وعن خطبته (عليه السلام) التي تتعلق بأبناء الأنبياء إسماعيل وإسحاق وإسرائيل وما كان عليهم من أمور العذاب، يقول المعتزلي:- ((لقائل أن يقول: ما نعرف أحداً من بني اسحق وبني إسرائيل احتازتهم الاكاسرة والقياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية ومنابت الشيح، إلا أن يقال: يهود خيبر والنضير وبني قريضة وبني قينقاع وهؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم، ويعلم من فحوى الخطبة انهم غير مرادين بالكلام ولأنه (عليه السلام) قال: تركوهم أخوان دبر وبر وهؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر والدبر بل من أهل المدر، لأنهم كانوا ذوي حصون واطام، والحاصل أن الذين احتازتهم الاكاسرة والقياصرة من الريف إلى البادية وصاروا أهل وبر ولد إسماعيل، لابنو اسحق وبنو إسماعيل.
والجواب: انه (عليه السلام) ذكر في هذه الكلمات وهي قوله ((فآعتَبرُوا بِمَالِ ولْدِ إسمَاعِيلَ وَبَنِي إسرائِيلَ، المقهُورِيْنَ والقاهِرِيْنَ جَميْعاً)) أما المقهورين فبنوا إسماعيل وأما القاهرون فبنو إسحاق وبنو إسرائيل لان الاكاسرة من بني إسحاق ذكر الكثير من أهل العلم أن فارس من ولد اسحق والقياصرة من ولد اسحق أيضاً لان الروم بنو العيص بن إسحاق وعلى هذا يكون الضمير في (أمرهم) و(تشتتهم) و(تفرقهم) يرجع إلى بني إسماعيل خاصة، فان قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم ها هنا؟ قلت: لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في أيام أجاب الملك وغيره حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة وطردوهم عن الشام، ألجأوهم على المقام ببادية الحجاز، ويصير تقدير الكلام: فاعتبروا بحال ولد أسماعيل مع بني اسحق وبني إسرائيل، فجاء بهم في صدر الكلام على العموم، ثم خصص فقال: الاكاسرة والقياصرة، وهم داخلون في عموم ولد إسحاق، وإنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك ولد يعقوب فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة بخلاف ولد إسحاق فأنهم كانوا يعرفون ملوكهم من بني ساسان ومن بني الأصقر)) [١].
وعن كلام الإمام (عليه السلام) الذي يقول فيه: ((للهِ بِلادُ فلانِ، فَلَقَد قَوّمَ الأوْدَ ودَاوَى العَمَدَ، وأقاَم السُّنةَ، وخَلَّفَ الفِتنةَ! ذَهَبَ نقيَّ الثّوب، قَلِيلَ العيْبِ، أَصابَ خَيرَها، وسَبَقَ شَرَّهَا، أَدّى إلى الله طَاعَتَهُ، وآتقَاهُ بحقِّهِ، رَحَلَ وتَرَكَهُم فِي طُرُقٍ مُتَشعبةٍ، لا يَهتدِي بِهَا الضّالُ، ولا يَسْتيقِنُ المهُتدِي)) [٢] .
يقول ابن أبي الحديد مؤولا ذلك ورادا على الشارح الراوندي ((فأما الراوندي فانه في الشرح: انه عليه السلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة وان الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاختيار والأثرة، وهذا بعيد لان لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعاراً ظاهرا بأنه يمدح واليا ذا رعية وسيرة، ألا تراه كيف يقول:- ((فَلَقَد قَوَّمَ الأودَ ودَاوى العَمَدَ، وأَقام السُّنةَ، وخَلَّف الفِتنةَ)) وكيف يقول ((أَصابَ خَيرَها وسَبَقَ شَرَّهَا)) وكيف يقول ((أَدّىَ إلى الله تعالى)) وكيف يقول ((رَحَلَ وتَرَكَهُم في طُرُقِ متشعبةٍ)) وهذا الضمير وهو الهاء والميم في قوله ((وتركهم)) هل يصح أن يعود ألا على الرعايا، وهل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقه من عرض الناس وكل من مات قبل وفاة النبي (صلى الله وعليه وآله وسلم) كان سوقه لا سلطان له، فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير، أو حمزة بن عبدالمطلب، أو عبيدة بن الحارث، وغيرهم من الناس)) [٣] .
أما فيما يتعلق بالتأويلات الاخرى للبحراني فمنها ما ذكره حول قول الإمام (عليه السلام) ((فإنَّ الشّيطَانُ كامِنٌ في كِسْرِهِ)) [٤] ، قال:- ((انه أراد بالشيطان معاوية وقيل عمرو بن العاص، وذلك أن الشيطان لما كان عبارة عن شخص يضل الناس عن سبيل الله، وكان معاوية في أصحابه كذلك عنده (عليه السلام) لا جرم أطلق عليه لفظ الشيطان...
ويحتمل زيادة ان يريد الشيطان ولما كانت محال الفساد هي مظنة إبليس، وكان المضروب قد ضرب على غير طاعة الله كان محلا للشيطان فلذلك استعار له لفظ الجلوس في كسره)) [٥] .
وفي تأويل قول الإمام (عليه السلام): ((وآستَراحَ قومٌ إلى الفِتَنِ)) [٦] يرى ابن ميثم انه اشارة إلى من يعتزل الوقائع التي ستقع في آخر الزمان من شيعة الحق وأنصاره ويجد في اشتغال القوم بعضهم ببعض راحة له في الانقطاع والعزلة [٧] .
ويقول في تأويل قوله (عليه السلام) ((وسأجهَدُ فِي أَنْ أطَهرَ الأرضَ مِن هَذَا الشّخصِ المَعكُوسِ والجِسمِ المَركُوسِ حَتى تَخرجُ المدَرَةُ مِنْ بَينِ حَبِّ الحصيدِ)) [٨] ، انه تواعد أن يجتهد في تطهير الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس وأراد به معاوية بن أبي سفيان [٩] .
وفي تأويل قول الإمام (عليه السلام) ((آنتَفعُوا بِبِيانِ آللهِ وآتعظُوا بِموَاعظِ آللهِ، وآقَبلوا نَصيحةَ آللهِ، فإنَّ آللهَ قد اُعذَرَ إليكم بالجَلَّبةِ وأَخَذَ عليكم الحُجّةَ...)) [١٠] وقوله (عليه السلام): ((وآعلَمُوا عبادَ آللهِ أنّ المُؤمِنَ يُستَحِل العَامَ...، ويحرُم العامَ...)) [١١] ، ويقول البحراني موردا أقوال بعض الشارحين:- ((إن كلام الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إشارة إلى أن ما تثبت من طريق النص أما السعادة التي شهد بها النص في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يجوز أن ينقض بالقياس أو الاجتهاد بل كل ما ورد به النص فيتبع به مورد النص فما كان حلالا بمقتضى النص وعمومه العام الماضي، فهو في هذا العام حلال، وكذا في الحرام وعموم هذا الكلام يقتضي عدم جواز نسخ النص وتصحيحه بالقياس وهو مذهب الأمامية لاعتفادهم بطلان القول بالقياس المتعارف ومذهب جماعة من الأصوليين مع اعترافهم بصحة القياس، ومن يجوز تخصيص به يحمل هذا الكلام على عدم قبول القياس في نسخ النص من كتاب أو سنة، وما أحدثه الناس إشارة إلى القياس)) [١٢].
وكانت للإمام علي (عليه السلام) مجموعة من الخطب التي يصف بها جماعات من الشخصيات بأوصاف يمكن عدها تشخيصاً وبياناً لحال هذه الجماعة، ويبدو أن الغرض من ذلك هو تحذير الأمة من الخطر الذي تشكله هذه الجماعة على مسيرة الأمة.
وفي ضوء ذلك نجد هناك بعض التأويلات التي قدمها البحراني لأمثال هذه الخطب، من بينها خطبته التي يقول فيه ((فِإِنَّ مِنُهم الذي (قد) شَرِبَ فيكُم الحَرامَ، وجُلِدَا حّداً في الإسْلامِ، وإنَّ منُهم مَنْ لَم يُسلِم حتى رَضَخَتْ لَهُ عَلَى الإسلامِ الرضائِخُ)) [١٣] .
يشير البحراني: إلى أن الذي شرب منهم أي من هذه الجماعة في المسلمين الحرام هو إشارة إلى المغيرة بن شعبة حينما شرب الخمر في عهد عمر حين كان واليا على الكوفة، فصلى بالناس وهو سكران وزاد في الركعات، وقاء الخمر وشهدوا عليه وجلد الحد، وكذلك عنبسة بن ابي سفيان، جلده في الخمر خالد بن عبيدالله في الطائف، إما الذي لم يسلم حتى أرضخت له الرضائخ قيل هو أبو سفيان وابنه معاوية، حيث كانا من المؤلفة قلوبهم الذين يستمالون الى الدين وجهاد عدوه بالعطاء، وقيل هو عمرو بن العاص، ولم يشهر عنه مثل ذلك الا ما حكاه عليه السلام عنه من اشتراطه على معاوية طعمة مصر في مساعدته بصفين [١٤].
ومن كلام للإمام (عليه السلام) يشير إلى ظاهره تشخيص الأعداء فيقول (عليه السلام) ((قَد خَاضُوا بِحارَ الِفتنِ وأخذُوا بِالبدعِ دُونَ السُّنَنِ)) [١٥] .
يقول البحراني في تأويل ذلك:- ((يحتمل أن يكون التفاتا إلى صفة قوم معهودين؟ للسامعين كمعاوية ةأصحاب الجمل والخوارج، ويحتمل أن يكون منقطعا عما قبله متصلا بكلام لم يحكه الرضي (رضوان الله عليه) واليه ذهب بعض الشارحين، قال: وهو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان اخذ في ذمهم وعيبهم، ولفظ البحار مستعار لما عظم من الفتن والحروب، وقد عرفت وجه الاستعارة قبل ورشح بذلك الخوض والبدعة قد يراد بها ترك السنة، وقد يراد بها أمر آخر يفعل مع ترك السنة، وهو الأظهر في العرف)) [١٦] .
وفي تأويل كلام الإمام (عليه السلام) وهو يتحدث عن فضائله وفضائل أهل بيته وهو جزء من كلامه السابق قال البحراني: أن الإمام (عليه السلام) ((استعار لفظ الشعار لنفسه وأهل بيته ووجه المشابهة ملازمتهم للرسول (صلى الله عليه وسلم) واختصاصهم به، كما يلزم الشعر الجسد، ثم ذكر كونهم أصحابا له ثم كونهم خزانة علمه، كما نقل عن الرسول (صلى اله عليه واله وسلم) هو خازن علمي وفي رواية عيبة علمي، وقيل، خزنة الجنة على معنى أن من جاء يوم القيامة بولايتهم دخل الجنة بمنع العلم وإعطائه أو بمنع الجنة بسببهم وإعطائها، كما أم الخازن كذلك ثم كونهم الأبواب أي أبواب العلم، كما قال (صلى الله عليه واله وسلم) أنا مدينة العلم وعلي بابها وأبواب الجنة على الاستعارة السابقة)) [١٧].
وفي الإطار نفسه، يقول البحراني في تأويل قوله (عليه السلام):- ((كَانت فِي أيدِينَا فَدَكٌ مِن كلِّ ما أظلّتْهُ السّماءُ، فَشحّتْ عَلَيها نفُوسُ قَومٍ، وَسخَت عَنها نفُوس قومٍ آخرينَ)) [١٨].
يقول ((أشار بالنفوس التي شحت بها إلى أبي بكر وعمر واتباعهما، وبالنفوس التي سمحت بها إلى وجوه بني هاشم ومن مال ميلهم)) [١٩] .
وعن تأويل بعض الخطب التي تحدثت عن الخوارج وصفين كقوله (عليه السلام): ((زمَنْ لَجَّ وتَمادى فَهُو الراكسُ الذي رَانَ آللهُ عَلَى قِلبهِ وصَارتْ دِائرِةُ السَّوءِ عَلَى رَأسِهِ)) [٢٠] ، يقول البحراني:- ((أن الذين لجوا في التمادي فهم الخوارج الذي لجوا في الحرب واعتزلوه (عليه السلام) بسبب التحكيم، وكانت قلوبهم في أغشية الشبهات الباطلة حتى صارت دائرة السوء على رؤوسهم فقتلوا ألا اقلهم)) [٢١].
أما الخوئي فقد كانت له بعض التأويلات المنفردة في جوانب من كلام الإمام (عليه السلام)، ولعل من ابرز ذلك ما جاء في قوله (عليه السلام): ((إنَّ آللهَ سُبحانَهُ لَم يَقصِمْ جَبّاريِّ دهرٍ قط إلاّ بَعدَ تَمهِيلٍ ورخاءٍ)) [٢٢] ، فيقول: أن هذا الكلام ((يراد به إشارة إلى مآل معاوية وأمثاله من جبابرة الدهر...، والبالغين عليه من طلحة والزبير ومن حذا حذوهما من العتاة، والتنبيه على أن الله يقصم ظهرهم ويكسر صولتهم ويلبسهم ملكهم ودولتهم، وان طالت مدتهم)) [٢٣] .
يرى الخوئي في قول الإمام (عليه السلام) ((ولا يُتَركُوا عَقْداً إلاّ حلّوهُ وحَتَى لا يبقَى بِيتٌ مدرٍ ولا وبرٍ ألاّ دخلَهُ ظُلمُهُم)) [٢٤] ، أن المراد ((بالعقد والعهود المعاهدة بينهم وبين الناس، فالمراد بحلها نقضها، وأول ما وقع من ذلك ما كان من معاوية حيث نقض المعاهدة بينه وبين الحسن (عليه السلام) وأما العهود المأخوذة عليهم من الله تعالى وهو أحكام الدين وقوانين الشرع المبين فيكون حلها عبارة عن مخالفتها وعدم العمل بها)) [٢٥].
وفي تأويله لقوله (عليه السلام): ((هَذَا مَا آجتَمَعَ عَلَيه أهلُ اليَمنِ حَاضرُهَا وبادِيَها ورَبِيعة|ُ حَاضرُها وبَادِيهَا أنّهُم عَلَى كِتابِ آللهِ. يَدعُونَ ويَأمرُون بهِ ويُحبُونَ مَنْ دَعَا إليهِ وأَمَرَ بهِ)) [٢٦] ، يذكر الخوئي انه أشار إلى محاربات وأحقاد كانت بين الفئتين القحطاني والعدناني في أيام الجاهلية، فلما قام الإسلام أماتها، ألا أنها رجعت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وبلغت اوجها بسياسة بني أمية للخلاف بين المسلمين لغرض الاستيلاء على مقاليد الحكم [٢٧] .
وفي تأويل قول الأمام (عليه السلام):- ((ويَخرجُ مِن دِيلمُان بنو الصيادِ)) وقوله فيهم: ((ثُمَّ يَستَشرِي أَمْرُهُم حَتَى يَملِكُوا الزّوراءَ ويَخلعُوا الخلفَاءَ)) [٢٨] ، يقول الخوئي أن هذا الكلام إشارة إلى بني بويه، وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوتون هو وعياله بثمنه، فاخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة ونشر ذريتهم، حتى ضربت الأمثال بملكهم، وأيضا يشير إلى الصراع بينهم (والمترف بن الأجذم يقتله حتى ضربت الأمثال بملكهم، وأيضا يشير إلى الصراع بينهم (والمترف بن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة) وهذا إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز أبي الحسين، وكان معز الدولة اقطع اليد قطعت يده في الحرب، وكان ابنه عز الدولة مترفا محباً للهو والشرب قتله عضد الدولة فناصروا ابن عمه بقعر الجص على دجلة في الحرب وسلبه ملكه، فأما خلعهم الخلفاء فان معز الدولة المستكفي ورتب عوضه المطيع وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر، وكانت مدة ملكهم كما اخبرنا (عليه السلام) [٢٩].
وفي تأويل خطبته (عليه السلام) التي يتحدث فيها عن الفتنة المقبلة على الأمة وما بها من القبح والخوف والجهالة ((تَرِدُ عَلَيكُم فَتْنَتُهُم شوهاءَ مخشيةً وقِطَعاً جاهليةً ليَس فِيها منارُ هدىً ولا عَلَمٌ يُرى نحنُ أهلُ بِيتٍ مِنهَا بِمنْجاةٍ وَلَسنَا فِيها بِدُعَاةٍ)) [٣٠] ، وهذا الكلام كما يرى الخوئي إشارة إلى ((كونها قبيحة عقلا وشرعا مخوفة للنفوس، مرعبة للقلوب تكون على شكل طوائف ودفعات منسوبة إلى الجهال متصفة بالضلالة لكونها على غير قانون عدل، وما يظهر من كلام الشراح من كون المراد بالجاهلية الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، من الجهل بالله ورسوله وشرايع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر والتعصب والأخلاق الذميمة، ومنها أيضا بيان لوجه الجهالة أي ليس فيها إمام هدى يهتدي به ويستضاء بنوره، ولا قانون عدل يسلك به سبيل الحق)) [٣١] .
وبخصوص الكلام على الجهالة والجاهلية، هناك تأويل آخر للخوئي عن كلام الأمام (عليه السلام) الذي يقول فيه:- ((عبادَ آللهِ لا تركَنُوا إلى جهالَتِكُم، ولا تَنْقَادُوا إلى أَهْوائِكُم فإنّ النازلَ بِهَذا المنزلِ نازِلٌ بشفا جرْفٍ هَارٍ)) [٣٢] ، أي لا تميلوا ((إلى الأهواء الباطلة المخرجة عن كرائم الأخلاق... وعن حق المصالح إلى باطلها...، ويحتمل أن يكون المراد به من لدعى الخلافة من غير استحقاق لها الذي وضع نفسه في مقام ونزل بمنزل ليس له أهلية به ويشعر بذلك ما سيأتي منه نهيه (عليه السلام) عن الشكاية إلى من لا يقدر على إزالة الشكوى وما ذكر بعده من أوصاف الإمام الحق(عليه السلام))) [٣٣] .
ومنها أيضاً قوله (عليه السلام): ((وأَيمُ آللهِ لو فرّقُوكُم تَحتَ كُلِّ كَوكَبٍ لًجمَعَكُم آللهُ لشَرِّ يَومِ الهَمِّ)) [٣٤].
يقول الخوئي في تأويله لذلك ((ويَنتَقَمُ بسوءِ أَعمَالهِمِ مِنهُمُ، وكنى بشر اليوم عن ظهور المسودة من أهل العراق وخرسان وانتقامهم من بني أمية وأهل الشام، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ظهور إمام الزمان (عليه السلام) وجمعهم في الرجعة والمراد جمع صنفهم)) [٣٥] .
وفي تأويله بكلام للأمام (عليه السلام): ((ألا وفي غدٍ – وسيأتي غدٌ بِمَا لاَ تَعرِفُونَ – يَأخذُ الوالِي مِنْ غيرِهَا عُمّا لِها عَلَى مَسَاوئِ أَعمَالِهَا... وتلقي إليه سلماً مقاليْدَهَا)) [٣٦] ، من نهج البلاغة يقول الخوئي:- ((اعلم أن هذه الخطبة حسبما ذكره السيد (ره) وأراده في ذكر الملاحم أي الوقائع العظيمة المتضمنة القتل والاستئصال واتفق الشراح على أن هذا الفصل منها إشارة إلى ظهور القائم (عج)) [٣٧] .
ولعل من التأويلات البارزة التي تميزت بكثرتها عند الخوئي هي ما كانت في أهل البيت (عليه السلام) نحو بيان فضلهم وكرامتهم، ومن بين الخطب التي تناولت هذا المعنى ما جاء في قوله (عليه السلام): ((فَهُوا إمَامُ مَنِ آتقَى وبَصِيرَةٌ مَنِ آهَتَدى)) [٣٨].
حيث يعني انه صلوات الله عليه واله قدوة المتقين وبصيرة المهتدين بهم في أسوة حسنة وهو ((سرَاجٌ لَمَعَ ضوءُه وشِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ، وزَندٌ بَرَقَ لَمعُهُ)) [٣٩] شبهه (عليه السلام) ((بالسراج والشهاب والزند في كونه سبب هداية الخلق كما أن هذه الثلاثة كذلك ورشح التشبيه الأول بلمعان الضوء، والثاني بارتفاع النور والثالث ببروق اللمع ويحتمل أن يكون وجه التشبيه في الثالث إشارة أنوار الهداية)) [٤٠].
ومن التأويلات الخاصة بأهل البيت (عليهم السلام) قوله ويظهر ((لكُم مَنْ يَجمعُكُم ويَضُّم نَشَركُم فَلاَ تَطمعُوا فِي غيرِ مُقبلٍ ولا تِيأسُوا مِن مُدبِرٍ فإِنَّ المُدبِرَ عَسَى أنْ تَزلَّ إحَدى قَائمتَيْهِ)) [٤١] ، ((أي تفرقكم، وأشار(عليه السلام) به إلى الإمام المنتظر اعني المهدي صاحب الزمان (عليه السلام)، وقيل أشار به إلى قائم بني العباس بعد انقضاء دولة بني أمية والأول اظهر)) [٤٢] .
وأن قوله (عليه السلام) ((ألا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحمدٍ كَمثَلِ نجُمِ السّمَاءِ إذا حَوى نجمٌ طَلَعَ نَجمٌ)) ((أراد به الأئمة الأثنى عشر (سلام الله عليهم) وتشبيههم النجوم إما من حيث انهم يهتدى بهم في سبيل الله كما يهتدى بالنجم في ظلمات البر والبحر)) [٤٣] ، ومنها أيضاً إشارته إلى واقعة الطف ((وسيوفُكُم عَلَيهِم مُسلّطةٌ وسيوفُهُم عَنكُمَ مقُبوضةٌ ألا إنَّ لكُلِّ دمٍ ثِائراً ولكُلِّ حقِّ طَالباً)) [٤٤] ، ((وما كان من بني أمية وتابعيهم فيها من سفك الدماء)) [٤٥] .
وأشار إلى فضائله وكراماته يقول (عليه السلام): ((اللَّهم إنِّي أولُ مَنْ أَنابَ وَسمِعَ وأَجابَ لَم يِسبِقْنِي إلاّ رسُولُ الله (صَلَى اللهُ عليه وآله وسلم) )) [٤٦].
يقول الخوئي: أي ((رجع إليك وسمع دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجاب أليه، ولم يسبقني ألا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة، أما كون هذه الجملة تأكيداً لما سبق فلأنه إذا كان أول الناس إسلاما مع عدم كون الإسلام معروفاً حينئذ متوقعا به الانتفاع في الدنيا، لابد وان يكون إسلامه لله سبحانه وابتغاء لرضاه، ومن كان هذا حاله في بداية أمره كيف يخطر ببال عاقل انه يطلب الدنيا وحطامها ويجرد عليها السيف في آخر عمره، وأما كونه (عليه السلام) أول من أناب وأجاب إلى الأيمان والإسلام فهو المتفق عليه بين الشيعة والمشهور بين الجمهور، لم يخالف في ذلك إلا شرذمة منهم لا يعتد بخلافهم)) [٤٧] .
ومما أشار إليه في فضائله بقوله (عليه السلام): ((وإنَّ مَعِي لَبَصِيرتِي ما لبّسَت ولا لُبِّس عَليَّ وإنّها لَلفْئةُ الباغيةُ فِيها الحَما والحُمةُ والشُّبَهةٌ المَغلَوفةُ)) [٤٨] ، يقول الخوئي: ((يحتمل احتمالا قويا أن يكون المراد انه ما لبست عليّ نفسي ولا على الناس امري وما اخبرني به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحق بالاتباع أحق، وفي هذا الكلام تعريض عليهم بأنهم غابت عنهم عقولهم وتاهت حلومهم، وان ما قدموا عليه أمر ملتبس وان خروجهم إنما هو بهوى النفس والناس مدلسون ما يلبسون)) [٤٩] .
ومنها أيضاً ما كان في قول الإمام (عليه السلام): ((كَمْ اطّرَدْتُ الأيامَ أبحثُهَا عَنْ مَكنُون هَذَا الأمرِ فأبى آللهُ إلاّ إخفاءَهُ)) [٥٠] ففي تأويله يقول الخوئي: ((قلت: يمكن توجيهه بان يكون المراد بهذا الأمر خفاء الحق ومظلومية أهله وظهورالباطل وغلبة أصحابه وكثرة أعوانه لأنه (عليه السلام) سعى في أول الأمر في اخذ حقه غاية السعي فلم يتيسر وجرت الأمور لم يكن يخطر ببال أحد وقوع مثلها.
((وفي آخر الأمر لما انتهى إليه وحصل له الأنصار والأعوان وجاهد في الله حق الجهاد وغلب على المنافقين، سنحت فتنةالتحكيم التي كانت من غرائب الأمور، ثم بعد ذلك لما جمع العسكر وأراد الخروج إليهم وقعت الطامة الكبرى، فالمراد بالمكنون سر ذلك وسببه فظهر لي وأبى الله إلا إخفاءه عنكم لضعف عقولكم عن فهمه، إذ هي من غوامض مسائل القضاء والقدر)) [٥١] .
لعل هذا من أهم تأويلات الشارحين، مع وضوح آليات تأويلهم في ضوء هذا التأويل (التأويل التاريخي) في هذا المقام.
---------------------------------------------------------------------
[١] . شرح نهج البلاغة: ١٣/١٧١-١٧٣.
[٢] . المصدر نفسه: ١٢/٣.
[٣] . ينظر: شرح نهج البلاغة: المعتزلي: ١٢؟٤-٥.
[٤] . شرح نهج البلاغة: البحراني: ٢/٢٤٢.
[٥] . المصدر نفسه: ٢/٢٤٧.
[٦] . شرح نهج البلاغة: البحراني: ٣/٢٧٣.
[٧] . ينظر: المصدر نفسه: ٣/٢١٧.
[٨] . المصدر نفسه: ٥/١٢٧.
[٩] . المصدر نفسه: ٥/١٤٢.
[١٠] . المصدر نفسه: ٣/٤٣٨.
[١١] . المصدر نفسه.
[١٢] . المصدر نفسه: ٥/٤٤٩.
[١٣] . شرح نهج البلاغة: البحراني: ٥/٢٤٨.
[١٤] . المصدر نفسه: ٥/٢٤٩-٢٥٠.
[١٥] . المصدر نفسه: ٣/٣١٢.
[١٦] . المصدر نفسه: ٣/٣١٣.
[١٧] . شرح نهج البلاغة: البحراني: ٣/٢١٣.
[١٨] . المصدر نفسه: ٥/١٢٥.
[١٩] . المصدر نفسه: ٥/١٣٦.
[٢٠] . المصدر نفسه: ٥/٢٤٠.
[٢١] . المصدر نفسه: ٥/٢٤٠.
[٢٢] . منهاج البراعة: ٦/٢٠٢.
[٢٣] . منهاج البراعة: ٦/٢٠٣.
[٢٤] . المصدر نفسه: ٧/١٠٩.
[٢٥] . المصدر نفسه: ٧/١١٠.
[٢٦] . المصدر نفسه: ٢٠/٣٥٩.
[٢٧] . المصدر نفسه: ٢٠/٣٥٩.
[٢٨] . المصدر نفسه:٧/٩٨.
[٢٩] . منهاج البراعة: ٧/٩٨.
[٣٠] . المصدر نفسه: ٧/٧٣.
[٣١] . المصدر نفسه.
[٣٢] . المصدر نفسه: ٧/٢٠١.
[٣٣] . ينظر: المصدر نفسه: ٧/٢٠٣.
[٣٤] . المصدر نفسه: ٧/٢٢١.
[٣٥] . منهاج البراعة: ٧/٢٢٣.
[٣٦] . المصدر نفسه: ٥/٢١٦.
[٣٧] . المصدر نفسه: ٨/٣٠٨.
[٣٨] . المصدر نفسه: ٧/٧٨.
[٣٩] . المصدر نفسه٧/٨٧.
[٤٠] . المصدر نفسه: ٧/٨٨.
[٤١] . المصدر نفسه: ٧/١٢٧.
[٤٢] . منهاج البراعة: ٧/١٢٧.
[٤٣] . المصدر نفسه: ٧/١٣١.
[٤٤] . المصدر نفسه: ٧/١٣١.
[٤٥] . المصدر نفسه: ٧/١٨٠.
[٤٦] . المصدر نفسه: ٨/٢٢٩.
[٤٧] . المصدر نفسه: ٨/٢٢٩.
[٤٨] . المصدر نفسه: ٨/٣٠٨.
[٤٩] . منهاج البراعة:٨/٣٠١.
[٥٠] . المصدر نفسه: ٩/١١٠.
[٥١] . المصدر نفسه: ٩/١١٦.
قائمة المصادر والمراجع
١- بحار الانوار محمد باقر المجلسي، ط٢، مؤسسة الوفاء، بيروت، ١٩٨٣.
٢- التاريخ احمد بن ابي يعقوب اليعقوبي تقديم السيد محمد صادق بحرالعلوم، المكتبة الحيدرية، النجف الاشرف ١٩٦٤.
٣- تاريخ الرسل والملوك ابو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعارف، مصر، ١٩٦٨.
٤- شرح نهج البلاغة ابن ابي الحديد المدائني المعتزلي، تحقيق محمد ابي الفضل ابراهيم، ط١، دار الجيل، بيروت، ١٩٨٧.
٥- شرح نهج البلاغة كمال الدين هيثم بن علي بن ميثم البحراني، ط١، مطبعة انور الهدى، قم، ايران، ١٤٢٧.
٦- العلل احمد بن حنبل بن محمد الشيباني، تحقيق وصي الله محمود عاس، المكتب الاسلامي، بيروت، د. ت.
٧- الغارات ابراهيم بن محمد الثقفي، ط١، تحقيق عبدالزهراء الحسيني، دار الكتاب، قم، د. ت.
٨- الفائق في غريب الحديث، محمود بن عمر بن جار الله الزمخشري، ط١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤١٧هـ.
٩- كشف الغمة علي بن عيسى الاربلي، تعليق هاشم الرسولي، مكتبة بني هاشمي، تبريز، ١٣٨١هـ
١٠- المعيار والموازنة، ابو جعفر محمد بن عبدالله الاسكافي، تحقيق محمد باقر المحمودي، د. ت.
١١- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة العلامة المحقق حبيب الله الهاشمي الخوئي، صنفه المحقق حسن زاده الآملي، ط١، دار احياء التراث العربي، بيروت، ٢٠٠٣.
انتهى .