علي حسين الخباز
عرف النقد العربي ظاهرة التناص مبكرا تحت عدة مسميات مثل التضمين، والاقتباس، والاحتذاء، والإشارة. وقد أشار حازم القرطاجني الى تداخل النصوص بتصرف وتغيير. ومعنى التناص عند(مفتاح): هو عبارة عن فسيفساء تتكون من دمج عدة نصوص بتصنيفات مختلفة، سعيا الى مناقضة أو تعضيد يسميها (التآلف النصي)، ونفي التطابق عنها. ويرى(جيرار جينيت): إن الشكل الصريح للتناص هو الاستشهاد. ويسميه (محمد بينيس): النص الغائب.
ومعظم النقاد يرونه أمراً لابد منه لأن العمل الأدبي يدخل في شجرة عريقة وممتدة، فالنص لا يأتي من فراغ. ومنهم من يراه ترسبات اللاوعي. وللتناص في نهج البلاغة خصوصية تجاوزت السعي الجمالي الى مهام أخرى. فالسعي الى تعميق المعنى القرآني من خلال التضمين كقوله عليه السلام: (لمْ يُوجِسْ مُوسَى (عليه السلام) خِيفَة عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الجُهَّالِ ودُوَلِ الضَّلالِ) ومثل هذا التضمين يحمل تلميحا لبعض لمسات من الواقع الفعلي أو اقتباسا لحكاية قرآنية، مثل قوله عليه السلام: (فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا الا إِبلِيسَ اعتَرَتهُ الحَمِيَّة وغَلبَتْ عَلَيْهِ الشِّقوَةُ وتَعَزَّزَ بِخِلقَةِ النَّارِ واسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصَالِ). والشقوة: الشقاء. وهذا يوضح بعض العمق التأويلي.
ووردت الكثير من الاستشهادات القرآنية، كتلك التي وردت في معنى الحج وفضائله، وفي وصف الملائكة، ويوم القيامة والسماء، مثل قوله عليه السلام: (ولاحَمَ صُدُوعَ انفِرَاجِهَا وَوَشَّجَ بَيْنَهَا وبَيْنَ أَزْوَاجِهَا) وهذا تناص واضح مع قوله تعالى: (أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).
ووردت أيضا بعض الاستشهادات النصية، تطابقا للوصول الى نتيجة، مثلا استشهاده في إحدى خطبه حيث يقول عليه السلام: (فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ ومَرَقَتْ أُخْرَى وقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الله سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ ولا فَساداً والعاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ بَلَى والله لَقَدْ سَمِعُوهَا ووَعَوْهَا...).
ومن خصوصيات التناص في نهج البلاغة، هي حالة التأكيد على المعنى التكويني، أي التواصل الجذري بالأنبياء، حيث كان يسميها بالأسوة كقوله (ع): وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ ودَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وعَيْبِهَا وكَثْرَةِ مَخَازِيهَا ومَسَاوِيهَا... وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ الله (ص)... وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثتُ بِدَاوُدَ (ص)... وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (عليهما السلام)... فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ (صلى الله عليه وآله) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى).
وقد كان يعتمد إشاعة سنن الرسول (ص) كقوله عليه السلام: (وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ وقَتَلَ الْقَاتِلَ ووَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ...(.
ومن خصوصيات التناص في نهج البلاغة، نجد السعي واضحا لبلورة فكرة معينة، من خلال حكاية متعارف عليها عند الناس كقوله (ع): (وأَحُثكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ البَغيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا...). وسبأ: رجل عرفته العرب، وهو أبو عرب اليمن، يُقال أن له حكاية، حيث كان له عشرة أولاد يقسمهم حين يمشي يميناً وشمالا تشبيهاً لهم باليدين، وقد تفرقوا عنه. أو التناص مع أمثال معروفة مثل استشهاده (ع) كقوله: (وليَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ).
والرائد: يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكلأ، وليتعرف سهولة الوصول إليها من صعوبته، وهو يأمر الهداة والدعاة الذين يتلقون عنهم، ويوصيهم بالصدق في النصيحة. وقوله (ع): (وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ).
ارتكازاً على قصة قصير مولى جذيمة نصح سيده فما انتصح فقتل.
ونجد تناصات كثيرة من خلال الاستعارة أو التشبيه أو المجازات، لكي تكون قريبة من أذهان الناس فهو عليه السلام يصف السحاب: (قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ تَمْرِيهِ الجَنُوبُ). وأسف الطائر: دنى من الأرض. والهيدب السحاب المتدلي أو ذيله. وتمر به: أي مري الناقة حين يمسح على ضرعها: والمعنى دنى السحاب لثقله بالماء.
وقد وردت بعض الامتيازات الشعرية، كقول الشاعر الأعشى ميمون بن قيس بن جندل، وبعض الأبيات لشعراء معروفين ومغمورين وردت بلا أسماء شعرائها، استشهد بها الإمام (ع)، وردت بعض التناصات الغريبة كالنبوءات المتعددة التي شكلت النبوءة تناصا عكسياً مع القول. أو نجد هنا ذكر بعض الصفات كالبخل، والجهل، والجفاء، نجد فيها تناصات متوارية عن التشخيص الكامل ابعاداً للفتنة، وعلى ذكر التناصات، فهناك طرفة (التناص المسروق) حين حاول البعض إدعاء بعض الخطب على أنها لمعاوية، فانتقدهم الجاحظ على فعلتهم، والكثير من النقاد والعلماء، ورفض هذا القول جملة وتفصيلاً.