علي حسين الخباز
عرف الأدب العربي ما للون من حضور دلالي، يمنح المشهد الخطابي تجانسا وتمازجا، ينسجم مع البؤرة النصية للقصد الإبداعي، حيث يقول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: (ومَعْرِفَة يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ والأَذوَاقِ والمَشَامِّ والأَلوَانِ والأَجْنَاسِ مَعجُونا بِطِينَة الأَلوَان الْمُخْتَلِفَةِ). ومعجون: صفة إنسانية. والألوان المختلفة: الضروب والفنون، وتلك الألوان هي التي ذكرها من الحر والبرد، والبلة والجمود. فيمنح المتلقي فرصة اكبر للتأمل، لكون التعامل مع اللغة عبر العديد من الأجيال، غيّرت صبغة الكثير من الألفاظ، فمثلا قوله عليه السلام: (وحِليَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا). أنوار الزهر: أي حلية القلادة. وسمط: علق عليه السموط ،وهي الخيوط التي تنظم فيها القلادة. ويرى الشيخ محمد عبده: إن أصل سمطت، هو شمطت بالشين، إذا خلط ألوانه بلون آخر، والشميط: من النبات، ما كان فيه لون الخضرة، مختلطا بلون الزهر.
أو كقوله عليه السلام: (ولمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابه) والرباب: كسحاب الأبيض المتلاحق منه، فهذه الألوان لها حمولة جمالية واجتماعية، تدخل حقل التعاطف والمشاركة الوجدانية، لتحيزات اللون، بما مطبوع في سليقة الذاكرة، عبر إيحاءات معنونة، قد تختلف عن بعض.. فالدالة اللونية، تحمل معانٍ متعددة، تستجيب لإيقاعات نفسية شعورية، وقوة إستعارية إلى بنية مفتوحة.. والإحساسات البصرية، بطبيعتها تميل إلى الأسلوب الانطباعي، المعتمد على تسجيل الانطباع الداخلي، وانعكاسات الألوان، التي تخضع إلى تغيرات طبيعية، تتناسب والتغيرات الزمانية والمكانية، والمؤثرة على طبيعة التلقي.
وقد شكلت الألوان مادة هامة في لغة الاتصال، لتساعد في تحفيز الدماغ، ويوحي كل لون إلى نمط خاص من التفكير، فالأسود الحزين فضفاض جذاب، يقول عليه السلام: (وكَأَنَّهُ مُتَلفِّعٌ بمعجَر أَسْحَمَ) المعجر: التلفع، والأسحم: الأسود، وكان السواد يمثل الجماعة، كقوله عليه السلام: (والزَمُوا السَّوَادَ الأَعظَمَ فَإنَّ يَدَ الله مَعَ الجَمَاعَة وإيَّاكمْ والفرقَةَ) بينما اللون الأحمر، منشط للدورة الدموية، ويختص بضخ عاطفي شعوري، ومنه يبرق منظر الدم، يقول عليه السلام: (وهُوَ أَبُو الأَكبُشِ الأَرْبَعَة وسَتَلقَى الأُمَّةُ منهُ ومنْ وَلَده يَوْما أَحْمَرَ) والأبيض: يمثل الصفاء والنقاء، ويعكس ملامح الذات، ويستخدم لعلاج الصفرة، عند حديثي الولادة، ويحمل عند الكثيرين معاني الحياد والأرقام والإحصاءات، كقوله عليه السلام: (يَلبَسُونَ السَّرَقَ والدِّيبَاجَ) السرق: شفق الحرير الأبيض، أو قوله عليه السلام: (أَبْيَضُ يَقَقٌ فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأتَلِقُ). واليقق: شديد البياض.
وأما الأخضر فأنه يخفف من حدة التوتر، وينسب إليه التفكير الايجابي، ويشكل مساحة واسعة للتعبير عن مكنونات الذات، كقوله عليه السلام: (ولَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ ولا اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ). وهو يثير قريحة الإلهام والتعبير، وقد ورد في القرآن الكريم لفظ الخضرة التي تصف حال أهل الجنة.
وترى الكاتبة (سعاد جبر) في موضوعها سيكولوجية الألوان: بأن اللون الأزرق لون موجه، يمنح الاسترخاء، وارتباطه بالبحر والسماء، ولذلك يستخدم في غرف النوم، ومراكز العلاج، ويحقق عبر انزياحات اللغة السمة الجمالية.
والأصفر صفاء ذهني وفكري، وكما وصفه الله تعالى في وصف بقرة بني إسرائيل: (بَقَرَة صَفراءُ فاقعٌ لَوْنها تَسُرُّ الناظِرِينَ) وقد أثبتت البحوث المختلفة، انه أكثر انسجاما مع البيئة، ولذلك تدهن الفصول الدراسية باللون الأصفر، لكونه يبعث النشاط في الجهاز العصبي، يقول عليه السلام في وصف الدنيا قبل بعثة النبي (ص): (عَلَى حِينِ اصفِرَارٍ مِن وَرَقِهَا). أو في وصفه عليه السلام للطاووس: (وإِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّة وتَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً وأَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً)
وعلى كل حال، فالموروث العربي تعامل مع الصفرة بألوان متعددة، منها ما يمثل الحقد والمرض والأنانية، فإن ماهية اللون في الأدب الخطابي جزء من فاعلية العلامة، تقوم على أساس اللعبة اللونية، وكلما زاد التضاد والتوتر بين الألوان، كبرت مساحة الصورة الشعورية. فيرى بعض النقاد إن اللون له قدرة توليدية، تمنح المتلقي انطباعات ذهنية، تساهم في تجسيد هذه الإيحاءات، إذ تنعكس تلك التأثيرات الخارجية على ذهنية المتلقي، لكونه يمتلك مسبقا دلالة اللون وإيحاءاته .