وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الجناس في نهج البلاغة

الاستاذ المساعد الدكتور: مهين حاجي زاده

الاستاذ المساعد الدكتور: رقية صادقي نيري

جامعة آذربيجان لإعداد المعلمين - تبريز

الملخص  

يعتبر الجناس، من أهم مباحث علم البديع أحد العلوم الثلاثة التي تتألف منها البلاغة العربية وهي: المعاني والبيان والبديع، وميدانها جميعا متضافرة هو نظم الكلام، وغايتها تأليفه على نحو يضفي عليه نعوت الجمال الفني فهي تكشف للمتعلم عن العناصر البلاغية التي ترقى بالتعبير صعدا نحو الكمال الفني، كما تضع بين يديه الأدوات التي يستطيع بالتمرس بها والتدرب عليها أن ينشىء الكلام البليغ.

الجناس أو التجنيس بتعريفه اللغوي هو: تشابه لفظين مع اختلافهما في المعنى.

يكثر استخدام الجناس في الأدب العربي وعلى وجه الخصوص الشعر ، وهو يعتبر من الحلى اللفظية التي يستجهن الإكثار منها.

وهو على نوعين : 

الجناس اللفظي وهو أن يتفق اللفظين في الهيئة، وهو إما كامل أو ناقص، فالكامل هو أن يتفق اللفظان في نوع الحروف، وعددها، وهيئتها، وترتيبها.

والناقص ما اختل فيه أحد هذه الشروط. , والجناس المعنوي وهو إما جناس إضمار أو جناس إشارة، وجناس الإضمار قد يطلق عليه أحيانًا التورية، وهو أن يأتي بلفظ له معنى قريب ومعنى بعيد ويريد البعيد.

للجناس أو التجنيس أهمية إيقاعية دلالية في الشعر العربي، فإن أسلوب التجنيس يكسب الكلام حُسناً ويعود على المعنى بالتمكين في ذهن السامع، فهو من صميم البلاغة ومقاصدها التي تُؤمُّ. ويتواشج الجناس مع السجع في نهج البلاغة.

وهذا يشبه تماماً مجيء قوافي الشعر متجانسة في بعض الأشعار أو القصائد ، فيزيد الإيقاع تناسقاً وتناسباً .

ويمكن القول أن الجناس ، قد شكّل الموسيقى الداخلية للنص الأدبي في  نهج البلاغة باعتبار هذه الفن البلاغي من مُشكّلات الموسيقى الداخلية في الشعر أولاً، وفي النثر أيضاً، لكنها في الشعر تترافق مع الوزن والقافية  أو ما يسمّى بـ الموسيقى الخارجية .

أما في النثر فهي تنفرد لوحدها إيقاعياً ، وهذا ممّا يزيد في أهميتها وفعاليتها.

يحاول هذا المقال القاء الضوء على ظاهرة الجناس في نهج البلاغة ودورها في ايجاد الموسيقى في كلام امام الفصحاء وسيد البلغاء علي(ع).  

المقدمة

إن نهج البلاغة، اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه.

وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على ٢٣٨ خطبة و٧٩ بين كتاب ووصية وعهد، و٤٨٨ من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات، عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.

ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية والواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة).

وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، إنسانية الهدف، من حيث أنها تتجه إلى كل إنسان في كل زمان ومكان.

ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.

لقد شغل الإنسان بكل أبعاده، مختلف خطب الإمام علي (عليه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لإيقاظه من سباته وبعثه على التأمل في الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله إلى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.

هذه المعاني الإنسانية الخالدة التي تضمنها نهج الإمام علي (عليه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فهي منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.

ترتيب نهج البلاغة ورصفه :

١- نستشفّ من مقدّمة الشّريف الرّضي أنّه رصف «نهج البلاغة»

في ثلاثة أقسام :

٢-١ الخطب

وهو أوّل قسم من أقسام النّهج وأوسعه.

ويستوعب (٢١٤) خطبةً. ونجد في هذه الخطب موضوعات متنوّعة، من: فلسفة وإلهيات ومباحث مرتبطة بالصّفات الالهية والجبر والاختيار، إلى مسائل فقهية شرعية، ومن عرض العِبَر التّاريخية، إلى مسائل اجتماعية، ومن علم الظواهر إلى الوصايا الأخلاقية العميقة الدقيقة، ومن التّوبيخ أو النقد إلى الملاحم الأدبية والتوجيهات العسكرية.

٢-٢  الكتب

ونجد في هذا القسم (٧٩) كتاباً، منها الطّويل، ومنها القصير الّذي قد يضمّ جملتين أوأكثر. ونلحظ في هذه الكتب وصايا متنوّعة في ميادين متعدّدة، منها: الحكومة في الإسلام، والنّظام المالي بخاصّة نظام الزّكاة، وقضايا الحرب، ومؤاخذة الولاة، ووصايا أخلاقية.

٢-٣  الحِكَم أوقصار الكَلِم

ونقرأ في هذا القسم (٤٨٠) عبارة أُطلق عليها الحكم أو الكلمات القصار .

وتتألّق الصّيغة الأخلاقية فيها أكثر من أي شيءٍ آخر.

ويشتمل هذا القسم على وصايا قصيرة في مجال الآداب الاجتماعية والأخلاقية ونظائرها.

حاول السيد الرضي في نهج البلاغة ـ كما يشير اسم الكتاب ـ إلى انتقاء أبلغ وأجمل الأحاديث المروية عن علي ليضعها في هذا الكتاب.

وهذه الخصوصية هي سر بقاء الكتاب وخلوده على الرغم من أحداث التاريخ العصيبة وسبب شهرته بين مختلف الفرق الإسلامية والشخصيات غير الإسلامية.

عدّ بعض الباحثين نحواً من ٣٧٠ مؤلفاً حول نهج البلاغة من الشرح والتفسير والترجمة وغيرها، وقد طبعت إلى الآن نحومن خمس عشرة ترجمة لنهج البلاغة.

وهذا ما يوضح إلى حد ما مكانة الكتاب وقيمته بين المسلمين.

هناك ترجمات فارسية كثيرة لنهج البلاغة، يمكن أن نذكر من أشهرها ترجمة السيد علي نقي فيض الإسلام والدكتورالسيد جعفر شهيدي.

حاول بعض الباحثين جمع ما لم يأت به السيد الرضي في نهج البلاغة من كلام الإمام.

وأهم هذه المحاولات هو نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة.

هذه المجموعة جمعها الشيخ محمد باقر المحمودي في ثمانية مجلدات.

هناك معاجم ألفاظ وموضوعات لنهج البلاغة سهلت البحث والرجوع إليه.

كما تم إعداد بعض البرامج الكمبيوترية لنهج البلاغة وبعض شروحه.

من أشهر تحقيقات نهج البلاغة تحقيق محمد عبده وصبحي الصالح.

كما يشتهر في اللغة الفارسية تحقيق فيض الإسلام.

الشمول والاستيعاب في نهج البلاغة

نهج البلاغة فريد في أسلوبه .. في فصاحته .. وبلاغته في حكمه في مواعظه وإرشاداته .. في تأثيره على قارئه وحافظه وسامعه ، وليس من المبالغة إذا قيل فيه " إنه يعادل فوائده الدينية والأدبية كتب جميع العلماء والأدباء ، كيف لا وهو تالي كتاب الله تعالى.

من المميزات السامية في كلمات الإمام (عليه السلام) المجموعة باسم (نهج البلاغة) والتي هي بين أيدينا اليوم: أنها لا تحدّد بصعيد واحد، فإنه (عليه السلام) لم يكن فارس الحلبة في ساحة واحدة، بل أنه صال وجال ببيانه في ميادين مختلفة لا يجتمع بعضها مع الآخر في الرجل الواحد.

إن نهج البلاغة عبقرية ولكنها ليست عبقرية واحدة في موضوع واحد كالموعظة مثلاً أو الحماسة فقط، بل في أصعدة مختلفة سنشرحها فيما يأتي.

أن تكون كلمة من العبقريات في موضوع واحد ليست كثيراً ولكنها توجد على أي حال.

أو أن تكون الكلمات في مختلف الموضوعات ولكنها عادية من دون عبقرية أيضاً كثيرة.

ما أن تكون الكلمات من العبقريات ومع ذلك لا تكون محدودة بصعيد واحد فتلك من خصائص (نهج البلاغة) فقط.

طبعاً إذا تجاوزنا عن القرآن الكريم - الذي هوكتاب من نوع آخر - فأي كتاب آخر نستطيع أن نجده متنوعاً في العبقريات البلاغية على مدى ما في (نهج البلاغة)؟!

إن الكلمة مرآة الروح الإنسانية، ولذلك فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي يرتبط به روح صاحبها، فالكلمات التي تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على ذلك الروح الذي لم ينحصر في عالم واحد.

وحيث أن روح الإمام (عليه السلام)لا تتحدد بعالم خاص بل هو ذلك الإنسان الكامل الجامع لجميع مراتب الإنسانية والروحية والمعنوية، فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد.

إن من مميزات كلاما الإمام (عليه السلام) أنه ذا أبعادٍ متعددة وليس ذا بعد واحد.

وإن هذه الخصيصة: خصيصة الشمول والاستيعاب في كلام الإمام (عليه السلام) ليس ممّا اكتشف حديثاً، بل هو أمر كان يبعث على العجب منذ أكثر من ألف عام، فهذا السيد الشريف الرضي (رحمه الله) الذي هو من علماء الإمامية في المائة الرابعة أي قبل ألف سنة، يلتفت إلى هذه النقطة فيعجب بها ويقول:

« ومن عجائبه التي انفرد بها: إن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر، وخلع من قلبه: أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أوانقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسّه ولا يرى إلا نفسه.

ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهومع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال! وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات.

وكثيراً ما أذاكرالإخوان بها واستخرج عجبهم منها.

وهي موضع العبرة بها والفكر فيها» (ابن أبي الحديد، ١٩٥٩: ١/٤٩).

وقال صفي الدين الحلي - المتوفى في القرن الثامن الهجري - بهذا الصدد:

جمعت في صفاتك الأضداد ****** ولهذا عـزت لك الأنداد

زاهد حاكم! حليم شجاع! ****** فاتـك ناسـك! فقـير جواد!

شيم ما جمعن فـي بشر قط ******* ولا حاز مثـلهن العـبادُ

خلق يخجلُ النسيم من اللطف ***** وبأس يذوب منه الجماد

جل معناك أن يحيط به الشعر***** ويحصـي صفاتك النقاد

(صفي الدين الحلي، د.ت: حرف الدال)

وبعد كل هذا نقطة أخرى وهي: أن الإمام (عليه السلام) مع أنه إنما تكلم حول المعاني الحقة والواقعية بلغ ببلاغته الرائعة أوج العظمة والكمال!

إن الإمام (عليه السلام) لم يتكلم في الفخرأو الخمرأو الشعر وهي ساحات واسعة للخيال وللوصف الفصيح، ولم يقل ما قاله ليكون مقالاً جميلاً يضرب به الأمثال فيبدي بذلك مهارته الفنية في الكلام، كلا، إذ لم يكن الكلام هدفاً له بل وسيلة إلى أهدافه، إنه لم يرد أن يخلف لنا بمقاله أثراً فنياً أو يبدي عبقرية أدبية.

وأكثر من هذا، إن كلامه عام غير محدود بحدود الزمان أو المكان أوالأشخاص بشكل خاص، بل هو يخاطب (الإنسان) ولذلك فكلامه لا يعرف حداً للزمان أو المكان.. وكل هذه الأمور ممّا يقيد القائل ويضيق موضوع مقاله.

إن العمدة في الإعجازاللفظي للقرآن الكريم هي: أن الفصاحة والجمال فيه ممّا أعجز الإنسان العربي، مع أن موضوع مطالبه كان يغايرالكلام المتداول في عصره، متعلقاً بعالم آخر غير هذا العالم، ومع ذلك أصبح مفتتح عهد جديد للأدب في العرب بل العالم.

وقد تأثر به (نهج البلاغة) في هذه الناحية أيضاً كسائر الخصائص والصفات، فهو في الحقيقة وليد القرآن الكريم ومن كلمات علي (عليه السلام) وليد البيت العظيم - الكعبة المعظمة .

وقال ابن أبي الحديد :

وأما الفصاحة فهوعليه السلام إمام الفصاحة ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين .

ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة (ابن أبي الحديد، ١٩٥٩: ١/٢٤).

من أسرار تمايز كلام الامام (ع) المجموع في نهج البلاغة عن غيره من قادة البيان وسادة الخطباء، الأداء البياني الرفيع والبناء الصوتي القائم على اثارة ذهن المتلقي وتنبيهه بكل أنماط التعبيرالإيقاعي.

ومن أهم هذه الأنماط، هو الجناس الذي يعتبر من أهم مباحث علم البديع أحد العلوم الثلاثة التي تتألف منها البلاغة العربية وهي: المعاني والبيان والبديع، وميدانها جميعا متضافرة هونظم الكلام، وغايتها تأليفه على نحو يضفي عليه نعوت الجمال الفني فهي تكشف للمتعلم عن العناصرالبلاغية التي ترقى بالتعبير صعدا نحوالكمال الفني، كما تضع بين يديه الأدوات التي يستطيع بالتمرس بها والتدرب عليها أن ينشىء الكلام البليغ.

١- الجناس

الجناس صنف بلاغي يرجع الى جرس الكلمة وتأليف حروفها وانسجام هذا التأليف في النطق (سلامة، ١٩٥٢: ١١٦).

فقد ذكر ابن المعتز أن المجانسة « هي ما تكون الكلمة تجانس أخري في تأليف حروفها ومعناها وما يشتق منها» (ابن المعتز،١٩٣٥: ٢٥؛ ابن الأثير، ١٩٨٣: ١/٢٤١)

ويعرفه السكاكي بقوله: « تشابه الكلمتين في اللفظ» (السكاكي، ١٩٨٣: ٤٢٩) .

ويبدو جماله في ما يلجأ اليه المجنس لاختلاب الأذهان« فبينما هويراك أنه سيعرض عليك معني مكرراً ولفظاً مردداً لا تجني منه غير التطويل والانقباض والسامة إذ هو يروق منك فيجلوعليك معني مستحدثاً يغاير ما سبقه كل المغايرة وان حكاه في نفس الصورة وذات المعرض فتأخذك الدهشة لهذه المفاجأة السارة اللذيذة التي أجدت عليك جديداً لم يقع في حسابك، ولا ريبة في أن كل طريف يفجأ النفس ويباين ما كانت تنتظره تتنزي له وتستقبله بالبشري وبالفرح» (الجندي، ١٩٥٤: ٢٩ - ٣٠) .

بيد أن روعة التجنيس في افادته المعني، يقول عبد القاهر الجرجاني«ان ما يعطي التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعني إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحق» (جرجاني، ١٩٥٤: ١٢).

١- أنواع الجناس في نهج البلاغة

كل ضروب الجناس جاءت في نهج البلاغة وكان مما أثريت به عباراته بالجرس والايقاع وهي كثيرة مثل :

١-٥الجناس التام

وهو من أركان جرس الألفاظ في التجنيس و« وأعلى أنواع الجناس»(الصفدي، ١٢٩٩: ٢٠) .

يسميه القاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني المستوفي بينا أطلق عليه ابن الأثير التجنيس الحقيقي (أنظر: عبد القاهر الجرجاني، ١٩٥٤: ٢٢-٢٣؛ القاضي الجرجاني، ١٩٥١: ٤٢؛ ابن الأثير، ١٩٨٣: ١/٣٤٣ ) .

وصورته أن يتفق اللفظان المتجانسان« في أنواع الحروف وأعدادها وهيأتها وترتيبها» (القزويني، ١٩٣٢: ٣٨٨).

ويعتبر هذا النوع من الجناس أكمل أصنافه إبداعا وأعلاها رتبه وهذا الصنف من الجناس ينقسم بدوره إلى ثلاثة أنواع هي:

٥-١-١ الجناس التام المماثل:

وهو ما كان ركناه(أي لفظاه) من نوع واحد من أنواع الكلمة، بمعنى أن يكونا اسمين أوفعلين أوحرفين.

٥-١-٢ الجناس المستوفى :

وهو أحد أنواع الجناس التام، وهو ما كان ركناه أي لفظاه من نوعين مختلفين من أنواع الكلمة،كان يكون أحدهما حرفا والأخر اسما أوفعلا.

٥-١-٣ جناس التركيب: وهو ثالث أنواع الجناس التام،وهو ما كان ركيتيه (أي لفظيه)كلمة واحدة، والأخرى مركبة من كلمتين ،الجناس التام بكل أنواعه لم ير في في نهج البلاغة إلا في موضعين، لأن الأصل المعنى ، ثم الصنعة لا توخي الصنعة على حساب المعنى.

نحو قوله (ع) من خطبة واعظاً « فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَالْأَعْمَى إِلَيهَا شَاخِصٌ وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّد» (الخطبة: ١٣٣) .

فقصد بلفظة (الشاخص) الأولى الراحل الذي يشخص للسفر، كقولهم: « نحن على سفر قد أشخصنا أي حان شخوصنا» (الزمخشري، ١٩٧٩: مادة شخص).

وتعني الشاخص الثانية المرتقب المتلهف الى أمر أدهشه ف« الشاخص إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف» (ابن منظور، ١٩٥٥: مادة شخص) .

وكذلك وقع التجنيش التام في لفظة (متزود) فالأولى تعني الراحل المسافر عن الدنيا والثانية تعني الراحل اليها والقاصد لها (ابن أبي الحديد، ١٩٥٩: ٨/ ٢٧٦) .

ووقع التجنيس التام في قوله في أولياء الله: «وَاسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ وكَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلَاحَظُوا الْأَجَل » (الخطبة: ١١٤) فقد وقع التجنيس التام في لفظة(الأجل) إذ تعني الأولى المدة من الوقت وتعني الثانية (الموت) (ابن أبي الحديد، ١٩٥٩: ٧/ ٢٥٥).

٥- ١ الجناس الناقص

يسميه ابن الأثير المشبه بالتجنيس وهو« أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن والتركيب بحرف واحد»( ابن الأثير، ١٩٨٣: ١/ ٢٤٩).

وذكر الخطيب القزويني أن الحروف المتجانسين« إن اختلفا في أعدادها سمي ناقصاً»(القزويني، ١٩٣٢: ٣٩٠).

واتخذ امام (ع) من هذا التجنيس وسيلة لتقوية جرس الفاظه سالكاً في ايراده بعفوية التعبير القراني كقوله موصياً: « وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِك» (رسالة :٣١) فبين(الى) و(الهك) جناس ناقص بزيادة اكثر من حرف ويسميه السيوطي (المذيل)(السيوطي، ١٩٦٧: ٢/٢٤٤).

ومما جاء من اختلاف في الجرس في أول الكلمة قوله (ع) في وصف آل محمد(ص):«إِلَيهِمْ يفِي‏ءُ الْغَالِي وَبِهِمْ يلْحَقُ التَّالِي»(الخطبة: ٢) .

فقد تغايرالحرفان الأوليان في اللفظين المتجانسين(الغالي) و(التالي).

وفي ذلك فضل من التنغيم بين في العبارة.

ومن اختلاف وسط اللفظين المتجانسين قوله(ع) مستغفراً: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ وَسَقَطَاتِ الْأَلْفَاظ»(الخطبة: ٧٨) .

وفي آخرهما قوله: «فَإِنَّ الدُّنْيا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا»(الخطبة: ٨٣) .

ويبدوأن استعمالات هذا النوع من التجنيس كثيرة في نهج البلاغة.

فكلها تجنيسات أسبغت علي العبارة ثراء نغمياً امتزج امتزاجاً مع دلالات الفاظه.

٥- ١جناس التصحيف

ويسمى جناس الخط وهو أن يتفق اللفظان المتجانسان في شكل الحروف ويختلفان في تنقيطها(السيوطي، د.ت: ٢٥٥- ٢٥٦).

ومن مفردات عناصر التاثير هذا النوع من التجنيسات فقد وقع في كلام الامام(ع) كثيراً، نحوقوله في المتقاعسين عن استجابة أمره: «أَضْرَعَ اللَّهُ خُدُودَكُمْ وأَتْعَسَ جُدُودَكُم»( الخطبة: ٦٩) .  

فما بين (خدود) و(جدود) تماثل في رسم الحرف وتباين في وضع النقط.

ومثل هذا الجناس وقع قوله (ع) في دعواته لمحاربة الشيطان: «فَاجْعَلُوا عَلَيهِ حَدَّكُمْ وَلَهُ جِدَّكُم» (الخطبة:١٩٩) .

ويبدو الجرس عالياً في امثال هذه التركيبات الجميلة في كلام الامام (ع) بسبب توافر عناصره فيها فقد أقيمت علي أسلوب التوازن، والتوازن من أهم مظاهر الايقاع الصوتي وجيء بالتجنيس الناقص بين لفظتي (نومكم) و(يومكم) على أساس التشابه في رسم الخط لحروف اللفظتين.

ولا شك أن لكل تلك العناصر أثرها الواضح في إغناء العبارة بالجرس وتقويته إمعاناً في شد المتلقي للتأثير فيه وبلوغ المراد من الهدف الأهم من الخطابة وهو الإقناع، لأن أكثر مظاهر الجناس في كلام الإمام(ع) جاءت في فنه المسموع وهو الخطابة، وقلت في فنه المقروء وهي الرسائل.

  1. جناس التحريف

وهو تشابه اللفظين المتجانسين في رسم الحروف واختلافهما في تشكيلها (السيوطي، د.ت: ١/٢٥٦).

وهو سبيل آخر في تقوية الجرس واثراء العبارة بالايقاعات الصوتية.

ومما جاء من هذا الضرب من التجنيس في نهج البلاغةقول الامام (ع): « فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيوْمِ الْحِرْزُ وَالْجُنَّةُ وَفِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ » (الخطبة: ١٩١ ) .

فالجنة وهي ما يتقي به من درع ونحوه (ابن منظور، ١٩٥٥: مادة جنن) تماثل الجنة في الحروف ولكن تختلفان في تشكيل حرف الجيم فيهما.

ونحوهذا قول الامام(ع) في خلقة الطاووس:« فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ قُلْتَ جَنًى جُنِي مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيع» (الخطبة: ١٦٥) .

فالجني هو الثمرالذي حان قطافه (ابن منظور، ١٩٥٥: مادة جني) و(جني) فعل مبني للمفعول. 

من البين أن هذه التجنيسات كانت من آليات التنغيم في كلام الامام (ع) وأسباب تقوية جرس ألفاظه.

  1. الجناس المضارع

وهو أن يختلف اللفظان المتجانسان بحرف مقارب في المخرج سواء كان في الأول أم الوسط أم الاخر (ابن رشيق، ١٩٥٥: ١/٣٢٦؛ السكاكي، ١٩٨٣: ٤٢٩).

ولا شك أن في تقارب مخارج الحروف بين الالفاظ المتجانسة يعني إضفاء مزيد من النغم الصوتي لأن فيه تشابهاً للتجنيس التام الذي يتكرر فيه جرس اللفظ ذاته.

وهو في نهج البلاغة كثير، قال الامام(ع) من خطبة محذراً وواعظاً: « وَإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَالْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّه» (الخطبة: ٨٣) .

فكأننا أمام تجنيس تام بين لفظتي (الأرض) و(العرض) بسسبب قوة تشابه نطق حرفي الهمزة والعين فهما من حروف الحلق (ابن جني، ١٩٥٤:١/٦٩ ).

ولا نستطيع الجزمبأن قوة الجرس في ألفاظ هذه العبارة جاءت من هذا التجنيس وحده بل اشترك التوازن بين الفقرتين والجناس الناقص الآخر بين (قده) و(قيده) في اثراء العبارة بهذا الجرس العالي النغمة.

وفي مثال آخر قال الامام (ع) منتصفاً لنفسه «وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَأَعْلَاهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ وَلَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ لَمْ يكُنْ لِأَحَدٍ فِي مَهْمَزٌ وَلَا لِقَائِلٍ فِي مَغْمَزٌ» (الخطبة: ٣٧) .

فقد جاء التضارع في الحروف بين (القاف) و(العين) في لفظي(القواصف) و(العواصف) لأنهما من حروف الحلق وبين (الهاء) و(الغين) في لفظي (مهمز) و(مغمز) للسبب ذاته.

  1. جناس الاشتقاق

هو اجتماع اللفظين المتجانسين في أصل الاشتقاق،ويسمى المقتضب(السكاكي، ١٩٨٣: ٤٣٠) .

وللاشتقاق دور بارز في تقوية رنين الألفاظ، وكان هذا الأسلوب مما توافر امير المومنين(ع) في كلامه كله، وهو بعد في نهج البلاغة من أكثر أنواع الجناس وروداً، ولعل خير أمثلته ميل الامام(ع) الى التشبيهات البليغة المشتقة مصادرها من أفعالها.

ومن أمثلة هذا التجنيس خطبة الإمام(ع) في وصف المنافقين، إذ حفلت كثيراً بالجناس الاشتقاقي،كقوله

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ والزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ يتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَيفْتَنُّونَ افْتِنَاناً وَيعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ ويرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد »(الخطبة: ١٩٤) .

فقد جاءت الاشتقاقات بشكل مباشر، مشتق إثر مشتق فكثف من الجرس ومنعه من التشتت، إذ وقع مشتقان من أصل واحد في كل فقرة فالضلال أصل (الضالون المضلون).

والزلل أصل(الزالون المزلون).

واللون أصل (يتلونون ألواناً) والفتنة أصل(يفتنون افتناناً).

وكذلك القول في: (يعمدونكم بكل عماد) فأصلهما العمد.

و(يرصدونكم بكل مرصاد) وأصلهما من الرصد.

ومن كتاب الى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة الى البصرة قال(ع):

« أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي خَرَجْتُ مِنْ حَيي هَذَا إِمَّا ظَالِماً وَإِمَّا مَظْلُوماً وَإِمَّا بَاغِياً وَإِمَّا مَبْغِياً عَلَيهِ وَإِنِّي أُذَكِّرُ اللَّهَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا لَمَّا نَفَرَإِلَي فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أَعَانَنِي وَإِنْ كُنْتُ مُسِيئاً اسْتَعْتَبَنِي» (الكتاب: ٥٧).

فقد جاءت الاشتقاقات(ظالماً، مظلوماً) و(باغياً، مبغياً) وفي ذلك تكرير لمقاطع الصوت وتقوية لجرسها والامام (ع) بدأ بلفظ الظالم والباغي ابطالاً لحجة خصمه في الادعاء علي الامام(ع) بالظلم والبغي.

ويقع جناس الاشتقاق كثيراً في حكم الامام (ع) وقصار كلمة قوله :

«لَاطَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيةِ الْخَالِقِ»:( الحكمة: ١٦٥) وقوله :« مَنْ صَارَعَ الْحَقَّ صَرَعَه »(الحكمة: ٤٠٨).

وهو قاصد في كل ذلك الى إدخال هذه الموسيقى اللفظية لما لها من أثر في علوقها في الأذهان الأمر الذي يفسر بقاء حكمه عليه السلام الى اليوم لخفتها على الأسماع.

وهو بعد لا ريب قصد حتمته الوظيفة الدلالية ومدى ارتباطها بها وإلا لبان خلل توخيه واضحاً لوكان في استقصاده قهر للمعنى ولي.

وهكذا بدا أن لاسترجاع الصوت في التجنيس الاشتقاقي أثرا كبيراً في إسباغ الموسيقي على الكلام لذا كثر في استعماله استعمالا ربط الشكل بالمضمون من خلال الجرس.

٥ – ٢ الجناس المعكوس

هو تأخير اللفظ المقدم من الكلام وتقديم اللفظ المؤخر(القزويني، ١٩٨٥: ١/٣٢٩-٣٣٠).

إذن هو تكرار منتظم للألفاظ والحروف جميعاً.

ولذا يسمس المعكوس، فهو: « أن تعكس الكلام فتجعل الجزء الأخير منه ما جعلته في الجزء الأول»(العسكري، ١٩٥٢: ٢٩٣)، ووصف أثره العلوي في الكلام، بقوله: « وله في التجنيس حلاوة ويفيد الكلام رونقاً وطلاوة»(العلوي، ١٩١٤: ٢/١٩١).

ويبدو أن ابن الأثير أول من عدّ العكس جناساً أومشبهاً بالتجنيس(ابن الأثير، ١٩٨٣: ١/٣٥٦).

كان جناس العكس أحد وسائل الإمام(ع) في إحداث التنغيم، وأمثلته في نهج البلاغة كثيرة، فمما تتمثل له كتب البلاغة القديمة قول الإمام (ع) من كتاب الى عامله عبدالله بن عباس: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يكُنْ لِيفُوتَهُ وَيسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يكُنْ لِيدْرِكَه»

(الكتاب: ٢٢) .

ففي صدر كلامه أخر ما قدم في لفظة(درك) وقدم ما آخر في لفظة (فوت) مما يعني تكرارا منتظماً أحدث معه ايقاعاً تستلذه الأسماع فتنشد اليه النفوس.

وفي الحق لم يكن الإمام (ع) يقصد الى هذا الجرس في الألفاظ بقدر توخيه المعنى، فهوناتج ثانوي عما يريد الإمام(ع) إظهاره من دلالات هذا التقليب. ففي النص السابق أراد بيان حال تقلب النفس الإنسانية بين المسرة والرضا.

ويبدوأن ابن عباس أدرك هذا المعنى حين قال:« ما انتفعت بكلام بعد كلام الله تعالى مثل هذا الكلام»(ابن أبي الحديد،١٩٥٩: ١٥/ ١٤٠).

ومثل هذا قول الإمام (ع) في بيان حال تقلب الدنيا: « أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيا مَا كَانَ مُقْبِلًا وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِرا»(الخطبة: ١٨٢) .

وتبدو قوة الجرس في هذا التجنيس ممتزجة من اللفظة المعكوسة ومن الإشتقاق ايضاً.

فلفظة (أدبر) أعيدت أصواتها مشتقة بلفظة(مقبل) أعيدت بلفظة (أقبل).

فكأنه مكتنف على جناسين العكس والاشتقاق.

ولا شك أن في هذا الاسلوب الذي يستبطن التجنيسين مزيداً من التنغيم يسبغ على العبارة، نحو قوله عليه السلام: «اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً وَاسْتَدْبَرُوا مُقْبِلا»(الخطبة: ١٥٣).

وقوله: « وَيصْدَعَ شَعْباً وَيشْعَبَ صَدْعا»(الخطبة: ١٥٠).

ومثل هذا قول الامام (ع) :

« وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ حَتَّى يعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وَأَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَلَيسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَلَيقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا» (الخطبة: ١٦).

فهذا التنغيم أريد به تصوير حالة القلب والخلط التي ينذر بها من أحداث الفتنة وكان لتكرارالأصوات على هذا النحوالمعكوس أثره في إنشداد الايقاع الى مضمونه.

فقدم وأخّر ما بين ألفاظ الجمل للاشارة الى هذا التقليب.

نخلص من ذلك أن الجناس المعكوس تصوير بالجرس للمعنى قد اتخذ منه الإمام (ع) ليس وسيلة ايقاع فحسب بل أداة كشف للنفس الانسانية، قال من كتاب يصف مالك الأشتر: «فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يخَافُ وَهْنُهُ وَلَا سَقْطَتُهُ وَلَا بُطْؤُهُ عَمَّا الْإِسْرَاعُ إِلَيهِ أَحْزَمُ وَلَا إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَل»(الكتاب: ١٣) .

فقد أوجز الإمام (ع) بهذه الكلمات المعكوسة تعقيدات النفس الإنسانية من رضا وإعراض يترتب عليه البطء والإسراع في الإقبال على السلوك.

وقد يجري الامام (ع) على طبعه فيمضي الألفاظ بجرس أخف، نحوقوله:

«اتَّقُوا اللَّهَ تَقِيةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً وَجَدَّ تَشْمِيرا»(الحكمة: ٢١٠ ).

فقد كان يمكن أن يقول(وجرد تشميراً) ولكنه آثر إجراء الكلام علي مقتضي طبعه.

النتيجة :

  1. وكانت النتيجة المستخلصة من البحث كله هي أن كلام الامام علي (ع) في نهج البلاغة من أرقى نماذج النصوص البلاغية في التعبير الفني .
  2. وأنّ علي بن أبي طالب أديبٌ عظيمٌ نشأ على التمرّس بالحياة وعلى المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالكٌ ما يقتضيه الفنّ من أصالةٍ في شخصية الأديب ، ومن ثقافة خاصّة تنمو بها الشخصية وتتركزالأصالة.
  3. أن الجناس ، يشكّل الموسيقى الداخلية للنص الأدبي في  نهج البلاغة  باعتبار هذا الفن البلاغي من مُشكّلات الموسيقى الداخلية في الشعر أولاً، وفي النثر أيضاً، لكنها في الشعر تترافق مع  الوزن والقافية أو ما يسمّى بـ الموسيقى الخارجية . أما في النثر فهي تنفرد لوحدها إيقاعياً ، وهذا ممّا يزيد في أهميتها وفعاليتها.

٤ - إن الإمام (ع) اقتفى أسلوب التعبير القرآني في طللب الجرس وتقويته في ألفاظه على نحو ربط فيه المضمون بالأداء، فكان نهج البلاغة صدى حقيقياً لايقاع التعبير القرآني بسبب قدرته على تمثل المعنى القرآني الجديد وطريقة تأديته بلغة فنية جديدة، وكانت تلك السمة خصيصة تميز بها عن أهل زمانه.

قائمة المصادر والمراجع

- ابن أبي الحديد، عبد الحميد (١٩٥٩). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم، القاهرة: دار الإحياء التراث العربي.

- ابن الأثير، ضياء الدين (١٩٨٣). المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق احمد الحوفي وبدوي طبانة، الرياض: دار الرفاعي، ط٢.

- ابن المعتز، عبدالله (١٩٣٥). البديع، تحقيق كراتشوفسكي، لندن: مطبوعات جب التذكارية.

- ابن جني،عثمان (١٩٥٤). سر صناعة الإعراب، تحقيق مصطفى السقا، ومحمد الزفزاف، وابراهيم مصطفي، وعبد الله أمين، مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط١.

- ابن رشيق، الحسن (١٩٥٥). العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر، مطبعة السعادة، ط٢.

- ابن منظور، محمد بن مكرم (١٩٥٥). لسان العرب، لبنان: دار صادر.

الجرجاني، أبوبكر(١٩٥٤). أسرار البلاغة، تحقيق هلموت ريتر، اسطنبول: مطبعة وزارة المعارف، ط٢.

- الجندي، علي (١٩٥٤). فن الجناس، مصر: مطبعة الاعتماد.

- الحلي، صفي الدين(د.ت). الديوان، دار صابر.

- الزمخشري، ابوالقاسم (١٩٧٩). أساس البلاغة، بيروت: دار صادر.

- السكاكي، أبويعقوب (١٩٨٣). مفتاح العلوم، دار الكتب العلمية، بيروت: ط١.

- السلامة، ابراهيم (١٩٥٢). بلاغة أرسطوبين العرب واليونان، مطبعة مخمير، الطبعة الثانية.

- السيوطي، جلال الدين (١٩٦٧). الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم، القاهرة: مطبعة المشهد الحسيني.

- السيوطي، جلال الدين (د.ت).معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق على محمد البجاوي، دار الفكر العربي للطباعة.

- الصفدي، صلاح الدين (١٢٩٩هـ). جنان الجناس في علم البديع، قسطنطنية: مطبعة الجوائب، ط١.

- العسكري، أبوهلال (١٩٥٢). كتاب الصناعتين، تحقيق محمد علي البجاوي، ومحمد أبوالفضل ابراهيم، دار إحياء الكتب العربية.

- العلوي، يحيي بن حمزة (١٩١٤). الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم دقائق الإعجاز، تصحيح سيد بن علي المرصفي، مصر: مطبعة المقتطف.

- القاضي الجرجاني،علي بن عبد العزيز(١٩٥١). الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم وعلي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ط ٣.

- القزويني، جلال الدين (١٩٣٢). التلخيص في علوم البلاغة، ضبطه وشرحه عبد الرحمن البرقوقي، القاهرة: المكتبة التجارية.

- القزويني، جلال الدين (١٩٨٥). الإيضاح في علوم البلاغة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١.

****************************