ثانياً: التعليم
الفكر خاصية الإنسان وحده، به تجلى وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الإنسان لا تستقر على نوع معين من العلوم، لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم والمعرفة. ومن هنا جاء العليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران البشري، كما يقول ابن خلدون (فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر)[١].
وبالرغم من أن للعوامل الوراثية دورها في تحديد مواهب الفرد وميوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الإمكانيات يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها، وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها، وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع مرافقها ومؤسساتها.
ولقد كان الإسلام في طليعة الأديان الداعية إلى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا المسلمين القراءة والكتابة، ممّا يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: (إن التربية أساس النجاح للفرد والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنة بسخاء على التعليم، موقنة أن في التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع إلى حياة راقية وعيشة راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها، وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجوتها)[٢].
ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن الدعوة التي أطلقها النبي (صلّى الله عليه وآله) في طلب العلم وممارسته في الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود إلى العمى والضلال في حين أن العلم يحلق بالإنسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش في ملكوت الحق، فقال: (اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به)[٣].
١) طلب العلم
يورد (عليه السلام) طرقاً مختلفة، على طالب العلم أن يسلكها للحصول عليه منها:
أ. الفقه في القرآن
الإسلام يؤمن بالعلم وبقدرته الفائقة على الخلق والإبداع. ولقد رفع إلله في كتابه العزيز، من شأن الذين آمنوا وعملوا، فقال عزّ القائل: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)[٤] وميز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون فقال سبحانه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)[٥].
والقرآن، كلام الله، وموضع علمه ومحط رسالته، فيه علم الأولين والآخرين، فهو الدواء الشافي من الأمراض والعلل، والمرشد الأمين إلى الهداية والاستقامة. لذلك فقد دعا الإمام علي (عليه السلام) إلى تعلمه والتفقه فيه والعمل به فقال: (وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص)[٦].
ب. المحاكاة
وهي تعني التشبه بأقوال وأفعال الصالحين، ممن تتوفر فهيم ملكات العلم والأخلاق وهذا ما تحدث عنه (عليه السلام) حين أمر بـ(الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك)[٧].
إلا أن المحاكاة، وإن كانت من طبيعة الفكر الانساني، فهي غير مأمونة من الخطأ كما يقول ابن خلدون (والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة، ومن الغلط غير مأمونة وتخرجه مع الذهول والغفلة، عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيراً، فيقع في مهواة من الغلط)[٨].
من هذا الباب، فإن الإمام علي (عليه السلام) لم يدع إلى محاكاة الأولين دون إمعان النظر فيما نأخذه منهم، وما إذا كان يتناسب مع الظروف الحالية أم لا، فالتقليد الأعمى مرفوض وما نأخذه عن الماضين يجب أن يكون مستنداً إلى التفهم حتى لا نقع في الشبهات والخصومات كما يقول: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات، وعلق الخصومات)[٩].
ج. مجالسة العلماء والحكماء وأصحاب التجارب
والعلم لا يحصل بمجرد قراءته أو حفظه، بل لابدّ من المناقشة والمناظرة في مواضعه وذلك بارتياد المجالس العلمية والمحافل الأدبية، وبحضور مشاهير المعلمين من العلماء والحكماء وأصحاب التجارب الحياتية، حتى تحصل الملكة العلمية، ولن تكون إلا (بالمحاورة، والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها)[١٠] ، كما قال ابن خلدون.
وكان الإمام (عليه السلام) يوصي بضرورة مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء للاستفادة منهم فيقول: (أكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء)[١١]. كما كان يحث على مجالسة أصحاب التجارب للاعتبار والاتعاظ بهم فيقول: (عليك بمجالسة أصحاب التجارب)[١٢] ، ولم يفرق في هذا الأمر، بين صديق أو عدو، فالعلم لا ينبغي أن يكون حكراً لأحد، بل هو مشاع للجميع، يطلبه أياً كان مصدره، فيقول: (جالس العقلاء، أعداء كانوا أم أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل)[١٣].
وهكذا فالتعلم بالمناقشة والمناظرة أفضل بكثير من التلقين والحفظ، وهو من المبادئ التربوية الهامة التي أقرت بها التربية الحديثة.
ولقد أعطى (عليه السلام) الأهمية الكبرى للسؤال باعتباره العامل الذي يضفي على المناظرة الحيوية والنشاط، وهذا ما تعتمده التربية الحديثة التي تنظر إلى التعليم على أنه عملية ديناميكية تراهن على إيجابية التعلم وفاعليته بعيداً عن التلقين. إلا أن فلسفة طرح السؤال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث يفضي التساؤل إلى المعرفة لا إلى الجدل والسفسطة الكلامية. فالسؤال هو لإثارة العقل على التفكير والبحث، وبالتالي ليس أداة للهزل وإضاعة الوقت أو للتساؤل عن أشياء لا يبلغها العقل، فهذا من باب التعنت لا التعلم: (سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وإن العالِم المتعنت شبيه بالجاهل)[١٤].
والمناظرة تحتاج إلى تدوين المعلومات حتى يتسنى للمتعلم مراجعتها عندما تدعو الحاجة إليها، كي يتمكن من حسن الاستفادة منها ـ فما يجود به العقل، يترجمه القلم، لأن (عقل الكاتب في قلمه)[١٥]. فالكتابة حاجة ضرورية للمتعلم، وعدم معرفته بها تحرمه من فرصة النجاح التام في عملية التعلم، وتفقده أهم وسيلة لجمع المعلومات، لذلك فإن: (عدم المعرفة بالكتابة زمانة خفية)[١٦].
والكتابة تستلزم الخط الجميل، من حيث تحسين شكل الحروف والفصل بين الكلمات والسطور، ممّا يكون له أثره في سرعة القراءة والفهم. ويصور الإمام (عليه السلام) ذلك بقوله: (الق دواتك واطل جلفة قلمك وفرّج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط)[١٧].
وليس المهم تنميق الكلام وتزويقه وجذالته، فهذه أمور قد تشغل من يعمد إليها عن فحوى الكلام ومضمونه، فيظهر غنياً بالشكل لا بالمضمون، لذلك: (من اشتغل بتفقد اللفظة وطلب السجعة، نسي الحجة)[١٨].
٢) أنواع العلوم
والتربية، كما يتحدث عنها الإمام (عليه السلام)، دينية ودنيوية والأولى تمهيد للثانية وغايتهما واحدة، هي صلاح الإنسان في الدارين، أما العلوم المؤدية إليهما، فهي: الشرعية والزمنية، وقد جمعهما (عليه السلام) معاً عندما قال: (أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض)[١٩]. وعندما يتحدث الإمام علي (عليه السلام) عن طرق السماء، فإنما يقصد (العلوم الشرعية)، ويعني بطرق الأرض (العلوم الزمنية).
والعلوم الزمنية تنقسم إلى قسمين:
أ. بديهية: يوحي بها العقل، ولا تتطلب التعلم والسماع، بل هي مطبوعة في غريزة العقل حيث يولد الإنسان مفطوراً عليها كعلمه بأن الكل أكبر من الجزء، أو أن الشيء الواحد لا يكون قديماً وحادثاً معاً. فهذه الأمور تصدر عن الإنسان العاقل بالبداهة فلا يحتاج لاكتسابها إلى التعلم.
ب. مكتسبة: وهي العلوم المستفادة بالتعلم والنظر العقلي. إن هذا التقسيم للعلوم إلى فطرية ومكتسبة يظهر عند الإمام علي (عليه السلام) أيضاً في قوله شعراً:
رأيــــــــت العـــــــقل عقلـــــين | فمــــــطـــــبوع ومسمـــــــوع | |
ولا ينـــــــــــفع مســــــــــموع | إذا لـــــــم يــــــك مطــــــــبوع | |
كمـــــــا لا تنــــــــفع الشمــس | وضــــــوء العـين ممنوع[٢٠] |
ولا يمكن التقرب من الله بالعلوم الفطرية أو الضرورية، بل بالمكتسبة وليس كل أحد ممن جمع العلوم المكتسبة يستطيع هذا الأمر لصعوبة إدراك القديم بالعلم الحادث (ولكن مثل علي، رضي الله عنه، هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من العالمين)[٢١] كما قال الغزالي.
أما العلوم الدينية فهي تلك التي تؤخذ من الأنبياء تقليداً عن القرآن الكريم، ومن الأئمة تقليداً عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فهي إذن تحصل للإنسان بالتعلم عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيه وحكمة أئمته، وبها تكون سلامة القلب من الأدواء والأمراض لأن العلوم العقلية، منها ما يكون محموداً كالطب والحساب والزراعة وغير ذلك، ومنها ما يكون مذموماً كالسحر والطلسمات والنجوم. لذلك فإن مباشرة الإنسان بتعلم العلوم الدينية، تفتح بصيرته وتنمي فيه ملكة التمييز بين الصالح والطالح من العلوم فيختار منها ما يفيده في دنياه وآخرته.
٣) فضيلة العلم
إن تشبع الإمام (عليه السلام) بالعلوم الدينية والدنيوية يدل على مدى الاهتمام بالعلم وتفضيله على سائر مغريات الحياة ومنها المال، فالعلم، مقياس تطور الأمم والشعوب ومعيار تفاضل البشر. والقلوب البشرية باعتبارها مستودع العواطف والمشاعر والنزعات، إنما تتفاضل بمدى وعيها وإدراكها لقيم الحق والخير كما جاء في قوله (عليه السلام) (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها)[٢٢] لذلك هو يقسم الناس في العلم إلى ثلاثة أقسام:
ـ عالم رباني.
ـ ومتعلم على سبيل نجاة.
ـ وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
ثم يفاضل بني العلم والمال، مبيناً ميزات كل منهما حتى يخلص إلى تقديم الأول على الآخر، فيقول: (العلم خير من المال)[٢٣].
وما يرثه الإنسان من علم هو أفضل ما يرثه من مال لأن (العلم وراثة كريمة)[٢٤]. وقد تسامى بهذه الوراثة وجعلها من أشرف الأشياء، (أشرف الأشياء العلم)[٢٥] ، وقصر السعادة التامة عليها (السعادة التامة بالعلم)[٢٦] وجعلها الأداة التي يصول بها الإنسان ويجول (العلم سلطان من وجده صال به، ومن لم يجده صيل عليه)[٢٧] والعلم هو الملكة التي يفتخر بها العالم على أهل الجهل. كما يقول الإمام علي شعراً:
ما الفــــــخر إلا لأهــــــل العلـــــم إنّهم | على الهدى لمــــــن استهــــــدى أدلاّء | |
وقدر كلّ امــرئ ما كــــان يحـــــــسنه | والجاهلــــــــــون لأهــــــل العلم أعداء | |
ففز بعلــــم تعـــــش حـــــــيّاً بـــه أبداً | الناس مــوتى وأهل العلم أحياء[٢٨] |
من أجل ذلك كانت دعوته إلى ضرورة الاهتمام بالعلم، والعمل على أخذه من أي مصدر كان، لأن العلم لا حدود له ولا يعترف بالتعصب والقبلية لذا وجب على الإنسان أن ينشده من الأعداء الأصدقاء على السواء (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)[٢٩].
فالحياة لا تطلب لذاتها، ولكن لأجل أن يثبت الإنسان وجوده، ويحقق إنسانيته ولن يتسنى له ذلك بممارسة الشهوات والانغماس في الملذات، فهذه أمور الغاية منها تنمية الجسم ومساعدته على مباشرة الحياة السامية، (لا تطلب الحياة لتأكل، بل اطلب الأكل لتحيا)[٣٠].
أما من اقتصر في حياته على الشهوات كان أشبه بالبهيمة التي همها علفها، فانحدر مستواه الخلقي إلى درجة لا يحمد عقباها، فصار عبداً لها تقوده إلى ما فيه هدر كرامته وضياع إنسانيته، لهذا فإن (من ترك الشهوات كان حراً)[٣١]. كما يقول الإمام علي ولا سبيل له إلى التخلص من عبوديته إلا بطلب العلم الذي ينير قلبه، ويفتح بصيرته. لذا كان العلم أشرف مطلوب، والاهتمام به يفوق سائر الاهتمامات ومن زهد به وشغف بالشهوات، إنما يحكم عليه بالبوار والخسران المبين وينعي (عليه السلام) على أولئك الذين بإمكانهم أن يكونوا أناساً شرفاء، مخلدين في الحياة بعلومهم، ولكنهم انحدروا، لسوء ما اختاروه من زخرف الحياة وبهرجتها إلى مستوى البهائم السافلة فيقول: (قبيح بذي العقل أن يكون بهيمة وقد أمكنه أن يكون إنساناً، وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وأن يرضى لنفسه بقنية معارة وحياة مستردة وله أن يتخذ قنية مخلدة، وحياة مؤبدة)[٣٢].
والكرامة التي يستمدها الإنسان من ماله أو سلطانه، إنما هي مزيفة لأنها متوقفة عليهما فإذا زالا زالت معهما. أما الكرامة الحقيقية، فهي تلك التي يوجبها العلم والأب سواء كان الإنسان غنياً أم فقيراً، قوياً أم ضعيفاً، فهي حق مكتسب ومفروض، لذا كان الاعتبار للعلم وليس للمال فيقول: (إذا أكرمك الناس لمال أو سلطان، فلا يعجبنك ذاك، فإن زوال الكرامة بزوالها، ولكن ليعجبك أن أكرمك الناس لدين أو أدب)[٣٣]. من هنا: (يجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسمه من الغذاء)[٣٤]. لذا فإن قيمة الإنسان، هي بما يحسنه من العلوم الآداب التي بها يتفاضل الناس لا بالحسب والنسب والجاه والسلطان وغير ذلك من الاعتبارات التي لا توازي العلم قيمة وشرفاً واعتباراً. قال ابن عبد البر: (إن قول علي بن أبي طالب (قيمة كل امرئ ما يحسنه) لم يسبقه إليه أحد. قال: (وقالوا: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، وقالوا: ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل (ما ترك الأول للآخر شيئاً). قال ابن عبد البر: قول علي هذا من الكلام المعجب الخطير، وقد طار له الناس كل مصير ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به، وكلفاً بحسنه)[٣٥].
٤) آفة العلم
وإذا كان للعلم هذه الفضائل الجمة التي تستوجب طلبه وأخذه من أي مصدر كان، فإنه من ناحية أخرى قد يكون وبالاً على حامله، ومصدر شر له ولأبناء جنسه، فالعلم سلاح ذو حدين، قد يستعمل للخير والصلاح وقد يستعمل للشر والفساد والإنسان هو الذي يحدد وجهة سيره. وما يميز الإنسان هو وجود القيم الخلقية والفكرية فيه، تلك التي تعطي للحياة معنى وقيمة. وكم نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذه القيم، وخاصة الخلقية منها، في عصر طغت عليه الفلسفة المادية وفصل الدين عن الحياة. يقول محمد قطب (ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين فلسفة مادية بحتة، تستمد وحيها من الأرض، من واقع الحواس، ولا ترتفع ببصرها لحظة واحدة إلى السماء)[٣٦].
لقد أخضعت هذه الفلسفة، الكون والإنسان لأحكام القياس والتجريب تماماً كما تخضع العلوم الطبيعية والفيزيائية لقوانين عامة وثابتة، دون تمييز بين المادة الجامدة والمادة الحية. يقول طلال عتريسي: (هذه الفلسفة (المادية) لم تكتف بإخضاع الكون وحركته ووجوده لمفاهيم العقل وقدرته، وللحواس وحدودها ولأحكام القياس والتجريب، دون الاعتقاد بأية قوة خارجة عن الإدراك المباشر والمحسوس، بل أخضعت كذلك وجود الإنسان بكل أبعاده لأحكام القياس والتجريب نفسها، ونشطت الأبحاث والنظريات التي تفصل مشاعر الإنسان وأحاسيسه عن بعضها لدراستها دراسة (علمية) ومخبرية، هذا، رغم الحركة الدقيقة والمتشابكة لهذه المشاعر والأحاسيس)[٣٧].
لذلك فإن خلاص البشرية يكمن في تخليص العلم من آفاته وتنمية الحس الخلقي من خلال تعزيز أثر الدين في النفوس.
هذه الحقيقة تبدو في (نهج) الإمام علي جلية واضحة. فهو من جهة يدعو إلى احترام العلم، وإجلاله، ويعتبره (أفضل الكنوز وأجملها، خفيف المحمل، عظيم الجدوى، في الملأ جمال، وفي الوحدة أنس)[٣٨] ، إلا أنه من جهة ثانية يوصي بحسن الخلق فيقول: (ما من شيء في الميزان أثقل من خلق حسن)[٣٩] و(عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه)[٤٠] و(عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في النار)[٤١].
إن الربط بين القيم الخلقية والفكرية، كفيل بتقدم البشرية وسيرها في ركب الحضارة، في حين أن الفصل بينهما، آفة تقضي عليها وتهبط بها إلى الحضيض.
ومن آفات العلم، العجب، وهي نقيصة تدعو إلى الكبر وتجاهل الأخطاء، والذنوب، والاستبداد بالرأي وترك المشورة، واستجهال الناس واحتقارهم والأنفة عن المساواة بهم ولذلك فقد نهى عنه، وحذر منه بقوله: (حصن علمك من العجب)[٤٢]. في حين أن التواضع زين للعالم وشرف له (التواضع إحدى مصايد الشرف)[٤٣].
ومن آفات العلم أيضاً الطمع والاسترسال في الشهوات والملذات ممّا يؤدي إلى الاهتمام بأحوال الجسد وعدم الالتفات إلى العلم كغذاء للعقل فيذبل ويموت. فيقول (أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع)[٤٤] لذلك فقد حذر من الشهوات لأنها تأسر العقل وتلهيه عن الفكر والنظر وحث الإنسان على السمو بلذائذه والارتفاع بها عن حضيض المادة: (فإن كنت شاغلاً نفسك بلذة، فلتكن لذتك في محادثة العلماء ودرس كتبهم)[٤٥] وما ذلك، إلا لأن تقييد العقل حد لطاقته وشل لنشاطه وفاعليته، ودفعه في مهاوى الشر والرذيلة. وبقدر ما يكون حراً، يكون أغزر إنتاجاً، وأسلس قيادة وأكثر أماناً من الوقوع في الهلاك، ذلك أنه: (إذا خلى عنان العقل، ولم يحبس على هوى نفس، أو عادة دين، أو عصبية لسلف ورد بصاحبه على النجاة)[٤٦].
وهكذا يدعو الإمام (عليه السلام) إلى تحرير العقل وتخليصه من آفاته لفسح المجال أمامه للعمل الخلاق. ثم يربط بين العلم والأخلاق، ويجد في هذا التحالف بينهما تمام السعادة وحصانة من الشر والفساد. فيقول: (ملاك العقل ومكارم الأخلاق، صون للعرض والجزاء بالفرض والأخذ بالفضل، والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد)[٤٧].
٥) فضل العلماء
إن فضل العلماء لا يخفى، وهو يظهر في شتى الكتب السماوية وخاصة الإسلام وكذلك على لسان الأنبياء والأئمة والصالحين من بني البشر. نذكر من ذلك قوله تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)[٤٨]. وقال الرسول الكريم، (العلماء ورثة الأنبياء)[٤٩].
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (العالِم مصباح الله في الأرض، فمن أراد الله به خيراً اقتبس عنه)[٥٠]. فالعالِمُ مصباح زمانه، به يستضاء من الظلمات والجهالات، وبه نبلغ منازل الأبرار والدرجات العلى، ولقد فضله الإمام علي (عليه السلام) على المؤمن العابد المجاهد فقال: (العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا غيره)[٥١].
وللعلماء فضل في تجويد الحياة وجعلها مستساغة من قبل الناس، وهم وحدهم الذين يكتشفون أسرارها، ويبددون المخاوف الناجمة منها، ولن يكون ذلك إلا بتخليص الناس من علائق الدنيا الزائفة وترغيبهم بنعيم الآخرة الخالد، عند ذلك تهون عليهم كل لذة دنيوية مقابل ما يرجونه منها في الآخرة، لهذا صار حق العالم يفوق حق الوالدين، فإذا كان هؤلاء هم السبب في وجود الحياة الفانية فإن العالم هو المفيد للحياة الأخروية.
٦) فضيلة التعلم والتعليم
يقول تعالى: (فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[٥٢] ، وقال الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (لأن تغدو فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة)، وقال: (باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها)[٥٣]. وسبق قول الإمام علي (عليه السلام) في الحث على التعلم.
يتبين من ذلك، أن التعلم فريضة فرضها الله والرسول والأئمة على المسلمين جميعاً دون استثناء، وهو يبدأ بعد سنوات التربية ويحدده الإمام بالسن السابعة فيقول: (اترك ولدك سبعاً، وعلمه سبعاً، وصاحبه سبعاً)[٥٤]. وهذا هو السن الأنسب الذي ذهب إليه أهل الاختصاص في عمر التربية، حيث تتوفر للطفل القدرة على الفهم وتركيز الانتباه بسبب نضجه، وزيادة قاموسه اللغوي، ولا تخفى أهمية العلاقة الطردية، بين النضج والتعلم.
وتحديد سن التعلم بالسابعة، لا يعني إغفال سنوات ما قبلها، بل ينبغي أن تستغل لتقويم سلوك الطفل وتزويده بالقيم الخلقية، والروحية حتى يكون مستعداً لمباشرة التعلم بنفس صافية من الأمراض والشوائب الخلقية. ولقد أجمع علماء النفس على أن السنوات الأولى من عمر الطفل، ذات أثر كبير يكاد يكون حاسماً في تعيين شخصيته المستقبلية وتحديد اهتماماته واتجاهاته. ولا شك من أن لهذه السنوات الفضل الأكبر في تمكين الطفل من اكتساب العديد من المعلومات التي سوف يظهر بها، فيما بعد، على غيره (تعلموا العلم صغاراً تسودوا به كباراً)[٥٥] كما يقول (عليه السلام).
وما يجب أن يتعلمه الحدث هو ما ينفعه في مستقبل حيته. والعلوم التي تنفعه هي: الدين وشرائعه كي يعمر قلبه بالتقوى والإيمان والخشية من الله في كل عمل يقوم به، وحتى يزهد في الدنيا ولا يغتر بمفاتنها فتأخذ عليه نفسه وتسلبه عقله وتنسيه آخرته.
وما ينفعه أيضاً علم الأخلاق حتى يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وحتى تتحسن علاقته بالآخرين ويشعر بالمسؤولية على كل عمل يقوم به ومدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية والثواب والعقاب.
وما ينفعه أيضاً تلك العلوم التي لابدّ منها لقوام أمور الدنيا. إذ على المعلم أن يبث فيه مبادئ هذه العلوم لأنها ضرورية له كالطب لبقاء الأبدان، والحساب لتسهيل المعاملات والمواريث والزراعة والصناعة والتجارة والحياكة، والسياسة وغير ذلك من العلوم النافعة له في دنياه.
مثل هذه العلوم لابدّ للولد من أن يقف عليها منذ صغره فترسخ في ذهنه وتنمو بنموه، وتتطور بتطور عقليته. وهكذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد زود الطفل بخامة علمية لا بأس بها، فيشب وعقليته متفتحة، ونفسه تتوق إلى المزيد منها لمواجهة تيار الحياة المتجدد باستمرار. ولن تحصل له هذه العلوم بدون تعلم، لذا فإن بذل العلم وهو فرض على كل عالم، فلا ينبغي له أن يضن به أو يمنعه سائليه، فهو ملك للجميع وليس له فقط، يتصرف به كما يشاء، ومن يفعل ذلك إنما يعارض إرادة الله التي قضت بطلب العلم وبذله لمحو آثار الجهل والضلال: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا)[٥٦] كما يقول الإمام (عليه السلام).
لذلك فقد ربط (عليه السلام) بين العلم والعمل. هذا الجمع بينهما أدى إلى ما وصلت إليه الأمم من تقدم وعمران. فالعلم لا يطلب لذاته، بل لأجل الاستفادة منه، ولن يتم ذلك إلا بممارسته وبذله في شتى ميادين الحياة. من هنا يكتسب العلم فضله وشرفه بينما يبقى ناقصاً لو أجرى على اللسان فقط ولم يأخذ مجراه إلى الحياة العملية، وكلما أبحر الإنسان فيه كلما ازداد عمقاً واتساعاً كما يقول لكميل بن زياد: (العلم يزكو على الإنفاق)[٥٧]. فالغرض الأول للعلم هو العمل به، كما أن تبليغ الدعوة، لا ينفصل عن العمل بأحكامها على أن لا يطلب فيصبح وسيلة للإثراء والمتاجرة ممّا يحط من شرفه ورفعته ولكن بأن يقصد به وجه الله تعالى يقول ابن جماعة: (حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه)[٥٨].
وعلى العالِم أن يعمل وفق علمه وحسب ما يمليه عليه عقله، لأن العالِم المنافق يستحيل أن يكون قدوة لغيره طالما أنه يغش بعلمه، ويعطي صورة مغايرة لما يدعيه من العلم فيكون الضرر الناجم عنه أبلغ من الفائدة المرجوة منه. فالتناقض بين العلم والعمل مرفوض في عرف الإمام (عليه السلام)، لأن ذلك يؤدي إلى فساد الزرع ورداءة الإنتاج في الحقل التربوي ممّا يكون له أثره المدمر على عقلية ونفسية المتعلمين، فيقولك (يا حملة العلم، أتحملونه؟ فإنما العلم لمن علم ثم عمل، ووافق عمله وعلمه)[٥٩].
وبما أن الوظيفة الأساسية للعالم هي الإرشاد والتوجيه، فلابدّ أن يكون صادقاً مع نفسه، فلا يخالف قوله عمله. أما إذا حصل العكس، فلا سبيل إلى أن يكون قدوة ومرشداً لغيره بسبب فقدان الثقة بينه وبين المتعلم.
ولا يجب على العالم أن يقول كل ما يعلم، لأن هناك من العلوم ما لا تستسيغه عقول العامة، فلا ينبغي عليه أن يفشي كل ما يعلم إلى كل أحد، بل عليه أن يحدث به ما هو أهلاً له، لأن الجاهل لا يأبه به ولا يفهمه، والسفيه يسخر منه ولا يقدره، وبذل العلم لهما لا طائل منه.
ولن يتمكن العالِم من محادثة الناس بعلمه، إذا لم يكن هو نفسه متعلماً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من هنا أكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة تعليم النفس قبل تعليم الغير فقال: (من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها، أحق بالإجلال، من معلم الناس ومؤدبهم)[٦٠]. بل أوجب على المعلم أن يكون ملماً بعلمه، حاذقاً فيه، خبيراً بأصوله وقواعده وشوارده، فلا يخفى عليه منه شيء ولا يضعف عن تناول مسألة من مسائله، فقال: (إذ سمعتم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب)[٦١]. لأن خلط العلم بالهزل تزهيداً للناس بطلبه، وانتفاء للفائدة منه، لهذا قال (عليه السلام): (قصم ظهري، رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك)[٦٢].
٧) أسلوب التعليم
إن التعليم بنظر الإمام علي (عليه السلام)، لا يقوم على التلقين، ولا يعتمد على الكمية بقدر اعتماده على الكيفية كما سبق وأوضحنا فهو في جملته يستند إلى المناظرة والمناقشة.
لقد أحاط المتعلم بجو تعبق فيه روح الحرية والنشاط، فمكان الدرس (الجامع يومذاك)، ليس سجناً تمارس فيه شتى أنواع الإرهاب والتنكيل، بل هو منتزهاً يرتاده المتعلمون بشوق، تحدوهم إليه العلاقة الأخوية الصادقة بين العالِم والمتعلم. فالانفعالات الحادة الناجمة عن الجو التعليمي المتسم بالرهبة، تعرقل العملية التربوية وتترك المتعلم عرضة لكثير من الاضطرابات والعقد النفسية لأن الانفعال (ضرب من السلوك تعمّ آثاره الإنسان كله نفساً وجسماً، يحدث أثناءه تغيرات في داخل الجسم وخارجه، فتؤدي إلى إعطائه صورة معينة)[٦٣]. وإذا كانت للانفعالات الحادة هذه التغيرات التي تؤثر سلباً على شخصية المتعلم، فإن الحد منها يكمن في إيجاد جو من التعليم يكفل له قسطاً وافياً من الرغبة والطمأنينة والانفعالات الهادئة التي تساعد على تأدية وظائفه العقلية بنظام وتنسيق، فكأن هناك شبه تناقض بين التعليم والانفعال.
لقد دعا (عليه السلام) إلى تربية سمحة تبتعد عن الضغط والإكراه، لأن الطفولة تختلف في مفاهيمها واهتماماتها عن الرجولة، وما ينجم عنها من أخطاء ينبغي أن لا نقيسها بمقياس الرجل البالغ، فهي تتصرف بوحي من ذاتها التي لا تعرف الحدود والموانع، وأي تصد لها بالعنف إنما هو إحراج لها وقمع لرغباتها. يقول (دي نوي): (فمن المهم حقاً ألا نحكم على ذنب يقترفه الولد بالنظر إلى نتائجه. فالذنب عند الولد خطير لذاته ـ مطلقاً لا نسبياً ـ لأن ذلك قد تقرر على هذا الوجه. وخفة الذنب المطلقة وحدها قادرة على تعويد الطفل نظاماً خلقياً لا سبيل إلى التقدم بدونه ويختلف هذا المعيار لدى البالغين)[٦٤].
إن الشطط في العقاب أمر غير مرغوب فيه في التربية لأنه يورث الكسل ويحمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في النفس خوفاً من القهر ومن شأن الاستمرار على ذلك أن يؤدي إلى اعتياد المتعلم على ذلك، فتكسل نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل. لذلك فلا ينبغي للعقاب أن يتبع الذنب مباشرة قبل التعرف على الدوافع الكامنة وراءه حتى لا يكون عن ظلم وذلك بعدم إتاحة الفرصة للولد كي يدافع عن نفسه ويبرر خطأه أو يقدم اعتذاره لهذا: (لا تتبع الذنب العقوبة، واجعل بينهما وقتاً للاعتذار)[٦٥]. كما قال الإمام (عليه السلام) فالتربية التي يسودها التوتر والانفعال يستبعدها (عليه السلام) بل ويرى فيها هدراً لكرامة الإنسان وإفساداً لمعاني الإنسانية لديه وإضعافاً لقواه العقلية والخلقية وإماتة لقيم الألفة والمحبة والتعاون في نفسه، لذلك فهو يحذر منها ويقول: (أحذروا الكلام في مجالس الخوف، فإن الخوف يذهل العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي نروم نصرته وأحذر الغضب ممن يحملك عليه، فإن مميت للخواطر مانع من التثبت أحذر من تبغضه فإن بغضك له يدعوك إلى الضجر به، وقليل الغضب كثير في أذى النفس والعقل، والضجر مضيق للصدر، مضعف لقوى العقل. أحذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك وبين خصمك في الإقبال والاستماع ولا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك وعليك. وأحذر حين تظهر العصبية لخصمك بالاعتراض عليك وتشييد قوله وحجته، فإن ذلك يهيج العصبية والاعتراض على هذا الوجه يخلق الكلام ويذهب بهجة المعاني، وأحذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك، وأحذر استصغار الخصم، فإنه يمنع من التحفظ، ورب صغير غلب كبيراً)[٦٦].
٨) حق العالِم على المتعلم
وإذا كان للمتعلم على المعلم حق تربيته، وتأديبه وتزويده بالعلوم والمعارف حتى تستقيم نفسه وتتوق إلى ممارسة الفضائل لتصبح ملكة تطبع سلوكه في مجريات حياته فإن للعالم على المتعلم حقوقاً ينبغي احترامها والتقيد بها تقديراً له ولمهنته التي هي من أشرف المهن وأصعبها على الإطلاق. من هذه الحقوق ما رواه الإمام (عليه السلام) حيث قال: (من حق العالِم على المتعلم ألاّ يكثر عليه السؤال ولا يعنّته في الجواب، ولا يلحّ عليه إذا كسل، ولا يفشي له سراً، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يطلب عثرته، فإذا زل تأنيت أوبته، وقبلت معذرته، وإن تعظمه وتوقره ما حفظ أمر الله وعظّمه، وألا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت غيرك إلى خدمتها فيها. ولا تضجرن من صحبته، فإنّما هو بمنزلة النخلة ينتظر متى يسقط عليك منها منفعة. وخصّه بالتحية واحفظ شاهده وغائبه وليكن ذلك كله لله عزّ وجلّ)[٦٧].