وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): الرِّزْقُ رِزْقَانِ: طَالِبٌ، وَمَطْلُوبٌ، فَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَهُ الْمَوْتُ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا،مَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رِزْقَهُ مِنْهَا.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): الغِنَى والْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
البلاغة في نهج البلاغة – الثاني

تعبيرية النص

إن الدلالة المشتركة للمفردات والتعبيرات، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس، مثقفين وغير مثقفين، هي توحيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية.

وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية، ولكن أساسية.

والفارق بين الكلام العادي، والأسلوب الأدبي ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط، بل هو فارق في دقة الاحتياز على المعاني، ومن ثمّ التعبير عنها. فأنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم. ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية، ومن جمالية أسلوبية.

قد انتقد ابن قتيبة في (مقدمة أدب الكاتب) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقه، فقال: (رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مراكب العجز، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدّرك بغير سبب وبلغوا البغية بغير آلة). وابن قتيبة محق، لأننا لا نريد من الأديب أن ينقل لنا المعاني وحدها، فإن الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب، باعثة لشعورنا، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان التعبير فنيّاً[١].

ويُلخص (الحوفي) عدة صفات في تعبير علي بن أبي طالب هي[٢]:

١ـ تخيّر المفردات

(بحيث تنسجم من الناحية الصوتية فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها).

كقوله في كتاب إلى عمّاله على الخراج:

(إنكم خزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة).

وكقوله إلى معاوية:

(لست بأمضى على الشك مني على اليقين).

وقوله:

(كلما أطلّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجال منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها والضّبُع في وجارها).

وقوله:

(دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأَسَرِّ، ثم خرج إليّ منكم جنيد وتذاؤب ضعيف).

وقوله:

(من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه).

وقوله:

(إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم، شفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمنُ فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم).

٢ـ قوة التعبير

 إذ أجمع علماء البيان العربي على أن الكلام إذا كان لفظه غثّاً ومعرضه رثّاً كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله، كما ذكر أبو هلال العسكري في (الصناعتين). وأجمعوا على أن الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا.

وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيام الفراق، وفي استجلاب المودّات واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك (كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي).

ومن السهل أن نجد كثيراً ممّا يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام علي وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها)[٣].

ومن الأمثلة والنماذج قوله:

(وَاللهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا، وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُها، وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي)[٤] وقوله: (أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ الحقُّ يَضرّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لا يستقم بِهِ الهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الهَوَى، وَطُولُ الأْمَلِ) وقال في خطبة يخوّف فيها أهل النهروان:

(فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هذَا الْغَائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ سُلْطَان مُبِين مَعَكُمْ، قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدَّارُ، وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ، وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ، سُفَهَاءُ الأْحْلاَمِ، وَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً)[٥].

وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة:

(إنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله)، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعِي نُبُوَّةً، فَسَاقَ النَّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، وَبَلَّغَهُمْ مَنْجَاتَهُمْ، فَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ صِفَاتُهُمْ أَمَا وَاللهِ إنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، مَا عَجَزْتُ،وَلاَ جَبُنْتُ، وَإِنَّ مَسِيرِي هذَا لِمثْلِهَا، فَلاَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ. مَالي وَلِقُرَيْش! وَاللهِ لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ، وَلاَُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ).

٣ـ سهولة التعبير

 مثل قوله في كتاب إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر:

(فَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُهُ، وَلَداً نَاصِحاً، وَعَامِلاً كَادِحاً، وَسَيْفاً قَاطِعاً، وَرُكْناً دَافِعاً وَقَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ، وَأَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، وَدَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَجَهْراً، وَعَوْداً وَبَدْءاً، فَمِنْهُمُ الآتِي كَارِهاً، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً، وَمِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلاً).

وقوله في رسالة إلى عمرو بن العاص قبل التحكيم:

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا، وَلَهَجاً بِهَا، وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا، وَمِنْ وَرَاءِ ذلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ، وَنَقْضُ مَا أَبْرَمَ! لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ، وَالسَّلاَمُ).

وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمد بن أبي بكر:

(اسمعوا قولي، وأطيعوا امري، فوالله لئن أطعتموني لا تغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون. خذوا للحرب أهبتها، وأعدوّا لها عدّتها، فقد شبّت نارها... إلا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجد في غيّهم وضلالتهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم.

(إِنِّي وَاللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ الاْرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ، وَإِنِّي مِنْ ضَلاَلِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلى بَصِيرَة مِنْ نَفْسِي وَيَقِين مِنْ رَبِّي. فانفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).

٤ـ قصر الفقرات

 مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التّمر:

(مُنِيتُ(٢) بِمَنْ لاَ يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ وَلا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، لاَ أَبَا لَكُمْ! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ؟ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ، وَلاَ حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ؟! أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً، وَأُنادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلاَ تَسْمَعُونَ لي قَوْلاً، وَلاَ تُطِيعُون لِي أَمْراً، حَتَّى تَكَشَّفَ الاْمُورُ عَنْ عَوَاقِبِ الْمَساءَةِ، فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ، وَلاَ يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الاْسَرِّ، وَتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ الْنِّضْوِ الاْدْبَرِ...).

وقوله:

(فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الاْبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِليَّ، أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْض لَدَيَّ، وَقَدْ قلَّبْتُ هذَا الاْمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعْني إِلاَّ قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله)، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الاْخِرَةِ).

وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه:

(أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْب، وَلاَ أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْم، وَلاَ أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ، وَأَنْ تُكُونُوا عِندِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِذَا فَعَلْتُ ذلِكَ وَجَبَتْ لله عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ، وَلِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَأَلاَّ تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَة، وَلاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَح، وَأَنْ تَخُوضوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ).

٥ـ كثرة الصيغ الإنشائية

وهي: (الأمر والنهي والاستفهام والترجي والتمني والنداء والقسم والتعجب) وهي (أقوى من الصيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم. وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها.

ثم إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء، وهذا كله عون على الوضوح من ناحية وعلى التأثير في السامعين من ناحية)[٦].

أمثلة ونماذج

١ـ من الأمر قوله:

(فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا أَصْغَرَ في أَعْيُنِكُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ).

و(فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الاْمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْر).

وقوله: (لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ، وَلْيَرأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغيرِكُمْ).

٢ـ ومن النهي قوله:

(فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً).

و(أَلاَ وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الاْخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا).

و(لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ).

و(وَلاَ تُرَخِّصُوا لاِنْفُسِكُمْ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ، وَلاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاِْدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ...).

و(لاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاْيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ).

و(فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هَوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ، إِلَى أَجَل مَعْدُود).

و(وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا).

و(عِبَادَ اللهِ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ، وَلاَ تَنْقَادُوا لاَِهْوَائِكُمْ).

و(لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ).

و(فَلاَ تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الاْجْرَبِ).

وقوله: (فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي... فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل).

٣ـ ومن الاستفهام قوله:

(أَبَعْدَ إِيمَاني بِاللهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ! لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).

وقوله: (أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم، مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟).

وقوله: (إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ، وَلاَ أَعْلَمُ جُنَّةً أوْقَى مِنْهُ، وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنا في زَمَان اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً، وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلى حُسْنِ الْحِيلَةِ، مَا لَهُمْ! قَاتَلَهُمُ اللهُ! قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْن بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لاَ حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ)[٧].

وقوله: (هَلْ تُحِسُّ بِهِ ـ ملك الموت ـ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟! أَيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوق مِثْلِهِ؟).

وقوله: (أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى، وَالاَْبْصَارُ اللاَّمِحَةُ إِلَى مَنَارِ التَّقْوَى؟! أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهِِ، وَعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ؟).

٤ـ ومن الترجّي قوله:

(فَاسْمَعُوا قَوْلي، وَعُوا مَنْطِقِي، عَسَى أَنْ تَرَوْا هذَا الاَْمْرَ مِنْ بَعْدِ هذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ).

و(وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاْمَّةِ).

وقوله: (لاَ تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَد بِذَنْبِهِ، فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَلاَ تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَة، فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ).

وقوله: (هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الاَْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ).

٦ـ ومن النداء قوله:

(أَيُّها النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ..).

وقوله: (فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنَ اللهِ).

وقوله: (أَيُّهَا النَّاسُ، الُْمجْتَمِعَةُ أبْدَانُهُمْ، الُمخْتَلِفَةُ أهْوَاؤُهُمْ، كَلامُكُم يُوهِي الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الاْعْدَاءَ).

وقوله: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود).

٧ـ ومن القسم قوله:

(وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً).

وقوله: (أَمَا وَاللهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً، وَلكِنْ جَئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً).

وقوله: (وَلَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ، لاَوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاَعِق).

وقوله: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا..).

وقوله: (وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً).

وقوله: (والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام؟).

٨ـ ومن التعجب قوله:

(سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! وَمَا أصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَة فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الاْخِرَةِ!).

وقوله:

(وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالْـمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ، مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الاْيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!).

وقوله: (فَيَا عَجَباً! عَجَباًـ وَاللهِ ـ يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ).

٩ـ السجع والترسّل: جاء في إحدى خطبه:

(فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا، وَلْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا، وَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ، وَقَلِيلِ مُقَامِهِ، فِي مَنْزِل حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً، فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْب سَلِيم، أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ، وَتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ، وَأَصَابَ سَبِيلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ، وَطَاعَةِ هَاد أَمَرَهُ، وَبَادَرَ الْهُدى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ، وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ، وَأَمَاطَ الْحَوْبَةَ، فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَهُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ).

وقوله:

(وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وَتَشَتَّتَ الاْمْرُ، وَضَاقَ الْـمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ).

ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: (إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ. وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ؟ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ، وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الأُْمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَذُ بِأَكْظَامِهَا..)[٨].

وقوله: (ومن ترك الجهاد في الله، وأدهن في أمره، كان على شفا هلكه، إلا أن يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله، وقاتلوا من حادّ الله، وحاول أن يطفئ نوره.

قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام. والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم، شخصنا إن شاء الله، ولا حولة ولا قوة إلا بالله).

١٠ـ التوازن

..كثيراً ما تجيء الجمل في نهج البلاغة متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أو تتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير، ويجيب إلى السمع، ويقربه إلى الذوق[٩].

ومن الموازنة قول الإمام علي:

(لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ، وَلاَ تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ، وَلاَ وَقَفَ بِهِ عَجْرٌ عَمَّا خَلَقَ،وَلاَ وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهُةٌ فِيَما قَضَى وَقَدَّرَ، بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ، وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ، وَأَمْرٌ مُبْرَمٌ..).

وقوله:

(وَإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ، لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالفَوْزِ أَو الشِّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لاِ فْضَلِ الْعُدَّةِ، فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ نُفُوسَكُمْ غَداً. فَاتَّقَىْ عَبْدٌ رَبِّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّمَ تَوْبَتَهُ، غَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ، والشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِه، يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا، وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا، حتّى تَهْجُم مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا. فَيَالَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَة أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً، وَأَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ! نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمِّنْ لاَ تُبْطِرُهُ نَعْمَةٌ، وَلاَ تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ، وَلاَ تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَلاَ كَآبَةٌ).

وكذلك قوله: (إِنَّ الزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِمَا رُزِقُوا..).

وقد يجيء التوازن في آخر الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله: (الْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَقْنُوط مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَلاَ مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ، وَلاَ مُسْتَنْكَف عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ) فإن هنا موازنة بين مقنوط ومخلوّ وميؤوس.

١١ـ الجناس، الطباق، المقابلة، والتوشع.. الخ.

كما استعرض الدكتور الحوفي، أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب علي بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من (التشبيه) و(الاستعارة) و(الكناية) و(المجاز) ـ وهي عدة الشاعر والخطيب والكاتب، التي برع فيها علي براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر، والدين والدنيا.

ميزة خاصة

إن نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأملته، (وجدته كله ماء واحداً، ونفساً واحداً، وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية).. وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحسن اللفظي، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى، والتي ترد في خطب، وفقرات ممتازة التميّز، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها.وذلك باعتراف جعفر بن يحيى، الذي كان من ابلغ الناس وأفصحهم، كما رأى الجاحظ. قال الجاحظ: حدثني ثمامة، قال:

(سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول: الكتابة بضم اللفظة إلى أختها، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر ـ أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه، ثم وناهيك حسناً بقول علي بن أبي طالب:

(هَلْ مِنْ مَنَاص أَوْ خَلاَص، أَوْ مَعَاذ أَوْ مَلاَذ، أَوْ فِرَار أَوْ مجاز أوْ مَحَار)[١٠].

قال أبو عثمان (الجاحظ): وكان جعفر يعجب أيضاً بقول علي:

(أي من جد واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجّد).

قال: (ألا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبة إيّاها إلى نفسها، دالة عليها لذاتها).

وقد روى هذا كله أيضاً ابن مسكويه في كتابه (الحكمة الخالدة) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى. والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها، وهي (هل من مناص أو خلاص...الخ) هي من بعض فصول هذه الخطبة.

أما الفقرات التي أعجب بها جعفر وهي (أي من جد واجتهد...الخ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد.

وأولها: (أوصيكم عباد الله، عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وبتقديم العمل وترك الأمل، فإنه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله...).

النص الوصفي

إن ذكاء علي بن أبي طالب النادر، كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء، وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة، بسمات الشيء الباطنة، قبل الظاهرة.

وبفعل ذلك كان وصفه يتغلغل إلى عمق الظاهرة، أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى، ليقدّم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل. وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل تعبير، وأقوى إيحاء، وأدق وصف، وأجلى تعبير، فإن سحر البيان الذي أوتيَهُ علي بن أبي طالب، كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية.

ومثل شأن علي بن أبي طالب، في معرفته بالعلوم اللغوية، والفقهية، والشرعية، والعسكري، كانت الفنون الأسلوبية المميزة لقدرته البلاغية، والمجسّدة لفكره الثاقب، تجعله مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة. فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أو الفقهي، أو الأخلاقي. ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، إلا أن طبيعة النفس المرهفة، والعقل النير، تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف، فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف، ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.

إن علياً بن أبي طالب كان يستنطق الصفات، واهباً إيّاها المقدرة على أن تستعرض نفسها، بشفافية أكثر.

لقد تميز: (بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن وتتسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذي فكره، وتقوّي خياله، فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلاه للبقاء والتعميم.

وحديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحية بما يتخللها من قواعد ونواميس حياتية وما يحكمها من إرادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، وكلامه عن السحاب والزرع والحيوانات المختلفة المتباينة كالخفاش والطاووس والنملة، وتحليله الأوضاع الاجتماعية والغرائز الإنسانية، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقة الملاحظة والادراك الواعي، وهو بذلك كما يقول العقاد تلميذ ربّه جلّ وعلا)[١١].

قال في وصف النملة:

(انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وُرُودِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيّ).

وقال يصف الخفّاش:

(وَمِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، وَعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْء، وَيَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ، وَكَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نقُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا، وَتَتَّصِلُ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا. وَرَدَعَهَا بِتَلاَلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا[١٢]، وَأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلاَقِهَا[١٣]. فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بَالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا، وَجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ في الْـتَِماسِ أَرْزَاقِهَا; فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ[١٤]، وَلاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ. فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا، وَبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا، وَدَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ[١٥] فِي وِجَارِهَا، أَطْبَقَتِ الاَْجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَتَبَلَّغَتْ[١٦] بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَمَعَاشاً، وَجَعَلَ النَّهَارَ لَهَا سَكَناً وَقَرَاراً! وَجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ، كَأَنَّهَا شَظَايَا الآذَانِ، غَيْرَ ذَوَاتِ رِيش وَلاَ قَصَب، إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً، لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا، وَلَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ. تَطِيرُ وَوَلَدُهَا لاَصِقٌ بِهَا لاَجِيٌ إِلَيْهَا، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ، وَيَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ، وَيَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ، وَيَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ، وَمَصَالِحَ نَفْسِهِ. فَسُبْحَانَ الْبَارئِ لِكُلِّ شَيْء، عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ).

وقال يصف الجرادة:

(وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَ اوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ[١٧]، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ[١٨]، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا[١٩]، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا[٢٠]، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً).

وقال في وصفه للطاوس:

(يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْـمُخْتَالِ، وَيَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَجَنَاحَهُ، فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ، وَأَصَابِيغِ وِشَاحِهِ; فَإذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلاً بِصَوْت يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ، وَيَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ، لاِنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلاَسِيَّةِ. وَقَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ، وَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ، وَمَخْرَجُ عَنُقِهِ كالاْبْرِيقِ، وَمَغَرزُهَا إلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْـيَـمَانِيَّةِ، أَوْ كَحَرِيرَة مُلْبَسَة مِرْآةً ذَاتَ صِقَال..)[٢١].

وقال ينفي زعم من يقول إن الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تذرفها عينه فتشربها أنثاه فتحمل:

(وَلَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَة تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ، فَتَقِفُ في ضَفَّتَي جُفُونِهِ، وأَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذلِكَ، ثُمَّ تَبِيضُ لاَ مِنْ لِقَاحِ فَحْل سِوَى الدَّمْعِ الْمُنبَجِسِ، لَمَا كَانَ ذلِكَ بَأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ)[٢٢].

ومن كلام له في الأرض قال رداً على رغم أن الأرض تدور على قرن ثور وغير ذلك من الأباطيل والأوهام:

(وَأَنْشَأَ الأرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ).

وقال في تكوين الجبال:

(وَجَبَلَ جَلاَمِيدَهَا، وَنُشُوزَ مُتُونِهَا وَأَطْوَادِهَا، فَأَرْسَاهَا في مَرَاسِيهَا، وَأَلْزَمَهَا قَرَارَاتِهَا، فَمَضَتْ رُؤُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي متُونِ أَقْطَارِهَا، وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأشْهَقَ قِلاَلَهَا، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا، وَجَعَلَهَا لِلأَرْضِ عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً، فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِن أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَواضِعِهَا).

انتهى.

----------------------------------------------
[١] . الدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.
[٢] . آثرنا ـ هنا ـ تلخيص موضوع الدكتور الحوفي واختيار أهم النماذج التي وردت فيه.
[٣] . لدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.
[٤] . اللدم: صوت الحجر أو العصا تدقُ بها الأرض دقاً هيناً يصحبه قول الصائد عند حجر. الضبع: خامري أم عامر، أي الزمي حجرك. فتنام: فيدخل إليها ويصيدها ـ المصدر.
[٥] . الأهضام: جمع هضم على وزن نهر وهو المطمئن من الوادي. الغائط: ما سفل من الأرض. البجر: الداهية والأمر العظيم.
[٦] . الدكتور أحمد محمد الحوفي، بلاغة الإمام علي.
[٧] . الحُوّل القُلّب: المجرّب المحنّك. الحريجة: الحرج والتقوى.
[٨] . أكظام: جمع كظم وهو مخرج النفس.
[٩] . الدكتور أحمد محمد الحوفي: بلاغة الإمام علي.
(والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف). المصدر نفسه.
[١٠] . محار: مرجع إلى الدنيا بعد فراقها.
[١١] . علي محمد الحسين الأديب، منهج التربية عند الإمام علي.
[١٢] . سبحات اشراقها: درجات نورها.
[١٣] . البلج: الضوء الواضح، الأتئلاق: اللمعان القوي.
[١٤] . إسداف: إظلام.
[١٥] . الضّباب: جمع ضبّ.
[١٦] . تبلّغت: تناولت القوت.
[١٧] . قمراوين: مضيئتين.
[١٨] . منجلين: رجلين (شبههما بالمنجلين لا عوجاجهما وخشونتهما).
[١٩] . ذبّها: دفعها وأبعدها.
[٢٠] . نزواتها: وثباتها.
[٢١] . زقا: صوت. معولاً: صارخاً (أي أنه يزهى بنفسه، فإذا نظر إلى ساقيه، أعول حزيناً لأنهما قبيحتان). الظنبوب: حرف الساق. صيصيه: شوكة في رجله. العرف: الشعر المرتفع على عنقه ورسه. القنزعة: الشعر حول الرأس. الوسمة: العظم الذي يخضب به.
[٢٢] . أي أن هذا الزعم كائن أيضاً في الغراب، إذ قالوا إن تلقيحه يكون بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذكر إلى الأنثى فتتناوله من منقاره، ومنشأ هذا الزعم في الغراب أنه يخفي تلقيحه.
****************************