٢ – الإيقاع الناتج من تكرار الحروف والكلمات والجمل
تعدّ ظاهرة التكرارالصوتي لبعض الحروف في الخطبة من الوسائل التي تُثري الإيقاع الداخلي بواسطة ترديد حرف معين في السطر، أو مزاوجة حرفين أو أكثر وتكرارذلك يعكس الحالة الشعورية للمبدع وقدرته على تطويع الحرف ليؤدي وظيفة التنغيم إضافة إلى المعنى.
إن تكرارالكلمات، أسماءً وأفعالاً يحقّق إيقاعاً يسايرالمعنى ويجسمه ويعبّرعن معانيه نجد هذه الظاهرة الإيقاعية الممتازة في مختلف خطب نهج البلاغة وجاء في خطب الإمام (ع) تكرار الحروف متناسبة مع سياق المعنى، متناسقة مع موضوع الخطبة.
يقول الأمام في مقطع خطبة له: «إذ تصرّمت الأمورُ، وتقضّت الدهورُ، وأزفَ النشورُ، أخرجهم من ضرائح القبور، واوكارِالطيور» (نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١١٩) تكررحرف الراء في هذا المقطع تسع مرّات، وقد بعث هذا التكرارحركةً تلاءم مضمون المقطع وقد أضفت على الإيقاع قوةً وانسجاماً وحيويةً. لإن الجرس الذي يحدث من تكرار حرف الراء الذي من صفاته أنه مكررُ يعلو دون رتابةٍ وبلا خفوتٍ في وحدةٍ نغميةٍ، يلاءم المعنى ويمكن لنا أن نسمّيه إيقاعاً اهتزازياً وهو نوعّ من الإيقاع القادرعلى التردّد بين درجتين، الإنخفاض والإرتفاع وهو يؤدّي إلى انسجام في الدلالة.
ويشتمل نهج البلاغة على تكرار الحروف بحيث نجدها في أكثر الخطب حيث يقول الإمام في خطبة له حول خلق العالم «أنشاء الخلق إنشاءً وابتدأه إبتداءً، بلا رويةٍ أجالها، ولا تجربةٍ استفادها، ولا حركةٍ احدثها، ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها، أحال الأشياء لأوقاتها لاءتم بين مختلفاتها، وغرّرغرائزها وألزمها أشباحها، عالماُ بها قبل ابتدائها، محيطاً بمحدودها وانتهائها عارفاً بقرائنها وأحنائها » (نفس المصدر، خطبة ١، ص ١٤).
ويقول الإمام في موقف آخر في الإعراض عن الدنيا «فأنّ الدنيا رنقُ مشربها ردغُ مشرعها، يونقُ منظرُها ويوبقُ مخبرها حتّى إذا أنس نافرها وإطمانَّ ناكرُها قمصت بأرجلها وقنصت بأحبلها وأقصدت بأسهمها» (نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١١٨).
نجد في هذين المقطعين تكرار حرفين هما هـ - ا. تكرر هذان الحرفان في المقطع الأول خمس عشرة مرة، وفي الثاني ثماني مرات وأعطت المزواجة بين حرف الهاء المهموسة وحرف الألف - وهو من الحروف المجهورة سلّماً موسيقياً رائعاً يشبه حركة موجٍ يعلو ويخفت ويتكررإيقاع تكرارالتجمعات الصوتية في خطبٍ مختلفةٍ من نهج البلاغة.
والإمام يقول في خطبة له عندما بويع في المدينة وأخبر الناس بعلمه بما تؤوّل إليه أحوالهم «والذي بعثه بالحقِ لتبلبنَّ بلبلةَّ ولتغربلنَّ غربلةَّ ولتساطنَّ سوط القدرِ حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقنَّ سابقونَ كانوا قصروا وليقصرنَّ سباقونَ كانوا سبقوا» (نفس المصدر، خطبة ١٦، ص ٤١).
قد تكررحرف السين في هذا المقطع وهو من الحروف المهموسة المرقّقة، وأحدث من الترديد الصوتي لهذا الحرف إيقاعاً حزيناً هادئأً ينسجم مع حالة الأسى العميق الذي يحسّه إزاء مستقبل الناس في المجتمع إضافة إلى ذلك تعطي كلمات «تبلبلن تغربلن، تساطن» شحنةً إيقاعيةً أكثر لهذا المقطع بما فيها من حركاتٍ نغميةٍ متسقةٍ لإن«العرب يراعون في اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة وتوزعها وترتيبها فيها حدوث الإنسجام الصوتي والتآلف الموسيقى» (المبارك، ص ٢٥٠).
يقول الإمام في خطبة اخرى تشتمل على قدم الخالق وعظم مخلوقاته: إذ لا سماءَ ذات أبراجٍ ولا حجبٍ ذات أرتاج ولا ليلٍ داجٍ ولا بحرٍ ساجٍ ولا جبلٍ ذو فجاجٍ ولا فجَّ ذو إعواجٍ (نهج البلاغة، خطبة، ٩، ص ١٤٦)
تكرر حرف الجيم المجهورة الشديدة إحدى عشرة مرة في سطرٍ واحدٍ، وأحدث إيقاعاً متّسقاً إلى جانب العناصرالمختلفة مثل الجناس والسجع و...
ولتكرارحرف اللام يمكن أن نستشهد بالمقطعين التاليين، حيث يقول الإمام «قد طلعَ طالعٌ، ولمعَ لامع، ولاحَ لائحٌ، وإعتدلَ مائلٌ »(نفس المصدر، خطبة ١٥٢، ص ٢٧٩)
«قد وعظوا حتى ملّوا، وقهروا حتى ذلّوا، وقتلوا حتى قلّوا»( نفس المصدر، خطبة ٣٢، ص ٦٨).
وفي كثير من الأحيان يستخدم الإمام بعض حروف العطف التي يكون لها إيقاع جميل منه تكرارحرف أو حيث يقول: هل من مناصٍ أو خلاصٍ أومعاذٍ أو ملاذٍ أو فرارٍأو محارٍ (نفس المصدر، ص ١٣٢).
ومن تكرارحرف لا العاطفة جاء فيه (واحشرنا في زمرتهٍ غير خزايا، ولا نادمينَ ولا ناكبينَ ولا ناكثينَ ولا ضالّينَ ولا مضلّينَ ولا مفتونينَ) (نفس المصدر، ص ١٩٨).
يعّد تكرارالحروف أبسط انواع التكرار اذ يتكررالحرف أكثر من مرةٍ فيتشكل ذلك إيقاعاً صوتياً كما أننا نرى تكراراً للكلمات والجمل في بعض خطب نهج البلاغة والتي تعطي الخطبة إيقاعاً رائعاً يقول الإمام (ع) (من وصفَ الله سبحانه فقد قَرَنه، ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدّهُ ومن حدّهُ فقد عدّهُ) (نفس المصدر، خطبة ١، ص ١٤).
تكرر كل من كلمات (قرنه - ثناّه - جزّأه - جهله - حدّهُ) مرتين.
ولتكرارالكلمات شواهد كثيرة في نهج البلاغة نذكرمنها: (العمل العمل، ثم النهايةَ النهايةَ والإستقامةَ ثم الصبرَ الصبرَ، والورعَ الورعَ )( نفس المصدر، خطبة ١٧٦، ص ٣٣٦).
أينَ العمالقةُ وأبناء العمالقة ؟ أين الفراعنةُ وأبناء الفراعنةُ ؟ أين أصحاب مدائن الرّسّ الذينَ قتلوا النبيّينّ، وأطفوا سننّ َالمرسلينَ، وأحيوا سننَ الجبّارين ؟ أين الذينَ ساروا بالجيوش، وهزموا بالألوف، وعسكروا العساكر، ومدّنوا المدائن ؟... أين أخواني الذين ركبوا الطريقّ، ومضوا على الحقّ؟ أين عمار؟ وأين أبنُ التيهان؟ وأين ذوالشهادتينِ؟ وأين نظراتهم من إخوانهم الذينَ تعاقدواعلى المنيّةِ، وأبردَ برؤوسهم إلى الفجرةِ ؟ (نفس المصدر، خطبة ١٨٢، ص ٣٥٢).
ومن تكرارالجمل نستطيع أن نستشهد بالمقطع التالي حيث يقول الإمام: الحمدُ لله كلّما وقبَ ليلٌ وغسقَ، والحمدُ للهِ كلّما لاحَ نجمٌ وخفقَ، والحمدُ للهِ غيرَ مفقود الأنعامِ ولا مكافأ الافضالِ (نفس المصدر، خطبة ٤٨، ص ٨٥).
فإنّ غداً من اليومِ قريبٌ، وما أسرع السّاعاتُ في اليوم، وأسرع الأيّامُ في الشّهر، وأسرع الشّهورفي السنةِ، وأسرع السنين في العمرِ(نفس المصدر، خطبة ١٨٨، ص ٣٧٤).
و يشمل التكراركل وحدةٍ لغويةٍ مهما كانت، إذ يشمل الأجزاء الصغرى (الحروف والكلمات) أوالأجزاء الكبرى (الجمل والتراكيب) ويرتبط التكراربالإيقاع إذ أن الإيقاع يحتمل بنيةّ تكراريةً وبما أن التكرار يشمل الحروف والكلمات والجهل فهو بذلك يشكل إيقاعاً صوتياً إن التكرارتناوب الألفاظ وإعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغماً موسيقياً (هلال، ص ٢٣٩).
في بعض الأحيان يلجأ الإمام إلى تكرارحروف بعينها لبناء تركيبٍ هارموني يبني خلفية صوتية للخطبة تبدأ الخطبة بتركيب صوتي دائري يتكون من الأصوات ن ــــــ باء ــــــ حاء) فجاءت الألفاظ بهذا الترتيب اللافت (ن ح ب – ب ح ن ) (منتحباً بالحنين).
يصنع الإمام مجموعة كبيرة من الثنائيات الصوتية التي تكون إيقاعا خفيّا لا صارخاً (القريب العجيب كنت قلت – شاءت شاووا ـــ انتحل الرمل).
٣ – الإيقاع الناتج من تجانس الاصوات
يسمى تكرارصوت أوأكثرفي الكلمات المتوالية تجانساً صوتياً وهو مظهر من مظاهر موسيقى الكلام (وهبة المهندس، ص ٨٨).
وبعبارة أخرى أن يكررالأديب كلمات ذات إيقاع ينجم عن تتابع رتيبٍ وتجانسٍ في الصوت على أن من النثر ما يحوي من الإيقاع والنغم ما يساوي الشعر حيناُ ويفوقه أحياناً من جراء التجانس والتلاؤم الذي يقوم على طبيعة الحروف وترتيبها في الكلمة.
وللألفاظ قيمة ذاتية إذ تقدم المتعة الحسية التي يجدها الملتقى مستمعاً أو قارئاً، فتنشأ من تتابع أجراس حروفها ومن توالي الأصوات التي تتألف منها في النطق، وفي الوقوع على الأسماع كما أن التلاؤم يكون في الكلمة بائتلاف الحروف والأصوات وحلاوة الجرس ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقرات وحسن الإيقاع (طبانة، ١٩٨٨، ص ١٤٧).
قلما تخلو خطبة من ظاهرة التجانس الصوتي والإمام (ع) عندما يستخدم التجانس الصوتي إنما يستخدمه حسب متطلبات السياق فنجده يتّجه في عبارات خاصة تتخلل كلامه وليس في مطلق النص بل في جزء منه فحسب إلى عباراتٍ إيقاعيةٍ تختلف عما نلحظه عند العاديين من الكتاب ممن يعني بالزخرف اللفظي، بل أن كلامه (ع) يجيء طبيعياً يتناسب مع شخصيته التي ميّزه الله تعالى بها...
إنك تواجه خلال النصوص عبارات من نحو(عقلوا الدينَ عقلَ وعايهٍ ورعايةٍ) (نهج البلاغة، خطبة ٢٣٩، ص ٤٩٠).
يعطف الهوى على الهدى إذ عطفوا الهدى على الهوى (نهج البلاغة، خطبة ١٣٨، ص ٢٥٦).
هم أكثر وأمكر وأنكر ونحن أفصح وأنصح وأصبح.
إن أمثلة هذه العبارات تختلف تماماً عمّا نلحظه في عصورالصناعة اللفظية...إنها تجيء محكمةً مشرقةً جميلةً طريفةً طبيعيةً أيضاً...بل يمكن القول أن الكتاب المشهورين في العصوراللاحقة ممن عنوا بالصياغة الإيقاعية المصطنعة قد تأثروا بأسلوب الإمام (ع) حيث مارسه بنحوه الطبيعي وحوله الآخرون إلى نحوه الاصطناعي كما نلحظ ذلك عند امثال الجاحظ او الاجيال الاخرى لدى كتاب من أمثال ابن العميد أو الهمذاني وسواهم (البستاني، ص ٢٥٥).
حين نتجه إلى العنصرالإيقاعي نجد إن هذا العنصر قد توفرت عليه خطب نهج البلاغة بشكلٍ لافتٍ لا يكاد يجهله أحد في هذا الصدد ففي صعيد الإيقاع الخارجي نجد أن البعد الأول منه وهوالإيقاع المنتظم في نهاية الفقرات يطبع أكثرالخطب حيث لا تخلو خطبة من عنصر (القرارالمقفى) الاّ نادراً وفيما يتصل بالبعد الثاني يعني التجانس بين أصوات العبارة المتنوعة فهو ما تكاد تخلو منه الخطب، حتّى إنك لو قرأت خطبة الغرّاء مثلاً لوجدت أن الحروف (س – ص – ز) بصفتها تنتسب إلى أصل صوتي واحد، تلاحق عبارات الخطبة حتى نهايتها، بخاصة (س – ص).
ومن خلال دراسة هذه الخطبة إتضح لنا هذا الأمر بوضوح تام، حيث تشكلت تجمعات صوتية بثلاثة حروف صفيرية هي: الصاد، والسين والزاء.
إن هذه المفردات التي شكلت نسبةً كبيرةً من عدد كلمات الخطبة بأجمعها تمثل نموذجاً ل (التجانس الصوتي) في خطب نهج البلاغة.
وأيّا كان فإن التجانس الصوتي الذي أوجده الإمام (ع) بنحوه الطبيعي، والذي يعدّ ضرورة فنية يظل متنوعاً كما لحظناه في النماذج المتقدمة وهوأمر لا يقف عند العبارة المركبة التي تتجانس أصواتها من خلال تماثل الحروف في جمل متعددة، بل يتجاوزإلى العبارة الواحدة أيضا بحيث يختارها إيقاعياً بشكل تتناسب فيه مع سياق الجملة التي ترد فيها هذه العبارة أو تلك...
وهذا من نحو قوله (ع) مثلا: وأنّك لذّهاب التّيةِ وروّاغّ عن القصد ومندحق البطنِ رحبِ البلعومِ (نهج البلاغة، خطبة ٥٧، ص ٩٣).
لوصلت إليك مني قوارعُ العظم وتهلس اللحم.
إن صيغ المبالغة (الذهّاب – روّاغ) والصيغ الوصفية (مندحق البطن - رحب البلعوم) يتحسسها المتذوق الفني يشكلِ مثيرٍ ومصعقٍ ومدهشٍ...إنها نمط من الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي حيث يتجانس الصوت مع الدلالة، فاندحاق البطن يتناسب مع مبطان لا يعُنى إلا ببطنه و(الروّاغ) يتناسب مع مخاتل مخادع لا يمارس غيرعمل الشيطان...إضافةً إلى أن العبارة ذاتها من حيث تجانس حروفها تتميزحروفها تتميز بجمال مدهشٍ صاخبٍ حيناً، وهادئً حيناً وساخراً حيناً ثالثاً بالنحو الذي لحظناه في النماذج المتقدمة (البستاني، ص ٢٥٥).
والإمام عندما يتطرق إلى مواضيع الذمّ يستخدم كلمات ذات تجانس صوتيَّ رنّانِ، وكثيراً ما يستخدم صيغ المبالغة التي يكون النبر فيها على الحروف المشدّدة مما يعطيها جرساً متسقاً يؤثر اكثر التأثير يقول الإمام في ذمّ الدنيا:غرارّةً, ضرّارةً , حائلةً , زائلةً , نافذةً , بائدةً , أكّالةً، غَوّالةً (نهج البلاغة، خطبة ١١١، ص ٢١٢).
ونجد في موقف آخر نفس المسألة حيث يقول في ذمّ قوم لم ينهضوا بالجهاد: اطلبكم ما اختلف جنوب وشمال طعّانين، عيّابين حيّادين،روّاغين (نفس المصدر، خطبة ١١٩، ص ٢٢٩).
وفي موقف آخر يقول: فاحذروا الدنيا فإنها غدّارةً غرّارةً (نفس المصدر، خطبة ٢٣٠، ص ٤٨٥).
أننا أمام صورٍ وايقاعاتٍ هائلةٍ تحتشد بشكل مكثف ومنتظم حتى لا يكاد يخلو سطر من هذه الأدوات المدهشة المثيرة الطريقة...ففي صعيد الإيقاع لا تقف الخطبة عند التجانس الصوتي بين الفواصل، بل تتجاوزه إلى المفردات المتتابعة ايضا (هل من مناصٍ أو خلاصٍ) (أومعادٍ أوملاذٍ أوفرارٍ أومحارٍ)(نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١٣٢).
(سمع فخشعَ، وإقترفَ فاعترف وجلَ فعملَ)(نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ٢٢).
كما يتجاوز إلى ثلاث فواصل فصاعداً(تصرمت الأمور وتقضت الدّهور، وأزف النشوُر،أخرجهم من ضرائح القبورِ وأوكارالطيور)(نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١١٩).
(عباد مخلوقون اقتداراً، ومربوبون اقتساراً، ومقبوضون احتضاراً)(نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١٢١ ).
(فدع عنك من مالت به الرمية وإياك أن توجف بك مطايا الطمعِ فتوردك مناهل الهلكة رمته قسي الفناء بنبال الموت) لو لفظنا هذه الصورالثلاث بصوتِ عالٍ فإن وقعها الموسيقى يسيطرعلى أحاسيسها جميعها ونحسب أنفسنا أمام اوركسترا تعزف على عشرات المعازف يصخب حيناً وبهدوءٍ حيناً آخر.
٤ – الإيقاع الناتج من التوازن بين الجمل
ينشطرالتعبيرالفني عند الإمام (ع) إلى نمطين من حيث تعامله مع العنصرالإيقاعي فهناك نصوص تستخدم لغة العصر من حيث قيام النثرمقابل الشعر، أي قيام النثرعلى الفواصل المقفاة مقابل الأدبيات المقفاة في الشعر،...وقيامه على التوازن بين الجمل مقابل تفعيلات الشعر(البستاني، ص ٢٥٣).
وهذا مثل قوله (ع): إن الموت هادم لذاتكم ومكدّرشهواتكم، ومباعد طيّاتكم...فيوشك أن تغاشكم دواجي ظللهِ وإحتدام عللهِ وحنادس غمراتهِ وغواشي سكراتهِ واليم إزهاقهِ ودجو اطباقهِ وجشوبة مذاقهِ...فعليكم بالجّد والأجتهاد والتأهبِ والإستعداد والتزوّدِ في منزل الزادِ (نهج البلاغة، خطبة ٢٣٠، ص ٤٨٠).
فهو يؤمّن توازناً موسيقياً موحّد النغم، تألفه الأذن وتجد فيه متعة وجمالاً موسيقياً خفياً تنبع من اختيارالإمام لكلماته وما بينها من تلاؤم في الحروف والحركات...
فهذا النص - ومثله كثير من النصوص - يعتمد على الفواصل المقفاة والتوازن بين العبارات...كما هو واضح وهناك نصوص تستخدم لغة العصورجميعاً، ونعني بها النثرالمترسل (البستاني، ص ٢٥٣).
وهذا من قوله: واعلم أنّ مالك الموتِ هو مالك الحياةِ وأنّ الخالق هو المميت وأن المفني هوالمعيد وأن المبتلي هو المعافي وأن الدنيا لم تكن لتستقر إلاّ على ما جعلها الله من النعماء والأبتلاء والجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا تعلم فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإنك أوّل ما خلقت به جاهلا ثم علمت وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحير فيه رأيك ويضلّ فيه بصرك تبصره بعد ذلك (نهج البلاغة، خطبة ٢٣٧، ص ٤٨٧).
فهنا نجد أن كلامه (ع) مترسل كلّ الترسل لا توازن بين العبارات ولا تقفيه للفواصل... لكن مع ذلك تجيء عناصرإيقاعية عابرة مثل (إلا ما جعلها الله عليه من النعماء والإبتلاء والجزاء..).
فهنا تتوالي ثلاث عبارات مقفاة واحدة بعد الأخرى على نحو لا ينتسب إلى قافية كما لاحظنا في النصوص السابقة.
إن ظاهرة استخدام التوازن بين الجمل نجده كثيراً في خطب نهج البلاغة مما يعطيها اتساقاً في الجرس وإيقاعاً في النغم وإلامام في خطبة له يقول: فاتقوا الله تقية من سمع فخشعَ، واقترفَ فاعترفَ ووجل فعملَ وحاذرَ فبادرَ، وأيقن فأحسن، وعبّر فاعتبرّ، وحذر فحذرَ، وزجرّ فازدجرّ، وأجابَ فأنابَ، وراجعَ فتابَ، واقتدى فاحتذى، وأرى فرأى (نهج البلاغة، خطبة ٨٣، ص١٢٢).
إن هذا التوازن بين الجمل وتتابعها واحدة بعد الأخرى وخضوع كل واحدة منها إلى صوتين متجانسين متتابعين أوجد إيقاعاً رائعاً هذا الإيقاع يساهم في التصعيد العاطفي للموقف حتّى يصل تدريجياً إلى تصعيد أشد حينما نواجه المقطع السابق الذي جاء فيه فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلاّ حواني الهرم ؟ وأهل غضارة الصحة إلاّ نوازل السقم ؟ وأهل مدة البقاء إلاّ آونة الفناء (نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١٢٤ ).
ثم يصل أشدّه في المقطع الثامن فاتّقوا عبادَاللهِ تقيةً ذي لبٍ، شغل التفكير قلبه وانصب الخوفُ بدنه (نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١٢٦).
ويتصاعد شيئاً فشيئاً حتى يبلغ الذرورة في المقطع الأخيرأولى الأبصار والأسماع والعافية والمتاع هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار، أم لا ؟...أم أين تصرفون، أم بماذا تغترون (نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١٣٢).
فالتوازن ماثل في العبارات والمفردات فالموسيقى تكاد تلازم الخطبة من بدايتها إلى نهايتها فجرس الألفاظ يدق ويرن من خلالها... فهناك موسيقى هادئة تنضح من أصوات تلك المفردات وتوازن جلّ العبارات.
ومفردات اللغة بسيطة سهلة واضحة رقيقة وتراكيبها تتصف بقصر وإيجازالعبارة وإنك تلاحظ توازن العبارات وهي تنساب رقراقة في الخطبة فهنالك تنوع في الإيقاع وتغير في الألحان.
إن مسألة اختياره للألفاظ تتضح بكل وضوحٍ، وكيف يستلّ اللفظة الملاءمة من معجمه الواسع لتتحلى والنسق الصوتي الذي ينتظم الكلمات ليجعل منها نسيجاً قوياً مؤثراً وإن الإيقاع في نصوص نهج البلاغة يتصف بالتنوع والتوازن مما أعان لغته على أداء المضمون بتنسيق موسيقى يهتف بألفاظ العذوبة والجزالة والرقة ويمنح النفوس الأثر المتوهج والتوجيه الواعي.
حين تقرأ الخطبة تجد النبرالصوتي المتناغم والمنسجم يشيع فيها فالمفردات تنثال عبرالميزان: أين الذينَ عمروا فنعموا، وعلموا ففهموا،...وسلمو فنسموا، وحذروا أليماً(نفس المصدر، خطبة ٨٣، ص ١٣٢).
وهكذا تجد أن المفردة تختار بالتوازي مع المفردة التي تقابلها في موقعها من العبارة الاخرى، فهنالك نظام متناسق لأبنية المفردات ضمن العبارة والفقرة ثم تصب العبارات في ازدواج او توازن تتعادل خلاله العبارة مع العبارة موسيقياً.
يقول الإمام (ع) في خطبة له: الحمد لله غير مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته ولا مأيوس من مغفرته، ولا مستنكفٍ من عبادته، الذي لا تبرح منه رحمةً ولا تفقد له نعمةً، والدنيا دار منّى لها الفناء ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوةً خضرةً وقدعجّلت للمطالب والتبست بقلب الناظرة، فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ (نفس المصدر، خطبة ٤٥، ص...).
يقول ابن أبي الحديد معلّقاً على هذه الخطبة (هنا وازن الإمام بين قوله غيرمقنوط ولا مخلّو ألا ترى كلّ واحدةّ منهما على وزن مفعول).
ثم قال في الفقرة الثالثة: (ولامأيوس) فجاء بها على وزن مفعول أيضاً ولم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الأولى، فقال: (ولا مستنكفٌ)، فجاء به على وزن مستفعل وهو وإن كان خارجاً عن الوزن فأنّه غير خارج عن المفعولية لأنّ مستفعل مفعولٌ في الحقيقة ثمّ وازن عليه السلام بين قوله: (لا تبرح)، وقوله (لا تفقد وبين رحمة ونعمة).
فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة والصنعة ما لا تجد عليه لو قال:(الحمد لله غير مخلو من نعمته ولا مبعد من رحمته) لأنّ مبعد بوزن مفعل وهوغيرمطابق ولا مماثل لمفعول، بل هو بناء آخر(ابن أبي الحديد، ج ٢، ص ٢٧٦).
إذاً يدل كل هذا على أن الإمام كان مهتمّاً بإيقاعات ألفاظه وجمله.
٥ – الإيقاع الناتج من السجع
يعدّ السجع من العناصر الهامة والبناءة للإيقاع في خطب نهج البلاغة.هذا لا يعني أن خطب الإمام علي (ع) كلها مسجوعة، بل إنه يأتي بالسجع ملائما لسياق الكلام، والموقف الذي يخطب فيه أورد ابن أبي الحديد قولاً لأصحاب علم البيان أنّ قوماً عابوا السجع وأدخلوا خطب أميرالمؤمنين (ع) في جملة ما عابوه لأنّه يقصد فيها السجع وقالوا إنّ الخطب الخالية من السجع والقرائن والفواصل هي خطب العرب، وهي المستحسنة الخالية من التكلف.
يعلق ابن أبي الحديد على ذلك بقوله:إنّ السجع يدّل على التكلف فأنّ المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته وثقله للسامعين فأمّا التكلف المستحسن فأيّ عيب فيه، ألا ترى أنّ الشعر نفسه لا بدّ فيه من تكلف لاقامة الوزن وليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك (نفس المصدر، ج ١، ص٢٦ - ٢٥).
يأتي الإمام (ع) بكلام مسجوع كلما يتحدث عن قدرة اللهِ الواحدِ الأحدِ، والتنفيرِ عن الدنيا والموتِ وما يماثل ذلك نراه يقول في التنفير عن الدنيا فإن الدنيا رنقٌ مشربها، ردغّ مشرعها، يونق منظرها، ويوفق مخبرها غرورٌ حائلّ، وضوءٌ آفلٌ، وظلَّ زائلٌ، وسنادٌ مائلٌ، حتّى إذا أنس نافرها، وإطمانّ ناكرها، قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق المنية قائدة له إلى ضنك المضجع، ووحشة المرجع، ومعاينة المحلِ، وثواب العملِ، وكذلك الخلف بعقب السلفِ، لا تقلع المنية اختراماً، ولا يرعوي الباقون اجتراماً، يحتذون مثالاً، ويمضون إرسالاً، إلى غاية الإنتهاء، وصيّورالفناء (نهج البلاغة، خطبة ٨٣، ص ١١٨).
لقد توشحت هذه المقطوعة بالأسجاع الكاملة والمجزوءة، وقد بدت الأسجاع محكمة الأداء، متوازية الإيقاع يتضاعف وقعها من توحيد صيغ العبارة التي تصحبها وتتقدمها، فكأن كل جملة في صيغتها المجزوءة المختصرة شطر بيت متشابه الوزن والروي وحين تعاد قراءتها يتبين التوازن في عباراتها والتوسع في استخدام السجع وخاصة عندما كان يسجع بين كلمة وكلمة...إلى غير ذلك من أنواع التنميق اللفظي والتلوين الصوتي بين عبارات الفقرات، مما جعل تلك الخطبة محكمةً إحكاماً دقيقاً.
تستند خطب الإمام إلى السجع تارة، وإلى الازدواج تارة ثانية، وإلى المزج بينهما تارة ثالثة، وقد نجد شيئاً مغايراً لا ينتمي إلى السجع أو الازدواج وذلك من خلال توظيف دقيق للايحاء الصوتي للمفردات أو تنسيق الجمل في لون من الانسجام الموسيقي بين مقاطع صوتية قد تتعادل وقد تتجانس، وقد نراه يرسل القول إرسالاً دون استناد إلى محسن بديعي لفظياً كان أو معنوياً.
وإذا كان الإمام علي (ع) لا يعتمد الأسجاع إلاّ في مواضعها، فان الخطبة لها نغمة خاصة، تسلك عبرها إلى نفس السامع، تتضافر فيها صيغ اللفظ والعبارة وتآلف الحروف فأداؤه هوالأداء المحك فالمثقف الذي تفد فيه اللفظة بنوع من الخلق والاشتقاق الخاص بها وبلاغة الأداء ونغميته لا تتحولان في خطبة إلى غاية بذاتها في نوع من الصنعة البديعة أو ما إلى ذلك، بل إن النغم يتآلف مع اللفظة ومعناها، جميعا، بنوع من الوحدة الحية المتكاملة التي لا يحدق البحث بسرها.
إلاّ أن ظاهر الإيقاع يبدو لنا في ضبط حدود العبارة بجمل متوازنة يُختم بعضها بسجعة أو ما يعادلها أو يطلق من دونها، إلاّ إنها تتواكب جميعا، لتغمر المقطوعة كلها بالنغم الصاخب في موضع الصخب والنغم الوئيد في موضع اللين (الحاوي، ص ١٥٧).
فهو إّذ يقول مخاطبا الخوارج: (إيتّها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللحاجة، وصدها عن الحق الهوى وطمع بها النزق وأصبحت في اللبس والخطب العظيم، إني نذير لكم أن تصبحوا غداً صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط، على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم، وقد طوحت بكم الدار واحتبلكم المقدار).
فأنت لو عاينت هذه النبذة لما وقعت فيها على لفظة مترادفة لغاية الإيقاع والوشي وحسب، بل إن لكل لفظة ارتباط بالمعنى، كما أن المعاني تتسلسل، بعضها من بعض في سياق وثيق إلاّ أن الألفاظ، فضلاً عن ذلك، تنبث عبر نغم أو وزن ذاتي مضمر مما يدع فيها إيقاعا شبيهاً بإيقاع الشعر، وإن لم يجرعلى وزن وقافيته ولعله إمتنع عن الحاق فعل أخر بالتاء للإيقاء على هذه النغمية الخفرة اللطيفة التي تتضوع من الحروف، وقد وضع كذلك حروف اللين وزاوج في صيغ اللفظ بين اوزان مفاعل وفاعلن، مع غلبة الأولى بنوع من الحدس الغامض الذي يلازم طباع ذوي العبقرية.
وإذا وازنت هذه النبذة في ميزان النثرالصافي بدا لك أنها تفوقه، إذ لم تقتصرغاية الخطيب فيها على الإيضاح بل تعدته إلى الايجاد والتأثير وبدلاً من أن يقول إني أنذركم، قال: (إني نذيرلكم) والعبارة الثانية أوقع في النفس جرساً وعوضاً من أن يقول: (كذلك أن تصرعوا) قال: (إني نذير لكم أن تصبحوا صرعى) كما كرر القول: (بأثناء هذا النهر واهضام هذا الغائط) إيقاعية فضلاً عن الغاية المعنوية وهو لا يتوسل الأسجاع إلاّ في فلذات عابرة ولا يعتمدها تعمداً، إذ أن النغمية لديه ليست حسية آلية، بل نفسية حدسية ولم يخطر بالسجع إلاّ في قوله: (وقد حوطت بكم الدار واحتبلكم المقدار) (نفس المصدر، خطبة ٩١، ص ١٥٨).
يقول الإمام في ذكر أوصاف الراغبين في الله (قد وعظوا حتى ملّو، وقهروا حتى ذلّوا، وقتلوا حتى قّلوا) (نهج البلاغة، ص ٦٨).
إن البناء أو القالب الذي صبت فيه هذه الكلمات هوالذي يعطيها صورتها وشكلها ويجعل لها جرسا ووزنا معينا.
والكلمات التي تكون على بنية واحدة تجمعها رابطة الجرس والنغمة وتميزها في الكلام المسموع من غيرها من الألفاظ كما تجمعها أو تكاد رابطة التناظرالتزييني في الكلام المكتوب وإن كانت الأولى أوضح وأقوى لذلك كانت أبنية الألفاظ وأوزان الكلم العربي وحدات موسيقية ترجح إليها جميع ألفاظ اللغة العربية وكان الكلام في حال تركيبه سواءأ كان شعراً أم نثراً مجموعة من التراكيب والوحدات الموسيقية، إذا أحكم تركيبها وتولّتها يد صناع وحس مرهف وفكرنافذ كانت إلى جانب أدائها للمعنى قطعة فنية موسيقية تسابق المعنى إلى القلب عن طريق الحس والسمع حتى أن الكلام العربي ليبدوا كأنه زخارف الفن العربي في صوره المتناظرة والمتكررة والمتشابهة والمختلفة وهذا هو سر موسيقية اللغة العربية وجمال إيقاعاتها وحلاوة نغماتها ولاسيما إذا وقع صائغ الكلام على أنواع موفقة من التأليف والمزواجة بين الألفاظ (المبارك، ص ١٢٥).
٦ – الإيقاع الناتج من الجناس
يعدّ الجناس من أكثر ألوان البديع موسيقياً، وهو ينبع من ترديد الأصوات المتماثلة التي تقوّي رنين اللفظ وتوجد جرسأ موسيقياً.
لاشك أن ترديد الأصوات يزيد من حلاوة جرسها، خاصةً إَذا كان هناك ثمة عرض معنوي ويكتمل من خلاله الإيقاع المطرب لها ويتحقق الأنسجام بين الألفاظ المتجانسة.
والجناس لما فيه من عاملي التشابه في الوزن والصوت والتي هي من أقوى العوامل في إحداث الإنسجام.
وسر قوته كامن في أنه يقرّب بين مدلول اللفظ وصوته من جهة، وبين الوزن الموضوع فيه اللفظ من جهة أخرى.
وللجناس باعتباره محسناً بديعياً لفظياً أثره في إثراء الجانب الإيقاعي للنثرالفني.
على أن الناظر في نثرنهج البلاغة لا يكاد يعثرإلاّ لماماً.
وقد إعتمد إلامام عليّ (ع) على الجناس تاماً وناقضاً وإن كان الجناس الناقض اكثرشيوعاً.
فمن صورجناسه نذكرما يلي: فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داجٍ، ولا ليلٍ ساجٍ، في بقاع الأرضين المتطاطئات، ولا في يفاعٍ السفع المتجاوراتِ..لا يدرك بوهمٍ، ولا يقدربفهمٍ، ولا يشغله سائلٌ، ولا ينقصه نائلٌ، ولا ينظربعينٍ، ولا يحد بأينٍ (نهج البلاغة، خطبة ١٨٢، ص ٣٤٩).
جانس الامام بين الألفاظ داجٍ - ساجٍ وبقاع - يفاع - وبوهمٍ - بفهمٍ - وسائل - نائلٌ وبعينٍ - بأينٍ مفردات اللغة بسيطة سهلة واضحة رقيقة وتراكيبها تتصف بقصر وإيجازالعبارة وأنك تلاحظ توازن العبارات وهي تناسب رقراقه في المقطوعة، فجرس الألفاظ يدق ويرن من خلالها، وهناك موسيقى هادئة تنضح من أصوات تلك المفردات وتوازن جل العبارات، ويحدث في المقطوعة أصداء موسيقية جليلة.
٧ – الإيقاع الناتج من التقابل
يمثل التقابل قانونا آخرمن قوانين تشكّل الإيقاع في خطب نهج البلاغة، غيرأن هذا القانون كالجناس لا نعثرعليه إلاّ لماماً.
استخدم الإمام هذا التكنيك بصورة غير تعمدية مما زاد إيقاعية المقاطع التي جاءت فيها التقابل.
يقول الإمام في خطبة له: ما لي أراكم أشباحاً بلا أرواحٍ، وأرواحاً بلا أشباحٍ ونسّاكأ بلا صلاحٍ، وتجّاراً بلا أرياحٍ، وأيقاظاً نوّماً، وشهوداً غيّباً وناظرةً عمياء وسامعة صمّاء، وناطقةً بكماء (نفس المصدر، خطبة ١٠٨، ص ٢٠١).
إن تتابع وقوع النبرعلى المقاطع الأولى من كلمات هذه المقطوعة منحها إيقاعاً حاداً حاسماً يمكن أن نتلمسه بوضوح من خلال النقرات المتتالية، وهذه الحدة في الإيقاع والقوة في النبرطبعت أكثر الخطب متسقة مع المعنى العالم للخطب.
وفي موضع آخر يقول الإمام (ع) حول صفات الله تعالى: لا يشغله غضب عن رحمةٍ ولا تولهه رحمةٌ عن عقابٍ، ولا يجنه البطون عن الظهورٍ، ولا يقطعه الظهور عن البطون، قرب فنأى، وعلا فدنا، وظهرفبطن، بطن فعلن، ودان ولم يدن(نفس المصدر، خطبة ١٩٥، ص ٤١٨).
في صعيد الإيقاع نجد أن العبارات تمضي مقفاة من حيث القرار ومتوازنة من حيث الجمل ومتجانسة من حيث الأصوات كما أنها تخضع من حيث تكثيف الإيقاع أو تقليله أوعدمه إلى طبيعة السياق الذي يفرض هذا التكثيف أوالتقليل أو العدم.
وهكذا تجد أن المفردة تختار بالتواري مع المفردة التي تقابلها في موقعها من العبارة الأخرى، فهناك نظام متناسق لأبنية المفردات ضمن العبارة والفقرة، ثم نصب العبارة في ازدواج أو توازن نتعادل خلاله العبارة مع العبارة موسيقياً.
الاستنتاج
أشرنا فيما سبق إلى أن خطب نهج البلاغة تحتوي على أساليب فنية جميلة من حيث الأشكال الظاهرية، حيث كانت متلاءمة مع المعنى هذا الأساليب إلى تأليف إيقاع ذي سلالم موسيقيةٍ عذبه تستلذّها الأسماع وترتاح لها النفوس فتجد فيها متعةً، وتجري على الألسنة بخفةٍ ورشاقةٍ.
نجد في خطب نهج البلاغة إيقاعاً موسيقياً متعّدد الأنواع هذا الإيقاع مستمدٌّ من خصائص الخطب الصوتية، وأنظمتها الخاصة في تركيب الجمل والعبارات.
والإمام (ع) سخّرالإيقاع لدعم طاقاتها التعبيرية أو لتوفيرحظها من جمال التعبير.
استخدم الإمام عليّ (ع) الإيقاع في خطبه بطريقةٍ محكمةٍ وكان يؤلف في التعبير بين الغرض الديني والغرض الفني الجمالي، ويجعل هذا الغرض الثاني أداةً مقصودةً للتأثير الوجداني، فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية التي يعدّ الإيقاع أحد ركائزها.
وما من شكٍ في أن كل من ينصت إلى خطب نهج البلاغة يحسّ بما في عباراته من شاعريةٍ وايقاع مؤثرٍ، ينبع من توازن قرائنه وانسجام مقاطعه وحركاته.
من المفيد أن نوضح هنا أن البنية الإيقاعية في خطب نهج البلاغة تتألف من عناصرصوتية وأيقاعية متداخلة تتصل اتصالاً وثيقاً بالمعاني، وتشمل تلك العناصر، الأصوات والحركات والمقاطع الصوتية،و تعادل الفقرات، كما تشمل الكلمات وأبنيتها وتناسب الفواصل.
إن دراسة ظاهرة الإيقاع تقتضي النظر إلى هذه العناصرمجتمعةً، غيرأن هذا الضرب من التحليل ليس ميسراً، لذلك آثرنا أن نأخذ كل عنصرعلى حدة لتسهيل الدراسة وخلاصة القول أن الإمام كان يراعي في خطبة، تناسب الأصوات وحسن ائتلافها، ويراعي أيضاً التناسب بين الإيقاع الصوتي والمعنوي، ويسخرهذا الإيقاع لرسم صورالمعاني في الخيال ولإثارة الإحساس بها في نفوس المخاطبين.
إلى جانب هذه الملاحظات استطاعت هذه الدراسة أن تصل إلى بعض النتائج التي يمكن اعتبارها جديدةً في موضعها، ومن تلك النتائج:
١- إن العناصرالإيقاعية في خطب نهج البلاغة الناتجه عن التجمعات الصوتية، وتكرارالحروف والكلمات والجمل، والتوازن، والتقابل والسجع لم تكن غرضاً في حدّ ذاتها بل قابل الإمام بين نغمة الكلام وموضوعه، وجعل من الإيقاع أداة تبيلغٍ وتأثير ويعتبر هذا الأمر جزءاً أصيلاً من التعبير.
٢ – استخدم الإمام (ع) الإيقاع في خطبه بطريقةٍ محكمةٍ وكان يؤلف في التعبيرالفني بين الغرض الديني والغرض الفني الجمالي ويجعل هذا الغرض الثاني أداةً مقصودةً للتأثيرالوجداني، فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية التي يعدّ الإيقاع أحد ركائزها.
٣ – كان الأمام مضطلعاً بنفسيات مخاطبيه عندما كان يخطبهم في الظروف المختلفة لذا جاءت العبارات والحروف المستعملة في خطبة متلاءمة مع الظروف النفسية التي تسود المخاطبين.
٤ – لا يمكن أن نتعرف على قيمة التناسب الإيقاعي في خطب نهج البلاغة إلاّ بمعرفة علاقتها بالمعنى.
٥ – إن الإمام كان يراعي التناسب بين المعاني وطريقة التعبيرفيستعمل الفخامة في مقام الشدّة ويستعمل العذوبة في مقام اللين.
٦ – إن البنية الإيقاعية في خطب نهج البلاغة تتألف من عناصرصوتية وإيقاعية متداخلة تتصل اتصالاً وثيقاً بالمعاني وتشمل تلك العناصرالأصوات والمقاطع الصوتية وتعادل الفقرات كما تشمل الكلمات وأبنيتها وتناسب الفواصل.
المصادر
[١]ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: الشيخ حسن تميم، منشورات دارمكتبة الحياة، بيروت، ١٩٦٣ م.
[٢] ابن جني، ابو الفتح، الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار،دارالكتب العلمية، القاهرة، ١٩٥٢ م.
[٣] ابو ديب، كمال، في البنية الإيقاعية للشعرالعربي، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٨١ م.
[٤] أرسطو، الخطابة، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار الرشيد للنشرالجمهورية العراقية.
[٥] إسماعيل، عزالدين، الأسس الجمالية في النقد العربي، الطبعة الثالثة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ١٩٨٦ م.
[٦] أمين، أحمد فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط ١٠، ١٩٦٥ م.
[٧] بديع، يعقوب، وعاصي، ميشال، المعجم المفصل في اللغة والادب، دارالعلم للملايين، بيروت.
[٨] البستاني، محمود، تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي، الطبعة الأولى، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، ١٤١٣ ق.
[٩] الحاوي، ايليا , في الخطابة وتطوره عند العرب، دارالثقافة، بيروت.
[١٠] حسان، تمام، مقالات في اللغة والأدب، دارالعلم للملايين، بيروت، ١٩٩٤ م.
[١١] دارين اوستن، نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، بيروت، ١٩٨٥ م.
[١٢] درويش، محمد طاهر، الخطابة في صدرالإسلام الطبعة الثانية، دارالمعارف، مصر، ١٩٨٥ م.
[١٣] الصالح، صبحي، شرح نهج البلاغة، الطبعة الأولى، دارالأسوة للطباعة والنشر، ١٤١٥ ق.
[١٤] طبانة، بدوي، قضايا النقد الأدبي، دارالمريخ الرياض، ١٤٠٤ ق.
[١٥] عاصي , ميشال , الفن والادب: بحث اجمالي في الانواع والمدارس الادبية والفنية , الطبعة الثانية , منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ١٩٧٠ م.
[١٦] عبد الفتاح الخالدي، صلاح، نظرية التصويرالفني عند سيد قطب، الطبعة الأولى، دارالفرقان للنشر والتوزيع، عمان، ١٤٠٣ ق.
[١٧] علوش، سعيد، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة دارالكتاب العربي، بيروت، ١٩٨٥ م.
[١٨] محمد، العياشي، نظرية إيقاع الشعرالعربي، دارالفكر، الطبعة الثانية، بيروت، ١٩٩٧ م.
[١٩] غريب، روز، النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، دارالعلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت، ١٩٥٢.
[٢٠] غنيمي هلال، محمد، في النقد الأدبي الحديث، نهضة مصرللطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، القاهرة، ١٩٩٧ م.
[٢١] فضل، صلاح، نظرية البنائية في النقد الأدبي، الطبعة الثالثة، دارالشؤون الثقافية العامة، بغداد، ١٩٨٧ م.
[٢٢] فيدوح، عبد القادر، الإتجاه النفسي في نقد الشعرالعربي، مطبعة اتحاد كتاب العرب، دمشق، ١٩٩٢ م.
[٢٣]المبارك، محمد، فقه اللغة وخصائص العربية، دارالفكر، الطبعة السادسة، بيروت، ١٩٧٥ م.
[٢٤] وهبة، مجدي، والمهندس، كامل، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، الطبعة الثانية، مكتبة لبنان، بيروت، ١٩٨٤ م.
[٢٥] هلال ماهرمهدي، جرس الألفاظ ودلالتها في المبحث البلاغي والنقدي عند العرب، دارالرشيد للنشر ودارالحرية للطباعة، بغداد، ١٩٨٠ م.