وقال (عليه السلام): خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): إذَا كَانَ في رَجُل خَلَّةٌ رَائِعَةٌ فَانْتَظِرْ أَخَوَاتِهَا.                
وقال (عليه السلام): لَيْسَ بَلَدٌ بأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَد، خَيْرُ الْبِلاَدِ مَا حَمَلَكَ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام): يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَبَاهِتٌ مُفْتَر.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الحكمة في فكر نهج البلاغة – الثاني

علم وحكم الإمام وعلاقتها بالعمل والممارسة
(نماذج للدراسة والاعتبار من حكمه ومواعظه)
لقد تمكن أمير المؤمنين الإمام علي(ع) – على الرغم من فترة حكمه المحدودة زمنياً والغنية فكرياً وعملياً على مستوى الإدارة والقيادة ونظم الحكم وإدارة شون الناس- من تجسيد أفضل نموذج لتطبيق مبادئ وأفكار الدين الإسلامي التي تشربها ووعاها وتعلمها من خلال الرسول والرسالة.. حيث رأيناه ينطلق محاولاً تنفيذ رؤيته الإسلامية في الكثير من القضايا الحياتية على مستوى تطبيقات أفكاره ورؤيته لمفهوم نظام الحكم والإدارة، وأسس بناء الدولة العادلة والقادرة، وتشكيلات القضاء، والجيش والعسكر وغيرها..
ولم يكن باستطاعة الإمام علي(ع) أن يتحرك في هذا الخط (خط بناء الدولة وتأصيل قيم الإسلام المحمدي الأصيل الذي حاول الكثيرون دمجه ومزجه بالأفكار والطبائع القبلية الجاهلية) لو لم يكن ممتلكاً لعلوم ومعارف نظرية وعملية دفينة، ومسؤوليات رسالية جسيمة.. أي أنه لم يكن من الممكن له – وهو وصي رسول الله وخليفته وزوج ابنته الوحيدة - أن يصل إلى ما وصل إليه من حكم عملية عالية ومعرفة حقيقية يقينية (لو كُشِفَ لي الغطاء ما ازددت يقيناً) لو لم يمتلك ذاته، ويسيطر على هواه، ويتجرد من قوى المادة، وشراك المزاج والنفس الخاطئة، ويتخلى عن مكتسبات ومغانم وأهواء الدنيا (يا دنيا غري غيري..)، ويهب نفسه ووجوده كله لله والإنسان (ما وجدت شيئاً إلا وكان الله قبله وبعده ووو..)..
وقد ظهرت أمامنا تلك المعارف والرؤى ومناهج التفكير العملية من خلال حكمه وخطبه العملية (وليس القولية فقط، فقد كان فعله يسبق قوله) في نهج البلاغة على وجه الخصوص حيث رأيناه كيف يعالج كلَّ شيءٍ يُطرَحُ عليه أو يواجهه من موقع الإسلام، لأنّه يعتبر أنّ الله بعث رسوله برسالة الإسلام ليجيب عن كلِّ ما يتعلق بتنظيم حياة الناس وبحركة حياتهم.
ولهذا كان(ع) لا يكتفي بأن يبدأ الناس بالتعليم، بل كان يستنهضهم ليسألوا، فكان(ع) يقول لهم: "سلوني قبل أن تفقدوني"، وقد قالها مراراً في مسجد الكوفة، من أجل أن يَنْفُذَ إلى عمق تفكير كلِّ شخص ليخرج منه كل علامات الاستفهام، ليقدِّم لهم الجواب عنها. وهو بهذا كان يريد أن يؤكّد للناس أنّهم ليسوا معذورين في أن يبقوا جاهلين أو حائرين وهو بينهم، فكان يقول لهم: "إن هاهنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة"، كان يشعر بمسؤولية أن لا يبقى المجتمع الذي يعيش فيه جاهلاً يبحث عن العلم، أو حائراً يبحث عن الهدى، أو ضالاً يبحث عن الطَّريق، بل كان يرى أنّ من واجبه أن ينفذ إلى كل فرد ليحقّق له شيئاً ويرتفع بمستواه بحسب ما يستطيع. ومن هنا نفهم أنّه لا يمكن لأيِّ عالم أن يكون حيادياً أمام قضايا الجهل والتخلّف، بل لا بدّ لكلِّ عالم، في أيّ موقع من مواقع العلم الذي يرتبط بحياة الناس، من أن يعرِّفهم إيّاه، وعلي(ع) كان يرى أنّ من واجب العلماء أن يلاحقوا النَّاس حتى يفرضوا عليهم العلم، ويفتحوا قلوبهم على العلم، لأنه ليس لأيّ مثقف أو صاحب خبرة الحرية في أن يجلس في بيته ويقول لا شغل لي ولا مسؤولية، لأنَّ علياً(ع) يفهم من موقع الإسلام، أنّ علم الإنسان ليس ملكه، وأن خبرته ليست ملكه، كما إن قوته ليست ملكه، فعلم الإنسان هو أمانة الله عنده للآخرين، وخبرته وكل طاقاته له وللآخرين.
وقد جاء في الحديث: "ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلَّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا"، إذا سألك الناس فأجبهم، وإذا لم يسألك فابتدئهم، وإذا لم يأتوا فاذهب أنت إليهم وحاول أن تُهيئ لهم الجو لكي يتعلّموا. لهذا لا يمكن أن نحلّ مشكلة العلم ومشكلة الهدى في حياة الناس إذا جلس كل واحدٍ منّا في بيته. ولم يتصدَّى لمسؤولية تعليم الناس وحلّ مشاكلهم. وعلي(ع) كان يفكّر بهذه الطريقة من أجل أن يتحمّل كلّ إنسان مسؤوليته في الحياة.
وسنحاول في هذه الدراسة الوقوف الواعي المدروس والمتأمل عند بعض حكمه ومواعظه العملية التي جادت بها نفسه الكبيرة على الناس في كل زمان ومكان.. مع إجراء تحليل معاصر لبعض تلك الأفكار والمعارف العظيمة..
١- ثقافة التقوى من خلال نظرة على بعض حكمه(ع): إذا عدنا إلى خطب أمير المؤمنين الإمام علي(ع)، وأقواله – التي جمعت في كتاب "نهج البلاغة"، وغيره من الكتب والمظان التاريخية الأخرى- فسنلاحظ بدايةً أن هناك وجوداً قوياً، وحضوراً غنياً وواسعاً لـ" ثقافة التقوى"، والدعوة إلى الالتزام بها، واعتبارها جوهر الحركة الإيجابية الفاعلة للإنسان في الحياة.. ولذلك حاول إمامنا أن يزرع هذه الملكة النفسية في تربة المجتمع الإسلامي آنذاك.. وكان(ع) يدرك – انطلاقاً من عمق إيمانه بالإسلام- أن بناء الإنسان المسلم بناء حقيقياً يقتضي تغيير محتواه الداخلي من كل الترسبات والتراكمات الذاتية المعيقة لتكامله ونموه المبدع.. أي أنه(ع) كان يؤمن بأن تأسيس الإنسان من الداخل هو القاعدة الراسخة لقيام أي مشروع حضاري إسلامي في الأمة.. لأنه عندما يتصالح الإنسان مع ذاته، وينسجم إيجاباً

– وعن وعي وقناعة صحيحة- مع ما يعتقده من أفكار ومفاهيم وقيم، وينطلق بقوة إلى مواقع التطبيق العملي في مساحة الحياة كلها من دون أن يجد أي تباين أو ازدواجية بين ما له وما عليه، فإننا نكون عندئذ قد وصلنا إلى مرحلة صنع الإنسان المنتج والفاعل في مجتمعه وأمته.
ويبدو لنا أن تركيزه الإمام علي(ع) على مفردة التقوى – واستخدامه لأغنى المفاهيم وأغزر الكلمات والمعاني في تعبيره عن "ثقافة التقوى"- لم يكن أمراً اعتباطياً، بل كان(ع) يريد من خلال ذلك (وهو الإمام المعصوم واجب الطاعة والإتباع، والذي كان يرى الأمور بمنظار العصمة والرسالة المختلف كلياً ،في جوهره وحقيقته، عن رؤية كل الخلفاء "والزعامات التقليدية" الذين عاصروه، أو سبقوه، أو حتى عن أولئك الذين حكموا الأمة لاحقاً) كان يريد أن يتصدى بقوة للنزعة المادية الصنمية، ويواجه ما يحدث في أمته من "طغيان الرؤية المادية" – والنزعة الحياتية اليومية - على واقع المجتمع كله.. خصوصاً وأنها أدت إلى اضمحلال مشاعر التدين الصحيح بين الناس، وانحراف تصوراتهم الإسلامية العملية القائمة أساساً على قاعدة التقوى.
ولذلك كان من الطبيعي – تبعاً لمبدأ أن النتائج تأتي بحسب المقدمات - أن تنتج هذا الرؤية المنحرفة مجتمعاً إسلامياً (شكلاً لا مضموناً) مفككاً، وملوثاً بالدوافع والاتجاهات غير الدينية التي لا تحمل شيئاً من هم وطموح بناء الأمة الحصينة والمقتدرة.. أي أن المجتمع آنذاك كان غارقاً حتى الثمالة – كما يقولون - بهموم اكتساب المال، وجمع غنائم الفتوحات، وحصد أكبر ما يمكن حصده من جوائزها المادية التي دفعه "أولو الأمر!" إليها دفعاً تحت ستار "نشر الدعوة والرسالة" بين الناس جميعاً..
والواقع أن نظرة الإمام علي(ع) كانت على طرفي نقيض من نظرة القائمين بالأمر في ذلك الوقت، حيث لم يرد(ع) للخلفاء (والأمة ككل) أن ينساقوا وراء عواطفهم وأمانيهم على طريق "الفتوحات الإسلامية"، وتوسعة رقعة الدولة الإسلامية الفتية، في ظل وجود مجتمع إسلامي طري العود، وحديث العهد بالإسلام، ولا يمكنه – بالتالي- تنفيذ مثل هذه المهام الحضارية الجسيمة، خصوصاً وأن هذا المجتمع كان يعاني من تفشي مظاهر الفساد السياسي والتنظيمي، ولذلك كان الإمام علي(ع) يهدف إلى تنظيم أمور البلاد على صورة الإسلام الأصيل والنقي، الإسلام الذي لم تدخل فيه رواسب الجاهلية الأولى.. وهو(ع) لم يكن مستعداً أن يتنازل قيد شعرة عن تحقيق هذا الطموح الإسلامي الكبير إدراكاً منه لحقيقة أساسية، هي أن توسيع رفعة البلاد الإسلامية – وتوافر غنائم وموارد الحروب بين أيدي الناس- سيضعف الشعور الديني عندهم على حساب ارتفاع نزعات الاستغراق في الدنيا، وحب التملك، وسيطرة مفاهيم الطمع والفردانية والذاتية، والحصول على المكاسب والرفاه المطلوب بأي شكل وثمن كان.
من هذا المنطلق ركز الإمام علي(ع) – في كل خطبه ومواقفه العملية - على ضرورة استرجاع عقيدة الإيمان بالله تعالى إلى النفوس، وإزالة حجاب "الإنشداد إلى الدنيا" عنها. أي التركيز على ضرورة عدم الانغماس في الدنيا، والتحذير من طلبها، والسير وراء زخارفها وأمانيها.
لقد جاءت كلمات الإمام علي – في هذا الإطار- غنيةً بمفهوم التقوى، من حيث كونها ملكة روحية مقدسة تمنع الإنسان- من خلال قوة الإيمان بالله تعالى - عن سلوك طرق الانحراف عن خط الاستقامة والعدل في الحياة.. يقول(ع): "إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه. وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم"( نهج البلاغة، خطبة رقم ١١٢)..
إنه يؤكد على أهمية الالتزام بحقيقة التقوى قولاً وعملاً بما يؤدي إلى التأسيس لتلك الحالة المعنوية العالية التي يصل إليها الإنسان من خلال عمق انفتاحه على الله، وإيمانه بقيمه، والالتزام بأوامره ونواهيه التي تمنعه من إتباع الهوى والانحراف عن جادة الحق والصواب.. وهو يشير أيضاً إلى أن مخافة الله أثر إيجابي كبير من الآثار العملية لحركية الالتزام بجوهر التقوى. والخوف الوارد في هذا الحديث لا يساوي التقوى، ولا يعبر عنها أبداً.. وإنما التقوى تجعل مخافة الله تلازم القلب على الدوام، لتكون حاضرة مع الإنسان في كل مواقعه، وحركاته.
وفي قولٍ آخر يعتبر الإمام علي(ع) أن التقوى "دواء داء قلوبكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس نفوسكم". والواضح هنا أن الإمام (ع) يُرجع شقاء البشر – ومعاناتهم، وآلامهم، وابتلاءاتهم - إلى عدم فهم القيمة العظيمة للتقوى، ومن ثم عدم الالتزام بها.. وهو بذلك يكرّس وجود الإنسان في الحياة، وطبيعة الدور الرسالي الملقى على عاتقه، والأهداف الكبرى التي يُراد له أن يحققها في حياته.
وتقوم تلك النظرة على اعتبار أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس في حركة الوجود الإنساني كله، من حيث ضرورة أن يتم بناؤه على قيمة ومعنى التقوى، والإيمان بالله تعالى. والإسلام نفسه سمّى عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان – على قيم ومبادئ الإسلام الأصيل - بالجهاد الأكبر.
من هنا يكون التغيير الداخلي للإنسان – استناداً إلى ركيزة التقوى- هو القاعدة الأساسية المطلوبة لتغيير سلوكه الخارجي على صورة معطيات ومضامين هذا الداخل.. كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد: من الآية ١١) وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة التقوى الذاتية الداخلية، فإنه يكون مقتنعاً بحدوده، وراضياً بحقوقه، ومالكاً لروح مطمئنة، هادئة ومستقرة، وقلب سليم معافى.. أي أنه يكون متصالحاً مع نفسه ووجوده، ومنسجماً مع توجهاته الفكرية، ولا يعيش مع ذاته حالة التناقض والانفصام، ولا تشغله الأطماع والغرائز، بما يؤثر سلباً على حياته، وعمره، وسلامة جسده.. وحتى على عمله، وإنتاجه في الحياة.
وعندما ندرس (ونحلل) الحوادث والمتغيرات البشرية الكبيرة - الحافلة بالصراعات والتناقضات والابتلاءات - فإننا نجد أن السبب الأبرز لوجودها وظهورها هو عدم تصالح (وانسجام) الإنسان مع ذاته، وبالتالي عدم توافر القدرة (والإرادة) عنده، والتي قد تدفعه باتجاه احترام القوانين والتشريعات، والأنظمة العملية، والحدود التي تضعها المجتمعات والأمم.. أي أن الطريق الصحيح هنا ينحصر في وعي الناس، وفي إيمانهم، وفي تقواهم العملية.. ونحن هنا لا نريد أن نبسط الأمور، ونشير فقط إلى وجود سبب واحد لتلك المتغيرات والمشاكل، فهناك أسباب أخرى كثيرة ساهمت في وصول البشرية إلى هذه الحالة المزرية التي نعيشها الآن من سيطرة مفاهيم العنف والقوة والصراع والتنابذ والقهر والظلم على مجمل العلاقات بين الأمم والحضارات.
وعلى كل حال نحن نعتبر أن التقوى – سواء كانت هذه التقوى دينية إلهية أم غير ذلك - لها آثار معنوية ومادية كثيرة على الإنسانية إذا ما التزمت بها، لأنها لازمة ضرورية من لوازمها في مسيرتها التكاملية في الحياة، باعتبار أنها تستلزم الترك والمنع والاجتناب.. ومن يريد أن يتكامل تقوائياً في مسيرة الحياة يجب ألا يسمع دائماً كلمة الـ"نعم"، بل لا بد أن يسمع –إلى جانب ذلك- كلمة الـ"لا".. حيث يمكن لهذه الـ"لا" أن تكون مفيدة – وفي محلها الصحيح - أكثر من كلمة الـ"نعم".
والتقوى نفسها – كقيمة عملية - تلزم الإنسان (في أكثر الأوقات)،إذا أراد بناء ذات مستحكمة وموثوق بها، بسلوك الصعاب، واقتحام التحديات، خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على العيش في النعيم والملذات والحياة الرغيدة.. وهي (أي التقوى) عندما تمنع الإنسان عن الكثير من هذه الملذات – التي تحجبه عن الحق - فإنها ليست قيداً أو سجناً، وإنما هي صيانة له إذا عرف كيف يصون نفسه من خلالها، وكذلك كيف يصون قيمة التقوى ذاتها من الأخطار التي تتهددها في المجتمع.. ولهذا قال عنها الإمام علي(ع): "ألا فصونوها، وتصونوا بها.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب".(نهج البلاغة، خطبة رقم ١٢٨).
أجل إن التقوى تمنح الإنسان القوة العملية التي يحتاجها في مواجهة عبودية الهوى والرغبة الجامحة، كما وأنها ترفع عنه قيود الحرص والطمع والحسد والشهوة.. أي أنها تطلق روح الإنسان – وفكره، وعقله - إلى رحاب الحرية والمسؤولية، بعد أن تحرره من أسر العبودية النفسية والمادية التي تتجسد في عبودية المقام والجاه والثروة. وفي هذا يقول الإمام علي(ع): "وعتق من كل ملكة".
من هنا يمكن التأكيد على أن اهتمام الإمام علي(ع) – في سياق هذا النمط المتطور من التفكير الإنساني العميق- بمسألة شديدة الصلة بجوهر وجود الإنسان في الحياة، يدلنا دلالة قاطعة على أن التزام جانب التقوى هو الذي يمكن أن يحفظ للإنسانية وجودها المعنوي الحقيقي الذي يشكل القاعدة الصحيحة المتينة لوجوده المادي العضوي. ولذلك عليها (على الإنسانية) أن تبذل قصارى جهدها لبلوغ ذاك المعنى وتلك الحقيقة الوجودية الرائعة من خلال السعي والعمل والحركة.. يقول(ع): "إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه"(خطبة ١٠٠)..
ويقول(ع): "أوصيكم (وهو هنا يوصي الإنسانية كلها، وليس فقط أصحابه، وشيعته) عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله". لأنها تنير لكم البصر والبصيرة والفؤاد، وتنزع عنكم الخوف والمعاناة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً.... وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.... وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾. أي أن للتقوى تأثيراً كبيراً في حياة الإنسان من حيث كونها الطريق الأسلم للخروج من الشدائد والأزمات، ومواجهة الصعاب والتحديات والمصائب التي تعترض حياة الإنسان، وتسلب منه كل سعادة دنيوية وأخروية.. وهذا ما يؤكد عليه الإمام علي(ع) في قوله: "واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم".(خ ١٨١).
وقوله(ع): "فمن أخذ بالتقوى غربت عنه الشدائد بعد دنوها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها".(خ١٩٣)..
وآية ذلك هو أن الإنسان المتقي – الذي بنى كيانه النفسي والروحاني على توجيه طاقاته وقواه في طريق الخير والعمل الصالح - هو الأكثر قدرة على تحمل الصعاب، ومواجهة التحديات والمحن والشرور، وهو الأكثر قدرة حركية على اتخاذ القرارات المصيرية الصائبة والحاسمة، لأنه وفر – من خلال تقواه العملية - طاقاته وقواه النفسية لأوقات الشدة والمتغيرات الشائكة.
يتضح من كل ما تقدم أن الإمام علي(ع) – الذي لم ترد حكمة أو خطبة أو نص له(ع) إلا وكانت التقوى (تقوى الله في العاطفة والفكر والحياة) حاضرة فيه، ومتجذّرة في بنيانه ومفرداته كلها - لم يتعرض لبحث مسألة التقوى داخلياً. أي أنه لم يصفها من خلال بنيتها الذاتية، وإنما اكتفى بوصفها خارجياً، وتبيان ميزاتها، وفضلها، وثمارها، والتشويق إليها، والاعتصام بحبلها.. كما جاء في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(البقرة: ٢- ٣).. وقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(*)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران:١٣٣- ١٣٤).
ويريد الإمام(ع) من الناس أن يتقوّوا عملياً بتقوى الله لأنها هي الأساس في أعمالهم ونشاطاتهم وممارساتهم الحياة، ولأنّها تعني مراقبة الله في دواخلهم، وكلما راقبنا الله أكثر كلما ضبطنا مواقع خطواتنا في الحياة أكثر. يقول الإمام(ع): "أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم".. إنّه يخاطب(ع) النّاس بضرورة أن ينهجوا نهج التقوى العملية من خلال محاولتهم تنظيم أمورهم وعلاقاتهم وأوضاعهم في القضايا الّتي يختلفون فيها، وأن يعملوا على نظم أوضاعهم في القضايا التي يتفقون فيها، حتى يتمكنوا من مواجهة علاقاتهم بعضهم بالبعض الآخر، من موقع التنظيم الواعي لأمورهم، في كل ما يلتقون عليه، وفي كل ما يفترقون فيه.
وهكذا فقد حاول الإمام علي((ع)) تقديم ثقافة تقوائية للأمة كلها، تصلح للعيش في امتداد الحياة الإنسانية.. لأنه استمدها(ع) من الإسلام، وكل فكره من فكر الإسلام الذي عاشه(ع) - في كل تجاربه ومواقعه - قوة والتزاماً ووعياً حركياً دائماً.. وكان(ع) يعمل –على هذا الصعيد - على تثقيف الأمة والناس بالإسلام.. حيث كان يشعر دائماً – من خلال مسؤوليته الشرعية، وإيمانه العميق بالله والإسلام - بأن علمه ليس ملكاً له، وإنما هو ملك الله، والحياة، والأمة التي تحتاجه في مسيرتها الحضارية والتكاملية إلى من يعلمها، ويربيها، ويقوم حركتها باستمرار.
ولذلك نجده(ع) لا يترك فرصة سانحة إلا ويبادر إلى استثمارها في تعليم الناس، وتثقيف الأمة بقيم الإسلام، ومبادئ الرسالة السمحاء من أجل أن يزيل عنهم شبهة هنا، أو يفتح لهم باباً إلى الحق والعدل هناك، أو يخطط لهم منهجاً، أو ينقذهم من طريق الضلال والانحراف.
وقد كان(ع) من القادة النادرين الذين بادروا – عن وعي وإدراك كاملين - إلى التركيز الشديد على تعليم شعوبهم، وتثقيفهم، ورفع المستوى الثقافي لهم، على عكس أولئك الحكام الذين كانوا يلعبون على عواطف الناس، ويستثيرون مشاعرهم ورغباتهم ليرتبط الشعب بهم، وبخطهم، ومنهجهم فقط، حتى لو تكلفت الأمة – نتيجة ذلك - كثيراً من الدماء والدموع. وهذا ما يبدو أمامنا واضحاً وجلياً – كما ذكرنا - في خطب نهج البلاغة، حيث كان الإمام(ع) يستفيد من كل مناسبة هنا وهناك – حتى وهو مسجى على فراش الموت - لتوعية أبناء المجتمع بكل ما تعج به الساحة من هموم وقضايا وتحديات..
وهذه هي مسؤوليتنا الكبيرة – نحن جمهور المثقفين، والعلماء، وأصحاب الدعوة والتبليغ الذين يدركون جميعاً حاجة الناس للعلم والمعرفة الإسلامية الصحيحة - في ضرورة أن نلاحق قضايا الأمة، وهموم الناس. ونتابع مشاكل الحياة الخاصة والعامة، من خلال انفتاحنا على الواقع الذي يعيشه أبناء المجتمع، لتعليمهم وتثقيفهم، وانتهاز كل الفرص لرفع مستواهم الفكري والروحي، لاسيما أننا نعيش اليوم في أجواء الفتن والاضطراب والتخلل في الفكر والعمل، وفي كثير من المواقع والامتدادات، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً أن نواجه ذلك بعقول مسؤولة وقلوب واعية، حيث أنه لا يجوز مطلقاً أن نخوض، ونتجادل، ونتحاور – سواء كنا في موقع المسؤولية الرسمية أو الشعبية - مع بعضنا البعض في مواقعنا الذاتية، والآخر يقتحم علينا وجودنا، ويعمل باستمرار على بث أفكاره - ومفاهيمه وثقافاته - إلى داخل مجتمعاتنا، وعقول أبنائنا.
وهذا هو الأساس في سلامة كل مجتمع من المجتمعات، إنه في أن تكون علاقته بعضه بالبعض الآخر، علاقات ترتكز على أساس القواعد الّتي تنظّم للمجتمع دوره في حركة أفراده، ودوره في علاقات أفراده بعضهم بالبعض الآخر. وهذه هي المشكلة الّتي لا يزال المسلمون يعيشون فيها على مستوى كل مجتمعاتهم، فإنّهم يتحرّكون كأفراد، ولا يتحرّكون كمجتمع، بحيث إنّ كل فريق يتصور نفسه كلّ شيء، أو كلّ شخص يتصوّر نفسه أنّ الحياة له، وليس لأحدٍ حقّ الحياة معه، وأنّ السّاحة له وليست لأحد غيره.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى العشائر، وعلى مستوى الأحزاب، وعلى مستوى الطوائف.. الكل يريد أن يلغي وجود الطرف الآخر، وبذلك يتصرّف كما لو كان الطرف الآخر ليس موجوداً.
٢- الأخلاق وتغير الزمان (الثابت الأخلاقي والمتغير الزمني): يقول الإمام علي(ع): "ولا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم، فإنّهم خلقوا لِزَمانِ غير زمانكم".. وهو يعني بهذا أن هناك كثيراً من الأمور والأشياء لا تبقى على حالها كما كانت في بداية وجودها بل تتغيّر بتغير الأيام والأزمان، وذلك من خلال ما يكتشفه الناس وما يمكن أن تستحدثه المجتمعات من طرق وأساليب في اللباس، والأكل والشرب، والتدفئة والتبريد، ومختلف أنماط وسلوكيات البشر في طبيعة العلاقات الّتي يتحرّك فيها النّاس، فهذه أمور قابلة للتحول والتغير، والثابت الوحيد فيها هو المتغير والانتقال من حال إلى آخر.. وهذا ما يؤكّده الإمام علي(ع) من حيث أنه يوجه الناس إلى ضرورة عدم إلزام بعضهم البعض – خاصة من هم في مواقع الإشراف والتوجيه الأسري من آباء وأمهات- على الالتزام بعادات وتقاليد محددة، بل ويجب على الأب عدم تعويد ابنه على عاداته، أو قسره على طريقته وعمله.

ولكن عليه أن يترك له الحرية والاختيار في اتخاذ القرار الملائم فيما يخص طريقته في تحديد كثير من أنماط سلوكه وعاداته خاصة على مستوى طريقة في اللباس وفي الأكل، لأنّه عاش في زمن يحتاج إلى ما هو فيه، ولكن ولده يحتاج إلى طريقة مختلفة في الكلام والتخاطب والآداب والعلاقات الحياتية .

انتهى .

****************************