خالد البغدادي
لقد هيّأ لي الردّ على كتيّب (قراءة في نهج البلاغة) مناسبة عزيزة على نفسي كنت أطلبها منذ زمن، ألا وهي الكتابة عن هذا الأثر العظيم والسفر الخالد، واستزادة التأمّل في نصوصـه وبياناته الّتي لم تزِدني كثرة المطالعة فيها إلاّ الشوق بالعودة إليها مرّات ومرّات ; لِما لهذه النصوص من أهمّية كبيرة في بيان الكثير من جوانب المعرفة في الدين، والتاريخ، والسياسـة، والفلسفة، والنفس، والاجتماع... إلى غير ذلك من العلوم الّتي كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) باب مدينة علم المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) يفيض بها على المسلمين في أيّامه.
وعلى الرغم من أنّنا لم نقلّب أونتصفّح هنا إلاّ الشيء اليسير من هذه النصوص، وذلك حسب البحوث الواردة في الكتيّب المردود عليه، ولكن نأمل أن يتهيّأ لنا في المستقبل ـ بفضـل الله ومنّه ـ ما يحقق كمال الرغبة من البحث في نهج البلاغة على نطاق أوسـع.
وقد ارتأيت في هذه المناسبة أن أُقدّم لقارئي العزيز مقدّمة بسيطة للتعريف بـ: نهج البلاغة وبيان ما له من المنزلة والشأن عند علماء المسلمين وأُدبائهم، وكذلك ردّ بعض الشُـبه الّتي أُثيرت بشأن الكتاب المذكور..
فأقـول:
إنّ أكثر ما استأثر باهتمام الكتّاب والمحقّقين في العصور الإسلامية السالفة والحاضـرة الوقوف على كتب أعطت للتاريخ حقيقة واقعية أصلها القرآن الكريم والسُـنّة النبوية الشريفة... ومن تلك الكتب والآثار التاريخية: كتاب نهج البلاغة..
فقد نال هذا الكتاب من الأهمّية والشأن بما لم يحظَ به كتاب غيره على مرّ العصـور، وأصبح له من الشـروح ما بلغ (٧٥) شرحاً في حساب بعض المؤلّفين [١] ، و(١٠١) من الشـروح في حساب مؤلّف آخـر [٢].
وليس غريباً أن يكون للـ " نهج " كلّ هذه الأهمّية وهذا الشأن ; فقد كان الإمام عليّ " إمام الفصحاء وسـيّد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة "، كما يروي عزّ الدين ابن أبي الحديد [٣].
ومن الطريف أن تجـد مثل الدكتور شفيع السيّد ـ من كتّاب مصر ـ الّذي يذكر في مجلّة " الهلال " العـدد ١٢، السنة ٨٣، ص ٩٦: إنّ معظم شـرّاح نهج البلاغة من الشـيعة... ثمّ يسمّي عدداً من هؤلاء الشرّاح وكان أغلبهم من غير الشيعة!! راجع: " نهج البلاغة.. لمَن؟ ": ١٥.
٣- عزّ الدين أبوحامد عبـد الحميد بن هبة الله بن محمّـد بن الحسين: من أعيان المعتزلة، ولد في المدائن سنة ٥٨٦ هـ، وانتقل إلى بغداد.
أديب كاتب شاعر، شارك في بعض العلوم، عمل في الدواوين السلطانية وبرع في الإنشاء، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي، توفّي في بغداد سنة ٦٥٥ هـ.
له آثار قيّمة، منها: شرح نهج البلاغة، الّذي جمعه الشريف الرضي، ديوان شعر، نظم فصيح ثعلب، الفلك الدائر على المثل السائر، تعليقة على المحصول لفخر الدين الرازي... وغيرها.
راجع: الأعلام ـ لخير الدين الزركلي ـ ٣ / ٢٨٩، معجم المؤلّفين ـ لعمر رضا كحالة ـ ٥ / ١٠٦، فوات الوفيات ـ لابن شاكر الكتبي ـ ١ / ٢٤٨، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ١٣ / ٢٣٣.
ويقول عبـد الحميد الكاتب: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت.
ويقول ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب.
ولمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس! ـ يعني عليّاً ـ قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.
ثمّ قال ابن أبي الحديد: ويكفي هذا الكتاب الّذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجارى في الفصاحة، ولا يُبارى في البلاغة، وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشـر، ولا نصف العُشـر ممّا دُوّن له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه [٤] .
ويقـول الشـيخ محمّـد عبـده [٥] : وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأنّ كلام الإمام عليّ بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادّة، وأرفعه أُسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني [٦] .
ويقول الدكتور زكي نجيب محمود: ونجول في أنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام عليّ، الّتي اختارها الشريف الرضي [٧] (٩٧٠ م ـ ١٠١٦) وأطلق عليها: نهج البلاغة، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى..
فإذا حاولنا أن نصنّف هذه الأقوال تحت رؤوس عامّة تجمعها، وجدناها تدور ـ على الأغلب ـ حول موضوعات رئيسية ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسية الّتي ترتد إليها محاولات الفلاسفة، قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله والعالم والإنسان.
وإذاً فالرجل ـ وإن لم يتعمّدها ـ فيلسوف بمادّته وإن خالف الفلاسفة في أنَّ هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقاً على صورة مبدأ ونتائجه، وأمّا هوفقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه [٨].
أمّا صبحي الصالح فيقول في مقدّمته: منذ أن تصدّى الشريف الرضي لجمع ما تفرّق من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ووسمه: «نهج البلاغة» أقبل العلماء والأُدباء على ذلك الكتاب بين ناسخ له يحفظ نصّـه في لوح صـدره، وشارح له ينسم الناس عن تفسيراته وتعليقاته [٩] .
ويقول الكاتب لبيب بيضـون ـ الكاتب السوري المعروف ـ في تصنيفه للـ " نهج ": لا يشكّ أديب أومؤرّخ أوعالم ديني أواجتماعي في ما لـ «نهج البلاغة» من قيمة جلّى، وإنّه في مصافِ الكتب المعدودة، والّتي تعتبر من أُمّهات الكتب...
كيف لا؟! و«نهج البلاغة» هوكلام أمير المؤمنين، ذلك الإمام الّذي كان قدوة مثالية للمسلمين، ونبراساً رائداً للمؤمنين، حتّى إنّ الخليل بن أحمد حين سئل عنه: ما تقول في الإمام عليّ؟ قال قوله المأثور: احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على أنّه إمام الكلّ في الكلّ...
ثمّ قال: إنّ «نهج البلاغة» هوأعظم كتاب أدبي وديني وأخلاقي واجتماعي بعد القرآن والحديث النبوي الشريف، وهوأحد المصادر الأربعة الّتي لا غنىً للأديب العربي عنها، وهي: القرآن الكريم، ونهج البلاغة، والبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرّد [١٠].
فرية وضـع الكتاب:
ولقد عزّ على بعض " الناس "! من المتقدّمين أن يكون نهج البلاغة أُنموذجاً من كلام عليّ، وصورة مصغّرة من منهجه العام في الدين والسياسة والإدارة العامّة للدولة، ممّا أراد تطبيقه عندما آلت الخلافة إليه، فتوجّهوا بسهام الشكّ نحوه زاعمين: " إنّه ليس كلام عليّ، وإنّما الّذي جمعه ونسبه إليه هوالّذي وضـعه " [١١] .
وقد تصدّى عدد من الكتّاب والأُدباء والباحثين إلى ردّ مزاعم هذه الفرية وإقامة البرهان على زيف هذه المزاعم وكذب هذه الادّعاءات.
وكان في طليعة من تصدّى لتفنيد هذه الشبهة أديب عصره عزّ الدين ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في شرحه للـ " نهج "، ونروي في ما يلي فقرات ممّا كتبه هذا الأديب:
" إنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدَث، صـنعه قوم من فصحاء الشـيعة، وربّما عزوا بعضـه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح...
وأنا أُوضّح لك بكلام مختصـر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلوإمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولا، أوبعضـه.
والأوّل باطل بالضرورة ; لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد نقل المحدِّثون كلّهم أوجُلّهم والمؤرّخون كثيراً منه، وليسوا من الشـيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدلّ عليه ما قلناه ; لأنّ مَن قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح والأفصـح، وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء، أولاثنين منهم فقط، فلا بُدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين.
ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لوتصفّحنا ديوان أبي تمّام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أوقصـيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفَسـه وطريقـته ومذهـبه في القريض...
وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونفَساً واحداً، وأُسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضـه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز، أوّله كأوسـطه، وأوسـطه كآخره... فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضـح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أوبعضـه منحـول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) " [١٢] .
كما يروي ابن أبي الحديد عن شـيخه أبي الخير الواسطي، فيقول: " أمّا أبوالخير سأل يوماً أُستاذه ابن الخشّاب بعد انتهائهما من قراءة خطبة عليّ المعروفة بالشقشقية: أتقول أنّها منحولة؟!
فقال له: لا والله! وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.
قال: فقلت له: إنّ كثيراً من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.
فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفَس وهذا الأُسلوب؟! وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته في الكلام المنثور...
ثمّ قال: والله! لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يُخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط مَن هومن العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبوأحمد والد الرضي " [١٣].
ثمّ يعلق ابن أبي الحديد على هذه الخطبة نفسها فيقول: " وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديّـين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمـدّة طويلة.
ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة... وكان من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً " [١٤].
وعندما ترجم الإمام الزيدي يحيى بن حمزة العلوي، المتوفّى سنة ٧٤٥ هـ، لعليّ (عليه السلام) قال: " وأعظم كلامه: ما حواه كتاب نهج البلاغة، وقد تواتر نقله عنه، واتّفق الكلّ على صحّـته " [١٥].
قال الكاتب المصري محمّـد عبـد الغني حسن: " ولن نعيد هنا القول في ما لوى به بعض المتعنّتين أشـداقهم من أنّ نهج البلاغة هومن كلام الشريف الرضي نفسه وأنّه ليس للإمام عليّ كرّم الله وجهه ; فتلك قضية أحسن الدفاع فيها: ابن أبي الحديد في القديم، كما أحسن الدفاع عنها في زماننا هذا: الشيخ محمّـد محيي الدين عبـد الحميد " [١٦].
أمّا الشيخ محمّـد عبـده فقد قال في بداية تعليقته مؤكّداً بأنّ: " ذلك الكتاب الجليل هوجملة ما اختاره الشـريف الرضـي (رحمه الله) من كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه.. جمع متفرّقه وسمّاه بهذا الاسـم: (نهج البلاغة).
ولا أعلم اسـماً أليَق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسـعي أن أصـف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسـمه... " [١٧] .
وقد حقّق ودقّق الدكتور صـبري إبراهيم، من جامعة عين شمس (جامعة قطر) صحّة ونسبة هذا الكتاب لجامعه الشريف الرضي، كما حقّق ودقّق سـند الخُطب والأقوال للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) [١٨] .
وأقـول:
كثيرة هي المصادر التراثية المعتمدة الّتي روَت كلام الإمام عليّ (عليه السلام)وخطبه، وقد سبق تأليفها على عهد الشريف الرضي جامع نهج البلاغة [١٩] .
وكان السيّد عبـد الزهراء الخطيب الحسيني قد أحصى " ١٠٩ " مصادر مؤلَّفة قبل سنة ٤٠٠ هـ ـ وهي سنة جمع الشريف للـ " نهج " ـ قد استشهدت بكلام الإمام وخطبه ورسائله [٢٠] ، وحملت هذه المصادر إلى الأجيال التالية تلك النصوص العلوية دون أن تبدي أي شكّ في ذلك أو ريب أو توقّف.
ويكفينا أن نعلم أنّ من جملة أُولئك الرواة القدماء:
- المفضل الضبي، المتوفّى سنة ١٦٨ هـ.
- نصـر بن مزاحـم، المتوفّى سنة ٢٠٢ هـ.
- القاسـم بن سلام، المتوفّى سنة ٢٢٣ هـ.
- ابن سـعد، المتوفّى سنة ٢٣٠ هـ.
- محمّـد بن حبيب، المتوفّى سنة ٢٤٥ هـ.
- الجاحظ، المتوفّى سنة ٢٥٥ هـ.
- السجستاني، المتوفّى سنة ٢٥٥ هـ.
- المبّرد، المتوفّى سنة ٢٥٨ هـ.
- ابن قتيبة، المتوفّى سنة ٢٧٦ هـ.
- البلاذري، المتوفّى سنة ٢٧٩ هـ.
- البرقي، المتوفّى سنة ٢٧٤ أو٢٨٠ هـ.
- اليعقوبي، المتوفّى سنة ٢٨٤ هـ.
- أبا حنيفة الدينوري، المتوفّى نحوسنة ٢٩٠ هـ.
- أبا جعفر الصفّار، المتوفّى سنة ٢٩٠ هـ.
- أبا العبّـاس ثعلب، المتوفّى سنة ٢٩١ هـ.
- ابن المعتز، المتوفّى سنة ٢٩٦ هـ.
- الطبري، المتوفّى سنة ٣١٠ هـ.
- ابن دريد، المتوفّى سنة ٣٢١ هـ.
- ابن عبـد ربّه، المتوفّى سنة ٣٢٨ هـ.
- الزجّاجي، المتوفّى سنة ٣٢٩ هـ.
- الجهشياري، المتوفّى سنة ٣٣١ هـ.
- الكندي، المتوفّى سنة ٣٥٠ هـ.
- أبا الفرج الأصبهاني، المتوفّى سنة ٣٥٦ هـ.
- القالي، المتوفّى سنة ٣٥٦ هـ .
قال تعالى: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاْرْضِ } [٢١].
صدق الله العليّ العظيم