وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الإيقاع في خطب نهج البلاغة – الأول

نصر الله شاملي[١]، جمال طالبي قرة قشلاقي[٢]

تحتوي خطب نهج البلاغة للإمام علي (ع) على أساليب فنيةِ جميلةٍ من حيث شكلها الظاهري وهي تتلاءم مع ما تحوي من معانٍ.

هذه الأساليب أدّت إلى تأليف إيقاع ذي سلالم موسيقيةِ تستلذّها الأسماع وترتاح لها النفوس عند قراءتها وتجد متعةً وجمالاً وتجري على الألسنة بخفةِ ورشاقةِ لما في كلمات الإمام من تلاؤم في الحروف والحركات. تناولها فيما يلي موضوع الإيقاع في خطب نهج البلاغة من خلال سبعة مواضيع:

الإيقاع الناتج من التجمعات الصوتية – الإيقاع الناتج من التكرار- الإيقاع الناتج من تجانس الأصوات – الإيقاع الناتج من التوازن بين الجمل – الإيقاع الناتج من السجع – الإيقاع الناتج من الجناس – الإيقاع الناتج من التقابل.

المقدمة

قد عكف كثير من العلماء والباحثين على دراسة نهج البلاغة، ودرسوا جوانب مختلفة منه وبذلوا في ذلك جهوداً متضافرةَّ تستحق التقدير، الأّ أن معظم تلك البحوث قد تناولت الجوانب البلاغية والبيانية فيه.

ولم تحظ الجوانب الأخرى إلا بقليلِ من الإهتمام. (انظر: خاقاني , محمد , جلوه هاي بلاغت در نهج البلاغة أطروحة الدكتوراه بجامعة تربيت مدرس، الطبعة الأولى، بنياد نهج البلاغة).

ومن المواضيع التي لم يعتن بها الباحثون – كما ينبغي – في دراساتهم موضوع الإيقاع في خطب الإمام (ع) ولا نلاحظ فيما كتبوا إلاّ إشارات وجيزة وخاطفة ويمكن أن نشير إلى بعض الباحثين في هذا المجال، ومنهم محمود البستاني في كتابه تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي، مع أنه لم يتطرق إلى هذا الموضوع إلاّ بشكلِ عابرِ ولم يذكر إلاّ نماذج قليلة له.

وفي حين نراه يشير إلى وجود الإيقاع في نماذجه نراه قد أهمل إيضاح العناصر البناءة للإيقاع بناءً على هذا تهدف هذه الدارسة المتواضعة إلى تبيين الإيقاع في خطب نهج البلاغة قدرالمستطاع.

الخطابة فنّ من فنون الكلام تهدف إلى مخاطبة الجمهورمحاولةَ إقناعه واستمالته عن طريق السمع والبصر معاً.

يرتكز هذا الفن على النظر في كل ما يؤدي إلى الإقناع. فلا غرو إذا قلنا إن الخطابة تعتبر أقوى الفنون النثرية تأثيراً في الجمهور، وتحمل الآداب العالمية في طيّاتها نصيباً وافراً من الخطب، وللأدب العربي القدح المعلّى في هذا المضمار من حيث المغزى والجماليات لكننا نجد جذورالخطابة عند علماء اليونان الأقدمين،فأرسطو يعرّف الخطابة بأنها الكشف عن الطريق الممكنة للإقناع في أي موضوع كان(أرسطو، ترجمة الدكتورعبدالرحمن البدوي، ٢٩ ).

تتمثل مهمّة الخطابة في أمرين:

أولاً: التأثير في آراء الجمهور

يجب أن تكون الخطابة قادرةً على التأثير في آراء السامعين بغضّ النظرعن إيجابيتها أو سلبيتها، والتأثير الذي هو إحدى غايتي الخطابة يصل إلى النفس عن طريقين: فما يطرق السمع منه يأتي عن طريق اللفظ والعبارة والأسلوب، وطريقة الإلقاء والصوت والنبر (درويش، ص ٣). وتكون مهمة الخطابة عند أرسطو التأثير في آراء المخاطبين (أنظر: أرسطو، ص ١٩٤ ).

ثانياً إقناع الجمهور

هذه المهمة تتطلب وجود صبغة أدبية في الخطابة إذ غايتها الإقناع عن طريق تحريك الأفكار وإثارة المشاعرمعاً (غنيمي هلال، ص ٩٦). وهنا تكمن أهمية الخطابة لتأخذ مكانة مرموقة بين الفنون الأدبية ومن النقاد من يرجّح الخطابة على الشعر الغنائي قائلاً إنها أجلّ من الشعر الغنائي تأثيراً وأقوى أثراً لذهابها في الدفاع مذهب التأثير والإقناع (درويش، ص ٥).

الإيقاع

لم تنل ظاهرةّ من الظواهرالأدبية الحديثة من الإهتمام مثلما نالت ظاهرة الإيقاع، فهى تعدّ أساساً من أسس تأليف النص وبنائه وبدونه يتعّذرسيرالعمل الإبداعي سواء كان نثراً أم شعراً الإيقاع بمفهومه العالم هو التنظيم، أما الإيقاع مصطلح فني له حدوده وقوانينه في الشعروالنثرمعاً إن «لفظة الإيقاع مشتقةً أصلاً من اليونانية بمعنى الجريان والتدفّق، وهو صفةً مشتركةُ بين الفنون جميعاً، وتبدو واضحة في الموسيقى والشعروالنثر» (وهبة، والمهندس، ص ٧١) ويحدث الإيقاع بالأفادة من جرس الألفاظ وتناغم العبارات لإحداث «التوافق الصوتي بين مجموعة من الحركات والسكنات لتأدية وظيفةٍ سمعيةٍ والتأثيرفي المستمع ويأتي الإيقاع من اختيار الكلمات من حيث كونها تعبرعن قيمة التأثيرالذي تحدثه وظيفة الكلمة في مدلولها الإيقاعي، فهو إحداث استجابة ذوقيةٍ تمتع الحواس وتثير الإنفعالات» (فيدوح، ص ٣٣٥).

كما أن عدد الكلمات التي تكون الإيقاع بتركيباتها تعتمد تماماً على عدد الكلمات اللازمة لتوصيل المعنى في النثر و«الإيقاع في الإصطلاح الأدبي هو حركة النغم الصادر عن تأليف الكلام المنثور والمنظوم والنتائج عن تجاور أصوات الحروف في اللفظة الواحدة وعن نسق تزاوج الكلمات فيما بينها وعن انتظام ذلك كله، سواء في سياق الأوزان أوالقوافي.

فالإيقاع هو في حصيلته النهائية تواتر الحركة النغمية من حيث تآلف مختلف العناصرالموسيقية أو تنافرها ومن حيث درجة ذلك التآلف ومؤثراته الإيجابية غنّى أو فقراً، اتساعاً أو ضيقاً، تنوعاً أو رتابةً (بديع يعقوب، عاصي، ص ٢٧٢). والإيقاع في أبسط تعريف له تعاقبُ أنغام منسقة في عملية تتابع.

الإيقاع الصوتي

الإيقاع الصوتيّ ينشأ من أصوات الحروف والحركات في الكلمة، ومن اختيار الكلمات ومن تنضيد الجملة من كلماتٍ، وما فيها من حركاتٍ ومدَّاتٍ منسُوقة، ومن منهج التَّركيب، ومواقع الكلمات، ومن طول الكلمات والجمل وقصرها، ومن مقاطع الجمل وفواصلها كلُّ ذلك روافد رئيسيةُ يستجمع منها الإيقاع الصوتيّ.

٢- أن منابع الموسيقي الظاهرة في العمل يمكن ردّها إلى ما يأتي الموسيقى النابعة من تآلف أصوات الحروف في اللفظة الواحدة والحروف، كما لا يخفى أن الاصوات متفاوتة الجرس يقرع بعضها حين تجتمع في اللفظ فينتج عن تقارعها المتناغم سُلّم موسيقي جميل.

٢ - الموسيقى النابعة من تآلف الكلمات حين تنتظم في الترتيب فقرات وجمل، فالألفاظ المفردة تقرع الألفاظ المفردة المجاورة لها ولاحقاً وينجم عن تقارعها المتناسق سلالم موسيقية جميلة على أن هذا التناغم الصوتي بين الألفاظ المفردة والمركبة، لا تتمّ جماليته الموسيقية إلا بتمام التناسق بين أصوات اللفظ ومدلوله من المعنى (عاصي، ص ٩٨).

الايقاع في الخطابة

إن الإيقاع يجمّل النثر ويضفي عليه صبغةً فنيةً كما أنه يختلف عن الوزن اختلافاً جوهرياً، إذ أصبح من المسلمات النقدية الجديدة إن الإيقاع غير الوزن وكثيراً ما يتعارض الإيقاع والوزن حيث يطرأ على الوزن كثير من التغييرات، إن الوزن جزء من الإيقاع وليس العكس، فالوزن مقيد بالإيقاع ولا يتقيد الإيقاع بالوزن يعتقد بعض النقاد بالفصل بين الوزن والإيقاع، منهم الدكتورمحمد غنيمي هلال حيث يقول: «ينبغي أن نفرق بين أمرين يكثر الخلط بينهما: أوّلهما الإيقاع، ويقصد به وحدة النغمة التي تتكررعلى نحو ما في الكلام أو في البيت، أي توالي الحركات والسكنات على نحو منتظمِ في فقرتين أو أكثر من فقر الكلام او في أبيات القصيدة، وقد يتوافرالإيقاع في النثر...وقد بلغ الإيقاع في النثر درجةً يقرب بها كل القرب من الشعرأما الإيقاع في الشعرفتمثّله التفعيلة في البحرالعربي فمثلاً« فاعلاتن» في بحر الرمل تمثل وحدة النغمة في البيت (أي توالي متحرك فساكن، ثم متحركين فساكن، ثم متحرك فساكن) ثانيهما الوزن، وهو مجموع التفعيلات التي يتألف منها البيت وقد كان البيت هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية (غنيمي هلال، ص ٤٣٧ -٤٣٦ ).

إن الإيقاع أحد أهم أركان أيّ عمل فني وما من شكِ في أن الإيقاع هو العنصر الهيكلي الرئيسي في كل الفنون، أكانت زمانية أم مكانيةّ، وليست فنون اللغة بدعاً من تلك الفنون لابّد أن نتفق على أن الإيقاع يتحقق في كافّة مظاهرالحياة: في الحركة , الصوت , الموسيقى، واللغة و... والنثرعامّة والخطابة خاصةً لا يخلوان من الإيقاع.

هذا ما يعتقده الباحثان (رونيه وليك) و(واستن ورين) بقولهما ليست مشكلة الإيقاع مقصورة على الأدب بشكل نوعي أو حتّى على اللغة. فهناك إيقاع للطبيعة وآخر للعمل، وإيقاع للإشارات الضوئية وإيقاعات للموسيقى، وهناك بالمعنى المجازي إيقاعات للفنون التشكليلية (رونيه وليك وواستن ورين، ص ١٧٠).

أما في النثر فإن الإيقاع نظام معقّد ولكنه موجود ويرى الدكتور كمال ابو ديب أن للنثر إيقاعه، وبمعنىً آخر أنه يقوم على إيقاع الفقرة اوالسطرلأنه يستند بقوة إلى الفصل والوصل. فقد كانت مبادىء الفصل والوصل في الشعرالخليلي تقوم على طول التفعيلات وحدودها، وعلى الشطر والسطر محددان بالقافية ونهاية البيت.

أما إيقاع النثر فيقوم على فصل ووصل من نمط مختلف ينشئه البعد الدلالي المتعلق بامتداد النفس، والضغط النابع من تموجات التجربة والقراءة والحركة الداخلية للهجة الشعرية (ابو ديب، ص ٢٢١).

و يرى الدكتورغنيمي هلال أن لغة النثر ليست موزونةً وينبغي الاّ تكون الخطبة في عبارات موزونةً لأن الوزن يقضي – بمظهره المصطنع - على ثقة السامعين في الخطيب ويصرف أنظارهم إلى شيء آخر في نفس الوزن ولكن ينبغي الاّ تكون الخطبة خالية من الإيقاع rythme لأنه يساعد على الإقناع (غنيمي هلال، ص ١١٨).

أرسطو يعتقد بضرورة الإيقاع في النثرلأنه اذا كان بدون إيقاع، فأنه يكون غيرمحدودِ، بينما ينبغي أن يكون محدوداً (لكن لا بالزمن)لأن ما هو محدودِ لا يسر ولا يمكن أن يعرف وكل الأشياء محدودة بالعدد والعدد الخاص بشكل القول هو الإيقاع، ولهذا ينبغي الا يلتزم هذا الإيقاع التزاماً دقيقاً بل إلى حد ما فقط (أرسطو، ص ٢١٢).

ويرى بعض النقاد أن النثر يخلو من مسألة الإيقاع الموسيقى (أنظر: عاصي، ١٩٧٠، ص ٤٦). وعلى الرغم من أن الخطيب يحظر عليه استعمال الوزن، لأنه يبين عن الإصطناع والتكلف وبهما تفقد مشاعره صبغة الصدق أمام جمهوره، عليه عند ذلك أن يصوغ عباراته بحيث لا تخلو من الإيقاع، يستعين به الخطيب على إثارة الإنفعالات فتكون الجمل ذات أجزاء لا طويلة ولا قصيرة، يسهل النطق بها في نفس واحدٍ لأنها لو كانت حداً طويلةً ملّها السامع وتخلف عن متابعتها وإذا جاءت جداً قصيرةً فاجأته فجعلته يضيق بها، كأنما نعثرفكره، فوقف دون ما ينتظر(غنيمي هلال، ص ٩٦).

إن الغاية من هذا كلّه تحقيق ثمرتين: هما القيمة الجمالية والقيمة التعبيرية أي أن جمال الإيقاع مستفاد من تناسب العناصر في وزنها وحركتها وشكل نظامها فضلاً عن قدرة الإيقاع على التعبير والتصوير والتأثير(العياشي، محمد، ص ٦٨).

الإيقاع في نهج البلاغة

إن اللغة العربية لغةً موسيقيةً، وللألفاظ فيها قيمةً موسيقيةً إلى جانب دلالتها المعنوية.

والسبب في ذلك يعود إلى أن الأدب العربي أدب أشدّ العناية بالناحية الصوتية المسموعة وأن ذلك يرجح إلى تاريخه وتاريخ الأمة العربية نفسها، فلم تكم الأمة العربية أمةً قارئةً ولا كاتبةً وإنما كانت أمةً ناطقةً فصيحةً (حسان، ص ٤٠٩ ).

ويرى بعض المحدثين أن المنشأ النفسي لميل العرب إلى الإيقاع وشيوعه في القول العربي بشكلٍ لافت للنظر إنما هو التركيب النفسي للشخصية العربية القديمة التي طبعتها الصحراء الرتيبة بإيقاعها الرتيب ذي النغمة الواحدة المتكررة (أمين، أحمد، ص ٤٥ ).

إن نهج البلاغة يسير على سنن العربية وأساليبها في التعبير، فيمتاز في غالبية خطبه بإسلوبٍ إيقاعيّ رائعٍ وجرس لافتِ للنظر. ولا نشك في أن الإنتظام في الإيقاع النثري قابلّ للتحقيق دون موازين الخليل.

يشتمل نهج البلاغة على إيقاعات موسيقيةٍ متعددة أنواع ليؤدي وظائف جماليةَ مختلفةَ إذ أن الأثر الممتع للإيقاع ثلاثي: عقلي، وجمالي ونفسي.

أما العقلي فلتأكيده المستمر أن هناك نظاماً ودقهً وهدفاً في العمل الجمالي لانه يخلق جواً من حالة شبه واعيةِ على الموضوع كله. وأما النفسي فإن حياتنا إيقاعية: المشيء، والنوم، والشهيق، والزفير وانقباض القلب وانبساطه (اسماعيل، ص ٣٦١).

جمع نهج البلاغة بين مزايا الشعر والنثر وقد تجاوزقيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة فنال بذلك حرية التعبيرالكاملة في جميع أغراضه وتضمن في الوقت ذاته من خصائص الشعر، الموسيقى الداخلية والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاصيل، والتقفية التي تغني عن القوافي.

فالموسيقى في نهج البلاغة إشعاع للنظم الخاص في كل موضع وتابعة لقصرالفواصل وطولها كما أنها تابعةً لإنسجام الحروف في الكلمة المفردة ولإنسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة. إن العلاقة بين نهج البلاغة والموسيقى علاقةً وطيدةً، فموسيقى نهج البلاغة اللغوية من أروع أنواع للموسيقى اللغوية وأجملها على الإطلاق، وأشدّها تجانساً وأكثرها تناغماً وانسجاماً وهي موسيقى ناشئة من تخير الكلمات وترتيب الحروف والجمل حسب أصواتها ومخارجها وما بينها من تناسبِ في الجهر والهمس والشدة والرخوة.

تجليات الإيقاع في نهج البلاغة

شاع في الدراسات الحديثة مصطلحان مترجمان: الإيقاع الخارجي ويشمل الوزن والقافية، والإيقاع الداخلي ويشمل مباحث من علم البديع في البلاغة العربية كالجناس، والموازنة، والتقسيم , وردّ الاعجاز على الصدور وغيرها مما يعرف بالمحسنات اللفظية وقد يستبدل بهذين المصطلحين مصطلحا الموسيقى الخارجية، والموسيقى الداخلية.

أما المراد بالإيقاع الداخلي تلك الإحساسات الخاصة بالأصوات والألفاظ والتراكيب بحيث تكون مؤثرةً في النص وقادرةً على خلق الدلالات الجديدة التي تنطلق من سياقِ خاصِ ومما لا شك فيه أن للإيقاع الداخلي وقعاً صوتياً على الأذن، الأمر الذي يؤدي إلى تثبيت حالةِ شعوريةِ تكون قد نهضت بالإستناد إلى قيمةِ تعبيريةِ معتمدةِ على الالفاظ، وهذه الألفاظ هي من التقاط تلك الحالة الإنفعالية.

ويظهر ولع العرب بجمال الإيقاع في كثرة السجع والإزدواج والتوازن والترصيع في منثور كلامهم، وقد أشار بعض الباحثين إلى هذه الحقيقة فقال: لقد إزدانت العربية بزينة الإيقاع منذ نشأتها نظماً ونثراً، وما التنوين والإعراب سوى بعض آلات الموسيقى اللفظية، وما التسجيع والتوازن والإزدواج وأنواع البديع اللفظي و... سوى مظاهر أخرى لإهتمام العرب المفرط بجمال الرنّة وحسن الإيقاع (غريب روز، ص ١٣٢).

إن خطب نهج البلاغة مليئة بالإيقاعات المتنوعة حتى لا نكاد نعثر على مفردةِ أو جملة قصيرة أوطويلة تخلو من الإيقاع وقد بحثنا هذا الموضوع من جوانب متعددة وأولها ما يلي:

١ – الإيقاع الناتج من التجمعات الصوتية بالحروف والكلمات والجمل

«يتولد من إيقاع الأصوات بالحروف والكلمات والجمل ما يسمى بالجرس، ولكل منها جرسّ خاصّ بها إذ أن جرس الحروف في صوتها المنغم وهي تختلف في صفاتها حسب المخارج ونغمة الصوت، وجرس الكلمات في نغمها و

صوتها وإيقاعها الذي يحصل نتيجة التلاؤم بين حروفها وائتلاف هذه الحروف وتوافق أصولها.

اما جرس الجمل فهوالإيقاع الصوتي الحاصل من التلاؤم بين كلماتها وتوافق أصواتها وحلاوتها» (الخالدي، ص ٩٢ – ٩١).

تشكل التجمعات الصوتية بالحروف إيقاعاً صوتياً، إذ أن الكلام في حدّ ذاته يتحدد بداهةً بأنه حروفُ منظومةُ وأصواتُ مقطعةُ، ومردّ ذلك أن مادة الكلمة هي الحروف، وأن الحروف أصواتُ متقطعةُ على وجهِ مخصوصِ كما أنها أصواتُ مفردةُ اذا ألفت صارت الفاظاً وتبرز ظاهرة تعبيرية الحروف التي ترتبط بالسياق الصوتي في لغةِ معينةِ إذ أن الإيقاع هو الذي يبرز البنية الصوتية في قوالب زمنيةِ تمارس من خلالها الايحاء (فصل، ص ٤٧٢).

فصوتية الحروف هي التي تشكل النغمات لما تمتاز به من تقطيعِ وتنغيمِ (هلال، ص ١٣٣).

يشكل التجمع الصوتي من خلال الكلمات إيقاعاً صوتياً إذ يتحقق «التوافق والإنسجام بين أصوات في كلماتِ متتاليةِ» (وهبة والمهندس، ص ١٢٥).

ويشكل تناغماً يأتي من إنسجام الأصوات في تلاحق كلمات (علوش، ص ٢١٨).

تشكل التجمعات الصوتية بالجمل إيقاعاً يمكن أن نسمّيه بالمعادلات اللفظية إذ تعني الجمل المتقاربة في أطوالها وأنغامها الداخلية وفواصلها الموسيقية، فعندما تتلاحق الجمل بأفعالها أو أسمائها تتكوّن التجمعات الصوتية وبذلك يتشكل الإيقاع الصوتي.

إن للحرف في اللغة العربية إيحاءً خاصاً فهو إن لم يكن يدل دلالةً قاطعة على المعنى يدل دلالة إتجاهِ وإيحاءِ ويثير في النفس جواً يهيء لقبول المعنى ويوجه إليه ويوحي به (المبارك، ص ٢٦١).

يقول الإمام (ع) في ذّم أهل البصرة بعد وقعة الجمل: «أخلاقكم دقاقً وعهدكم شقاقً ودينكم نفاقً وماءوكم زعاقً» (نهج البلاغة، خطبة ١٣، ص ٣٨).

وحرف القاف من الحروف المجهورة التي يستعمل في الحدث الشديد وتفيد الشدة والاصطدام.

نحن نجد عند الإمام (ع) ما يعتقد به من أن العرب «جعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل الأضعف» (إبن جني، ج ١، ص ٦٥).

أن الامام يستخدم في مواقف كثيرةٍ من خطبه تجمعات صوتيةً مختلفةً متلاءماً مع متطلبات سياق الخطبة، التي توجد إيقاعات هائلةً ذات سلالم موسيقيةٍ جميلةٍ فبعض الكلمات يبدو خافتاً، وبعضها يظهر مجلجلاً، وبعضها خفيف التموجات يجري كالماء وبعضها تسمع له ما يشبه الحفيف أو الخرير وبعضها له نقراتُ كالدفوف أو طرقات كمطرقة الحدّاد، وبعضها تحس فيه صلابةً، وبعضها تلمس فيه الرخاوة واللين، وبعضها هواءُ يسمح بالتموّج الصوتي والطواعية الموسيقية كحروف المدّ عندما تقرأ المقطوعة التالية من إحدى خطبه تتّضح المسألة بوضوحٍ، حيث يقول في مذّمة الدنيا مستخدماً أكثر حروفها من الحروف المجهورة ذات وقعِ شديدِ على الأذن: إن برقّها خالبُ، ونطقها كاذبّ وأموالها محروبةُ وأعلاقها مسلوبةُ ألا وهي المتصديةُ العنونُ، والجامحةُ الحرونُ، والمائنةُ الخؤونُ، والجحودُ الكنودُ، والعنودُ الصّدودُ، والحيّودُ الميّودُ، حالها انتقال، ووطأتها زلزال وعزّها ذلُّ وجدّها هزلّ، وعلوّها سفلّ، دارحربٍ وسلبٍ ونهبٍ وعطبٍ، أهلها على ساقٍ وسياقٍ، ولحاقٍ وفراقٍ قد تحيّرت مذاهبُها، وأعجزت مهاربها، وخابت مطالبها فأسلمتهم المعاقلُ، ولفظتهم المنازلُ وأعيتهم المحاولُ، فمن ناجٍ معقور، ولحمٍ مجزورٍ، وشلوٍ مذبوحٍ، ودمٍ مسفوحٍ، وعاضّ على يديه، وصافقٍ بكفيه، ومرتفق بخديه، وزارعلى رأيه، وراجحٍ عن عزمه، وقد أدبرت الحيلةُ، واقبلت الغيلةُ، ولات حين مناصٍ، هيهات هيهات، قد فاتَ ما فات، وذهبَ ما ذهبَ، ومضت الدنيا لحالِ بالها (نفس المصدر، خطبة ١٩١، ص ٣٨٣).

هذه المقطوعة تشتمل على عناصرمختلفةٍ والتي ينتج عنها إيقاع متّسقُ وموسيقى رائعةُ، منها: إيقاع التجمعات الصوتية من خلال عدة حروف منها الباء في كلمات (خالب، حالب، محروب، مسلوب، حرب، سلب، نهب، عطب، ذهب) ومنها النون في كلمات (العنون، الحرون، الخؤون) ومنها الدال في كلمات (الجحود الكنود، العنود، الصدود، الحيود، الميود) ومنها اللام في كلمات (انتقال، زلزال، ذل، هزل، سفل ) ومنه القاف في كلمات (ساق، سياق، لحاق، فراق، صافق، مرتفق) ومنها اللام في كلمات (المعاقل، المنازل، المحاول) ومنها الراء والحاء في كلمات (معقور، مجزور، مذبوح، مسفوح) هذه الكلمات قد ختمت بالحروف المجهورة الشديدة والرخوة تشبه حركة موج البحر العالية تارةً والخافضة اخرى ومنها التقابل بين كلمات (عز وذل – جد وهزل - علو وسفل - أدبرت وأقبلت ) ولا شك أن التضاد بين الكلمات من العناصرالبنّاءة للإيقاع في الخطبة ومنها السجع بين عدّة جملٍ وهو مشهود في المقطع المذكور ومنها الجناس بين كلماتٍ مختلفةٍ وهو أيضا واضحُ فيما ذكر والحروف الهوائية أي حروف المدّ والحركات وظيفةً فنيةُ صوتيةُ او وظيفةُ موسيقيةُ فإن هذه الحروف هي التي تفسح المجال لتنوع النغمة الموسيقية للكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة لسعة إمكانياتها الصوتية ومرونتها (المبارك، ص ٢٥٦).

يقول الأمام في أوّل خطبة له في كتابه «الحمدُ للهِ الذي لا يبلغُ مدحته القائلونَ ولا يحصي نعماءه العادّون ولا يؤدي حقّه المجتهدون الذي ليس لصفته حدُّ محدودُ ولا نعتُ موجودُ ولا وقتُ معدودُ» (نهج البلاغة، خطبة ١، ص ١٣). اكتسبت الكلمات والجمل في هذا المقطع جرسأً موسيقياً خاصاً وياتي ذلك من تشابه بعض الكلمات في الوزن وتماثل بعضها الآخر، ومن التساوي بين الفقرتين أو الجملتين في عدد الكلمات او في أوزانها ومما لا شك فيه أن استخدام حروف المدّ في نهاية بعض المفردات قبل الحروف المجهورة قد أضفى على هذا المقطع إيقاعاً ملحوظاً وأحدث رنيناً يتلاءم مع سياق الخطبة.

يتبع  ...

--------------------------------------------
[١] . استاذ مشارك في قسم اللغة العربية وادابها بجامعة اصفهان.
[٢] . طالب دكتوراه في قسم اللغة العربية وادابها بجامعة اصفهان.
****************************