الشيخ حيدر فاضل الشكري
الإمام المهدي المنتظر (عج) في نهج البلاغة
بحث تأويلي دلالي
(٣)- قال (علیه السلام): «فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوكَائِنٌ مُرْصَدٌ، وَلاَ تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِيءُ بِهِ الْغَدُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِل بِمَا إِنْ أَدْركَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَمَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَد!
يَاقَوْمِ، هذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُود، وَدُنُو مِنْ طَلْعَةِ مَا لاَ تَعْرِفُونَ، أَلاَ وَإِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاج مُنِير، وَيَحْذُوفِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ، لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً، وَيُعْتِقَ رِقّاً، وَيَصْدَعَ شَعْباً، وَيَشْحَبَ صَدْءاً، فِي سُتْرَة عَنِ النَّاسِ لاَ يُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَلَو تَابَعَ نَظَرَهُ. ثُمَّ َيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ. تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ، وَيُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهمْ، وَيُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ»[١].
الإمام امیرالمؤمنین (علیه السلام) في الفصل الأول من هذا المقطع من خطبته ینهی عن الاستعجال في أمر هومتحقق لا محالة، وفي خطبة أخری یقول (علیه السلام): «لاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ»[٢].
والإنسان إذا ما أراد أن یصل إلی مراده لا بدّ له من الصبر والتروي، وعدم العجلة، وأن یضع الأمور في مواضعها، لکي یتجنّب الوقوع في ما یکره من العواقب.
ولا یخفی أنّه (علیه السلام) أراد هنا استعجال الشیعة لقیام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف). هذا الأمر قد نهی عنه أئمة الهدی (علیهم السلام)؛ حیث أوصوا شیعتهم بالصبر والسکون حتی تحقق شرائط القیام وعلاماته. وقد وردت جملة الروایات في هذا المعنی ومنها:
روی النعماني في الغیبة: «أنّ الصادق (علیه السلام) قال في قوله تعالی:«أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)[٣]: «هوأمرالله تعالی، لا نستعجل به. یؤیّده ثلاثة أجناد: الملائکة، والمؤمنون، والرعب»[٤].
وروی: «أنّ مهزم الأسدي قال للصادق (علیه السلام): جعلت فداك، متی هذا الأمر الذي ننتظره، متی هو؟ فقال (علیه السلام): «یا مهزم، کذب الوقّاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلّمون»[٥].
وعن الصادق (علیه السلام): «هلکت المحاضیر». قیل: وما المحاضیر؟ قال: «المستعجلون، ونجا المقّربون، وثبت الحصنُ علی أوتادها، کونوا أحلاس بیوتکم. فإنّ الفتنة علی من أثارها، وإنهم لا یریدونکم بجائحة إلّا أتاهم الله بشاغل لأمر یعرض لهم»[٦].
وعن الباقر (علیه السلام): «اسکنوا ما سکنت السماوات والأرض»[٧].
وروي: «أنّ إبراهیم بن هلیل قال لأبي الحسن (علیه السلام): مات أبي علی هذا الأمر، وقد بلغت من السنین ما قد تری، أموت ولا تخبرني بشيء؟ فقال له: «أنت تعجل». فقال: أي والله أعجل، ومالي لا أعجل وقد بلغت من السن ما قد تری، فقال: «أما والله يا أبا إسحاق، ما یکون ذلك حتی تمیّزوا»[٨].
یقول (علیه السلام): «فکم من مستعجل بما إن أدرکه ودّ أنّه لم یدرکه».
وهنا نقول: لعل الإمام (علیه السلام) أشار إلی أمر هوغایة الأهمیة؛ حیث أنّ الانتظار لأمر القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) یستوجب تحقق شرائط هذا الانتظار، من تهیئة الإنسان المنتظر لنفسه من دون أن یتعجل في هذا الأمر وإلّا فسیکون انتظاره انتظاراً سلبیاًَ. وفي هذا المعنی ورد عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أنّه قال: «أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج». أي: أن الانتظار یمثل القیام بأعمال متمثّلة بتطهیر النفس وتزکیتها، والقیام بالفرائض التي افترضها الله تعالی علینا.
فإذا ما حصل العکس صار الانتظار انتظاراً سلبیاً قد یؤدي بالإنسان إلی الهلاك، وبالتالي یودّ أنّه لم یدرك هذا الأمر ولم یر ما یقوم به الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، وما یقتل من الناس؛ حیث روي «عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: «لویعلم الناس ما یصنع القائم (علیه السلام) إذا خرج، لأحبّ أکثرهم ألّا یروه مما یقتل من الناس. أما إنّه لا یبدأ إلّا بقریش، فلا یأخذ منها ألّا بالسیف، ولا یعطیها إلّا السیف، حتی یقول کثیر من الناس: لیس هذا من آل محمد، لوکان من آل محمد لرحم»[٩].
ثم قال (علیه السلام): «وما أقرب الیوم من تباشیر غد»:
البشارة: هي أوائل کلّ شيء، وتباشیر الصبح أي: أوائله.
یشیر الإمام (علیه السلام) هنا إلی الفرج الموعود علی ید قائم آل محمد (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، بعد الفتن الحالکة التي أخبرهم (علیه السلام) بها، فلابدّ للشمس أن تشرق ولکن بعد أن تتم الغیوم عملها حیث أنّ لکلّ زمان شرائط لابدّ أن تتحقق. فالثمار لا تقطف إلّا بعد نضوجها.
وقال (علیه السلام): «یا قوم هذا إبّان ورود کل موعود ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون»:
المقصود بـ(إبّان) أي: الوقت.
وهنا یبیّن (علیه السلام) أنّه قد حان وقت حدوث الفتن التي ستبداً من بعده (علیه السلام) إلی قیام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
یقول الشارح المعتزلي: «أي:دنا وقت القیامة، وظهوره الفتن التي تظهر أمامها، وإبّان الشيء - بالکسر والتشدید -: وقته وزمانه، وکنّی عن تلك الأهوال بقوله: «ودنو من طلعة ما لا تعرفون»، لأنّ تلك الملاحم والآثار الهائلة غیر معهود مثلها نحو دابة الأرض، والدجّال وفتنته، وما یظهر علی یده من المخاریق والأمور الموهمة، وواقعة السفیاني»[١٠].
ولعلّ مراده (علیه السلام) فتن بني أمیّة وبني العباس إلی علامات القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)؛ لأنّ قوله (علیه السلام): «هذا إبّان...» یدلّ علی أنّ حین خاطبهم بهذا الکلام صار زمان ما وعدهم، وقرب ما أخبرهم.
روی النعماني في غیبته: أنّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) قال علی منبر الکوفة: «أنّ من ورائکم فتناً مظلمة عمیاء منکسفة لا ینجومنها ألّا النؤمة»[١١].
والمقصود من ورائکم أي: أمامکم؛ لما في قوله تعالی:«وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا».[١٢]
وفي روایة أخری: «إنّ أمیرالمؤمنین (علیه السلام) سئل عن قوله تعالی:«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ».[١٣] فقال (علیه السلام): «انتظروا الفرج من ثلاث»، قیل: وما هنّ؟ قال: «اختلاف أهل الشام بینهم، والرایات السود من الخراسان، والفزعة في شهر رمضان». قیل: وما الفزعة؟ فقال: «أو ما سمعتم قوله تعالی: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»[١٤]،هي آیة تُخرج الفتاة من خدرها، وتوقظ النائم، وتفرع الیقظان»[١٥].
وروي عن الصادق (علیه السلام) قال: «العام الذي فیه الصیحة قبله الآیة في رجب». قیل: وما هي؟ قال (علیه السلام): «وجه یطلع في القمر، وید بارزة»[١٦].
والروایات کثیرة في هذا المعنی، فلا نرید أن نطیل ونکتفي بهذا القدر منها.
ثم قال (علیه السلام):«ألا وإنّ من أدرکها منّا یسري فیها بسراجٍ منیر، ویحذو فیها علی مثال الصالحین».
لعّل الإمام (علیه السلام) أراد بهذه العبارة خصوص الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ویعضده ما جاء بعد هذه العبارة من صفات غیبته، واستتاره عن أعین الناس، بحیث لا یمکن الوصول إلیه ولو استقصي للطلب، وهوقوله (علیه السلام): «في شدّة عن الناس، لا یُبصر القائف أثره، ولوتلبع نظره».
أو لعّل المراد عموم أهل البیت (علیهم السلام) حیث أنّهم یتعاملون مع الفتن الکثیرة والمتنوعة با لحکمة والعقل، وبما تقتضیه مصلحة الدین کما یفعل الأنبیاء والصالحین، أي: أنّهم (علیهم السلام) یمشون في ظلمات الفتن الحالکة بسراج منیر، وهو نور الإمامة والولایة، بحیث لا توجب ظلمات تلك الفتن انحرافهم عن طریق الهدی، بل هم یسلکون طریق الحقّ المبین.
وهنا نقول: إنّ الرأي الأول هوالأنسب؛ لأنّ سیاق الخطبة یوحي بذلك حیث أنّ المقام هو ذکر صفات وممیزات خاصة بإمام الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف). وهذا ما ذهب إلیه ابن أبي الحدید المتعصب لأکثر المسائل المرتبطة بالإمامة لکنه في شرح هذه العبارة یقول: «إنّ المراد بها مهدي آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)، کما تری انطباق سائر الصفات المذکورة علیه، وإن کان اعتقاد العامة با لنسبة للإمام المهدي (علیه السلام) أنّه یولد في آخر الزمان)[١٧].
والغریب عند بعض العامة أنّهم لا یستوعبون بقاء الإمام (علیه السلام) علی قید الحیاة هذه المدة الطویلة في حیث أنّ العمر الطویل لیس بدعاً في تأریخ البشریة، فهناك من عاش أکثر من هذا العمر، أمثال: نوح، وإلیاس، وادریس، والخضر (علیهم السلام)، وغیرهم.
ثم تطرق الإمام (علیه السلام) إلی بعض من الخصائص المنطبقة علی الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حیث قال:«لیحُلّ فیها ربقاً، ویُعتِقَ رقَّاً، ویصدعَ شعباً، ویَشعبَ صدعاً، في سُترة عن النَّاسِ، ولا یُیصرُ القِائفُ أثرهُ، ولو تابع نظرهُ»:
«ربقاً» أي: عقداً، ویأتي بمعنی الحبل، فیه عدّة عری تشدّ به البهم.
«یعتق رقّاً» - بالکسر - ، أي: مملوکاً.
«ویصدع شعباً»: الصدع: یعني الشق، وصدعت الشيء: أظهرته[١٨]. والإظهار حیث یظهر باطن الشيء بالشق. ویصدع شعباً: أي: یفرق جمعاً.
«ویشعب صدعاً»، أي: الاجتماع والالتئام بعد التفرق.
والمراد من هذه العبارات هو أنّه (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بظهوره یدفع الشبهات، ویحلّ المشکلات وعقدها، وکذلك یعتق الناس من الجهل والضلال؛ حیث یهتدي الکثیر منهم بنوره إلی جادة الصواب والهدایة، ویفرق جموع الباطل والضلال، ویمیّز الأخیار المؤمنین عن غیرهم ممن یتظاهرون بالخیر والصلاح کذباً وزوراً وریاءً. ثم أنّه (عجل الله تعالی فرجه الشریف) یجمع متفرق الحقّ ویوحد کلمة المؤمنین تحت لوائه. ویفعل الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف) کل هذا مبتغیاً وجه الله تعالی، ولیس حباً للسمعة والشهرة وبحثاً عن المدح والشکر: وهذا هوالإخلاص الحقیقي الذي یمکن أن نجده إلّا عند أئمة هذا البیت الطاهر (علیهم السلام)، الذین وهبوا کل شيء لله تبارك وتعالی.
وبعد ذلك بدأ الإمام (علیه السلام) بذکر أنصار صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وأصحابه والعلماء المستجمعین لکمالات النفوس، ممن سلك طریق الحق، وهم من جاء منهم قبلنا ومن یأتي في آخر الزمان؛ حیث قال (علیه السلام): «ثم لیُشحذَنَّ فیها قوم شحذَ القَیْن النَّصْل، تجلی با لتنزیل أبصارُهُمْ، ویُرمی بالتفسیر في مسامعهم، ویُغْبقون کأس الحکمة بعد الصَّبوح:
«لیُشحذنّ» - بلفظ المجهول، من شحذت السکین، أي: حددته.
«شحذ القیْن»،أي: الحداد.
«النصل»، أي: حدید السیف، والسکین.
«یغبقون»، - بلفظ المجهول -، و(الغبوق): الشرب بالعشي، فتقول: غقبته فاغتبق.
«کأس»، قال ابن الأعرابي: لا تسمّی الکأس کأساً إلّا وفیها الشراب[١٩].
«الحکمة»، أي: إتقان الأمور، والأصل فیها حکمة اللجام، وهي ما أحاط با لحنك.
«بعد الصَّبوح»،: أي: الشرب في الصباح، والغبوق والصبوح بکأس الحکمة استعارة کقول زرقاء الیمامة لمّا سُئلت عن سبب قوة عینیها قالت: (کنت أکحلهما بصبوح من صبر، وغبوق من أثمد)[٢٠].
هذه صفات أصحاب وأنصار الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) المتمیّزون بشجاعتهم وعلمهم بجلال الله وحرامه وبکتابه وسنة نبیه (صلی الله علیه وآله وسلم)، فهم دائموا التعلّم صباحاً ومساءً ویزدادون استعداداً وتأهّباً. إنّهم الشیعة الحقیقيون الذین وصفهم الإمام الصادق (علیه السلام) حیث قال: «شیعتنا من لا یهرّ هریر الکلب، ولا یطمع طمع الغراب، ولا یسأل الناس بکفّه وإن مات جوعا». قیل له: أین نطلبهم؟ قال:«أطلبوهم في أطراف الأرض، أولئك الخشن عیشهم، المنتقلة دیارهم، الذین إن شهدوا لم یعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن مرضوا لم یعادوا، وإن خطبوا لم یزوّجوا، وإن ماتوا لم یشهدوا، أولئك الذین في أموالهم یتواسون، وفي قبورهم یتزاورون، ولا تختلف أهواؤهم، وإن اختلفت بهم البلدان»[٢١].
قال الشارح البحراني - في مضمون العبارات السابقة -: (في أثناء ما یأتي من الفتن تشحذ أذهان قوم وتعدّ لقبول العلوم والحکمة، کما یشحذ الحدّاد النصل. ولفظ الشحذ مستعار لإعداد الأذهان، ووجه الاستعارة الاشتراك في الإعداد التام النافع، فهو یمضي في مسائل الحکمة والعلوم کمضي النصل فما یقطع به وهو وجه التشبیه المذکور»[٢٢].
أمّا المحقق الخوئي فقد قال في معنی: «یجلي با لتنزیل أبصارهم، ویرمي بالتفسیر في مسامعهم»:
(أي: یکشف الرین، وتدفع ظلمات الشکوك والشبهات عن أبصار بصائرهم بالقرآن والتدّبر في بديع أسلوبه معانیه، ویرمي بتفسیره خق التفسیر من مسامعهم، والجملة الثانیة بمنزلة التعلیل للأولی، یعني: أنّهم لتلقّیهم تفسیره علی ما یحقّ وینبغي من أهل الذکر الذین هم معادن التنزیل والتأویل، وتحصیلهم المعرفة عنهم (علیه السلام) بمعاینه ومباینه وأسراره الباطنة والظاهرة وحکمه الجلیّة والخفیّة ارتفعت أغطیة الشبهات وغشاوة الشکوکات عن ضمائرهم وبصائرهم، فاستعدّت أذهانهم لإدراك المعارف الحقّة والحکم الإلهیة، ولم تزل الأسرار الربانیة والعنایات الإلهیة تفاض علیهم صباحاً ومساءً وهذا معنی قوله: «ویُغبقون کأس الحکمة بعد الصّبوح»[٢٣].
ومما مّر علینا من البیان والتأویل لهذه الخطبة نستطیع أن نصل إلی الاستدلالات التالیة:
١ - البشارة بظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ویعضد ها ما ورد من الروایات عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) - عن الطریق الفریقین -، وکذلك روایات أئمة الهدی (علیهم السلام) في هذا المعنی.
٢ - إنّ الإمام المهدي - أرواحنا له الفداء - حي یرزق وهو إمامنا الذي لا یمکن أن تخلو الأرض منه فهو حجة الله علی خلقه. وقد ورد في علل الشرائع بإسناده عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله: تبقی الأرض بغیر إمام؟ قال: «لوبقیت الأرض بغیر إمام ساعة لساخت»[٢٤].
٣ - إن خروج الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) سیکون في زمن قد فشلت فیه کل القوانین البشریة في إصلاح العالم، فیکون المصلح الأعظم للقرون جمیعاً.
٤ - لا یتحقق الظهور ألّا بعد تحقق شرائطه، ومنها: وقوع الفتن التي أخبر عنها أمیر المؤمنین (علیه السلام) - في خطبته -. وأن تتحقق حالة امتلاء الأرض با لجور والظلم. وکذلك الاستعداد التام والتهیئة لأنصار الإمام (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، الذین سیخرج بهم لتطهیر الأرض من الشرك والإلحاد والظلم والبغي.
٥ - إنّ الحکمة تکون في مواقف الاعتدال، وعدم الغلوّ في الأشیاء؛ لأنّه قد یودي بالإنسان إلی التهلکة، وکما قیل في المثل: کل ما زاد عن حدّه انقلب إلی ضدّه. وفي هذا المعنی ورد عن النبي الأکرام (صلی الله علیه وآله وسلم): «أنا والله أخشاکم لله، وأتقاکم له، ولکن أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنّتي فلیس مني»[٢٥].
ومن هنا یتضح لنا بأنّ الاستعجال لهومن الغلو في الأشیاء.
(٤)- «قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا، وَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا، فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا، وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا، فَهُومُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الإسْلاَمُ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ، وَأَلْصَقَ الأرْضَ بِجِرَانِهِ، بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ»[٢٦].
«الجُنَّة»: بالضمّ نوع من السلاح، أوما استتر به من سلاح»[٢٧].
اختلف شراح النهج في بیان الفاعل لفعل (لبس)؛ لأنّ صدر الکلام لم یذکره السید الرضي (رحمة الله)، فراحت کل طائفة تفسّر کلام الإمام (علیه السلام) حسب اعتقادها.
قال العلامة المجلسي: إنّه إشارة إلی القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ونقله الشارح المعتزلي في الشیعة والأولیاء.
وقال الصوفیة: إنّه (علیه السلام) یعني به ولي الله في الأرض، وعندهم لا یخلو الدنیا من الأبدال والأولیاء.
وقالت الفلاسفة: إنّ مراده (علیه السلام) به العارف.
وقالت المعتزلة: إنّه (علیه السلام) یرید به العالم بالعدل والتوحید. وزعموا أنّ الله لا یخلي الأمّة من جماعة من المؤمنین العلماء بالتوحید والعدل، وإنّ الإجماع إنّما یکون حجّة باعتبار قول أولئک، لکنه ما تعذرت معرفتهم بأعیانهم اعتبر إجماع الجمیع، وإنّما الأصل قول أولئک.
قال ابن أبي الحدید - بعد نقل هذه الأقوال -: ولیس یبعد أن یرید (علیه السلام) به القائم من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) في آخر الوقت، إذا خلقه الله تعالی وإن لم یکن الآن موجوداً، فلیس في الکلام ما یدّل علی وجوده الآن، وقد وقع اتفاق الفرق من المسلمین أجمعین علی أنّ الدنیا والتکلیف لا ینقضي إلّا علیه. انتهی[٢٨].
وهنا نقول: الأصوب هو رأي الإمامیة، أي: أنّ المراد به قائم آل محمد (عجل الله تعالي فرجه الشريف)؛ لأنّ قضیة القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) مسلّم بها عند جمیع المسلمین بتواتر الأخبار الواردة عنه (علیه السلام) مع اختلاف البعض من غیر الإمامیة بعدم وجوده الآن، وسیولد في آخر الزمان، وهذا مردود کما مرّ علینا سابقاً؛ لأنّ الأدلة العقلیة والنقلیة دلّت علی عدم خلوّ الأرض من حجة، وإلا ساخت وانخسفت بأهلها. إضافة إلی ذلك فإنّ حجة الله لا تتم علی عباده، ویعضد هذا کلام أمیر المؤمنین (علیه السلام) المتواتر لکمیل بن زیاد حیث قال: «اللهم بلی، لا تخلوالأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أوخائقاً مغموراً، لئلّا تبطل حجج الله وبیّناته»[٢٩].
ونأتي الآن لبیان مضامین ودلالات هذا الفصل من خطبة أمیر المؤمنین (علیه السلام):
«قد لبس للحکمة جنّتها»:
وردت لفظة الحکمة في کتاب الله - عزّ وجلّ - في مواضع عدیدة، وقد فسّرها علماء التفسیر بوجوه عدیدة حسب الآیة. فمثلاً في قوله تعالی: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[٣٠]، أي الفقه والمعرفة، وفي قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[٣١]، القرآن والشریعة، وفي قوله: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ)[٣٢]، أي: بتحقیق العلم وإتقان العمل.
وفي الروایات الشریفة معناها بوجوه عدة منها: عن العیاشي عن الإمام الصادق (علیه السلام): «الحمکة المعرفة والفقه في الدین ومن فقه منکم فهوحکیم»[٣٣].
وعنه (علیه السلام): «معرفة الإمام واجتناب الکبائر التي أوجب الله علیها النار»[٣٤].
وفي الصافي من الکافي، وتفسیر العیاشي عن الصادق (علیه السلام) في تفسیر هذه الآیة: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ... وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ)، قال: «طاعة الله، ومعرفة الإمام»[٣٥].
وعن مصباح الشریعة عنه (علیه السلام): «الحکمة ضیاء المعرفة، ومیراث التقوی، وثمرة الصدق، ولوقلت: ما أنعم الله علی عباده بنعمة أنعم وأعظم وأرفع وأجزل وأبهی من الحکمة لقلت.
قال تعالی: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ... وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ)، أي: لا يعلم ما أودعت وهیأت في الحکمة ألّا من استخلصته لنفسي وخصصته بها. والحکمة هي الکتاب وصفة الحکیم هي الثبات عند أوائل الأمور، والوقوف عند عواقبها، وهو هادي خلق الله إلی الله»[٣٦].
وفي الکافي عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) إنّه کان ذات یوم في بعض أسفاره إذ لقاه رکب فقالوا: السلام علیك یا رسول، فالتفت إلیهم وقال: «ما أنتم»؟ فقالوا: مؤمنون، قال: «فما حقیقة إیمانکم»، قالوا: الرضا بقضاءالله، والتسلیم لأمرالله، والتفویض إلی الله، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): «علماء حکماء کادوا أن یکونوا من الحکمة أنبیاء، فإن کنتم صادقین فلا تبنوا ما لا تسکنون، ولا تجمعوا ما لا تأکلون، واتقوا الله الذي إلیه ترجعون»[٣٧].
ومن هنا تری أنّ الآیات الکریمة والروایات الشریفة دلّت علی شرافة ومنزلة الحکمة. وإذا رجعنا إلی قوله (علیه السلام): «قد لبس للحکمة جنّتها» فالمقصود بجنة الحکمة مخافة الله - عزّ وجلّ -، وحیث جعل النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) رأس الحکمة مخافة الله کما في الخصال عنه (صلی الله علیه وآله وسلم): «رأس الحکمة مخافة الله»[٣٨]، حیث أنّ وجود الحکمة یکون رادعاً للنفس عن شهواتها وأهوائها، وبالتالي تکون جنّة من الوقوع في العذاب والهلکة، کما أنّ السلاح یستتر به مثل الدرع حتی لا یُصاب الإنسان با لأذی من قبل العدو.
ثم قال (علیه السلام): «وأخذها بجمیع أدبها».
والمقصود أنّه عمل بموجبها، فأخذها بجمیع کمالاتها وآدابها من الإقبال علیها والمعرفة بأحکامها، والتفرغ لها، والانصراف عن الفضول والخوض بما لا نفع فیه، أي: أنّه بعد ما عرف أنّ من یؤت الحکمة فقد أوتي خیراً کثیراً، وأنّها ذات فضل وشرف أقبل علیها وحرص علی أن تکون همّته فیها وترك کل ما یشغله من أمور الدنیا التي تتعارض مع الحکمة. فلا یمکن لعاقل أن یهتم بما وصفه الله في کتابه الکریم علی أنّها متاع قلیل - أي: الدنیا -، ویفوته ما فیه الخیر الکثیر- أي: الحکمة -.
ومن هذا المنطلق نجد أنّ الحکماء - ومنهم لقمان لزهده بأمور الدنیا، وورعه في الله، وعدم اکتراثه بما یمر علیه في هذه الدنیا، من الفرح لما أتاه، أو الحزن لما فقده، فإنّ الله تعالی آتاه الحکمة، وعصمه من الزلل، فکان أحکم أهل زمانه -.
وقال (علیه السلام): «فهي عند نفسه ضالته التي یطلبها، وحاجته التي یسأل عنها»:
هذا المعنی رواه الشریف الرضي في نهج البلاغة، حیث قال (علیه السلام): «الحکمة ضالة المؤمن»[٣٩]. ولیس المراد أنّها غیر موجودة، وإنّما أراد الشوق والمحبّة والرغبة بالحکمة لما فیها من الفضل بحیث أنّ الله تبارك وتعالی نقل حکم لقمان في کتابه الکریم في سورة لقمان، من الآیة ١٣ - إلی الآیة ١٩.
«فهومغترب إذا اغترب الإسلام»:
ولا یخفی بأنّ المراد بهذا المقطع من خطبة الإمام علي (علیه السلام) هوالإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الذي يستترعن أعین الناس، ویختار العزلة، وذلك عندما یکون الإسلام غریباً ضعیفاً کما أخبر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) عن ذلك عندما قال: «بدأ الإسلام غریباً وسیعود غریباً کما بدأ»[٤٠].
وروی النعماني في غیبته عن أبي بصیر قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أخبرني عن قول أمیرالمؤمنین: «إنّ الإسلام غریباً وسیعود کما بدأ، فطوبی للغرباء»، فقال (علیه السلام): «یا أبا محمد، إذا قام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) استأنف دعاءً جدیداً، کما دعا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)»[٤١].
وإذا اغترب الإسلام فالمؤمن یکون غریباً بینهم کما هوالشأن في عصرنا هذا.
«وضرب بعسیب ذنبه»:
عسیب الذنب: أي: أصله. وقیل: عسیب الذنب منبته من الجلد والعظم[٤٢].
وهنا کنایة عن ضعف الإسلام وتبعه، فشبّهه (علیه السلام) بالبعیر البارك، الذي تعب وتأذی ضرب بذنبه، أو أنّ المؤمن المخلص یکون بین القوم الفاسقین کالبعیر الذي ألصق نحره في الأرض وضربها بذنبه، فلا یستطیع في شيء سوی ذلك. وقیل: معناه أنّه فارق أهل الفتنة، وضرب في الأرض ذاهباً في أهل دینه وأتباعه، الذین یتبعونه علی رأيه وهم الأذناب.
وقال الزمخشري: الضرب بالذنب - هاهنا - مثل للإقامة والثبات، یعني: أنّه یثبت هو ومن تبعه علی الدین[٤٣].
«وألصق الأرض بجرانه»:
في الصحاح: جران البعیر: مقدّم عنقه من مذبحه إلی منحره، والجمع جرن، وکذلك من الفرس[٤٤].
قال ابن أبي الحدید: معنی الکلام: أنّه إذا صار الإسلام غریباً مقهوراً، وصار الإسلام کالبعیر البارك یضرب الأرض بعسیبه – وهو أصل الذنب - ویصلق جرانه – وهو صدره - في الأرض فلا یکون له تصّرف ولا نهوض[٤٥]. ولا یخفی أنّ في الکلام إشارة إلی غیبة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
روی الصدوق في کماله عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الصادق (علیه السلام) قال: «إنّ لصاحب هذا الأمر غیبة لابدّ منها، یرتاب فیها کُلّ مبطل». فقلت فَلَم - جعلت فداك -؟ قال: «لأمر لم یؤذن لنا في کشفه لکم». قلت: فما وجه الحکمة في غیبته؟ قال: «وجه الحکمة في غیبته، وجه الحکمة في غیبات من تقدّمه من حجج الله تعالی ذکره، إنّ وجه الحکمة في ذلك لا ینکشف إلّا بعد ظهوره، کما لم ینکشف وجه الحکمة فیما أتاه الخضر (علیه السلام) من خرق السفینة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسی (علیه السلام)، إلی وقت افتراقهما»[٤٦].
وبعد ما وصفه الإمام (علیه السلام) بلبسه لجنّة الحکمة، وإیثاره العزلة والغیبة، عرفه بأنّه: (بقیة من بقایا حجته) علی عباده و(خلیفة من خلائف أنبیائه) في بلاده. وهذا یرجّح بأنّ المراد بهذا الفصل من الخطبة هوالإمام القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف).
والمراد أنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) هوالباقي من حجج الله تعالی، الذین یحتجّ بهم علی عباده وهو امتداد لأنبیائه ورسله.
روی الصدوق في (کمال الدین) عن الورّاق عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق الأشعري، قال: دخلت علی أبي محمد الحسن (علیه السلام) وأنا أرید أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدءاً: «یا أحمد بن إسحاق، إنّ الله تعالی لم یخل الأرض منذ خلق آدم، ولا یخلیها - إلّا أن تقوم الساعة - من حجة الله علی خلقه، به یدفع الله البلاء عن أهل الأرض، وبه ینزل الغیث، وبه تخرج برکات الأرض»، فقلت له: یا بن رسول الله، فمن الإمام والخلف بعدك؟ فنهض مسرعاً، فدخل البیت، ثم خرج وعلی عاتقه غلام کأنّ وجهه القمر من أبناء ثلاث سنین، فقال: «یا أحمد لولا کرامتك علی الله عزّ وجلّ، وعلی حججه، ما عرضت علیك ابني هذا، إنّه سمي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، وکنیّه الذي یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت جوراً وظلماً، یا أحمد، مثله في هذه الأمّة مثل الخضر، ومثل ذي القرنین: والله لیغیبنّ غیبة لا ینجو من الهلکة فیها إلّا من ثبّته الله عزّ وجلّ علی القول بإمامته، ووفّقه فیها للدعاء بتعجیل فرجه». قال أحمد: قلت: یا مولاي فهل من علامة یطمئن إلیها قلبي؟ فنطق الغلام بلسان فصیح فقال: «أنا بقیة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، ولا تطلب یا أحمد أثراً بعد عین».
فخرجت فرحاً، فلمّا کان من الغد عدت إلیه، فقلت: یا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت به عليّ، فما السنّة الجاریة فیه من الخضر وذي القرنین؟ قال: «طول الغیبة»، قلت: وإنّ غیبته لتطول؟ قال: أي وربّي، حتی یرجع عن هذا الأمر أکثر القائلین به»[٤٧].
وفي هذا المقطع من الخطبة یقول ابن أبي الحدید المعتزلي:
فإن قلت: ألیس لفظ الحجّة ولفظ الخلیفة مشعراً بما تقوله الإمامیة؟ قلت: لا، فإنّ أهل التصوّف یسمّون صاحبهم حجّة وخلیفة، وکذلك الفلاسفة، وأصحابنا لا یمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ علی العلماء المؤمنین في کل عصر، لأنّهم حجج الله، أي: أجماعهم حجّة، وقد استخلفهم الله في أرضه لیحکموا بحکمه.
أقول: إنّ هذا مردود؛ حیث أنّ حجّة الله لابدّ أن تکون معصومة فهي تمثل الأسوة بالنسبة للخلق، فلا یحتجّ الله تعالی علی عباده بشخص یمکن أن یرتکب الذنوب والمعاصي کسائر الناس.
وهنا کیف یقتدي الناس بحجّة منحرفة؟ ثمّ أنّ الشارح المعتزلي یقول: إنّ المتصوّفة والفلاسفة وأصحابه المعتزلة یطلقون لفظ الحجة، فهذا ادّعاء بإطلاقهم لهذا اللفظ ولا یستند إلی شيء.
وأمّا حجیّة العلماء، وأنّهم ورثة الأنبیاء، لیس من باب أنّ قوله حجّة؛ لأنّه عالم، بل علی اعتبار دخول قول المعصوم في جملة قوله، فیکون بذلك حجّة.
وأمّا قول البحراني: أنّ العلماء والعارفین هم حجج الله في الأرض علی عباده - استناداً إلی حدیث: «العلماء ورثة الأنبیاء» -، وهذا أیضاً لا وجه له؛ لأنّ الوراثة هنا لیست وراثة حقیقیة، وإنّما جاء من باب التشبیه والمجاز، أي: أنّهم أخذوا علومهم أو ورثوا علوم الأنبیاء، في حین أنّ وراثة الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) وخلافته هي وراثة وخلافة حقیقیة.
ومن بعد ما مرّ علینا من البیان والتأویل في هذه الخطبة لأمیر المؤمنین (علیه السلام) نذکر فیما یأتي بعض الاستدلالات التي توصلنا إلیها وهي:
١ - لا یمکن أن تجتمع الحکمة مع هذه الدنیا ولهوها ولذاتها، فالحکیم من لا یکترث بهذه الدنیا وما یمر فیها من الفرح والحزن وغیرها.
٢ - إنّما صارت الحکمة جنّة من الوقوع في العذاب والهلکة، وذلك کونها تمثّل رادعا لنفس الإنسان من شهواتها وأهوائها.
٣ - إنّ وصف أمیر المؤمنین (علیه السلام) لولده القائم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حین قال: «لبس للحکمة جنّتها» یبیّن أنّه (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أراد الحکمة لأجل الحکمة لا لأجل أن تکون درعاً یستتر به من الوقوع في الهلکة کما عند من لبس الحکمة من عوام الناس؛ وذلك لأنّه (عجل الله تعالی فرجه الشریف) معصوم فلا یحتاج إلی مثل هذه الدرع لکي یستتر به من الوقوع في العذاب والهلکة.
٤ - عودة الإسلام غریباً دلیل عودة الجاهلیة الأولی في آخر الزمان؛ حیث لم یبق من الإسلام إلّا اسمه، ومن القرآن إلّا رسمه؛ وذلك لابتعاد الناس عن تعالیم الإسلام الأصیلة وعن مناهج القرآن الکریم، وعند ما یکون المؤمن سجیناً في مجتمع من غیر سنخه.