بلاغة علي بن أبي طالب (عليه السلام)
إن النص في نهج البلاغة - كتاب علي بن أبي طالب - يتمتع بسلطة فائقة، محكمة، نادرة. وهي تُحيل القارئ (والسامع) إلى أنموذج العلاقة بين الأفكار والأسلوب.
فثمة نص شكلاني، قائم على إبداعية الشكل، وهو نص إنتاجي من عمل الفنان المبدع، إلاّ أنه يتمتع بمزاياه الفنية الخالصة، كشكل فني قوي الاتصاف، سواء بصورته التجريدية أو بصورته الرمزية، أو بكيفيّته التقليدية.
فقد يكون النص، مثل اللوحة التي تُحاكي الطبيعة (أو الواقع)، أو أنه يكون أداة تعبير عن الذات، بكل استطاعات التعبير الممكنة.
وعادة، يكون التعبير النثري متعرضاً للشد والجذب بين قُطبي الذات والموضوع، بما يُرافق ذلك من توسّعات لغوية، أو حشو، أو فجوات، أو نواقص.
وهو - أي التعبير النثري - في ملاحقته للأفكار، ينتهج طرائق وأساليب عادة، متباينة في درجة نجاحها، فهو أحياناً يصل إلى الأفكار، وأحياناً يتقدم عليها، أو يتخلف عنها، وهو - أحياناً - يتماسّ وإياها، قد يُعبّر عنها بصراحة، أو بإيحاء، بوضوح تام، أو بإيماء.
في بلاغة علي بن أبي طالب، أنموذج رفيع للنص المتطابق الذي يُجسد سلطة علي بن أبي طالب على نفسه، تلك السلطة التي ينطلق منها في رؤية العالم الخارجي.
وتوضح سيرة علي بن أبي طالب، أحسن توضيح، تلك الطبيعة الحقّانية الصادقة التي تتبلور في عرض الأفكار - أفكاره هو - وفي البلاغة البيانيّة له.
فالنص لديه - ينقل أفكاره بصدق تام. بمعنى أنه يعطي صورة للبلاغة، ذات ميزان دقيق، يستبعد كل بلاغة (بلاغية) تسوحُ في جولات الأساليب، والشكليات المتغيرة.
حقاً، كان قادراً في فنونه البلاغية المبدعة، لكنه لم يندمج في ظاهرة البلاغة من أجل البلاغة، التي كانت الإطار لعملية إيصال الأفكار.
لقد كانت الأفكار تُوصَل على نحو فعّال، بتصعيدات بلاغيّة تثير الإعجاب، أي أن البلاغة كانت تتولى وضع الإضافات فوق المعاني وحواليها، بالتعبير عن موهبة بلاغية معجبة، فثمة (معانٍ) تتخللها، وتحيط بها زركشات لفظية، مُدلّلة على القدرة البيانية، التي انتشرت شعراً ونثراً منذ العصر الجاهلي.
أما بلاغة علي بن أبي طالب، فقد تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو - في الوقت نفسه - يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة، الباهرة.
إنه يتناول مسائله الفكرية وكأنها تُولد تواً. وكذلك هو في تناوله للمسائل الفكرية المتداولة (والمشتركة) وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية ابتكارية، توليدية.
فالنص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به، رغم أنه يُبرهن - في حالات ثانية - عن جدارات أسلوبية.
لكن علياً بن أبي طالب لم يكن رغم ما أوتي من ميلٍ للدعابة - أحياناً - راغباً بأن يبتعد عن رسالته لحظة.
إن طغيان الجديّة كان من وقر المسؤولية الثابت.
وهو - في ذلك - كان متّسماً بالصدق التام، الذي يجب أن نرى فيه اختلافاً كبيراً عن أنواع أخرى من الصدق المرحلي، الموقت، وغير الثابت.
فثمة أوجه عديدة للصدق، كذلك هناك صدق في مناسبة، وعدمه في سواها. كان علي بن أبي طالب صادقاً في جميع الأوجه والمناسبات، لأن أفكاره كانت تشق الطبقات الكثيفة، والزيادات، والتلافيف التي تحول بين الناس والحق.
فالنص هو الفكرة والأداة معاً، هو المضمون والشكل، في اتّحادهما المتبادل الإغناء، في إعطاء دلالات مؤكدة، كان الإمام علي يُظهر نفسه فيها من جانب، ويُحمّلها الطاقة التوصيلية للوصول إلى الآخرين من جانب آخر.
ويتضافر الجانبان في العملية الواحدة، التي تُكرس صدق القضية، وتهيئ الآخرين للتجاوب مع الصدق. فالنص - في نهج البلاغة - ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد. بل هو وظيفة متقنة، إنه ثمرة التزاوج الطبيعي بين البلاغة والأفكار، والذي ترتّب عليه إنجاب أفكار جديدة، واستحداثات لغوية وبيانية جديدة.
من المؤكد أن النص الأدبي الذي يُصبح - بسبب أهميته - مستقلاً، قائماً بذاته، بعد تجاوز ظرفه، هو - في حقيقته - تعبير عن طبيعة صاحبه.
فالنص هو الشخصية التي تنشئ عدة شخصيات أخرى، مجنّدة لمهماتها المحددة.
وتُعد الكلمات، في النص الأدبي كائنات حية، لم تُخلق عبثاً. وليس من الضرورة بمكان أن تكون إنشاءات الكاتب الأسلوبية على صورته، من الناحية الظاهرية، لكن من الضروري للكاتب الحقيقي أن يكون العمق الفكري له ماثلاً في الحركة التحتية للنص.
فأبو تمام كان يُحرّك ألفاظه كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، والبحتري كان يُحرّك ألفاظه وكأنها نساء حسان عليهن خلائل مصبّغات، وقد تحلين بأصناف الحلي، كما يقول ابن الأثير الموصلي، لكن أبا تمام كان حاضراً وراء الألفاظ - والأشخاص، وكذلك البحتري، كلاً بطبيعته الخاصة، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة.
كانت مقدرة علي اللغوية، والبيانية، بالغة الفراهة، غير أنه كان يريد إصابة المعنى دائماً، بسبب نظرته الفلسفية، وأفكاره الجمّة التي كان يُصارع من أجل انتشارها. ونظراً إلى تعدد مناحي الثروة الفكرية، وغنى طبيعة علي بن أبي طالب، فإن النص جاء محمّلاً بالدلالات الغنية المُتنوعة، فهو قمة تتويج العلاقة الحرة بين المعنى والمبنى.
قال الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة:
(كان أمير المؤمنين علي مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب - وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا - وتقدم وتأخروا. وأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجل، والجَمُّ الذي لا يُحافَل)[١].
ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه رضي الله عنه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه من كلام مَن لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً)[٢].
ويذكر الشيخ محمد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة، مثل ذلك قائلاً:
(تصفحت بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر - والباطل منكسر.. وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها. وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَضَل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى.
وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام الإمام علي هو أشرف الكلام، وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً.
ويشتمل (نهج البلاغة) على نحو ثلاثمائة خطبة، ومائة رسالة، وخمسمائة حكمة.
نهل من معينها الكتّاب، والأدباء، والمفكرون، والمتصوّفة، والعلماء، والزهّاد، والعارفون، وقد قال عبد الحميد الكاتب:
(حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به علي بن أبي طالب) ففاضت ثم فاضت)، وقيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة؟ قال: خطب الأصلع[٣].
وقال ابن نباته:
(حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة. حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب).
وقال الشريف المرتضى:
(كان الحسن البصري بارع الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ، وذم الدنيا، أو جلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فهو القدوة والغاية)[٤].
وقال الأستاذ حسن السندوبي:
(والظاهر أنه (أي عبد الله بن المقفع) تخرج في البلاغة على خطب الإمام علي، ولذلك كان يقول: (شربت من الخطبة رياً ولم أضبط لها روياً، فلا هي نظاماً وليس غيرها كلاماً)[٥].
وكما كان نهج البلاغة مصدراً كبيراً من مصادر البيان والبلاغة، كذلك هو مصدر للرياضة والتصوف في الإسلام. وهو إلى ذلك المنجم الغني بأصول التوحيد والفلسفة الإسلامية (علم الكلام)، التي أوسعها المتكلمون - بعد ذلك - بالشرح والتفسير، وأحد الروافد الكبيرة للفكر الإسلامي في جميع جوانبه الاجتماعية والأخلاقية والدينية وغيرها.
وهو كذلك سجل حافل بعناصر تاريخية واقعية، تمد الباحث والمؤرخ بالحقيقة الساخرة، ويمثل كذلك الكثير من الحقائق المذهبية، والتوحيد، وتنزيه الخالق، وصفاته، والعدل. والجبر والاختيار، وما إلى ذلك[٦].
وليس نهج البلاغ (الكتاب الجامع لخطب علي بن أبي طالب ورسائله وأقواله، والذي أطلق عليه الشريف الرضي عنوانه)، أول جمع لتراث علي بن أبي طالب، فلقد حظي كلام الإمام وخطبه بعناية العلماء، والأدباء، قبل عصر الرضي، فعكف فريق منهم على جمع شوارده، ونظم فرائده، حتى تألفت من ذلك مجاميع كثيرة، كما عكف فريق آخر على حفظه والاستعانة به في كلامهم وخطبهم. وفريق ثالث ضمّنوا مؤلفاتهم الأدبية والتاريخية والأخلاقية، طائفة كبيرة من كلامه. وكان ذلك كله هو المصدر الرئيسي الذي اختار الرضي منه هذا المجموع (نهج البلاغة)، وانتقى منه هذه الطرائف البيانية القيّمة[٧].
وقد تجاوزت خطبه المتداولة بين أيدي الناس، إلى أكثر من أربعمائة خطبة:
قال ابن واضح اليعقوبي المؤرخ المشهور المتوفى سنة (٣٩٢ هـ) في كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم):
(وحفظ الناس عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة، حفظت عنه وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم).
وقال المسعودي المتوفى سنة (٣٤٦ هـ) في كتاب (مروج الذهب - الجزء الثاني):
(والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته، أربعمائة ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً) وقد أشرنا إلى أن هناك جماعة من العلماء والأدباء عكفوا على جمع كلام الإمام علي قبل أن يخلق الشريف الرضي. وقد ذهبت هذه المجموعات مع الزمن كما ذهب سواها من تراثنا العربي، وبقيت أسماؤها.
ويذكر عبد الله نعمة من الأسماء:
١ - كتاب خطب علي (عليه السلام) وكتبه إلى عماله، لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني المولود عام ١٣٥ هـ والمتوفى عام ٢١٥ / ٢٢٥ هـ.
٢ - كتاب خطبة علي (كرم الله وجهه)، لهشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ٢٠٤ / ٢٠٦ هـ.
٣ - كتاب خطب الإمام علي، لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى بن عيسى الجلودي الأزدي البصري المتوفى سنة ٣٣٢ هـ، وكان من شيوخ البصرة وأخبارييها، له ما يقرب من ثلاثمائة مؤلف.
٤ - كتاب رسائل علي.
٥ - كتاب ذكر كلام علي في الملاحم.
٦ - كتاب مواعظ الإمام علي.
٧ - كتاب قوله في الشورى.
٨ - كتاب الدعاء عن الإمام.
٩ - كتاب بقية رسائله وخطبه وأدل مناظراته.
١٠ - كتاب بقية مناظراته.
١١ - كتاب ما كان بين علي وعثمان من الكلام، وهذه الكتب كلها للجلودي المذكور.
وقد بقي كتابه في خطب الإمام علي بين أيدي العلماء حتى أوائل القرن التاسع، وقد نقل عنه الشيخ حسن بن سليمان الحلي في كتابه (المختصر) شطراً من خطبته التي أولها: (أنا فقأتُ عين الفتنة).
١٢ - كتاب خطب أمير المؤمنين، لأبي هاشم عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن المتوفى سنة (٢٥٢هـ).
١٣ - كتاب الخطب لأمير المؤمنين، لأبي إسحاق النهمي إبراهيم بن سليمان بن عبد الله بن خالد الكوفي الخراز، يرويه عنه النجاشي بثلاث وسائط، آخرها حميد بن زياد الكوفة المتوفى سنة (٣١٠ هـ).
١٤ - كتاب خطب أمير المؤمنين، لإبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري، قال الطوسي في الفهرست: (إنه صاحب التفسير عن السدي، والسدي الكبير هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي المفسر المتوفى في حدود سنة (١٢٨ هـ) والسدي الصغير هو حفيد السدي الكبير، محمد بن مروان بن عبيد الله بن إسماعيل السابق الذي يروي عن محمد بن السائب الكلبي، كتاب التفسير.
١٥ - كتاب الخطب لأمير المؤمنين، لأبي يعقوب إسماعيل بن مهران بن محمد بن عمر بن أبي نصر السكوني.
١٦ - كتاب الملاحم للإمام، لأبي يعقوب المذكور.
١٧ - خطب أمير المؤمنين على الناس في الجمع والأعياد وغيرهما، لأبي سليمان زيد بن وهب الجهني الكوفي المتوفى سنة (٨٠ / ٩٦ هـ).
١٨ - خطب أمير المؤمنين، لأبي الخير صالح أبي حماد سلمة الرازي.
١٩ - خطب أمير المؤمنين، المروية عن الصادق المتوفى عام (١٤٨ هـ).
٢٠ - خطب أمير المؤمنين، لأبي محمد أو أبي بشر مسعدة بن صدقة العبدي.
٢١ - خطب أمير المؤمنين، برواية أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي الأسلمي. رواه الشيخ أبو غالب الزراري بإسناده إلى الواقدي، وقد توفي الزراري عام (٣٦٨ هـ).
٢٢ - كتاب رسائل المؤمنين، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي المتوفى سنة ٢٨٣ هـ. وهو من ولد سعيد بن مسعود أخي عبيد بن مسعود صاحب وقعة الجسر مع الفرس، وعم المختار الثقفي، وله أيضاً كتاب الخطب السائرة..
٢٣ - كتاب الخطب، لمحمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد الأشعري.
٢٤ - مائة كلمة من كلام أمير المؤمنين، جمعها الجاحظ المتوفى عام (٢٥٧ هـ).
٢٥ - كتاب أبي العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري الذي جمعه من كلام علي (رضي الله عنه) وخطبه. ذكره شارح النهج ابن أبي الحديد عند شرح كتاب علي إلى معاوية، وأول هذا الكتاب: (وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه..).
٢٦ - كتاب الخطبة الزهراء لأمير المؤمنين، لأبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأزدي المتوفى سنة (١٥٨ هـ)، وقد رواها الطوسي في الفهرست بسنده، قال: أخبرنا بها أحمد بن محمد بن موسى عن ابن عقدة عن يحيى بن زكريا عن ابن شيبان عن نصر بن مزاحم عن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه، قال: خطب أمير المؤمنين، وذكر الخطبة. وهذه الخطبة الزهراء أوردها ابن عبد ربه في العقد الفريد (م٢)، أولها: الحمد لله الذي هو أول كل شيء وبديه، ومنتهى كل شيء ووليه.
وفيها يقول: ملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك، وليست فيهم فترة ولا عندهم غفلة.
ثم يقول فيها: لم يسكنوا الأصلاب ولم تضمنهم الأرحام... وهي طويلة، وآخرها. إنك ولي كريم.
٢٧ - خطب أمير المؤمنين مع شرحها، لقاضي القضاة لدى الفاطميين أبي حنيفة النعمان المصري المتوفى سنة (٣٦٣ هـ) ذكره ناشر كتاب الهمة في معرفة الأئمة الدكتور محمد كامل حسين ناقلاً عن الأستاذ المستشرق إيفانوف في كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية. ويتساءل عبد الله نعمة، بعد كل هذا: (أين تلك المؤلفات الموضوعة في خطب الإمام علي وكلامه؟ وأين ذهبت الأربعمائة خطبة أو تزيد مما كان يحفظه الناس من كلامه؟ وأين ما كان يحفظه الكتّاب والبلغاء من كلماته؟
أليس في كل هذا ما يؤكد أن ما اختاره الرضي في نهج البلاغة هو بعض ما كان مدوناً ومحفوظاً ومشهوراً بين الناس؟
أليس في هذا ما يدمغ أولئك القائلين بأن ما في النهج موضوع ومنحول على لسان الإمام علي؟).
خصوصية النص
إن القيمة الأساسية للنص، في الخطب علي بن أبي طالب، ورسائله، ماثلة في حضور الإبداع النصي في النشاط الفكري والكلامي له على المستويين: الشفهي والتحريري. وتلك ميزة نادرة يتفرد بها علي بن أبي طالب بصورة ملموسة.
وهي ميزة تجعله في المقدمة من جميع كتاب النصوص المبرزين، ذلك لأن أولئك الكتّاب، مثلهم مثل الرسامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم، بعد طول تأمل، وتخطيط، وممارسة، وبعد مراجعات نقدية متواترة، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية، على صعيد العمل. وكان علي بن أبي طالب، بعفويته الثاقبة، يباشر عمله الإبداعي الفوري، فيأتي النص المرتجل، مثل النص المكتوب، آية في الإتقان والروعة. ومن الثابت، أن جريان خطب علي بن أبي طالب على نحوه الباهر، في طوله، وقصره، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع، موهوب، هو السيد المؤكد في عالم العقول.
لا يمكن أن تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص في المخاطبة الارتجالية، وفي الكتابة، لشخص آخر ـ غير علي بن أبي طالب ـ الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة، تتلاقح فيما بينها بجدلية خصبة.
ورغم أن الخطاب عند علي بن أبي طالب خطاب سياسي، وفقهي، وتربوي، ووعظي، في إطار معرفي محكم، إلا أنه ذو سمة رياضية، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصاً مغنياً.
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين، الأولى هي في صلب بنية الخطاب، وعلاقته الداخلية، والثانية في خفاء المنهج، أي في تنظيم فضائه.
المقوّم الأول، هو المقوم النحوي، الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرر الإنساني، وبعض مظاهر اللانحوية، التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة، والارتجال، وخاصة في الخطاب الشفهي.
إن أساس الخطاب في فعالية علي بن أبي طالب ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي، ذلك لأن علياً بن أبي طالب هو واضع النحو العربي، في منطلقه الأول.
قال لأبي الأسود الدؤلي، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي، اكتب ما أملي عليك. ثم أملى عليه أصول النحو العربي، ومنها أن كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل. ثم أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وفي خاتمة التوجيهات قال علي: يا أبا الأسود انحُ هذا النحو. وهكذا أصبح عند العرب علم النحو.
من هنا كان الأساس النحوي للنص في خطب علي بن أبي طالب، يؤمن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص.
ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص، وهو محور المعاني والدلالات.
وإذ يستكمل الخطاب (العلوي) شروطه المادية ـ اللغوية، وجماع علاقاته الداخلية، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص. أي أن النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة.
أما المقوّم المادي الثاني للنص، فهو المقوّم الرياضي الذي يستدلّ عليه، استدلالاً، لأنه لا يعبّر على نحو مباشر، إلا بالنسبة إلى الملتقي النابه.
إن الذهنية الرياضية النشطة، والمبادهة لعلي، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب.
فالاتساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره، وفي عظمة منطقه، وبلاغته. ومردّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية.
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة، حينما سئل عن ميت ترك زوجه وأبوين وابنتين، فأجاب من فوره: صار ثُمنها تُسعاً.
وشكت ـ مرة ـ امرأة أن أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يقسم لها من ميراثه غير دينار واحد، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأما واثني عشر أخاً وأنت؟ وكان الأمر كذلك.
فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى حيله التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدّ في حلها العقول[٨].