علي حسين الخباز
تجلت أهمية نهج البلاغة كقيمة عليا من قيم الموروث البلاغي، فانتج لنا تراثا ضخما تناقلته الاجيال جيل لجيل، وانتجت منه خطابات كثيرة، هادفة لنشر هذا الفيض، بشكل يتوائم ورؤى كل عصر، مستمرا باستمرار اللغة في اذهان الناس.
فالتعامل المفرداتي تعرض الى الكثير من التفسيرات والاضافات، والكثير منها ألغي التعامل بها، فاصبحت غريبة على المتلقي..
فلذلك كثرت الحواشي المليئة بالشرح والتفسير؛ كشرح وتفسير قوله عليه السلام: (وأَدَامَ مُرَبَّهَا، وأَعْصَفَ مَجْرَاهَا، وأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا، فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ) فادام مربها: أي ملازمتها, ادام: من أدمت الدلو ملأتها. والمرب: المكان والمحل. تصفيقه: تحريكه وتقليبه. ومخضته: حركته بشدة، كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن، ليستخرج زبده. والسقاء: جلد (السخلة) يجذع فيكون وعاء للبن والماء، جمعه أسقية وأسقيات وأساق.. وعصفت به الريح: اذا عصفت بالفضاء الذي لا اجسام فيه كانت شديدة لعدم اصطدامها باي مانع، وهذه الريح عصفت بالماء.
والاستدراكات والاستهلالات والتذيلات، نظرا لحاجة العصر الى الوضوح والتنبيه لبعض الاشتغالات التفردية، كقوله عليه السلام: (فما عدا مما بدا).
يرى الشيخ محمد عبده: هو أول من سمعت منه هذه الكلمة.. أو في تعقيبه لمن نسب إحدى خطبه الى معاوية! فيقول: "نسب من لا علم له هذه الخطبة الى معاوية، وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، الذي لايشك فيه، وأين الذهب من الرغام".
فصارت على المتون حواشٍ، وعلى الحواشي حواشٍ.. واصبحت لتلك الحواشي سمة بارزة، بدأت منذ القرن العاشر الهجري.
وكان نظام الحواشي سائدا في الازهر الشريف، حتى قال بعض الازهريين: "كنا نقرأ الحواشي دون المتون". وبعض تلك الحواشي تأتي في المقدمة، كالعنوان الذي تم اختياره من قبل الشريف الرضي. وقال عنه الشيخ محمد عبده: "لا اعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه".
وحاشية الشريف الرضي الذي عرف بها شخصية الامام علي عليه السلام، ومن ثم حاشية الشيخ محمد عبده الذي قال فيها: "ثمة عبارات لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا، قد نجد فيها غرائب الفاظ غير وحشية، ربما تصعب بعض المفردات او مضمونات بعض الجمل".
وهناك من الحواشي ما دون اسفل الصفحة، وثمة شروحات ترد داخل عملية السرد المتني.
ومن عمل الحواشي تعيين المواقع المذكورة في المتن كموقع؛ كذي قار والنهروان وصفين، إذ جاء في الحاشية: "ان صفين محلة عدها الجغرافيون من بلاد الجزيرة، وهي تقع ما بين دجلة والفرات. والمؤرخون من العرب عدوها من أرض سوريا، وهي اليوم في ولاية حلب الشهباء، وهذه الولاية كانت من اعمال سوريا...".
وكذلك تحديد هوية المعنى، واسماء الاعلام الايجابية او السلبية، حيث جاء ان الاشعث بن قيس، اعترض امير المؤمنين عليه السلام باحدى خطبه، اذ قال له: "يا امير المؤمنين هذه عليك لا لك" فخفض عليه السلام إليه بصره ثم قال: (مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي عَلَيْكَ لَعْنَةُ الله ولَعْنَةُ اللاعِنِينَ حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ والله لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً والإِسْلامُ أُخْرَى فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ ولا حَسَبُكَ وإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ وسَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ الأَقْرَبُ ولا يَأْمَنَهُ الأَبْعَدُ) فيعرف الشيخ محمد عبده في حواشيه الاشعث بن قيس بقوله: "كان في اصحاب علي، كعبد الله بن سلول في اصحاب رسول الله، كل منهما رأس النفاق في زمنه، أسر مرتين، مرة وهو كافر في بعض حروب الجاهلية؛ وذلك.. ان قبيلة مراد قتلت قيسا الاشج ابا الاشعت، فخرج الاشعث طالبا بثار ابيه، فخرجت كندة متساندين بثلاثة الوية؛ لواء كبش بن هاني، ولواء القشعم بن الارقم، والاشعث، فاخطأوا مرادا، ووقعوا على بني الحارث بن كعب، فقتل كبش والقشعم، وأسر الاشعث، وفدى بثلاثة الآف بعير، لم يفد عربي قبله ولا بعده، وقول علي(ع) فما فداك لم يمنعك من الاسر..
وأما اسر الاسلام فان بني وليعة لما رفضوا الخلافة، نصرهم الاشعث بشرط الامرة عليهم، ثم خانهم بشرط الامان له ولاهل بيته، ففتح الحصن واسروه...".
وكذلك تسعى الحواشي لتوضيح الدوافع النصية، وتحديد هوية المضمّن من الشعر والنثر والامثال كقوله عليه السلام: (هيهات بعد اللتيا والتي) فدونت الحاشية: قصة رجل تزوج بقصيرة سيئة الخلق، فشقي بعشرتها، ثم طلقها، وتزوج أخرى طويلة، فكان شقاؤه بها أشد فطلقها، وقال: لا أتزوج بعد (اللتيا والتي) فصارت مثلا...
وتوصيل المراد الى الاذهان، وفك رموز الابهام، كارجاع بعض التناصات الى مصادرها، كقوله عليه السلام في صفة السماء: (ولاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا). وارجعها في الحاشية الى مصدرها القرآني: (أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).
ورغم هذا حفلت الحواشي بالكثير من المؤاخذات التي سجلها النقاد على فن الحواشي بشكل عام، حيث كررت البعض ما ورد في المتون كالشرح، وغاصت الاخرى في الغموض، فضيعت هويتها.
واما في الخاص، فوجدنا أن الشيخ محمد عبده قد حذر من تحمّل المسؤولية، وصرّح قائلا: "لم اتعرض لتعديل ما روي عن الامام في مسألة الامامة او تجريحه..." (لننظر الى مفردة تجريحه) علما انه يدون اغلب الاحداث التي فيها مسؤولية، بمفردة (قال أو قيل) التي تخفف من شأن القضية، فقيل: "ان عائشة خاصمت عثمانا ونادت اقتلوا نعثلا.." وقالوا: "ان عتبة بن أبي سفيان شرب الخمرة، ونال الحد من خالد بن عبد الله..." وقالوا: "ان عمرو بن العاص لم يسلم حتى طلب عطاء من النبي..".
وكأن ملخص اشتغالاته هي ادبية بحتة، ولاشأن له بامر التاريخ.