وقال (عليه السلام): الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، ولَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْم، وَطَالِبُ دُنْيَا.                
وقال (عليه السلام): أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَخَفَّ بِهِ صَاحِبُهُ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): زُهْدُكَ فِي رَاغِب فِيكَ نُقْصَانُ حَظّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِد فِيكَ ذُلُّ نَفْس.                
وقال (عليه السلام): أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الاْخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ .                

Search form

إرسال الی صدیق
الحكمة في فكر نهج البلاغة - الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة حول شخصية أمير المؤمنين علي(ع)
لا شك بأن الحديث عن شخصية فذة في حجم شخصية أمير المؤمنين الإمام علي(ع) قد يوقعنا في ما يشبه الحيرة والارتباك الشديدين، خاصة عندما نحاول الاقتراب عملياً وليس نظرياً فقط من العالم الذاتي الداخلي لهذه الشخصية الفريدة لنفهمها ونعيها ونتأسى بقيمها وأخلاقيتها الإنسانية السامية.. وبمعنى آخر: لنحولها إلى كائن حي ملموس في سلوكنا وممارساتنا وأفعالنا الحياتية، أي أن نحاول الاستنارة والاستهداء بها، والعمل بآفاقها على مستوى التطبيق العملي من خلال ما امتاز به علي(ع) من خلقيات وشمائل وفضائل ذاتية وأخرى موضوعية على صعيد الحكم الممتدة والمتسعة برحابة الوجود الإنساني كله.. والتي لم تتمكن أية شخصية في التاريخ الإنساني كله من أن تبلغ مبلغ هذا الإمام الكبير، أو تتجاوزه في حجم الروح الكبيرة وعظمة المبادئ والخصال النفسية الرفيعة سوى حبيب علي ورفيقه وسيده وقدوته رسول الله محمد(ص).. الذي وصفه الله تعالى بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم"..

والذي كان يجسد نموذج الإنسان الكامل أسوة علي(ع) في الأخلاق والممارسة..
والحديث عن علي هو حديث عن جانب مشرق وبهي من هذا التاريخ الذي عرفناه بأعمال وأفكار وقيم وحكم الرسول(ص) والإمام علي(ع) وباقي الأئمة الكرام، وهو حديث نحاول فيه أن نثير حركية التفكير الموضوعي في محاولةٍ لاكتشاف طبيعة هذه التجربة الحيّة الغنية من خلال استنطاق مفردات النص في حركة الواقع الإسلامي ككل، ولاسيّما في وعي الإمام علي(ع) ـ الذي نتحدث عنه في هذه الدراسة ـ في تجربته الإنسانية المعطاءة والغنية الرائدة، أو للانفتاح على الدلالات الموحية في المعنى الذي يختزنه النصّ كقاعدةٍ فكريّةٍ مفتوحة على كل مواقع الحكم في المسيرة الإسلامية الطويلة الممتدة في ساحات الفكر والواقع.
ونحن عندما قلنا بأننا نعيش حالة من الحيرة عندما نتحدث عن هذا الإمام العظيم، فإن الحيرة –حقيقةً- ليس لها أية دوافع أو أسباب ذاتية، بل علتها وسببها كائن في عدم وجود سفينة يمكن أن تقلنا للإبحار في محيط بحر هذا الإمام العظيم المتسع والمتلاطم الأمواج.. ولكننا مع ذلك سنحاول في هذا المبحث تلمّس بعض الأفكار والمعارف التي نطق بها ومارسها(ع)، مع الوقوف عند بعض الحكم العملية (ودراستها ووعيها ومحاولة إعادة دراستها على ضوء معطياتنا الراهنة وآفاقنا الحاضرة) التي قالها وطبقها هذا الإمام العظيم الذي "أخفى مبغضوه فضائله طمعاً، وأخفاها محبوه خوفاً، فظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين"..

مع علي منذ بداية عهد الرسالة
ولد الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) في مكَّة المكرّمة في البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل. أبوه أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
بقي عليّ(ع) في رعاية أمّه إلى أن بلغ الثامنة من عمره، واتفق في ذلك الوقت أن أصابت قريشاً أزمة شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها شديداً على أبي طالب، لأنَّه كان كثير العيال، وفي قلّةٍ من المال لا يفي بنفقة رجل مثله، فقال محمَّد(ص) لعميه الحمزة والعباس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟ فجاؤوا إليه وسألوه أن يسلّمهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم. فأخذ العباس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ محمَّد(ص) عليّاً.

وجاء عنه أنَّه قال: لقد اخترت من اختاره الله لي عليكم، وكان عليّ يوم ذاك في الثامنة أو السادسة من عمره، وظلّ معه في رعايته يرعاه وينفق عليه ويتعهَّده بالتعليم والتوجيه، ويبثّ في روحه دقائق الحكمة وأسرار الكون والمعرفة، حتَّى أدرك من الحقائق ما لـم يدركه بعد رسول الله(ص) أحدٌ غيره، ولـم تكن فيه صفة إلاَّ وهي مشدودة إلى صفة من صفات النبيّ(ص).
وكان النبي محمد(ص) قبل البعثة يتأمّل في آفاق الله وآفاق الكون، وينفتح في ذلك على الله قبل تبلغه الرِّسالة، وكان يُشرك عليّاً في أجواء ومناخات هذه التأمّلات، ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميّزت شخصيته، فكان رسول الله الصَّادق الأمين، وربّى عليّاً على أن يكون الصَّادق الأمين. وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق(ع)، عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلّمني شيئاً أبلغ به المنـزلة العليا عندك، قال: "انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنـزلة عند رسول الله فافعله، فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغ لأنَّه كان الصَّادق الأمين".
كان صدقه(ع) هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة... وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنَّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثِّل أمانة الله عنده، في علاقته بكلِّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلِّ المراحل التي عاشها، وفي كلّ المواقع التي تحرّك فيها. ذلك هو عليّ(ع) الذي عاش مع اللّه سبحانه، حتَّى إذا بُعث رسول الله (ص)، دعاه إلى الإسلام، فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره.
ويذكر بعض المؤرخين، أنَّ عليّاً(ع) كان أوَّل من أسلم من الصبيان، يريدون من ذلك أن يوحوا بأنَّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبي. ولكن رسول الله(ص) عندما دعاه، كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاَّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟..
وهكذا عندما انطلق الإمام(ع) في حياته العملية، والتي لم يسجد فيها إلا لله عز وجل، كان متفرداً في كل شيء، وكان يمتلك روحاً كبيرة وثّابة منطلقة، كما كان(ع) يستصغر كل من حوله أمام الله، ولهذا لم يكن يخشى أو يخاف من أحد سوى ربه، لأنّ محبة الله قد شغلته عما عداه من أعمال وسلوكيات، ولأنّ شعوره بعظمة الله جعله ينشغل عن النظر في عظمة الآخرين. ولذلك كان يقول ويؤكد بأنه "ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله معه وقبله وبعده".. وأنه "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً".
ومنذ بداية تفتحه على الحياة والوجود، أراد ابن عمه رسول الله(ص) أن يتعرف المسلمون على عمق المعرفة عند علي(ع)، وسعة العلم والمعرفة الحقّة لديه، وعن مواهبه وقدراته السلوكية الفريدة التي نحتتها تعاليم ومبادئ الإسلام العظيم.. حيث كان يقول لهم: "أنا مدينةُ العلْم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها".. ذلك لأنّ علياً(ع) عاش علم رسول الله كله، ومن ثَمَّ كان الوحيد من بين الصحابة الذي لم يُسأل عن مسألة أو قضية ما إلاّ وأجاب عنها بكل ثقة ووعي وإيمان.
وكان الوحيد الذي لم يحتج أن يسأل أحداً عن مسألة أو قضية تبحث عن حل، بل كان المرجع الذي يرجع إليه الصحابة في كلٍّ أمورهم الدينية والدنيوية.. حتى قيل للخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ "سيبويه" في النحو ومخترع علم العروض ومؤلف أول قاموس في اللغة العربية، قيل له: لم آثرت أو فضلت علياً(ع) على غيره؟
وكان الخليل يلتزم ولاية الإمام علي(ع).. فقال: "إن احتياج الكل إليه (أي لم نجد أحداً لم يحتج لعلي) واستغناؤه عن الكل (لم نجد علياً محتاجاً لأحد) فذلك دليل على أنه إمام الكل".
طبعاً لم تكن كلمات رسول الله(ص) التي قالها في حق علي ومنها قوله المذكور أعلاه "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وقوله "علي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" وقوله "علي مع القرآن والقرآن مع علي.. اللهم أدر الحق معه كيفما دار".. الخ.. لم تكن عنواناً تشريفياً وخصوصية للذات، بل هي عنوان المسؤولية في الدور من خلال خطِّ الحاكمية في حركة الحاكم في الإسلام.. كما لم تكن واردة أو منطلقة على أساس وجود علاقة حالةٍ ذاتية عاطفيّة، بل كانت منطلقة من موقع إظهار آفاق تلميذه الذي تلمَّذ عليه في كلِّ شيء، فكان عليّ(ع) من رسول الله بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعده كما جاء في الحديث.
وقد جاء عن عليّ(ع): "علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم ينفتح لي من كلِّ باب ألف باب"، فكان(ع) يعتز بأنه تلميذ رسول الله وتلميذ القرآن الكريم، ولهذا كانت حياته كلّها قرآناً يتحرّك في كلِّ خطوة من خطواته. وكان(ع) يعيش الإسلام بكلّ صفائه ونقائه وحركته وانفتاحه، وكان يواجه الحياة على أساس أنّ الإسلام لم يترك في نفس المسلم أيّ فراغٍ يمكن لشيء آخر أن يملأه، وذلك ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:٣٨). كما لم تكن تلك العلاقة بين الرسول والإمام أيضاً منطلقة من وجود وشائج قربى بينهما، بل كانت مبنية على قاعدة صلبة هي قاعدة الرسالة وقاعدة القرآن الكريم الذي كان أيضاً هو الأساس البنائي الأول لها، وكان أُسّها اختيار الحاكم الخليفة بعد رسول الله(ص).. وهذا الاختيار كان مبنياً على: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(المائدة:٦٧).
حيث وقف النبي(ص) ليبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، ليضمن للرسالة معنى الثبات والامتداد والاستمرارية في معنى الفكر الذي يحمل كل فكر الرسالة في مواقع القمة، وفي عمق الروح التي تعيش روحية الرسالة في عمق الحب لله والإخلاص له، وفي قوّة الحركة، في صلابة الإرادة وشجاعة الموقف وانفتاح القرار على المسؤوليَّة كلِّها.
وبقدوم علي(ع) إلى مواقع الفكر والعمل، وبالحجم والتأثير النوعي الكبير له في حركة التاريخ العربي والإسلامي، شعت أنوار العلم والمعرفة والهداية والحكم العملية التي تجسدت في كل ممارساته وأساليب إداراته للمجتمع والدولة التي حكمها خلال فترة وجيزة لم تتجاوز السنوات الخمس، وقد كان(ع) رجل دولة بامتياز حتى عندما كان خارج الحكم (أي وهو في صفوف المعارضة البناءة) كنت تراه يشارك في بناء الدولة واستقرار الحكم وتطور المجتمع.. هذا ما كان خلال فترات حكم الخلفاء الأوائل ابتداءاً من أبي بكر وانتهاء بعثمان بن عفان.. حيث رأيناه ناصحاً وناقداً ومرشداً وهادياً ومسدداً للرأي أو ناقداً له، ومشاركاً بالحكم ـ بصورة غير مباشرة ـ من خلال آرائه وأفكاره ومعارفه حول السياسة والمجتمع والحكم والقيادة والفتوحات وغيرها..
وكان(ع) يسالم عندما يرى أنّ قضايا المسلمين تفرض عليه أن يسالم، ويحارب عندما يرى أنّ حياة المسلمين ومصلحة الإسلام تفرض عليه أن يحارب، أي كانت حربه كانت منطلقة في طريق الله بهدف نيل رضاه، وكان سلمه متحركاً في طريق الله أيضاً.. ولذلك رأيناه يقول بعد ما حدث من تحولات وتغيرات في المجتمع الإسلامي الوليد خلال الفترة التي أعقبت رحيل الرسول(ص): "والله لأسلمن (لأسالمن) ما سلمت أمور المسلمين، ولو لم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة".. إنه يريد أن يحافظ على وحدة الصف الإسلامي، ووحدة المسلمين في مواجهة صعوبات وتحديات نشر الإسلام، ورعاية بيضة الدين، والحفاظ على عوده الذي لا يزال غضاً طرياً يحتاج للرعاية والسقاية كما المولود الصغير في بداية تفتحه على الحياة.. ولذلك فهو(ع) لم يكن يريد أن يفسح في المجال أمام المصطادين في الماء العكر ـ وما أكثرهم في كل عصر ودهر ـ لإثارة الفتن والمشاكل والأزمات التي ستعطل حتماً انتشار واتساع رقعة هذا الدين العظيم إلى الآفاق الكونية كلها.. وهو ـ وإن كان يشعر بينه وبين نفسه بأحقيته للحكم والقيادة والرئاسة واستلام مقاليد رئاسة الدولة ودفة الحكم الإسلامي ـ لكنه رفض أن يأتي إلى موقع القيادة مع وجود مناخ الفتنة والانقسام الحاصل بين صفوف المسلمين، وعدم قدرة الكثيرين على التمييز بين الحق والباطل، واشتباه الأمور على الناس.. ولهذا تنحى جانباً عن موقع القيادة الفعلية العملية، مع بقائه إماماً للقلوب والعقول، ووافق على أن يكون جندياً في جيش هذه الدولة الفتية، خادماً للإسلام والمسلمين في أي موقع كان..
طبعاً لا بد أن نلاحظ هنا بأنه وعلى الرغم من ذلك كله فقد بقي الإمام يثير قضية الحكم وأحقيتة في خلافة الرسول(ص) في مدى الفترة التي عاشها قبل خلافته وفي أثنائها بأساليب متنوعة متعددة على أساس النص، وعلى أساس الكفاءة، ومن خلال الخلل في الموقف الآخر، وكان لا ينطلق في ذلك من عقدة الذات التي تبحث عن موقع، لتؤكد موقعها بالدفاع عن الحق الذي تملكه فيه، بل كان ينطلق من المبدأ في الانفتاح على قضية الحكم في شخصية الحاكم، وعلى رسالة الحاكم في خطِّ حكمه، ولذلك كانت المسألة لديه أن يقيم الحق ويدفع الباطل، كما جاء في حديثه مع ابن عباس، وهو يحدثه عن النعل التي كان يخصفها بنفسه، وهو خليفة: "إنها أعظم عندي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً".(من محاضرة للعلامة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، ألقاها بمناسبة ولادة الإمام علي(ع) بتاريخ ٢٣-٣-١٩٨٦م. موقع بينات على شبكة الانترنت).
والواضح أمامنا هنا إن الإمام أمير المؤمنين (ع) استطاع ـ بوعيه الإسلامي العميق المنفتح الحريص على الإسلام الرسالي ـ أن يعي ويدرك عملياً أن على المسلمين أن يتحركوا في خلافاتهم بناءً على الطريقة القرآنية التي تمثِّل المنهج الموضوعي، الذي يجعل الفكرة في مواجهة الفكرة، ويحوّل الخلاف إلى تنافس في الوصول إلى الحق من خلال الأسس التي يرتكز عليها الحق، أي بأدوات الحجة والبرهان، ليكون الجدال بالتي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، وليقول الناس كلهم الكلمة التي هي أحسن، فذلك هو السبيل للتفاهم.
وفي هذا الجو، يمكن لهم أن يطرحوا كل وجهات النظر التي تختلف فيها الأفكار، من دون أن يخافوا الوقوع في سلبيات العداوة والبغضاء والتقاتل، فلا تبقى هناك حقيقة غامضة، ولا قناعة قلقة، بل كل ما هناك الوضوح والثبات والانفتاح على الإسلام كله. وهذا هو النهج الذي أراد للناس أن ينتهجوه في حياتهم لاحقاً، ليكون كل همّهم وطموحهم إطفاء الباطل وإحياء الحق، لا بلوغ لذة أو شفاء غيظ، كما جاء في كتابه لابن عباس: "أمّا بعد، فإنَّ المرء ليفرحُ بالشيء الذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشيء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في دنياك بلوغ لذّة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطلٍ وإحياء حق، وليكن سرورك في ما قدّمت وأسفك على ما خلَّفت، وهمّك في ما بعد الموت".
ولا عجب في ذلك كله، فقد كانت تربية علي(ع) – كما ذكرنا - في حضن الرسول ومهبط الوحي وبيت الرسالة، وهو ترعرع وشب منذ نعومة أظافره في منزل ابن عمه رسول الله، ما سمح له بأن يعايش أجواء نزول الوحي، وينفتح على أخلاقيات الرسالة وقيمها ومبادئها في المهد، وأن يتشرب قيم ومعارف القرآن الكريم، ويعرف عن قرب، بل ويشارك في السيرة النبوية، ليتعرف عملياً على أخلاقيات الرسالة من نبعها الحقيقي الصافي، وما تبناه الرسول الأكرم (ص) من أساليب الفكر والممارسة والحكم.. وهذا ما ظهر لاحقاً ورأيناه جلياً في التطبيق العملي والتجسيد الواقعي خلال فترة حكم الإمام علي(ع)، والتي كان عنوانها الحقيقي "مبادئ المواطنة والحكم الصالح" الذي دعا إليه ومارسه وطبقه أمير المؤمنين علي(ع) خلال خمس سنوات، هي فترة وجوده العملي كقائد للدولة والمجتمع..

وهذه المبادئ التي تصلح لنهضة أي مجتمع وأية قيادة أو دولة حاكمة له، هي:
١- العمل على إقامة دولة العدل والقانون والنظام.
٢- احترام التعددية الفكرية والسياسية والاعتراف بالآخر المختلف.
٣- احترام حرية الاعتقاد وقبول الآخر، والتسامح مع الآراء المختلفة والمتعارضة مع مبدأ الدولة طالما بقيت في نطاق الدعوة السلمية.
٤- احترام حق الإنسان في المشاركة السياسية وصنع القرار ومشاورة الناس.
٥- احترام مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.
٦- احترام كرامة الإنسان وحفظ هويته وثقافته الخاصة.
إذاً هنا يكمن سر علي(ع) وجوهر نجاحه الإنساني والرسالي الكبير.. إنه في هذه المحبة الفياضة اللامتناهية لله والإخلاص للدين والرسالة الإسلامية.. وهذا ما نجده واضحاً في كل مسيرته العملية منذ أن انطلق في بداية الدعوة مع الرسول الكريم(ص) ليؤكد على أهمية أن يكون هذا الدين حاضراً بقوة في قلوب ونفوس الناس الذين كان يريدهم أيضاً، أن يفتحوا قلوبهم على الله تعالى، وعلى محبّة الله والخوف منه والابتهال إليه، وذلك من أجل نيل رضاه لأن الله تعالى هو الغاية وهو المنتهى ولابد أن سبحانه حاضراً في كل ممارسات وأعمال الناس، وقبل ذلك في فكرهم وحسّهم وشعورهم وضميرهم، ليشعروا بحضور الله في كلّ مواقع وامتدادات حياتهم المتنوعة. كان يؤكّد هذا المعنى في كلِّ مجال يتحرّك فيه، وعندما كان يخاطب الناس، كان يذكّرهم بالله قبل أن يذكِّرهم بمشاكلهم في الحياة وبحلولها، كان عندما يخطب بجنوده في الحرب، يذكّرهم بالله قبل أن ينفتحوا على الحرب، حتى ينطلقوا إليها من موقع إحساسهم بالمسؤولية أمام الله، كي لا يظلموا الناس فيها..(من محاضرة للعلامة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، م.س نفسه)..
وهذه الروح المسؤولة الواعية لم تقتصر على حالة الحرب بل كان يطلب(ع) من محبيه ومريديه وشيعته ومن كل المسلمين بأن يلتزموا بها حتى في دقائق وتفاصيل حياتهم، في حبهم وبغضهم، في موالاتهم ورفضهم، في سلمهم وحربهم.. ومن باب الاستشهاد التاريخي على ذلك يروى عنه(ع)، أنّه عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، اندفع إليهم والمعركة محتدمة، وأراد أن يخطّ لهم الخطَّ الّذي يربطهم بالآفاق الروحية التي لا تتحرك من مواقع الحرب، بل من مواقع الرسالة، فقال لهم: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".
فهو لم يكن يريد أن يثير الحقد في نفوس الذين يقاتلون ليقوِّي الحقد موقفهم، بل كان يريد أن يقوِّي الإيمان الواعي موقفهم، حتى يحاربوا من موقع الوعي الرسالي لحركة السَّاحة في الحرب، لا من موقع الحقد الذاتي الأعمى الذي لا يرى صاحبه إلا من خلال عين الثأر وعقلية الحقد الشخصي المنطلق بعيداً عن كلِّ رؤية واضحة مبنية على الإيمان والوعي الموضوعي لحركة الفكرة في الواقع.
وهذا – إن دلنا على شيء - فهو يدلنا على وجود إدارة متوازنة عقلانية هادئة عند الإمام علي(ع) لحل المشاكل والخلافات وعدم تحويلها إلى عناصر ذاتية من أجل تصحيح الوعي القاصر أو الضعيف، وتركيز المفاهيم الصحيحة، واستقامة الخط الأصيل، وذلك لكي يتمكن المسلمون من العيش بوعي ومسؤولية تجعلهم قادرين على اتخاذ القرارات الصحيحة والحاسمة، وبحيث لا تكون القضية لديهم في أمثال هذه الأمور قضية شيء في الذات، لينفعل الإنسان به من خلال عناصره الذاتية في الإثارة الشعورية المضادّة، بل تكون قضيته هي قضية الخطِّ في معنى الخصوصية الإسلامية، وفي عمق المشاعر الإيمانية، فيتعامل معها بمسؤولية الإيمان في موضوعية النظرة والحوار، ليتعرف وجه الحق والباطل في احتمالاتها المتعدّدة، تماماً كأية فكرةٍ مجرّدة تتحرك في العمليات الفكرية للإنسان.
إن القضية هنا – كما أشار العلامة المرجع الراحل فضل الله- تعيش في نطاق تربية الذهنية الموضوعية في الحسّ النقدي للإنسان المسلم، ليواجه الحياة بطريقة عقلانيةٍ لا بطريقةٍ انفعاليةٍ، فيحاكم الأمور بالمنطق لا بالعاطفة، وبذلك، لا يستطيع الآخرون أن يفرضوا على المسلمين الرساليين أيّة معركةٍ لا يختارونها من خلال عناصر الإثارة، واستناداً إلى هذا التوجه، سيمتلك الرساليون صلابة الأرض وقوّة الموقف ووضوح الأفق واستقامة الطريق وواقعية النظرة إلى التجربة.. وهذا ما يمكن أن نستوحي من حركة الخلاف في جانب الخلافة في النطاق المذهبي، أن المسلمين كانوا يواجهونها بطريقة متوازنة بعيداً عن حالة التشنج والتعقيد بالشكل الذي نواجهه الآن، ولذلك فقد نلاحظ في ذلك، أنّ المسألة في وعي الذين عاشوا تجربة العناصر الأولى للخلاف كانت أكثر انفتاحاً مما يعيشه المسلمون الذين ورثوا الاختلاف الآن.
ولو نظرنا حالياً إلى واقعنا العربي والإسلامي الراهن لرأينا العجب العجاب في أقوال وممارسات رؤساء وزعامات وقيادات هذا الزمان حيث يتم تظهير الخلافات بصورة شبه حربية، وتعميم حالة الانقسام والتنابذ بين أبناء المجتمع الواحد، وهيمنة أفراد وأحزاب أحادية معينة على مقاليد الحكم وإدارة الدول والمجتمعات منذ فترات زمنية طويلة، وعدم تحمل هؤلاء لمسؤولياتهم التاريخية الجسيمة عند أي منعطف حاد قد يتعرض له بلدهم أو مجتمعهم.. وهذا أمر للأسف عجيب غريب حيث أن مسؤولينا العرب ومعظم قادة المسلمين حالياً لا يسمحون لأحد في أن يشاركهم القرار والسلطة، ولا يشركون الآخرين في الحكم ليشاركوهم تحمُّل مسؤولية الأخطاء والخطايا، ولكن عند حدوث الانفجارات الشعبيًّة وخروج الناس للاعتراض على سياساتهم الاقتصادية المدمرة التي أدت بمجتمعاتهم إلى الخراب والهلاك فهم يرفضون تحمل المسؤولية لا بل يلقونها في أحضان من ليس لهم حول ولا طول، ومن لا علاقة له بالمسؤولية لا من قريب أو بعيد.
وكلنا يعلم بأن موضوع "مسؤولية" مالكي السلطة وأصحاب القرار، ومن يدير دفة قيادة المجتمعات هو من أهم المواضيع والمباحث الفكرية والمعرفية المهمة التي بحثت ودرست في كثير من مراجع الفكر السياسي على مستوى الأفكار والشخصيات، وهو من الموضوعات الخلافية بالنسبة للموازين والقيم التي تحكم المسؤولية، بل وحتى بالنسبة لأهداف تلك المسؤولية.
وترتبط المسؤولية هنا بموضوع آخر وهو المحاسبة والمساءلة وتعزيز روح وحس النقد البناء في المجتمعات أفراداً وتيارات وأحزاباً.. حيث أنه من وضع نفسه أو وضعه أبناء مجتمعه في مواقع صنع القرار ومواضع المسؤوليات الكبرى المفضية لبناء وتطوير الدول والمجتمعات وازدهارها ونجاحها وخدمتها للناس، لا بد وأن يكون قادراً على القيام بأعباء السلطة بروح واسعة وصدر رحب وأخلاق عالية وحس قانوني رفيع، ولكن المشكلة عندنا في حياتنا السياسية العربية هو غياب أي واقع أو بعد عملي واضح ومحدد لمفردة المسؤولية واختلاط الحابل بالنابل كما يقولون، وسير المجتمعات بشكل أقرب ما يكون للتخبط الأعمى العشوائي وضياع أو تضييع المسؤوليات.. والسبب في ذلك هو عدم وجود حياة سياسية واضحة ومقوننة.. فلا ديمقراطية ولا تعددية سياسية ولا مساءلة أو محاسبة حقيقية يمكن أن تجري في مجتمعاتنا العربية.. بل هناك شبه غياب كامل لنظام تقاسم وتوزيع للسلطة الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى عدم وجود توزيع واضح ودقيق للمسؤوليات على اختلاف المواقع والمستويات.. ما يضيع على الناس فرص تفعيل وجودها وتطوير حياتها على النحو الأفضل والأرقى..

يتبع ......

****************************