المقدمة
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على أشرف الخلق، وأعز المرسلين سيدنا محمد وآله الطاهرين
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ...﴾[١].
إن أكثر ما تنطبق عليه هذه الآية من الكلم الطيب بعد القرآن نهج البلاغة إذ هو الكلم الطيب الصادر من نبع الطيب والطهارة...
فهو الكتاب الذي يضم مما بقي من خطب ورسائل وحكم أميرالمؤمنين عليه السلام رغم منع المانعين المتسلطين لرواية أي شيء عنه عليه السلامأو في حقه... فهو ثابت ام تزله عداوة الأعداء وتصرفات المغرضين.
وهو الكتاب الذي يخرج من دنيا معاناة الإمام علي عليه السلام وتجربته ومن حكمة صدره ليسمو فوق الكتب والكلمات ويرسل أريج وعبق زهره في سماء البلاغة والفصاحة والفكر الإنساني والعرفان...الخ.
وهو الكتاب الذي كلما جد في الزمان جديد رأيت الناس أحوج إلى وروده ليرشدهم من ضياع ويهديهم من ضلال ويؤنسهم من وحشة ويبرد غليلهم من صدى.
إن الوارد إلى نهج البلاغة إنما يرد إلى بحر لامس حدود الانهاية فهو لا يرجع عن مائدة الكرم العلوي خالي الوفاض فارغ الجمعية ولكن أيضا يعود عنه بما استطاع أن يعب منه وأنىَ لوعاء أن يتسع للبحر الخضم.
وإذ تضع جمعية المعارف بين يدي عشاق نهج البلاغة وأميرها هذا البحث ترجو الله أن يوفقها للمزيد من أمثال هذا البحث القيم وتعدبالعمل على ذلك ما أمكنت الفرض.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
جمعية المعارف الإسلامية
نظرة عامة على نهج البلاغة
معرفة "نهج البلاغة"
يضم كتاب "نهج البلاغة" القيَم والفريد مجموعة من خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وكلماته النبرة التي دوَنها وأعدها بطريقة فنية رائعة العلامة الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه في ثلاثة أبواب على النحو الآتي:
- الباب الأول- يضم الخطب التي ألقاها الإمام عليه السلام ، وهي في "نهج البلاغة"٢٣٩ خطبة.
- الباب الثاني- الرسائل التي بعثها الإمام عليه السلام الى الأصدقاء والأعداء والقادة العسكريين والولاة وسائر مسؤولي الدولة، وتسمى الكتب أيضا ، ومجموعها في هذا الكتاب ٧٩ رسالة.
-الباب الثالث- ويحوي الكلمات القصار أو العبارات الرائعة المليئة بالحكم والتي اشتهرت باسم "قصار الحكم" أيضا ، وهي ٤٨٠ كلمة.
وهو قد ألقى معظم هذه الخطب والكلمات القصار أي الحكم وما بعث به من الرسائل إبَان فترة توليه الحكم والخلافة. وهي تتعلق بالشؤون السياسية والإجتماعية والعسكرية المهمة للدولة الإسلامية ، لذا فإن البحث فيها ودراستها يؤديان دوراً حساساً في تقرير مصيرالمجتمعات الإسلامية.
لذا فإن في البحث فيها ودراستها يؤديان دوراً حساساً في تقرير مصير المجتمعات الإسلامية.
في الأزمنة الغابرة كانوا يسمعون الأحاديث القيَمة والرائعة التي تلقى على الناس ب"الخطب" وكانوا يسمعون المتحدث المقتدر "خطيباً"، فقد كانت الخطابة لونا" من ألوان الفن والقدرة العقلية والعلمية والسياسية التي يتمتع بها الخطيب. وفي كتاب "نهج البلاغة" وردت الخطب تحت عنوان باب الخطب أو باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام ويمكننا أن نحصر فترة إلقاء خطب الإمام عليه السلام بالمراحل الآتية:
أ- الفترة التي سبقت خلافته وتوليه الحكم.
ب- فترة معركة الخلافة.
ج- خلال فترة حكمه التي التي دامت خمسة أعوام.
إن حكم الإمام يعود إيرادها إلى هذه المراحل الثلاث أيضاً، أما الرسائل الواردة في "نهج البلاغة" فهي تختص بفترة حكم الإمام عليه السلام التي دامت خمسة أعوام، وهي تحتوي على أساليب الحكم والإدارة في الإسلام.
اسم "نهج البلاغة" الجميل:
لا شك أن مواضيع "نهج البلاغة" القيَمة والثمينة يستحيل حصرها بعصر معين وزمن خاص ولا يمكن وضعها في إطار بعض العناوين والفهارس المعروفة، لأن خطب الإمام عليه السلام ورسائله وكثيرا من كلماته الحكيمة القيت في فترة حكم هذا الرجل التاريخي العظيم، وأثناء تجسيد المجتمع الإسلامي عملياً. لذا فما دام الإنسان باقياً وما دامت الحياة الإجتماعية قائمة، فإن "نهج البلاغة" سيبقى حياً وخالداً، وسيظل يقدم الحلول الأساس النيَرة لينقذ البشرية من كل أشكال الضلال والضياع ومع أن الشريف الرضي رحمة الله عليه أسمى مجموع الخطب والرسائل والكلمات الحكيمة القصار للإمام باسم "نهج البلاغة" فإن استعراضا" قصيراً للمعارف السامية الكامنة فيه يدلنا على أن هذا المصنف يمكن وصفه بأسماء قيَمة أخرى أيضا" مثل: نهج السعادة، نهج الفصاحة، نهج الخطابة، نهج السياسة، نهج الحياة، نهج الحكومة، نهج الفلاح، نهج السلامة.
لقد نظر مؤلف"نهج البلاغة" الشريف الرضي إلى أحاديث الإمام من ناحية الفن البلاغي، وانطلاقاً من هذه النظرة انبرى لجمع كلمات الإمام النيرة، وبإمكان سائر الباحثين ملاحظة جوانبها الأخرى وعرف كل الأبعاد القيَمة لأحاديث الإمام عليه السلام واستخراجها. لكي يلبوا بذلك كل حاجات المجتمع العملية والفكرية والسياسية والعقائدية.
وقد ذكر الإمام علي عليه السلام، انطلقاً من الحاجات الرئيسية للمجتمع الإسلامي، وحاجات الناس المادية والمعنوية، حقائق كثيرة لا ترتبط بعصر معين وزمن خاص، ولا تختص بجيل دون غيره، ولا بمجتمع معين، بل هي قابلة أن ينتفع بها دوماً المجتمعات البشرية، فالباحثون والمحققون المواظبون على السعي قادرون في كل عصر وزمان على العوم والغوص بكل الوسائل والأدوات اللازمة في معارف نهج البلاغة وعلومه، ليلبوا بذلك حاجات المتعطشين إلى الحقيقة من بني البشر وقد شهدنا طوال القرون الأربعة عشر الماضية كيف استفاد كل العلماء والباحثين بمختلف قابلياتهم واختصاصاتهم من الإستضاءة بالأحاديث النيَّرة للإمام علي عليه السلام.
كيف حفظت أقوال الإمام عليه السلام ودوَنت؟:
يسألون :"كيف حفظت أقوال الإمام علي عليه السلام وجمعت ودوَنت؟:". ويريدون أن يعلموا كيف دوَنوا خطب الإمام علي عليه السلام في تلك الأيام الأولى لبزوغ الإسلام حيث لم يكن ما نشاهده اليوم من الأجهزة الإلكترونية المتطورة، ولم تكن هناك إذاعة ولا تلفزيون ولا صحف أخبارية؟ وكيف سجَلوها وضبطوها ونقلوها إلى الأجيال التالية؟ وللإجابة عن مثل هذه الأسئلة، لا بد من مراجعة تاريخ الشعوب المدوَن وتاريخ صدور الإسلام وطرق الحفاظ على المؤلفات الثقافية في الماضي، وأنظمة الإتصالات في العصور التاريخية الغابرة، حيث كان يعتمد في تلك الأزمنة على قوَة الذاكرة وتدوين الكتَاب المهرة بدل الأجهزة المتطورة التي نشاهدها اليوم، وبذلك كانوا يحافظون على أثارهم الثقافية بالشكل المطلوب.
وهذه الحقيقة قائمة أيضاً فيما يخص كيفية الحفاظ على القرآن الكريم و"نهج البلاغة" وتدوينهما.
في الفترة التي سبقت حكم الإمام كان أبناؤه وبعض أصحابه وجماعة من الناس يقومون بتدوين أقواله القيًمة وحفظها والمحافظة عليها. أما في فتلرة حكم الإمام التي دامت خمسة أعوام فقد برزت لذلك إمكانات ووسائل كثيرة إذ:
١- كان ستة آلاف من أصحاب الإمام عليه السلام يعملون دوماً وفي كل مكان كتلاميذ صف دراسي متناسق في سماع أحاديث الإمام وحفظها ونشرها في أرجاء مجتمع ذلك الزمان[٢].
٢- كانت جماعة من "الكتًاب" المقتدرين والمهرة تجلس في كل مكان إلى أحاديث الإمام وتدونها مثل الحارث الأعور[٣].
٣- كان عدد من "الحفاظ" قد اجتمعوا في تلك الأيام ليعملو بدل أجهزة التسجيل والتصوير التي نراها اليوم لحفظ أحاديث الإمام حيثما ألقاها ثم نقلها إلى المجتمع.
٤- كانت رسائل الإمام تحفظ في مركز الخلافة ولدى الولاة والموظفين أيضاً، وحتى الرسائل التي بعثها الإمام إلى أعدائه من أمثال معاوية وعمرو بن العاص، فإن هؤلاء لم يضيعوا مثل هذه الآثار القيَمةبل سعوا من أجل المحافظة عليها.
٥- كتب بعض تلاميذ الإمام عليه السلام، مثل زيد بن وهب وغيره، عدداًمن خطب الإمام في عهده وجعلوها على هيئة كتاب نشروه بين الناس تحت عنوان خطب أمير المؤمنين ، وهذا يعني أن جمع أقوال الإمام وتدوينها جرى على أيدي تلاميذه قبل الشريف الرضي رحمة الله عليه بمئات السنين[٤].
وللإمام علي عليه السلام مئات الخطب وعشرات الرسائل وألاف الحكم،ومما بعث على بالغ الأسى والأسف أن جزءاً قليلاً من كل تلك الإرشادات القيًمة قد بلغ جيلنا وعصرنا ، وأن الجزء الأعظم من آثار الإمام عليه السلام قد تلف أو فقد في الحروب التي وقعت بين المسلمين أو بمؤتمرات المستعمرين، أو بإحراق الكتب على أيدي عملاء الإستعمار، أو بنيران التعصب والتجرؤ لدى بعض الفرق الجاهلة، ونهب المخطوطات الإسلامية، فلم يبق لقلوبنا الحزينة سوى الحسرة والألم على فقدان هذه الثروة الهائلة.
فقد دوًنت في "نهج البلاغة" ٢٣٩ خطبة بينما خطب الإمام وأحاديثه أكثر من ذلك، فقد كتب المؤرخ الشهير المسعودي الذي عاش قبل الشريف الرضي بمائة عام أن الناس حفظوا أكثر من أربعمئة وثمانين خطبة للإمام علي عليه السلام[٥].
مشاكل واجهت جمع أقوال الإمام علي عليه السلام:
أول سؤال يتبادر إلى ذهن كل باحث هو: إذا كانت أحاديث الإمام علي عليه السلام بهذه العظمة وبهذه القيم السامية، فلماذا لم يفكر المجتمع الإسلامي بتدوينها قبل الشريف الرضي رحمة الله عليه ؟
ولماذا لم يدرك أي عالم أو باحث هذه الحقيقة طوال أربعمئة عام فيقوم بتحرك بنًاء يستفيد منه عامة الناس؟
ولماذا بقي الناس محرومين طوال أربعة قرون من بركة كتاب كنهج البلاغة؟ فكانوا لا يحصلون على بعض إرشادات الإمام إلا بعد كثير من المشاكل والمتاعب؟
ما هو السبب الرئيس لكل ذلك؟ وأين ينبغي لنا أن نتفحص جذورهذا العجز وهذا النقص؟
إن دراسة بسيطة للفترة التاريخية الأليمة والدامية التي دامت أربعة قرون بعد شهادة الإمام أي حتى عام ٤٠٠ للهجرة توضح إلى حد ما الإجابة عن هذه الأسئلة، إذ أن الشيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام واجهوا في تلك الفترة الأليمة والدامية الكثير من المشاكل والصعاب، فكانوا عاجزين عن عرض آثار الإمام علي عليه السلام بحرية في مجتمع ذلك اليوم، لذلك لجأوا إلى طرق مختلفة على النحو الآتي:
١- كان الشيعة يخفون الكتب الروائية والآثار العلوية خوفاً.
٢- كانوا في كثير من الأحيان يدفنون الؤلفات الثقافية تحت تلال من التراب.
٣- كان الشيعة لا يجرأون على التحدث عن هذه الأمور.
٤- كان كثير من حفًاظ أقوال الإمام عليه السلام ينكرون ذلك.
٥- كان علماء الشيعة يلجأون إلى التستر والتخفي لكي يحافظواعلى أرواحهم.
واستمرت غربة الشيعة السياسية وهجرة علماء الإسلام المؤلمة وحرمان أتباع الإمام علي عليه السلام من حقوقهم حتى القرن الرابعالهجري، فلم تسنح لعشاق أقوال الإمام وحفًاظها فرصة لنشرها وعرضها على الناس.
أما في القرن الهجري الرابع فقد طرأت تحولات كبيرة على البلدان الإسلامية، فمارس الشيعة وضعاً سياسياً جديداً، وأمسكوا بالحكم والسلطة فنجحوا في إحتلال مواقع مرموقة أتاحت لهم فرصة تدوين "نهج البلاغة".
فلنجاح الشريف الرضي أسباب وعوامل مختلفة تعود كلها إلى التحولات الساسية والثقافية التي ظهرت في القرن الهجري الرابع.
فقد ولد الشريف الرضي عام ٣٥٩ﻫ وانتهى تأليف "نهج البلاغة" وتدوينه عام ٤٠٠ﻫ ، ولكي نزداد إطلاعاً على تلك الظروف الملائمة، حري بنا أن نسلط مزيداً من الضوء على التحولات المهمة التي طرأت خلال القرن الهجري الرابع، إذ:
١- تغيرت أوضاع الشيعة الإجتماعية والسياسية وتمكنوا من الوقوف على أقدامهم شيئاً فشيئاً.
٢- أمسك علماء الشيعة بزعامة الناس في أعلى صورة ممكنة.
٣- بدأت تحركات واسعة نحو تأسيس الحوزات العلمية.
٤- إجتمع من أرجاء البلدان الإسلامية علماء كثيرون في حوزات لشيعة العلمية، وتولوا مسؤولية تعليم طلاب العلوم الإسلامية.
٥- تحول القرن الرابع الهجري إلى قرن تأليف الكتب الإسلامية وترجمتها وتدوينها.
٦- أمسك الشيعة بالحكم في بعض البلدان، وصار لهم في بلدان أخرى حضور فعّال ونشط في جهاز الحكم وقيادة المجتمع.
روائع "نهج البلاغة":
إن أحاديث "نهج البلاغة" صادرة من إمام معصوم عليه السلام قال:
"... وإنًا لأ‘مراء‘ الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه‘"[٦].
ويقول الشريفة الرضي، وهو من علماء القرن الهجري الرابع وأدبائه وفقهائه، وهو جامع أقوال الإمام في كتاب "نهج البلاغة": "...علما" بأن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب: إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أ‘خذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قاتلِ خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا"[٧]
ومما قاله العالم المسيحي الأستاذ أمين نخلة أن من شاء أن يعالج أمراضه النفسية فليطلع على ما قاله الإمام علي عليه السلام في "نهج البلاغة" ليتعلم تحت أنوار هذا الكتاب القيم كيف يحيا[٨].
وكان أحدهم قد طلب منه أن يختار له من "نهج البلاغة" مئة كلمة من خير ما فيه، فرد عليه قائلاً ما خلاصته: إن ما في "نهج البلاغة" من عظمة الأفكار وسموا الآراء ما يحار معه المرء فيما يأخذ وما يترك، وأنا الذي أعجز حتى عن تفضيل كلمة واحدة على أخرى...[٩].
كما أن أحد علماء أهل السنة، الأستاذ حسين نائل المرصفي، أستاذ البلاغة في كلية دار العلوم بمصر، والأستاذ في الأزهر الشريف،يقول عن "نهج البلاغة" ما خلاصته:"نهج البلاغة" كتاب جعله الله تعالى دليلاً ناصعاً على أن الإمام علي عليه السلام خير شاهد حي على أنه النور القرآني الهادي وحكمته وعلمه وهدايته وإعجازه وفصاحته المتجلية في هذا الكتاب السماوي.
إن ما في هذا الكتاب من دلائل الحكمة القيمة، والقوانين السياسية السلمية، والنصائح الواضحة الهادية، والبراهين الناطقة المكينة للإمام علي عليه السلام لهي الدليل القاطع على سمو الفضيلة العصية على التصور، والتي تمتع بها خير إمام بحق، مما لم يستطع أن يأتي بنظيره أي من الحكماء العظام والفلاسفة الكبار على مدى الدهر...[١٠].
الحق والباطل في نهج البلاغة
تمهيد:
يرغب كل امرىء في معرفة الحق من الباطل والإطلاع على الحقيقة وتطبيقها على نفسه ومجتمعه.والجميع يودون نصرة الحق، وهم يدعون ذلك أيضاً.
وكل يقول: إن عملي، أو عملنا، ومواقفنا، وأسلوبنا في الحكم، ونمط حياتنا، ونظامنا الفكري والعقائدي، وسلمنا وحربنا، وعلاقاتنا الداخلية والخارجية... كلها على حق!
وكل منا يسعى لإظهار نفسه أنه على حق، وهذه الحالة النفسية من الأساليب والحيل المعروفة عند الإنسان التسويفي، إذ يدعي كل من الظالم والمظلوم، والمستعمر والمستعمر، والمعتدي والمعتدى عليه، بأنه على حق، ويحاول تبرئة نفسه من الباطل، وإلباس أعماله بلباس الحقيقة، ويزعم أن الحق معه، وأن له الحق في أن يفعل هذا الشيء أو ذاك.
إذن، ينبغي قبل كل شيء تعريف الحق والباطل ومعرفتهما. وبعد معرفة الحق والباطل، نستطيع أن نميز بين أنصار الحق الحقيقيين ومن يدّعونه كذباً وزوراً، فلا تنطلي علينا أحابيل أهل الباطل، ونميز الحق وقول الحق وسبيل الحق عن الباطل ومن يتبعه.
وهذا النوع من البحوث نافع وضروري جداً لجيل الشباب، وذلك لدفعه نحو "النظرة الواقعية" و "التفكير الواقعي" لكي يعرف الحق والحقيقة، ويطلع على سبيل النضج والتكامل، فيساهم بنجاح في صنع مستقبل المجتمع الإسلامي.
قال الإمام علي عليه السلام:
"رحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"[١١].
تعريف الحق والباطل:
أ-الحق ما كان موجوداً مثل "القوانين المسيطرة على نظام الخلقة و...". والباطل ما ليس موجوداً بل يزعمون حوله وزاعم كاذبة.
ب-ان ما هو موجود ولا بد أن يكون وجوداً مثل "العدالة والنظام العام" هو الحق، وأن ما هو وجود ويجب ألا يكون له وجود، مثل "الظلم والجور، والإنحرافات الخلقية، والإعتداءات البشرية، والمزاعم الكاذبة و..." هو الباطل.
إذن فالتعريف الكامل للحق يكمن في عبارتين:
١- أن يكون له وجود
٢- ويجب أن يكون له وجود.
إذ لو كان أساس معرفة الحق "وجوه" فحسب، لشمل ذلك كثيراًمن مصاديق الباطل الموجودة، ولكننا إذا ربطنا العبارتين السبقتين انتفى كل باطل.
إذن فالباطل أو غير الحق هو:
أ- أن يقال كذباً أن شيئاً ما موجود دون أن يكون له وجود.
ب- يجب أن لا يكون موجوداً حتى إن وجد في مكان ما.
ولا بد من التذكير بأن الأساس في الوجوب، وعدم الوجوب، قد حدده الله خالق الإنسان وأبلغه إلى البشرية عن طريق الوحي والقرآن.
قال الإمام علي عليه السلام:
"كتاب ربكم فيكم مبيناً حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله"[١٢].