تسمى هذه الخطبة ب (الشّقشقية) أو (الشّقشقية العلوية) كما يأتي في كلام صاحب القاموس ، وربما تعرف ب (المقمّصة) أيضا من حيث اشتمالها على لفظ التقمص في أولها نظير التعبير عن السورة بأشهر ألفاظها كالبقرة ، وآل عمران والرحمن والواقعة وغير ذلك ، وهي من خطب أمير المؤمنين المشهورات حتى قال المفيد رحمه الله : هي أشهر من أن ندل عليها لشهرتها [١] وقد روتها العامة والخاصّة ، وشرحوها ، وضبطوا ألفاظها من دون غمز في متنها ولا طعن في أسانيدها .
وتكاد أن تكون هذه الخطبة هي الباعث الأول ، والسبب الأكبر لمحاولة تزييف ( نهج البلاغة ) باثارة الشبهات الواهية حوله ، وتوجيه الاتهامات الباطلة لجامعه حتى أدى ببعضهم الجهل أو التجاهل ، وإن شئت فقل العناد والمكابرة إلى اتهامه بوضعها وما علموا أن هذه الخطبة بالخصوص مثبتة في مصنفات العلماء المشهورة ، وخطوطهم المعروفة قبل أن تلد الرضي أمه ، وإليك طائفة منها :
١ - من المتقدمين على الرضي برواية الخطبة الشقشقية أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قبة الرّازي من متكلمي الشيعة وحذاقهم [٢] وكان قديما من المعتزلة [٣].
ومن تلامذة أبي القاسم البلخي شيخ المعتزلة المعروف ، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية وجرد قلمه في الرد على خصومهم ، فألف كتاب ( الرد على الزيدية ) و ( الرد على أبي علي الجبائي ) [٤] و ( المسألة المفردة في الإمامة ) و ( الانصاف في الإمامة ) وفي هذا الأخير روى الخطبة الشقشقية كما سيجيء .
ومن لطيف ما يروى ما نقله النجاشي قال : سمعت أبا الحسن بن المهلوس العلوي الموسوي رحمه الله يقول في مجلس الرضي أبو الحسن وهناك شيخنا أبو عبد الله محمد بن النعمان ( المفيد ) رحمهم الله أجمعين : سمعت أبا الحسن السوسنجردي [٥] رحمه الله وكان من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلمين ، وله كتاب في الإمامة معروف ، وكان قد حجّ على قدميه خمسين حجّة يقول : مضيت إلى أبي القاسم البلخي إلى بلخ - بعد زيارة الرضا عليه السلام بطوس - فسلمت عليه وكان عارفا بي ، ومعي كتاب جعفر بن قبّة في الإمامة المعروف ب ( الانصاف ) فوقف عليه ونقضه ب ( المسترشد في الإمامة ) فعدت إلى الري ، ودفعت الكتاب إلى ابن قبّة فنقضه بكتاب ( المستثبت في الامامة ) فحملته إلى أبي القاسم فنقضه ب ( نقض المستثبت ) فعدت إلى الري فوجدت أبا جعفر قد مات رحمه الله وبذلك تعرف تقدم كتاب ( الانصاف ) على ( نهج البلاغة ) وقد شهد لنا جماعة من العلماء على أنهم رأوا ( الأنصاف ) متضمنا للخطبة الشقشقية منهم شارحوا ( النهج ) الثلاثة قطب الدين الراوندي ، وابن ابي الحديد المعتزلي ، والشيخ ميثم البحراني . كما سترى .
٢ - وسبق الرضي برواية الشقشقية أبو القاسم عبد الله بن محمد بن محمود البلخي الكعبي المتوفى سنة ( ٣١٧ ) . ، رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم : الكعبيّة ، وكان من متكلمي المعتزلة وله تصانيف تضمن بعضها كثيرا من الخطبة الشقشقية كما شهد لنا بذلك ابن أبي الحديد المعتزلي [٦].
٣ - أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري ، نقل عنه الصّدوق شرح الخطبة في ( معاني الأخبار ) قال : سألت الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري عن تفسير هذا الخبر ففسره لي . . . إلخ [٧].
٤ - الصّدوق في كتابيه ( معاني الأخبار ) : ص ٣٤٣ و ( علل الشرائع ) في باب العلَّة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليه السلام مجاهدة أهل الخلاف ) . بطريقين ينتهيان إلى ابن عباس .
٥ - كانت هذه الخطبة مثبتة في ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه المالكي المتوفى سنة ( ٣٢٨ ) كما نقل ذلك المجلسي في المجلد الثامن من ( البحار ) ص ١٦٠ ط الكمباني ، فقد عدد رواة الخطبة من الإمامية ونقل سندها المتصل بعبد الله بن العباس عن ( شرح نهج البلاغة ) للقطب الراوندي ثم عدّد رواتها من غيرهم فقال : رواها ابن الجوزي في مناقبه وابن عبد ربه في الجزء الرابع من ( العقد الفريد ) وأبو علي الجبائي في كتابه ، وابن الخشاب في درسه - على ما حكاه بعض الأصحاب - ، والحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري - على ما حكاه صاحب الطرائف .
أنظر أولا إلى احتياطه حينما ينقل بالواسطة بقوله : « على ما حكاه بعض الأصحاب » و « على ما حكاه صاحب الطرائف » ثم أنظر كيف ينصّ على أنّها في ( العقد الفريد ) .
ويؤيد ما نقله المجلسي أن القطيفي في كتاب ( الفرقة الناجية ) نصّ على أنها في الجزء الرابع من العقد الفريد ) [٨].
ثم جاءت الأيدي الأمينة على ودائع العلم فحذفتها عند النسخ أو عند الطبع وكم لهم من أمثالها .
هؤلاء كلهم توفوا قبل صدور ( نهج البلاغة ) ، ثم جاء من بعدهم فنقلوا الخطبة عن غير ( النهج ) ومن غير طريق الرضي ، كما تدل عليه أسانيدهم المسلسلة ، وطرقهم المختلفة ، ورواياتهم المتفاوتة . واليك طائفة منهم :
٦ - أبو عبد الله المفيد المتوفى سنة ( ٤١٢ ) استاذ الشريف الرضي رواها في ( الارشاد ) ص ١٣٥ ، قال : روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال : كنت عند امير المؤمنين عليه السلام بالرحبة فذكرت الخلافة وتقديم من تقدم عليه فتنفس الصعداء ثم قال : أم والله لقد تقمصها . . إلخ ، ولا يجوز اقتباس الشيخ المفيد هذه الخطبة من ( نهج البلاغة ) ونقلها إلى كتابه ، لأن الرضي لا يمهد للخطبة إسنادا بل يقول : ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية : ( ام والله لقد تقمصها . . . ) إلى آخر الخطبة في حين أن شيخه المفيد يمهد لها قصة واستادا ، زد على ذلك أن العادة تقتضي بنقل التلاميذ عن شيوخهم لا الشيوخ عن تلاميذهم ، ويدلك على أن الشقشقية عند المفيد غير منقولة عن ( نهج البلاغة ) الاختلاف بينهما في الجمل والألفاظ . والنتيجة : انفرد الشريف الرضي في نقله عن مصدر له ، وانفرد شيخه المفيد في نقله عن مصدر آخر.
٧ - القاضي عبد الجبار المعتزلي [٩] المتوفى سنة ( ٤١٥ ) ذكر في كتابه ( المغني ) تأويل بعض جمل الخطبة ، ومنع دلالتها على الطَّعن في خلافة من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام [١٠] بقوله : المراد بذلك أنه - أي الامام - أهل لها ، وأصلح منه للقيام بها يبيّن ذلك القطب من الرحى لا يستقل بنفسه ، ولا بد في تمامه من الرحى فنبه بذلك أنه أحق ، وإن كان قد تقمصها .
وقال في تأويل قول أمير المؤمنين عليه السلام : « ابن ابي قحافة » وقد كانت العادة أن يسمى صاحبه أو يكنيه ، أو يضيفه إلى أبيه حتى كانوا ربما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد فليس بذلك استخفاف[١١] .
٨ - الوزير أبو سعيد الآبي المتوفى عام ( ٤٢٢ ) في كتابيه ( نثر الدرر ) و ( نزهة الأديب ) [١٢] .
٩ - الشريف المرتضى ذكر شيئا منها في ( الشافي ) : ص ٢٠٣ و ٢٠٤ وله كتاب مستقل في شرحها سيأتي ذكره .
١٠ - الشيخ أبو علي محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة ( ٤٦٠ ) رواها في ( الأمالي ) ١ - ٣٩٢ قال : أخبرنا الحفار [١٣] قال : حدثنا أبو القاسم الدعبلي . قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أخي دعبل ( الخزاعي ) قال : حدثنا محمد بن سلامة الشامي ، عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن ابن عباس ، وعن محمد ( يعني الباقر عليه السلام ) عن أبيه عن جده قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين على ابن ابي طالب عليه السلام فقال : والله لقد تقمصها . . إلى آخر الخطبة مع تفاوت قليل .
١١ - قطب الدين الراوندي المتوفى ( ٥٧٣ ) رواها في « شرح نهج البلاغة » من طريق الحافظين ابن مردويه والطبراني وقال : أقول : وجدتها في موضعين تاريخهما قبل مولد الرضي بمدة ، ( أحدهما ) أنها مضمنة كتاب « الانصاف » لأبي جعفر بن قبة تلميذ أبي القاسم الكعبي ، أحد شيوخ المعتزلة ، وكانت وفاته قبل مولد الرضي . ( الثاني ) وجدتها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات وكان وزير المقتدر با لله ، وذلك قبل مولد الرضى بنيف وستين سنة ، والذي يغلب على ظني أن تلك النسخة كانت قد كتبت قبل وجود ابن الفرات بمدة [١٤].
١٢ - ورواها أبو منصور الطبرسي في ( الاحتجاج ) ج ١ ص ٩٥ ، قال روى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس . . إلخ .
١٣ - قال ابن ابي الحديد : حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة ، قال : قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله ابن احمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع ( يعني قول ابن عباس : ما اسفت . . إلخ ) قال لي : لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له : وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين ، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلَّا رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال مصدق : وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل ، قال : فقلت أتقول إنها منحولة فقال : لا والله وإني لأعلم انها كلامه كما أعلم انك مصدق ، فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرّضي رحمه الله تعالى فقال : أنّ للرضي ولغير الرضي هذا النفس ، وهذا الاسلوب ، فقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور ، وما يقع في هذا الكلام في خلّ ولا خمر ، ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي [١٥].
١٤ - قال ابن ابي الحديد : معقبا على كلام ابن الخشاب المذكور قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر ، قبل أن يخلق
الرّضي بمدة طويلة [١٦].
١٥ - وقال أيضا : ووجدت كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة أحد متكلمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب ( الأنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرّضي رحمه الله موجودا [١٧].
١٦ - قال الشيخ كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني بعد أن نقل كلام ابن الخشاب المتقدم بتفاوت بسيط جدا : أقول : وقد وجدتها في موضعين تاريخهما قبل مولد الرّضي بمدة وذكر نحوا مما ذكر القطب الراوندي ، بأنه رآها في ( الانصاف ) كما رآها بنسخة عليها خط المقتدر العباسي [١٨] .
١٧ - أبو المظفر يوسف بن قزغلي الحنفي الشهير بسبط ابن الجوزي المتوفى سنة ( ٦٥٤ ) في ( تذكرة الخواص ) : ص ١٣٣ قال ما هذا نصّه بالحرف : « خطبة أخرى ، وتعرف بالشقشقية ذكر صاحب ( نهج البلاغة ) بعضها وأخل بالبعض وقد أتيت بها مستوفاة ، أخبرنا بها شيخنا أبو القاسم النفيس الأنباري باسناده عن ابن عباس » ثم ذكر الخطبة .
ولا تخلو كتب الأدب ومعاجم اللغة من ذكر الخطبة الشقشقية :
أ - في ( مجمع الأمثال ) للميداني : ج ١ ص ٣٦٩ « شقشقة هدرت ثم قرّت » قال : الشقشقة شيء كالرئة يخرجها البعير من فيه وإذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فانما يشبه بالفحل ، ولأمير المؤمنين علي رضي الله عنه خطبة تعرف بالشقشقية ، لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال له حين قطع كلامه : لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت ، فقال : « هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت » .
ب - وفسر ابن الأثير في ( النهاية ) غريب هذه الخطبة في مواضع عديدة ، في مادة « جذذ » قال : ومنه حديث علي رضي الله عنه : « أصول بيد جذّاء » أي مقطوعة كنى عن قصور أصحابه ، وتقاعدهم عن الغزو فانّ الجند للأمير كاليد وتروى بالحاء المهملة أه فانظر كيف حرّف الكلم عن مواضعه ، وفسّر في مادة « حلا » « حليت الدّنيا في أعينهم » وفي مادة « خضم » « وقام بنو أميّة إليه يخضمون مال الله . . . » إلخ لاحظ التفاوت بين روايته ورواية الرضي فانه روى « إليه » مكان « معه » و « بنو أمية » مكان « بنو أبيه » لتعلم أن له مصدرا غير ( نهج البلاغة ) ، وفسّر غريبها في المواد التالية : « ربض » و « زبرج » و « شنق » و « عفط » .
وقال في مادة « شقشق » : ج ٢ - ٢٩٤ قال : ومنه حديث عليّ في خطبة له : « تلك شقشقة هدرت ثم قرّت » .
ج - وقال ابن منظور في ( لسان العرب ) في مادة « شقشق » وفي حديث علي رضوان الله عليه في خطبة له « تلك شقشقة هدرت ثم قرّت » .
د - وفي « القاموس » للفيروز آبادي ج ٣ - ٢٥١ قال : والخطبة الشقشقية العلوية لقوله لابن عباس لما قال له : لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت « يابن عباس هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرّت » . والرجل السوادي الذي ناول أمير المؤمنين الكتاب هو أحد رجلين إما أن يكون منافقا ماكرا أراد أن يقطع عليه كلامه في حيلة لم يستطع أن يدبر غيرها ، وأمّا أن يكون ، بليدا مغفلا ، قليل المعرفة ، سيء الأدب حداه جهله على التّسرع في مناولة الكتاب ولم يمهل حتى يبلغ الامام قصده .
أما الكتاب فيحتوي على مسائل غير مهمة بالنسبة للغرض الذي فوّته على أمير المؤمنين عليه السلام مما دعا ابن عباس أن يأسف لذلك أشدّ الأسف .
وعسيت بحاجة إلى الاطلاع على تلك المسائل فانك تجدها في ( شرح نهج البلاغة ) للشيخ ميثم البحراني رحمه الله ، ج ١ ص ٢٦٩ ، عند كلامه في شرح الخطبة الشقشقية .
وفي نهاية البحث عن مصادر الشقشقية ، وتحقيق نسبتها لأمير المؤمنين عليه السلام أرى من الجدير بالذكر أن أقول : إن المعركة حول « نهج البلاغة » منذ أن نشبت إلى يوم الناس هذا وإن اصطبغت بصبغة أدبية في ظاهرها ولكنها مذهبية في باطنها ، ونستطيع أن نقطع ان هذه الخطبة هي من أعظم الأسباب التي دعت لاثارة تلك الشكوك في ( نهج البلاغة ) - كما ذكرنا آنفا - وبسبب اشتماله عليها وعلى مثيلاتها حمي وطيس تلك المعركة ، واستعر أوارها ، وعلالهيبها ، فهل بالامكان أن نثبت ورود شيء عن الامام عليه السلام في معنى ما تضمنته هذه الخطبة بشرط أن يكون ذلك منقولا عن مصادر معتبرة عند أهل البحث وأرباب النظر فالامام في هذه الخطبة يرى نفسه أنه أحق بمقام رسول الله من منافسيه وأنهم يعلمون ذلك ، وأنه حين لم يجد من يناصره على المطالبة بحقه صبر على مضض ، واعرض عن غير رضى ، وان عمر ( رض ) إنما ساند صاحبه ليكون له نصيب في الأمر ، إلى آخر ما جاء في الخطبة .
فنقول : أما أنه يرى أنه أحق بالأمر من غيره فهذا شيء مستفيض عنه فمن ذلك قوله لأبي بكر لما أرادوه على البيعة : ( أنا أحق بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ) [١٩] .
وقوله لأبي عبيدة لما طلب إليه أن يبايع لأبي بكر :
( الله ألله يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عند داره وعقر بيته - إلى أن يقول - ولا تدفعوا أهله عن مقامه فو الله لنحن أحق الناس به ) [٢٠] وقوله عليه السلام : ( اللهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن امي ، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول ،وسابقتي في الاسلام إلَّا أن يدعي مدع مالا أعرفه ) [٢١] وقوله عليه السلام في جواب كتاب كتبه إلى معاوية : ( وذكرت حسدي للخلفاء ، وإبطائي عنهم ، والكراهية لأمرهم فلست اعتذر إلى الناس من ذلك - إلى أن يقول -بل عرفت أن حقّي هو المأخوذ وقد تركته لهم) [٢٢].
إلى كثير من أمثال ذلك مما يطول المقام باستيعابه .
وهناك شق الأمة من أنصاره وشيعته بما فيهم اعدال القرآن من أهل بيته ، متفقون على ذلك ، مجمعون على صحته ، ويوافقهم عليه من الشق الثاني من لا يحصيهم عدد وفيهم من منافسيه . فعن ابن عباس قال : كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل ، وأنا على فرس فقال : أم والله يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر ، فقلت في نفسي لا أقالني الله إن أقلته فقلت : انت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وانت وصاحبتك وثبتما عليه ، وافترعتما الأمر منه دون الناس فقال : إليكم يا بني عبد المطلب أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب فتأخرت عنه وتقدم هنيهة فقال : سر لا سرت وقال : أعد علي كلامك فقلت : إنما ذكرت شيئا فرددت عليك جوابه ، ولو سكت سكتنا ، فقال : إنا والله ما فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها ، قال : فأردت أن أقول كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه فينطح كبشها أفتستصغره أنت وصاحبك فقال : لا جرم فكيف ترى والله لا نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه [٢٣].
وقال عمر لابن عباس أيضا : يا بن عباس ام والله إن كان صاحبك - يعني عليا عليه السلام - أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنا خفناه على اثنتين قال ابن عباس : فجاء بمنطق لم أجد بدا من مسألته عنه فقلت يا أمير المؤمنين ما هما قال : حداثة سنه ، وحبه بني عبد المطلب [٢٤]. وفي بعض ما نقلناه كفاية .
أما ما ذكره في الشقشقية من كونه إنما سانده ليكون له من الأمر نصيب ، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المعنى شيء كثير نكتفي بذكر واحد منه . فقد روى البلاذري قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي رضي الله عنهم حين قعد عن بيعته وقال له : إئتني به بأعنف العنف فلما أتاه جرى بينهما كلام ، فقال :(احلب حلبا لك شطره والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غدا ) [٢٥] .
والواقع يؤيد هذا ويصدقه ، وكيفية ادلائه بالأمر إليه معلومة لدى الخاص والعام ، وفي أيامه كان هو المتنفذ فعلا فلا يقطع أمرا دونه ، ولا يعمل عملا إلا باذنه .
روى ابن حجر العسقلاني في « الاصابة » ج ٣ ص ٥٦ في ترجمة عيينة بن حصن عن « التاريخ الصغير » للبخاري باسناده عن عبيدة بن عمرو قال : جاء الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقالا : يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فان رأيت أن تقطعناها فأجابهما وكتب لهما وأشهد القوم وعمر ليس فيهم ، فانطلقا إلى عمر ليشهداه ، فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه ، فتذمرا له ، وقالا له مقالة سيئة ، فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل ، وإنّ الله قد أعز الإسلام اذهبا فاجهدا على جهد كما ، لا رعى الله عليكما إن رعيتما ، فاقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران ، فقالا : ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر فقال لا بل هو لو شاء ، فجاء عمر وهو مغضب حتى وقف على أبي بكر ، فقال : أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما ، الأرض هي لك خاصة أو للمسلمين عامة قال : بل للمسلمين عامة ، قال : فما حملك على أن تخص بها هذين قال : استشرت الذين حولي ، فأشاروا عليّ بذلك ، وقد قلت لك : إنك أقوى على هذا مني فغلبتني [٢٦].
أما بقية ما جاء في الخطبة من وصف الحوزة الخشناء والعثار والاعتذار ، وقضة الشورى ، وقيام ثالث القوم وما فعله بنو أبيه في أيامه ونهاية أمره ، وانثيال الناس على الامام ثم نكث بعضهم لبيعته ، ومروق الخوارج ، وخروج القاسطين فامور ثابتة لا محل للريب فيها .
أما بقية ما جاء في الخطبة من وصف الحوزة الخشناء والعثار والاعتذار ، وقضة الشورى ، وقيام ثالث القوم وما فعله بنو أبيه في أيامه ونهاية أمره ، وانثيال الناس على الامام ثم نكث بعضهم لبيعته ، ومروق الخوارج ، وخروج القاسطين فامور ثابتة لا محل للريب فيها .
وبعد هذا فالخطبة عربية صرفة ، فالقطب والرحى ، والكور والضرع ، والإبل والربيع ، والنثيل والمعتلف ، والحبل والغارب ، وعرف الضبع وعفطة العنز كلمات لا أثر للدخيل فيها ، ولا يمكن أن تقال إلا في ذلك الزمن .
وقد أخذ كل من ابن المعتز [٢٧] وصفي الدين الحلي [٢٨] بعض معاني هذه الخطبة فنظمها الأول في قصيدته البائية التي افتخر بها على العلويين ، فقال :
كقطب الرحى وافقت أختها ***** دعونا لها فعملنا بها
وأقسم أنكم تعلمون ***** أنا لها خير أربابها
وقال الثاني رادا عليه :
فهلا تقمصها جدكم ***** إذا كان إذا ذاك أحرى بها
وما أنت والفحص عن شأنها ***** وما قمصوك بأثوابها
فدع ذكر قوم رضوا بالكفاف ***** وجاؤها الخلافة من بابها
هم قطب ملة دين الاله ***** ودور الرحاء بأقطابها