- مفهوم التربية عند الإمام علي (عليه السلام):
لعل من المفيد أن نستهل هذا الموضوع بتبيان المدلول اللغوي لمفهوم التربية. فالتربية في اللغة مأخوذة من ربى ولده، والصبي يربه، رباه أي أحسن القيام عليه حتى أدرك[١].
فالتربية بمدلولها اللغوي، تعني تعهد الطفل بالرعاية والتغذية المادية والمعنوية حتى يشب. ولقد اهتم الفلاسفة والعلماء بهذا المفهوم، وجهدوا في الكشف عن مضامينه العلمية وأوجدوا له عدداً من التفسيرات التي إن اختلفت في شكلها، فهي متفقة في جوهرها، وسنعرض فيما يلي أقوال بعض المفكرين القدامى والمحدثين، لنرى موقع (النهج) منها.
يقول أفلاطون (٤٢٧-٣٤٧ق.م):
(التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال)[٢]. وهذا يعتمد على الناحية الكمية من التربية، وذلك بمزاولة جميع الأنشطة العقلية والبدنية المؤدية لكمال الفرد.
ويقول أرسطو (٣٨٤-٣٢٢ق.م):
(الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وإن يقوم بما هو نبيل وخير من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة)[٣]. وهذا يهتم بالناحية المهنية من التربية لما فيه منفعة الفرد وسعادته في دنياه.
ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي (١٨١٤-١٨٩٦م):
(التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حراً، ويكون القلب قلباً حراً)[٤]. وهذا يتم بالنواحي الروحية من التربية. ولعل أوثق تعريفين للتربية هما: ما قاله الغزالي (٤٥٠-٥٠٥):
(ومعنى التربية، يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه)[٥].
وما قاله جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة ـ أي تحويلها إلى عمل اجتماعي مقبول لدى الجماعة)[٦].
وهناك تعريفات كثيرة لا مجال لذكرها لعدم الحاجة إليها ـ وهي في أكثرها مشابهة لما سبق ـ وما يهمنا هو استعراض ما مر منها ومقابلتها بما صدر عن الإمام (عليه السلام)، من أفكار تربوية تفسر حقيقة مفهوم التربية.
يرى (عليه السلام) أن الإنسان هو غاية الوجود، ومن أجله خلق الله ما خلق إذ بعد أن خلق تعالى الكون ورتبه أحسن ترتيب، ونظمه أجمل تنظيم، وأتم مرافقه، على أكمل وجه، وجمع فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، أخرج إليه الإنسان، وأسكنه فيه على أن يكون خليفته في أرضه، يحيا في كنفها ويعيش من خيراتها، ويمضي في أقواله وأفعاله ونواياه، ومقاصده، وفق أحكام الله وإرادته مطيعاً، مذعناً، شاكراً، إلا أنه خالف أمر الله، وسلك بوحي من نفسه الأمارة بالسوء، فجذبته الدنيا إليها وحجبت عنه الرؤية السليمة فبات أسير أوهامه وشهواته.
إن ضعف الإنسان أمام إغراء المادة والإيمان بأن الشيطان الذي أغواه في الجنة لن يتوانى عن إغوائه مرة أخرى وهو على الأرض، وبالتالي سوف لن يتمكن من ممارسة الخلافة كما أوجبها الله ما دام ضعيف الحجة، مسلوب الإرادة، قليل الإيمان. هذه الأمور أوجبت أخذه بالتربية والتعليم حتى تستقيم نفسه ويقوى على مقاومة الضلالة والفساد. إلا أن هذه التربية، لا تستند فقط إلى مبادئ نظرية لا صلة بها بالواقع، بل تتخذ منها طريقاً ومنهجاً يعضده العلم والعمل والإيمان بهدف منفعة العباد وخيرهم.
وكثيرة هي الخطب والكلمات التي تضمنها (النهج) وهي تدعو إلى طلب العلم وأخذه من أي مصدر كان، كما وتحث على العمل حتى لا تبقى التربية مجرد نظريات لا فائدة منها في عالم الواقع. لذلك فإن الإمام (عليه السلام) يدعم القول بالعمل وهذا هو الحق الذي يشهد به العمران والتقدم والتطور الحاصل في المجتمعات من ذلك (العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل)[٧].. إذ لا خير في علم بلا عمل. ولابد للعارف من أن يكون عاملاً حتى لا يكون علمه حجة عليه.
ولقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) هذا الأمر وطبقه على سائر مجريات حياته، يبدو ذلك في حديثه عن العلماء الذين يتعلمون، برأيه ـ لغايات ثلاث[٨]:
ـ للمراء والجدل.
ـ للاستطاعة والحيل.
ـ للفقه والعمل.
- أما الأول (فإنك تراه ممارياً للرجال في أندية المقال، قد تسربل بالتخشع وتخلى من الورع. فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه).
- وأما الثاني (فإنه يستطيل على أشباهه من أشكاله، ويتواضع للأغنياء، من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، ومحى من العلماء أثره).
- وأما الثالث (فتراه ذا كآبة وحزن، قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، ويعمل ويخشى، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).
فليس المهم بنظر الإمام (عليه السلام) كثرة العلوم النظرية، لأنها لا تغني عن السلوك الحسن والسيرة الخيرة، ولا كثرة العلماء، ما دام البعض منهم قد اتخذ العلم وسيلة للهدم، أو أداة للرياء والنفاق، في حين أن البقية الباقية منهم، ممن آمنوا بربهم وخشعوا له، قد اتخذوه للعمل الحر الشريف. فالتربية التي تعتمد الكمية في أساليبها ليست مقبولة ما دامت لا تستند إلى الكيفية والنوعية. إلا أن هذه النوعية لا فائدة منها إذا لم تقترن بالفاعلية فالعلم لا يراد لذاته، بل لأجل التغيير والنمو في شخصية الفرد والمجتمع كما يقول (عليه السلام): (لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا وإذا تيقنتم فأقدموا)[٩].
إلا أن العمل قد يجر الويل على المجتمع، إذا لم يستند إلى أساس روحي خلقي وما نراه اليوم دليلاً على ذلك، فالذرة قد تستعمل للبناء وقد تستعمل للفناء والدمار والذي ينحى بها هذا المنحى أو ذاك، هو الإنسان ذاته الذي اكتشفها، لذلك كانت التربية الروحية الخلقية لابدّ منها في صياغة كيان الفرد وتفكيره وخلقه. ولقد جمع الإسلام بين التربية الدينية والدنيوية بقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[١٠].
هذه النظرية للتربية التي انفرد بها الإمام علي (عليه السلام) هي أكثر شمولاً وعمقاً من تلك التي أوحت بها التعريفات السالفة الذكر، فبينما نرى أن فلاسفة التربية قد قصروا نشاطها على جانب معين من حياة الفرد (أفلاطون ـ ارسطو ـ جولز سيمون) يتوسع الإمام (عليه السلام) في هذا النشاط ليشمل جميع نواحيه الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والدنيوية كما سنرى فيما بعد وذلك من أجل إيجاد الإنسان الفاضل القريب من الكمال. هذا المضمون نفسه هو الذي أكده كل من (الغزالي) و(جون ديون) ممّا يثبت بأن هذا الكتاب، كان وما يزال في صميم المعرفة التي تحدث عنها الفلاسفة والعلماء في كل عصر وجيل.
- سمات المنهج التربوي العلوي:
ينطلق الإمام (عليه السلام) من مسلمات بديهية على أساسها يضع المنهج في تربية الإنسان وإعداده منها:
١ـ حقيقة الإنسان وطبيعته
سبق في علمنا أن حقيقة الإنسان هي الروح والجسد معاً. ولقد اختلف المتكلمون في هذا الأمر، فقال (العلاف): (إن الإنسان هو الشخص الظاهر المرئي الذي له يدان ورجلان)[١١] ، أي هو الجسد فقط دون الروح واحتج على ذلك بقوله تعالى: (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)[١٢]. وقال النظام: (الإنسان هو الروح ولكنها مداخلة للبدن.. وإن البدن آفة عليه وحبس وضاغط له)[١٣] أما (بشر بن المعتمر) فقد وافق الإمام (عليه السلام) على أن (الإنسان جسد وروح وأنهما جميعاً إنسان، وأن الفعال هو الإنسان الذي هو جسد وروح)[١٤] وقد دمج (النظام) بين الروح والنفس والجسم فقال: (الروح هي جسم وهي النفس)[١٥] في حين ميز بينهما (العلاف) وقال، (النفس معنى غير الروح)[١٦] أما (الأصم) فقد اعتبر أن (النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنى غير البدن)[١٧].
وحقيقة القول، أن كلا منهما مختلف عن الآخر، فالروح أمر إلهي لا علم لنا به وهو بمثابة القوة التي تبعث الحياة في الجماد. أما النفس، فهي كناية عن طبيعة الإنسان المختلفة باختلاف قواها النفسية. ولقد قسم الإمام علي (عليه السلام) هذه الطبائع النفسية إلى أربعة، لكل منها خمس قوى وخاصيتان، وما أثر عنه في هذا المجال ما نحن بصدد الحديث عنه:
قال كميل: سألت أمير المؤمنين فقلت له: أريد أن تعرفني نفسي.
فقال (عليه السلام): يا كميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك.
قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟
قال (عليه السلام): يا كميل إنما هي أربع: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان.
فالنامية النباتية لها خمس قوى: جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصيتان، الزيادة والنقصان وانبعاثهما من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان.
والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان، الشهوة والغضب، وانبعاثهما من القلب، وهي أشبه الأشياء بنفس السباع.
والناطقة القدسية: ولها خمس قوى، فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، ولها خاصيتان، النزاهة والحكمة.
والكلية الإلهية ولها خمس قوى: بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان، الرضا والتسليم، وهذه هي التي مبدؤها من الله، واليه تعود.
قال الله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)[١٨] وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[١٩] ، والعقل وسط الكل، لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا بقياس معقول)[٢٠].
وهكذا يقسم (عليه السلام) النفس إلى أربعة أنواع: النباتية، والحيوانية، والناطقة، والإلهية ويرى أن هذه الأخيرة مبدؤها من الله وإليه تعود، بينما تتمحور جميعها حول العقل الذي يسيطر عليها ويشردها إلى طريق الاعتدال، ولولا ذلك لبلغت حد الإفراط والتفريط وكلاهما رذيلة كما قال الإمام علي (عليه السلام): (العقل ملك والخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها)[٢١]
لهذا جاء التأكيد على ضرورة معرفة النفس لأنها تؤدي إلى معرفة الله، لأن (من عرف نفسه فقد عرف ربه)[٢٢]. و(من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز)[٢٣].
كما أنه يؤكد على أهمية شأن العقل ويعتبره من المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما يتنافى معه فهو باطل. أما الحواس فهي كاذبة ولا تصلح للرؤية، وإنما الرؤية الحقيقية للعقل: (ليست الرؤية مع الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه)[٢٤]. ويكفي العقل فضلاً وشرفاً أنه يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الغي والرشاد، لذا كان من أبلج المناهج وأقوم المسالك وأكثر مصادر المعرفة رشداً، وأقله ضلالاً، ومن استرشد بغيره، فقد أخطأ سواء السبيل. يقول (عليه السلام): (من استرشد غير العقل أخطأ منهاج الرأي)[٢٥].
وتنمية القوى العقلية للإنسان لا تكون إلا في طلب العلم، لأن العلم غذاء العقل، به ينشط وقوى على ممارسة الوظائف العقلية لأنه (ليس شيء أحسن من عقل زانه علم)[٢٦] كما يقول الإمام (عليه السلام).
إلا أن الإنسان يجمع إلى حد القوة حد الضعف، فهو القوي بعقله وفعاليته وهو الضعيف الذي (تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة)[٢٧] والإنسان مجمع الأضداد، في داخله تتصارع العواطف والأهواء والغرائز وحياته تعتورها حالات متضادة نتيجة للصراع بين قواه العقلية والعاطفية، فيرتفع إلى المستوى اللائق به بعقله، وينحدر إلى مستوى البهيمية بغرائزه، والتوازن بينهما هو ما يحفظ كيانه ويصون كرامته وإنسانيته كما عبر الإمام (عليه السلام) بقوله: (لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه، وهو القلب، وذلك أن له مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمر استلبته الغرّة، وإن أصابته مصيبة فضحة الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعدت به الضعة، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد)[٢٨].
أما غرائزه فهي متعددة، ومتلونة تختلف من شخص لآخر بحسب الفطرة التي أرادها الله سبحانه، كما يذكر (عليه السلام) بقوله: (فأقام من الأشياء أودها ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها، وفرقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها)[٢٩].
هذه الغرائز تتغير بتغير بيئة الإنسان وثقافته، ولا يخفى أثر البيئة القوي في التنشئة والإعداد. فالإنسان يتأثر بالأحوال والظروف المحيطة به فهو ابن بيئته وعوائده كما يقول ابن خلدون، فيكون لذلك شأنه في صياغة أفكاره وأخلاقه وعاداته سلباً أو إيجاباً بحسب ما يكتنفه من أمور تؤثر في مجرى حياته، ونظراً لتعدد البيئات واختلاف مقوماتها وعناصرها الثقافية والاجتماعية والطبيعية فإن لذلك أثره القوي في اختلاف أفراد النوع الإنساني وتباين سماتهم العقلية والبدنية. يقول الإمام (عليه السلام): (إنما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فلقة من سبخ الأرض وعذبها وحزن تربتها وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون)[٣٠].
إن الإمام علي (عليه السلام) يقطع من خلال عرضه للمبادئ التي تحكم طبيعة الإنسان وتبيانه للميول والأهواء والغرائز المتناقضة والمتصارعة، تلك التي تتحكم في نفسه، وتوجه سلوكه وتحدد سماته الخلقية والفكرية، بضرورة أن نأخذ جميع هذه الأمور بعين الاعتبار ونراعي ما يظهر من الفروق الفردية، فيما لو حاولنا حل مشكلات المتعلم النفسية والاجتماعية والتربوية وإعداده للحياة الحرة الفاعلة الفاضلة. ذلك لأن مراعاة هذه الأسباب في العملية التربوية تضفي عليها شيئاً من الرغبة، وتساهم في صلاح المتعلم وحل عقده. في حين إن إكراهه على ما يناقض مزاياه الخلقية والنفسية، إنما هو قتل لشخصيته وهدر لطاقاته ودفعه إلى المشاغبة والنفور، ذلك أن (للقب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي)[٣١] ولا يعني هذا مسايرة رذائل الإنسان وشهواته، وإنما مقاومتها بأسلوب يخلو من العنف والقهر والسمو بها إلى مصاف الخلق النبيل. وسوف نرى أن الإمام علي (عليه السلام) كان يؤكد على التسامي بشهوات الإنسان ورغباته الشريرة واستبدالها بما ترضى عنها الذات والمجتمع.
نستنتج ممّا تقدم، أن هذا الكائن البشري يجمع إلى جانب قوى الخير قوى أخرى تجنح به نحو الشر. وهذا يوصلنا إلى فكرة الخطيئة التي شغلت بها أذهان المفكرين عبر العصور. فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل في فيه (وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة)[٣٢].
في الجانب المقابل، مال البعض إلى القول بخيرية هذا الكائن وميله الأصيل إلى الفضيلة والخير. أما الشر الصادر عنه فهو من الوسط الذي يعيش فيه. ومن أبرز القائلين بذلك جان جاك روسو الذي اعتبر أن الطفل يولد خيراً بطبعه، ولكن المجتمع هو الذي يفسده.
وما أثر عن الإمام علي (عليه السلام) كان موقفاً وسطاً بين هؤلاء وأولئك، فالإنسان لا يميل بطبعه إلى الخير أو إلى الشر، لأنه قادر على فعل الخير كقدرته على فعل الشر، ذلك: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وكذباً وصدقاً)[٣٣].
ونوع التربية التي تتعهده بها البيئة التي يعيش فيها، هو الذي يجنح به نحو الخير أو الشر. كذلك فإنه مزود بالغرائز والأعضاء والحواس والجوارح التي تأتمر بأمره وتتأثر بالجو المحيط به، وبقدر تهذيبها وإرشادها يسهل توجيهها الوجهة الصالحة. أما إذا أهملت وتركت وشأنها، فإنها تنحا به نحو الرذيلة والفساد.
ولقد أكد الغزالي قابلية الإنسان للخير والشر بقوله: (... فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً، وإنما أبواه يميلان به إلى حد الجانبين) واستشهد بقول الرسول الكريم: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)[٣٤].
ولن يؤتي الفكر ثماره إلا إذا استند إلى الخبرة والعمل. فالخبرة هي التي تصقله وتهذبه والعمل هو الذي يخرجه إلى حيز الواقع. ولقد أقام (عليه السلام) نظامه الفكري على هذا الأساس. فربط بين العلم والعمل ودعى إلى استفادة الخبرة من رسالة الإسلام، ومن تدبر أحوال الماضين، واتباع آثارهم واختيار الصالح منها وترك ما لا فائدة منه. وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الحسين (عليه السلام): (أي بني! إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله)[٣٥].
وهكذا فالتفكير الذي يتحدث عنه الإمام (عليه السلام) يرفض التقليد إلا في أضيق نطاق وعن الذين يمكن الوثوق بكلامهم وأفكارهم والركون إلى أخلاقهم وسجاياهم. وحتى هؤلاء لم يخرجهم (عليه السلام) من دائرة الاجتهاد، حتى لا يشكلوا ضغطاً فكرياً على الآخرين فهو يؤثر الاجتهاد في كل شيء حتى في الدين. والغاية من ذلك الإقناع لا الإكراه بهدف إيجاد المفكر الذي يحاول أن يتفهم دينه ودنياه بوحي من بصيرته.
لذا فهو يدعو إلى إعمال الفكر في كل خطوة نخطوها وفي كل رأي نبديه ونعلنه، بل وفي كل خبر نسمعه حتى نتجنب الخطأ والعذر في كل ما يصدر عنا من آراء فالتفكير المستند إلى التركيز والانتباه هو ما يعبر عنه الإمام (عليه السلام) فيقول: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل)[٣٦].
تلك هي أبرز سمات المنهج التربوي في (نهج البلاغة) فهي تنطلق من مفهوم شامل للتربية تتناول الإنسان بمختلف أبعاده وتنظر إليه كوحدة متكاملة تبرز حقيقته وطبيعته التي فطره الله عليها وتظهر ما فيه من غرائز وقوى تتراوح بين القوة والضعف وما للبيئة من أثر في تحديدها وتنوعها.
٢ـ المعرفة: طبيعتها، مصدرها
المقصود بالمعرفة هو بعمومها وأنواعها المتعددة، العلمية والبديهية والميتافيزيقية، وهي تتضمن دائماً الإشارة إلى عنصرين متكاملين: الذات والموضوع، أي الذات العارفة والشيء المعروف.
لقد اختلفت الآراء حول طبيعة المعرفة وسببها. فقال العقليون الذين يؤمنون بقوة غير حسية، قادرة على إدراك ماهيات الأشياء أو المعقولات وهي العقل (إن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا، ليست إلا نماذج مماثلة تماماً لما في خارج الذهن من أشياء، أو صورة مطابقة لها، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بقولهم إن الحقيقة هنا هي نسخة لما في خارج الذهن)[٣٧]. هذا يعني أن المعرفة ليست سوى مجرد تصورات ذهنية مطابقة لما في خارج الذهن ولا علاقة لها بالحياة. لقد ظهر هذا المذهب عند كل السقراطيين واستمر حتى بداية الفلسفة الحديثة وهو متعدد من حيث تفاصيله ولكنه واحد من حيث المبدأ. وقد قام محل الحواس التي اعتبرها أداة وهم تقف في طريق المعرفة الحقيقية. يقول (مالبرنش): (إن نماذجكم الحسية ليست إلا ظلاماً فاذكروا هذا وارقوا إلى أعلى حيث العقل وسترون النور. ألزموا حواسكم وخيالكم وانفعالاتكم بالصمت، وستسمعون حينئذ صوت الحقيقة الباطنية النقي، وإجابات عقلنا المشترك الجلية الواضحة، إياكم أن تخلطوا هذه البينة التي تنجم عن المقارنة بين الأفكار، بحيوية المشاعر التي تتحرك وتمسكم. يجب علينا أن نتبع العقل رغم تلطفات البدن الذي نلتصق به، ورغم تهديداته وإهاناته، ورغم تأثير الموضوعات التي تحيط بنا.. إنني لأهيب بكما أن تقروا بأن ثمة فارقاً بين أن نعرف وأن نحس بين أفكارنا الواضحة وإحساساتنا الغامضة المختلطة على الدوام[٣٨].
وقال العمليون ـ المعبر عنهم في العصر الحديث (بالبرجماتيين) Pragmatism في مذهبهم الذي يمزج الفكر بالحياة، إن غاية المعرفة هي الحياة وإن قيمة كل فكرة أو نظرية تقاس بمدى ما تحققه من نفع، حين نطبقها في حل المشكلات التي تواجهنا (ولذلك فلكي نستوثق من قدر نظرية من النظريات نحاول أن نتخيل أنها مطبقة فعلاً في العمل حتى يتسنى لنا رؤية ما عسى أن يكون هنالك من نتائج لتطبيقها، ونحتفي بها على قدر ما تأتي من نتائج عملية خالصة)[٣٩].
إن معيار حقيقة الفكرة عند العقليين، هو مطابقتها للواقع أي لما هو خارج الفكر. هذه المطابقة تجعل من الحقيقة واضحة وثابتة، أما في المذهب العملي فإن الفكرة لا توصف بالحقيقة لمطابقتها للواقع، بل لكونها تؤدي عملاً نافعاً، أي بالنظر لنتائجها وغاياتها العملية. وباختصار فإن المذهب الأول يقول بأننا نعيش لنفكر أما الآخر فيقول بأننا نفكر لنعيش.
إن ربط الفكر بالعمل يتضمن انقلاباً في نظرية المعرفة، فبدلاً من النظر في الأصول البعيدة للحقيقة، كما كانت تفعل الفلسفات المجردة، فإن الفلسفات العملية حولت النظر إلى النتائج والغايات العملية، وجعلت قيمة الحقيقة بما تؤديه من نتائج عملية ونفعية.
هذا الانقلاب الذي أحدثه المذهب العملي كان الإمام (عليه السلام) قد طرحه كأحد المسلمات التي لابدّ منها لحياة أفضل. فالمعرفة القائمة على التصورات فقط لا قيمة لها بل يصنفها في عداد المعارف الوضعية التي لا يترتب عليها أدنى منفعة. في حين أن المعرفة التي تظهر في أعمال تنفع البشر وتؤدي لهم خدمات مفيدة هي التي يقول بها ويضعها في مستوى المعارف الرفيعة. فصفة الحقيقة فيه ليست ملازمة للفكرة كفكرة وإنما هي تكتسبها بما تحققه من عمل نافع. والواقع ينطق بذلك، إذ ما قيمة قوانين (نيوتن) مثلاً لو لم تقدم خدمات عملية على أرض الواقع بتفسيرها حركة الأجسام هذا الربط عبّر عنه الإمام (عليه السلام) يقول: (فإن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع)[٤٠]. و(أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح والأركان)[٤١].
وهكذا يكون كتاب (النهج) في صميم الفلسفة الحديثة التي قرنت الفكر بالعمل ممّا أتاح للبشرية فرصة سانحة للسير في طريق التقدم والعمران.
أما عن مصدر المعرفة، فقد وقع فيه اختلاف كالذي حصل في طبيعة المعرفة.
إن المشكلة في الفلسفة الحديثة ليست إمكان الوصول إلى الحقيقة أو عدم إمكانها وإنما أصبحت تدور في أصل الحقيقة ومنبعها، أهو العقل أم الحس والتجربة، أو هما معاً، أم الحدس أم الوحي؟
لقد تعددت آراء الفلاسفة حول الطريقة التي تحصل بها المعرفة فديكارت (١٥٩٦-١٦٥٠م) يعترف بأن لا سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة إلا بممارسة أفعال العقل الطبيعية.. ولتلك الغاية ليس هناك إلا فعلان أحدهما الحدس intuition أو النظر المباشر، والآخر الاستدلال Deduction [٤٢].
أما جون لوك (١٦٣٢-١٧٠٤م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس)[٤٣] في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه)[٤٤].
وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة ١٨٥٩م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة، وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود)[٤٥].
أين كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟
إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف)[٤٦].
أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من المعلوم إلى المجهول.
أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلف)[٤٧]. إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام) إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم. ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق.
أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:
أنا مــــن أهـوى ومن أهوى أنا | نحـــــن روحـــــان حللـــنا بدنا | |
فـــإذا أبصــــرته أبصــــــرتني | وإذا أبصـــرتني أبصرتـنا[٤٨] |
وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف.
وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه)[٤٩].
ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة.
إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.
ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة.
إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.