غير ما ينبسط فيه! ولو دعا إلى تأملٍ لرافق فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده شوقاً ، ووصلك بالكون وصلاً ، ووحد فيك القوى للاكتشاف توحيداً . وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوة وصدق الوفاء الإنساني حرارة المحبّة التي تبدأ ولا تنتهي. أمّا إذا تحدث إليك عن بهاء الوجود وجمالات الخلق وكمالات الكون،فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء .
بيانٌ هو بلاغةٌ من البلاغة، وتنزيلٌ من التنزيل. بيان اتّصل بأسباب البيان العربي ما كان منه وما يكون، حتّى قال أحدهم في صاحبه: إن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
وخطب عليّ جميعاً تنضح بدلائل الشخصية ، حتّى لكأنّ معانيها وتعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال. فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً، وإخراجاً بالغاً غاية الجمال.
وكذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة ، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق، وعمق الفكرة، وفنّية التعبير، حتى إنّها ما نطقت بها شفتاه إلا ذهبت مثلاً سائراً .
فمن روائعه المرتجلة قوله لرجلٍ أفرط في مدحه بلسانه وأفرط في اتّهامه بنفسه:"أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك" [٢٧].
ومن ذلك أنّه لمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمةٍ جليلةٍ تردّد فيها أنصاره وتخاذلوا، جاءه هؤلاء وقالوا له، وهم يشيرون إلى أعدائه: يا أمير المؤمنين! نحن نكفيكهم . فقال من فوره: "ما تكفونني أنفسكم كيف تكفونني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإنني اليوم لأشكو حيف رعيّتي، كأنّني المقود وهم القادة"  [٢٨].
ولمّا قتل أصحاب معاوية محمد بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: "إن حزننا عليه قدر سرورهم به، ألا إنّهم نقصوا بغيضاً ونقصنا حبيباً" [٢٩] .
وسئل: أيّهما أفضل: العدل أم الجود ؟ فقال: "العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عامّ، والجود عارضٌ خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما"  [٣٠].
وقال في صفة المؤمن، مرتجلاً :
"المؤمن بشره في وجهه ، وخزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً ، وأذلّ شيء نفساً.
يكره الرفعة، ويشنأ السمعة  [٣١] ، طويلٌ غمّه ، بعيدٌ همّه، كثيرٌ صمته ، مشغولٌ وقته ، شكور صبور، سهل الخليقة ، ليّن العريكة" [٣٢] .
وسأله جاهل متعنّتٌ عن معضلة، فأجابه على الفور: "اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنّتاً ، فإنّ الجاهل المتعلم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسف شبيهٌ بالجاهل المتعنّف" [٣٣] .
الخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديبٌ عظيمٌ ، نشأ على التمرّس بالحياة ، وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالةٍ في شخصية الأديب، ومن ثقافة تنمو بها الشخصية وتتركز الأصالة.
أمّا اللغة ، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلّد الأوّل من كتابه "رحلة إلى الشرق" هذا القول الذكيّ: "اللغة العربية هي الإنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر وتصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلّد صراخ الحيوانات، ورقرقة المياه الهاربة، وعجيج الرياح وقصف الرعد"، أما هذه اللغة ، بما ذكر مرشلوس من صفاتها وبما لم يذكر ، فإنّك واجدٌ أصولها وفروعها، وجمال ألوانها وسحر بيانها ، في أدب الإمام عليّ .
وكان أدباً في خدمة الإنسان والحضارة.

------------------------------------------------------------------
[١] . نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨ ـ ٢ .
[٢] . نهج البلاغة : الخطبة ١٨٥ ـ ١٩ .
[٣] . الثواقب: المنيرة المشرقة . انظر مفردات الخطبة المرقمة في نهج البلاغة.
[٤] . سراجاً مستطيراً: منتشر الضياء، ويريد به الشمس . انظر المصدر السابق.
[٥] . نهج البلاغة : الخطبة ١ ـ ١٧ .
[٦] . بحار الانوار : ٧٤/٣٨٠، مستدرك سفينة البحار: ١٠/٦١٩ .
[٧] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ١٤٨ و ٣٩٢ .
[٨] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ٤١٨ .
[٩] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ٢١٤ .
[١٠] . نهج البلاغة ، قصار الحكم: ٢٠٥ ، وجاء فيها : ... فإنه يتّسع به.
[١١] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ١١١.
[١٢] . نهج البلاغة ، قصار الحكم : ١٤٧ ـ ٣ .
[١٣] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ٩ .
[١٤] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ٩.
[١٥] . نهج البلاغة، نهج البلاغة : الكتاب ٥٩ ـ ١ .
[١٦] . نهج البلاغة، قصار الحكم : ٤٢٢.
[١٧] . نهج البلاغة، قصار الحكم : ١٤٧ ـ ٦ .
[١٨] . نهج البلاغة ، قصار الحكم: ٣٢٨ ، وفيه: فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني.
[١٩] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٥ ـ ١.
[٢٠] . الجزلة: جزالة الكلام: قوّة الكلامز لسان العرب: ١١/١٠٩، مادة "جزل".
[٢١] . جدير: خليق، حريّ، قمين. غريب الحديث: ٢/١٩٧.
[٢٢] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٧ ـ ١٠ .
[٢٣] . نهج البلاغة : الخطبة ٢٧، ١/٦٩، الكافي للكليني: ٥/٥، الغارات: ٢/٤٧٦ (تحقيق المحدث) ، نهج السعادة: ٥/٣١٥، أنساب الأشراف ترجمة الإمام علي(عليه السلام) باب غارة سفيان الغامدي: ٤٤٢.
[٢٤] . نهج البلاغة: الخطبة ١٠٤، ١/٢٠٠ .
[٢٥] . نهج البلاغة: الخطبة ١٠٨، ١/٢٠٧، شرح نهج البلاغة : ٧/١٨٧ .
[٢٦] . البلاغة الآسرة: البلاغة التي تسحر لبّ سامعها.
[٢٧] . أود النظم : أود الشيء : اعوج . القاموس المحيط: ١/٢٧٥، مادة "أود".
[٢٨] . خوالج النفس: نوازع النفس، يقال تخالجه : تجاذبه وتنازعه. تاج العروس: ٢/٣٥، مادة "خلج".
[٢٩] . نهج البلاغة ، قصار الحكم: ٨٣.
[٣٠] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ٢٦١.
[٣١] . نهج البلاغة، قصار الحكم : ٣٢٥ .
[٣٢] . نهج البلاغة، قصار الحكم: ٤٣٧ .
[٣٣] . يشنأ السمعة: يبغضها، ويكرهها. كتاب العين: ٦/٢٨٧، مادة "شنأ".

منقول من كتاب الامام علي صوت العدالة الإنسانية

****************************