أما الاطناب والايجاز والمساواة فلا يحتاج فيها أن تؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله ، وخلفائه الراشدين ، ولم يكن أحدهما مرسوما في الاسلام بحيث يجب اتباعه ، بل هى تابعة لما تقتضيه المصلحة ، وتفرضه الحاجة ، وربما كانت أحوال وغايات لا بد فيها من ذلك ، وشتان ما بين زمانه عليه السّلام ، وأزمنة الخلفاء [١].
حتى هؤلاء الذين أرسوا هذه الشبهة أقروا بذلك واعترفوا بحقيقته فقال أحدهم [٢]: ( نحن لا نقول إنّ هذا القدر من الطول في الخطب غير مقبول عقلا . . . إلخ ) .
فالتطويل والإيجاز في خطب الإمام وكتبه يجري حسب المقامات والأحوال وهذا شيء معروف عن البلغاء في الجاهلية والإسلام .
وقد رووا أن قيس بن خارجة بن سنان خطب يوما إلى الليل فما أعاد كلمة ولا معنى [٣].
وقد رووا أيضا أن وفدا من خراسان قدم على معاوية وفيهم سعيد بن عثمان ، فطلب سحبان وائل [٤] فأدخل عليه فقال : تكلم ، فقال : انظروا لي عصا تقوم من أودي ، قالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربّه ، فقال معاوية : هاتوا عصاى ، فأتوا بها فأخذها ، ثم قام وتكلم منذ صلاة الظهر الى أن قامت صلاة العصر ما تنحنح ولا سعل ، ولا توقف ، ولا ابتدأ في معنى فخرج منه وقد بقي عليه منه شيء ، فما زالت تلك حاله حتى أشار معاوية بيده ، فأشار اليه : أن لا تقطع على كلامي ، فقال معاوية : الصلاة ، قال : هى أمامك ونحن في صلاة وتحميد ، ووعد ووعيد ، فقال معاوية : أنت أخطب العرب ، فقال سحبان : والعجم والجن والانس [٥].
ومع هذا الاسترسال في الكلام،وطول النفس في الخطابة نراه يوجز احيانا حتى يجيء في ادنى غاية من غاية الاختصار .
يقول الدكتور زكي مبارك : « وسحبان وائل الذي عرف بالتطويل وإنه كان يخطب أحيانا نصف يوم ، أثرت عنه الخطب القصيرة الموجزة ، وذلك يدل على أن الفطرة كانت غالبة على ذلك العصر ، وأن القاعدة المطردة لم تكن شيئا آخر غير مراعاة الظروف ، ورسائل علي بن ابي طالب ، وخطبه ، ووصاياه ، وعهوده الى ولاته تجري على هذا النمط ، فهو يطيل حين يكتب عهدا ليبيّن فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الذي يرعاه ، ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصه في شيء معين لا يقتضي التطويل » [٦].
وعبد الحميد الكاتب لتأثره ببلاغة أمير المؤمنين عليه السّلام تراه يوجز مرة غاية الإيجاز ، ويطنب اخرى إذا اقتضت الحال غاية الإطناب .
فمن إيجازه : إن بعض عمال مروان أهدى اليه عبدا أسودا ، فأمره الاجابة مختصرا ، فكتب : لو وجدت لونا شرّا من السواد وعددا أقل من الواحد لأهديته .
ومن إسهابه : إنّه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه مروان يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الإختلاف بين أصحاب أبي مسلم ، وكان من كبر حجمه يحمل على جمل ، ثم قال لمروان : قد كتبت كتابا متى قرأه بطل تدبيره ، فإن يك ذلك وإلا فالهلاك ، فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه ، وأمر بنار فأحرقه وكتب على حزازة منه إلى مروان :
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ***** عليك ليوث الغاب من كلّ جانب
فان تقدموا نعمل سيوفا شحيذة ***** يهون عليها العتب من كلّ عاتب
ويقال : إن أوّل الكتاب كان : لو أراد الله بالنملة صلاحا لما خلق لها جناحا .
ولقد شهد الجاحظ بخطب أمير المؤمنين الطوال بقوله : « لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال ، وكان كلامه قصيرا ، وإنما صاحب الخطب الطوال علي ابن أبي طالب » [٧].
ولسنا - بعد ذلك - بحاجة إلى أن نسهب في القول هنا ، ونستكثر من الأدلة على كون الإيجاز والإطناب لا يختص بواحد منهما قوم دون قوم ولا ينحصر أحدهما بحصر دون آخر .