باب الشين
الشّين مَعَ التّاء
٢٢ ـ شَتَّانَ مَا يَومي على كُورِها = وَيَومَ حَيّانَ أَخي جَابِر[١].
تمثّل (عليه السّلام) بالبيت في خطبته المعروفة بـ (الشِقْشِقِّية). قال المعتزلي إنّ البيت للأعشى الكبير أعشى قيس، وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل[٢]، وأوّلها:
شاقَتْكَ مِنْ قَتْلَة أَطْلالُها |
|
بالشَّطِّ فَالوِتْرِ إِلـى حاجِر |
فَرُكنِ مِهراسٍ إِلى مارِدِ |
|
فَقاعِ مَنفوحَةَ ذي الحائِرِ |
دارٌ لَها غَيَّرَ آياتِها |
|
كُلُّ مُلِثٍّ صَوبُهُ زاخِرِ |
والضمير في كورها في البيت المتمثّل به يعود على الناقة في بيت متقدّم عليه:
وقد أسلى المهمّ حين اعترى |
|
بجسرة[٣] دوسرة عاقر |
زَيّافَةٍ بِالرَحلِ خَطّارَةٍ |
|
تُلْوي بِشَرخَي مَيسَةٍ قاتِرِ |
وحيّان اسم رجل من بني حنيفة كان سيّداً مطاعاً وذا نعمة وافرة وكان الأعشى ينادمه. وجابر: أخو حيّان أصغر منه ذكره الشاعر للقافية. ومعنى البيت: فرق كبير ما بين سفري على ناقتي وبين يوم حيّان في نعمته الوافرة.
يشير (عليه السّلام) به إلى أنّ هناك فرقاً بين يومه في الخلافة مع ما انتقض عليه من الأمر مع يوم عمر حيث ولّها على قاعدة ممهّدة[٤].
وحصيلة ذلك: أنّ الفرق بين راكب الناقة الراقلة به وحيّان المتنعّم بنعمة ناعمة وراحة هو الفرق بيني في خلافتي الّتي انتقض أمرها وبين عمر الذي مهّدت له الأمور كما أراد وأرادها الأوّل، وهذا من دلالات مظلوميّته (عليه السّلام) واغتصاب حقه الثابت ؛ فلو كان الأمر على ضوء وصاية النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سائراً لما اغتصب حقّ الخلافة منه ولا حقّ إلى يوم القيامة.
الشّين مَعَ الرّاء
٢٣ ـ الشَّرُّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ[٥].
قاله (عليه السّلام) في كتاب له كتبه إلى الحارث الهمداني:
(... وإِيَّاكَ ومُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ...).
قال الشارح:
يقول: (إنّ الطّباع ينزع بعضها إلى بعض فلا تصحبنّ الفسّاق فإنّه ينزع بك ما فيك من طبع الشر إلى مساعدتهم على الفسوق والمعصية وما هو إلاّ كالنّار فإذا لم تجاورها وتمازجها نار كانت إلى الانطفاء والخمود أقرب. وروى (ملحِق) (بكسر الحاء) وقد جاء في الخبر النبويّ: (عذابك بالكفار ملحِق) بالكسر)[٦].
قوله (عليه السّلام): (الشرّ بالشرّ ملحق).
معدود من الأمثال، نظير قولهم: (الشرّ للشرّ خلق) و(الحديد بالحديد يفلح)[٧]. والإنسان المغفّل إذا صاحب الفاسق أثّر فسقه فيه وزاد هو في فسقه، وإن لم يكن على حذر منه فلا محالة جاء التأثير وزيادة الفسق بزيادة أفراد الفسّاق، وهو المصاحب، إذ المصاحبة مؤثّرة إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ. وجاء في حديث الإمام السّجاد (عليه السّلام) النهي عن مصاحبة خمسة ومحادثتهم ومرافقتهم في طريق، وهم: الكذّاب والفاسق والبخيل والأحمق والقاطع لرحمه.
ونسب إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ما يلي:
(عاشرْ أخا ثقةٍ تحظى بصحبته |
|
فالمرءُ مكتسِبٌ من كلّ مصحوبِ |
كالرّيح آخذةٌ حين تمرّ به |
|
نَتْنٌ من النتنِ والطيْبُ من الطيبِ[٨] |
ومن آثار سوء مصاحبة الفاسق أنّه مظنّة سخط الله (عزّ وجلّ)، وعذابه إذا نزل عمّ من معه. كما كان عكس ذلك مصاحبة المتّقي الذي هو عرضة رحمة الله تعالى، فإنّها إن نزلت عمّت. والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى الذي هو منشأ الشرور ؛ إذ لا يأمن معه من ركوب المعاصي كلّها من الاجتماعيّة وغيرها الّتي تجب الشّرور.
الشّين مَعَ القاف
٢٤ـ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ[٩].
مثل سائر أجاب به الإمام (عليه السّلام) ابن عبّاس عندما سأله استرساله في كلام له من خطبة معروفة بالشقشقيّة لاشتمالها على الشقشقة، وقد ناوله رجل من أهل العراق كتاباً لينظر فيه فقطع (عليه السّلام) الخطبة ولم يعد إليها، فتأسّف ابن عباس عمّا فاته من إكمالها ؛ لأنّها تبيّن مواقف الخلفاء الثلاثة مع الإمام (عليه السّلام) والخلال التي لا تليق بمنصب الخلافة. ومن العجيب من ابن أبي الحديد وغيره حيث أوّلوا الكلمات فيها إلى ما لا تنطبق عليه اللغة العربيّة، ومن له أدنى إلمام بها لم يرتب في مراد الإمام (عليه السّلام).
قال النيسابوري: (الشِقشِقة: شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج. وإذا قالوا للخطيب: (ذو شقشقة) فإنّما يشبّه بالفحل)[١٠].
وبعضُ مؤلفي كتب الأمثال لم يذكر المثل في كتابه ولا تمثّل الإمام (عليه السّلام) به لئلاّ يواجه مشكلة التأويل لكلامه (عليه السّلام)، وآخرٌ قد ذكر التمثّل به دون أن يزيد عليه، وثالثٌ نفي الخطبة عن أن تكون صادرة عن الإمام (عليه السّلام) فضلاً عن تمثّله به. والمعتزلي ممّن يقول بالصدور ويتصدّى للتأويل، قال:
إن قيل: بيّنوا لنا ما عندكم في هذا الكلام، أليس صريحه دالاًّ على تظليم القوم ونسبتهم إلى اغتصاب الأمر، فما قولكم في ذلك ؟ إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم، وإن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلّم المتكلّم عليهم ؟
قيل: أمّا الإماميّة من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها، وتذهب إلى أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نصّ على أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأنّه غصب حقّه.
وأمّا أصحابنا (رحمهم الله)، فلهم أن يقولوا:...[١١].
فراح يلّقنهم ما يلّفقونه لصرف الظهور.. والحديث ذو شجون.
باب الصاد
الصّاد مَعَ الألف
٢٥ ـ صَاحِبُ السُّلطانِ كَراكِبِ الأَسَدِ[١٢].
من تمثيلات الإمام (عليه السّلام):(صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الأسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وهُوأَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ).
قال بعض الشّراح:
(قد جاء في صحبة السلطان أمثال حكميّة مستحسنة تناسب هذا المعنى أو تجري مجراه، نحو قولهم: (صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس وهو لمركوبه أهيب) [...] (إذا صحبت السلطان فليكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لبعلها المبغض لها، فإنّها لا تدع التصنّع له على حال) [...] (العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان) ؛ لأنّه إن عفّ حنى عليه العفاف عداوة الخاصّة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة العامّة...)[١٣].
جاء التحذير البالغ في أحاديثهم (عليهم السّلام) من الدخول إلى دواوين الظلمة والسلاطين وإعانتهم ولو بقطّ قلم. ففي النبويّ: (إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواتاً أو ربط كيساً أو مّدّ لهم قلماً فاحشروهم معهم)[١٤] إذ لا يُأمن معهم من المعاصي وقتل النفس المحترمة واغتصاب أموال الناس، بل وترك جميع ما أوجبه الله (عزّ وجلّ) وركوب ما نهاه. ولا فرق بين العامل بالظلم والمعين والراضي به كما في الحديث[١٥].
نعم إذا قصد قضاء حوائج المؤمنين ونجاتهم من المهلكة، جاز. إلاّ أن يغلب عليه فلا يستطيع دفعاً عن نفسه، فضلاً عن غيره من النفوس. وعلي بن يقطين من النوع الجائز.
ثمّ الإمام (عليه السّلام) أراد من التمثيل براكب الأسد خطورة الأمر، حيث لا يأمن راكبه من الهلاك ؛ ولعلّه يعمّ كلّ متسلّط لم يقيّده الإيمان ومقتدر وإن لم يكن بسلطان.
باب الضاد
الضّاد مَعَ الحاء
٢٦ـ ضَحِّ رُوَيْداً[١٦].
من الأمثال السائرة يستعمل للرفق وترك العجلة، جاء في كلام له (عليه السّلام) لابن عبّاس: (... وأُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلالٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي، فَضَحِّ رُوَيْداً فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى ودُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى، وعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ...).
قال الشارح: (فضّح رويداً: كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون، وأصلها الرجل يطعم إبله ضحى، ويسيّرها مسرعاً ليسير، فلا يشبعها، فيقال له: ضحّ رويداً)[١٧].
قال الزمخشري: (ضحّ رويداً: أي ترّفق ولا تعجل وأصله أنّ الأعراب في باديتها تسير بالظعن فإذا عثرت على لمح من العشب قالت ذلك وغرضها أن يرعى الإبل قليلاً قليلاً وهي سائرة حتى إذا بلغت مقصدها شبعت فلمّا كان من الترّفق في هذا توسّعوا فقالوا: في كلّ موضع (ضّح) بمعنى ارفق والأصل ذاك قال زيد الخيل:
فَلَو أَنَّ نَصراً أَصلَحَت ذاتَ بَينِها |
|
لَضَحَّت رُوَيداً عَن مَطالِبِها عَمرُو[١٨] |
وغرض الإمام (عليه السّلام) من الأمر بالترّفق أن ينبّه ابن عبّاس مغّبة الخيانة، ولابّد من الدخول في القبر والحشر والعرض على الله بالأعمال يوم ينادي الظالم بالحسرة ويعضّ على يديه وينادي بالويل والثبور، والأمر أفضح من ذلك (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)[١٩].