مواعظ لا نظير لها
إن المواعظ في (نهج البلاغة) من أكبر أبوابه وأوسعها، فإنها تستغرق نصفاً من مجموعه تقريباً، ولذلك فقد اشتهر هذا الكتاب بهذا الباب أكثر من سائر الأبواب.
وإذا تجاوزنا مواعظ القرآن الكريم والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله)، والتي تعد كأصول لمواعظ نهج البلاغة، كانت المواعظ في هذا الكتاب ممّا لا نظير له في غيره.
وقد مر على صدور هذه المواعظ أكثر من ألف عام، وهي بعد تؤدي دورها الخارق وتؤثر أثرها الغريب! فإن هذه الكلمات الحية الخالدة لم تفقد بعد أثرها الذي ينفذ في القلوب والألباب والأفئدة والعقول والبصائر فيهزّها، وفي العواطف والأحاسيس فتجريها دموعاً من العيون والآماق! سيبقى أثرها هذا النافذ ما بقيت للإنسانية نسمة تتنشق النسيم الغض وتتفهم معاني الكلمات والحروف!
إن الموعظة الحسنة - كما جاء في القرآن الكريم - هي إحدى الأساليب الثلاثة للدعوة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [١] .
والفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة:
هو أن الحكمة يراد بها التعليم والإرشاد والنصيحة، أما الموعظة فيراد بها التذكير وإلفات النظر إلى ما من يعرف ويعلم ولكنه في غفلة أو تغافل أو تجاهل منه.
فالحكمة يراد بها التنبيه، أما الموعظة فيراد بها الإيقاظ.
والحكمة يراد بها مكافحة الجهل، والموعظة يراد بها مكافحة الغفلة والتغافل.
فالحكمة فكرة وتعقّل، أما الموعظة فهي (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
والحكمة تعلم، والموعظة تذكّر.
والحكمة تزيد الإنسان وجداناً ذهنياً، أما الموعظة فهي توقظ الذهن للاستفادة من الوجدان.
والحكمة مصباح وسراج، أما الموعظة فهي إلفات النظر إلى ذلك الضياء.
والحكمة للفكرة، والموعظة للتفكّر.
والحكمة ترجمان العقل، والموعظة ترجمان الروح والأحاسيس والعواطف.
ومن هنا يفرق بين الحكمة والموعظة الحسنة أيضاً: بأن لشخصية الواعظ في الموعظة دوراً بارزاً، أما الحكمة فهي (ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها، ولو من فم فاسق أو فاجر أو غادر أو خاسر أو كافر)!
و(الحكمة جوهرة يأخذها المؤمن أينما وجدها ولو في فم كلب أو سبع)! ففي الحكمة لا مانع من اختلاف الأرواح بين الناطق بها والسامع، أما في الموعظة فلابدّ من ارتباط بينهما واتصال كما في السلك الكهربائي بين السالب والموجب، وحينئذ يكون كما قيل: (ما خرج من القلب دخل في القلب، وما خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان).
الوعظ والخطابة
وهناك فرق بين الوعظ والخطابة أيضاً:
فإن الخطابة تخاطب العواطف والأحاسيس، لكي تثيرها وتثور بها، أما المواعظ فهي وإن كانت تخاطب العواطف أيضاً، ولكنها لأجل أن تؤثر فيها وتتسلط عليها وتخضعها.
فالخطابة إنما تفيد فيما إذا كانت العواطف راكدة خامدة هامدة جامدة، وأما الموعظة فهي ضرورية فيما إذا كانت الشهوات والأحاسيس عاتية طاغية لتهدّئها وتسكّنها.
والخطابة تثير أحاسيس الغيرة، والحمية، والحماية، والثورة، والعصبية، وللرفعة، والعزة، والفتوة، والمروءة، والشرف والكرامة، والبر، والصلة، والخدمة.. وتوجد فيها الحركة والنشاط. أما الموعظة فهي تهدّئ من ثورة هذه الأحاسيس وتغير الضارة منها.
والخطابة تخرج أزمة الأمور من يد العقل فتودعها بيد الأحاسيس والعواطف، أما الموعظة فهي تهدّئ من فورة العواطف وتهيئ الأرضية للمحاسبة وإمعان النظر في الأمور.
والخطابة تخرج بالإنسان إلى العالم العيني الخارجي، والموعظة تدخل بالإنسان إلى نفسه وفكره. وكلاهما ضروريان للإنسان.
ولذلك نرى في نهج البلاغة من كلا النوعين. والعمدة هي مراعاة موقعهما. وقد راعى الإمام (عليه السلام) هذا الأمر تماماً، فأورد الخطابة المثيرة حيث يجب أن تُثار العواطف والأحاسيس فتطغى وتطيح بأسس الظلم والظالمين، كما في خطاباته التي أوردها في صفين:
منها: حيث تسرّع معاوية إلى الشريعة فامتلكها وضيق على المؤمنين وأميرهم الإمام (عليه السلام). وكان الإمام (عليه السلام) يحذّر من البدء بالقتال ويحاول أن يحل المشكلة عن طريق الكلمة الحكيمة، لكن معاوية أبى عن الحل السلمي بالكلام واغتنمها فرصة للمضايقة الحربية، فضاق الأمر بذلك على أصحاب علي (عليه السلام).
فاضطر الإمام إلى أن يثير كوامن النفوس بخطاب حماسي يرد به العدو على أعقابه خاسئاً خاسراً، فخطبهم وقال:
(... قد استطعموكم القتال، فأقروا على مذلة وتأخير محلة! أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء! فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين! ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمش عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية..).
وعملت هذه الكلمات النارية عملها الحاد والمهيّج، فأثارت الدماء والغيرة، ولم يمسوا حتى ملكوا عليهم الشريعة دونهم، وطردوهم عنها خاسئين خائبين!
أما مواعظ الإمام (عليه السلام) فقد كانت في أحوال أخرى.
سارت عجلة الفتوحات المتتالية في دور الخلفاء وعلى عهد عثمان بالخصوص بسرعة هائلة، فكان من أثرها الغنائم الكثيرة غير المنتظمة والثروة العظيمة التي ساعدت على إيجاد النظام الطبقي (الأروستقراطي) الأشرافي والقبلي، في إشاعة الفحشاء وفساد الأخلاق ورفاهية العيش والتنعم والجمال والكمال المادي دون المعنوي وعبادة المال، بين مختلف طبقات المسلمين، وبذلك عادت العصبيات القبلية.. وفي خضّم هذه الغنائم والعصبيات كان الصوت الملائكي الوحيد الذي يرتفع للوعظ والإرشاد.. هو صوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم صوت تلامذته المتأدبين بآدابه والمتربّين بتربيته..
وسنبحث في الفصول التالية في العناصر التي تشتمل عليها مواعظ الإمام (عليه السلام)، من: التقوى.. والزهد.. والدنيا.. والقبر.. والقيامة.. وغيرها..
الموعظة من أهم أبواب نهج البلاغة
إن ٨٦ خطبة من مجموع ٢٤٠ خطبة من نهج البلاغة، خطب موعظة أو فيها موعظة. منها ثلاث خطب طويلة تختص بالموعظة: كالخطبة ١٧٤ التي تبتدئ بقوله (عليه السلام):(انتفعوا ببيان الله...) و(الخطبة القاصعة). و(خطبة المتقين، ١٩١).
وإن (٢٥) كتاباً من مجموع ٨٠ كتاباً من نهج البلاغة، كتب مواعظ! أو فيها موعظة، ثلاث منها أيضاً كتب طويلة تختص بالموعظة: كالكتاب: (٣١) إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) (أو محمد بن الحنفية - كما في ابن ميثم البحراني وتحف العقول) وعهده إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاه مصر، والكتاب (٤٥) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة.
مواضيع وعظة (عليه السلام)
إن مواضيع وعظه (عليه السلام) مختلفة ومتنوعة: فالتقوى، والتوكل، والصبر، والزهد، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ورفاهية العيش، وهوى النفس، وطول الأمل، والعصبية للعصبة، والظلم والجور، والتفرقة. والترغيب في الإحسان، والمحبة، والأخذ بيد المظلومين، وحماية الضعفاء والمساكين، والاستقامة، والقوة والفتوة والمروءة، والشجاعة والبسالة والبطولة، والوحدة، والعبرة، والفكرة، والمحاسبة، والمراقبة، واغتنام العمر، وتذكر الموت، وشدائده، وسكراته، وما بعده، وأهوال القيامة.. هذه هي العناصر التي أعيرت الاهتمام في كلام الإمام (عليه السلام).
لنتعرف على منطق الإمام (عليه السلام)
إنا إذا أردنا أن نعرف نهج البلاغة، أو الإمام (عليه السلام) خطيباً واعظاً وناصحاً مشفقاً، أو مدرسته الإرشادية، كي نستفيد من ذلك المنبع الفياض، لا يكفينا أن نعدّد المواضيع والعناصر المطروحة في نهج البلاغة فقط، لا يكفينا أن نعلم أن الإمام (عليه السلام) قد تكلم في نهج البلاغة في التقوى والتوكل والزهد والدنيا مثلاً.. بل يجب علينا أن نتعرف على تلك المفاهيم الخاصة التي كان يفهمها الإمام (عليه السلام) من هذه المعاني، وأن نعرف فلسفته التربوية الخاصة في تربية الإنسان المسلم، وترغيبه في الطهارة والنجاة من أسر الأرجاس والأنجاس، والتحرر المعنوي عن ربقة الدنايا.
إن هذه الكلمات التي عدّدناها عناصر لوعظه (عليه السلام) كلمات تجري على جميع الألسن وتسمع من كافة الأفواه، ولا سيما ألسنة أولئك الذين يتخذون لأنفسهم سمة الناصح الأمين، ولكن لا يتساوى الجميع ما في يرمون إليه منها، وقد تكون مفاهيمهم منها تتجه إلى نواح متناقضة أو مضادة أو مختلفة على الأقل، ومن الطبيعي أن تكون نتائجها أيضاً مختلفة.
ولهذا يجب علينا أن نتكلم بشيء من التفصيل في مفاهيم هذه العناصر في مدرسة الإمام (عليه السلام). ولنبدأ حديثنا هذا بالكلام حول التقوى.
التقوى
إن كلمة (التقوى) من أكثر كلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركّز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنى اعتنى به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟
يفترض الكثيرون أن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل!
وعلى هذا التفسير تكون التقوى:
أولاً: أمراً منتزعاً عن السيرة العملية.
وثانياً: هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية.
وثالثاً: كلما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل.
ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد، حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلا بعد النفي، وليست كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، إلا كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلا بعد نفي ما سوى الله تعالى. ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان ملتزمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، وكل إيمان يشتمل على كفر: (... فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى..) [٢].
ولكن..
أولاً: إن البعد والنفي والعصيان والكفر لا تصح إلا للعبور إلى أضدادها، ولا تصح إلا أن تكون مقدمات للارتباط بمقابلاتها. ولذلك فلابدّ أن يكون للابتعاد المفيد حدوداً وأهدافاً. فالسيرة العملية السلبية بلا حدود ولا قيود ولا أهداف، ليست مقدسة ولا يحمد عقباها.
وثانياً: إن مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر (حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف) فإن التقوى في نهج البلاغة: (قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب). فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية، وهو - من ناحية أخرى - من لوازم حالة التقوى ونتائجها.
إن هذه الحالة تهب للروح قوة ونشاطاً، وتصونه من الانحراف والشطط، ومن لم يحظ بهذه الحالة لابدّ له - إذا أراد حفظ نفسه عن المعصية - من أن يبعد نفسه عن أسبابها. وحيث أن البيئة الاجتماعية مليئة بأسباب المعاصي فلابدّ له من أن يختار الانزواء التام!
وعلى هذا فلابدّ إما أن نكون أتقياء وحينئذ يجب علينا أن نبتعد عن البيئة الاجتماعية بصورة مطلقة! أو أن نرد المجتمع فنودّع التقوى إطلاقاً! وعلى هذا: كلما كان الشخص أكثر انزواءً وعزلة عن المجتمع كان أكمل في التقوى وأجمع!
أما إذا حصلت الروح الإنسانية على (ملكة التقوى) فلا يضطر صاحبها إلى ترك المجتمع والاعتزال. إذ هو حينئذ يحفظ نفسه من دون أن يخرجها عن المجتمع. فمن كانت تقواه بالمعنى الأول كان كمن يأوي إلى جبل ليعصمه من المرض المعدي، أما من كانت تقواه بالمعنى الصحيح كان كمن يقي نفسه من المرض المعدي بالتلقيح ضده، فلا يضطر إلى أن يخرج من البلد أو يجتنب الناس، بل يسعى إلى مساعدة المرضى كي ينقذهم ممّا هم فيه من الألم الممضّ.
أما نهج البلاغة، فإنه يصف التقوى - كما وصفناها نحن - بأنها قوة معنوية روحية، تحصل على أثر التمرين والممارسة، ولها آثار ونتائج، منها تيسير الحذر من الذنوب.
(.. ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم! إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن التقحم في الشبهات.. ألا وإن الخطايا خيل شُمس حمل عليها راكبها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار... ألا وإن التقوى مطايا ذُلُل حمل عليها راكبها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة..) [٣] .
فقد وصف الإمام (عليه السلام) التقوى في خطبته هذه بأنها: حالة روحية معنوية من آثارها ضبط النفس وامتلاك أزمتها، وأن من لوازم اتباع الهوى وترك التقوى هو انعدام الشخصية وضعف النفس أمام هواها وعند حركة شهواتها، وأن فاقد التقوى حينئذ يكون كراكب ضعيف لا إرادة له في تسيير مركبه، بل المركب هو الذي يسير حيث يشاء ويهوى، وأن من لوازم التقوى قوة الإرادة وامتلاك الشخصية المختارة، كراكب ماهر على فرس مدرب يسير به في الناحية التي يختارها بكل اقتدار وسلطة، فيطيعه الفرس بكل يسر.
(.. إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم) [٤].
وفي هذه الكلمة يصرح الإمام (عليه السلام) بأن التقوى شيء يكون الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازمه وآثاره.
وعلى هذا، فليست التقوى هي نفس الحذر، ولا نفس الخوف من الله، بل قوة مقدسة روحية توحي بهذه الأمور وتستتبعها.
(فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة) [٥] .
نرى أن الإمام (عليه السلام) قد عطف نظره في هذه الكلمات إلى الناحية الروحية والنفسية والمعنوية للتقوى وآثارها في الروح، بحيث تبعث فيه الإحساس بحب البر والطهر، والإحساس بالتذمر من الذنوب والأرجاس والأنجاس.
وهناك نماذج أخرى في هذا الموضوع، ولعل في هذا القسم كفاية، ولا ضرورة في ذكر أكثر من هذه النماذج.
التقوى وقاية لا قيود
كان الكلام في عناصر مواعظ نهج البلاغة، وقد بدأنا الحديث بالكلام عن التقوى، ورأينا أن التقوى في نهج البلاغة: قوة مقدسة روحية ينشأ منها أنواع من الإقدام والإحجام، إقدام على القيم المعنوية، وإحجام عن الدنايا المادية. إن التقوى في نهج البلاغة: حالة تهب لروح الإنسان قدرة يتسلّط بها على نفسه ويمتلكها.
ولقد أكد الإمام (عليه السلام) في خطبه في نهج البلاغة على أن التقوى: وقاية لا قيود.. فهناك كثير من الناس لا يفرقون بين (الوقاية) و(القيود) ولذلك فهم يفرون من التقوى باسم التحرر من القيود والخروج عن الحدود.. ولا شك أن الجدار الواقي يشترك مع السجن في أنهما كليهما مانعان، ولكن الجدار الواقي يمنع عن الخطر، في حين أن السجن يمنع عن التمتع بالنعم والمواهب المعدة للإنسان.
يقول الإمام (عليه السلام): (... اعلموا عباد الله: إن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه. ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا) [٦] .
وكأنه (عليه السلام) يشبّه الفجور في كلامه هذا بالحيوان اللاسع كالعقارب والحيات، ويقول: اقطعوا عن أنفسكم لسعة هذه العقارب بالتقوى. ويصرّح في بعض كلماته أن التقوى ليست قيوداً تمنع عن التحرر بل هي منبع الحريات الواقعية وأساسها ومنشؤها.
(.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة..) [٧] .
واضح أن التقوى تهب للإنسان حرية معنوية، تحرره من أسر عبودية الهوى، وترفع عن رقبته حبال الحسد والحقد والطمع والشهوة، وهكذا تحرق عروق العبوديات المادية، بين ناس هم عبيد الدنيا والمال والمقام والراحة، بينما لا يخضع التقي لأعباء هذه العبوديات.
ولقد بحث الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة حول آثار التقوى كثيراً، ولا نرى نحن هنا ضرورة للبحث عن جميعها، وإنما نقصد هنا أن يتضح لنا المفهوم الواقعي للتقوى في مدرسة نهج البلاغة، ليتبين لنا معنى هذا التأكيد على هذه الكلمة في نهج البلاغة.
وإن من أهم آثار التقوى الذي أشير إليه في نهج البلاغة أثران خطيران:
أحدهما: البصيرة النيّرة والرؤية الواضحة.
والآخر: القدرة على حل المشاكل والخروج عن المضائق والشدائد.
وقد بحثنا حول آثار التقوى في موضع آخر وهي - بالإضافة إلى ذلك - خارجة عما نهدف إليه من هذا البحث هنا، وهو: بيان المفهوم الواقعي للتقوى، ولذلك نكتفي هنا من هذا البحث بهذا المقدار.
ولكن بودي أن نتحدث هنا عمّا يشير إليه نهج البلاغة من أن:
التقوى تقى الإنسان، والإنسان يحافظ عليها
بل يصر نهج البلاغة على أن التقوى وثيقة تضمن للإنسان نوعاً من الأمن من الزلل والفتن، وفي نفس الوقت يلفت نظر الإنسان إلى أنه أيضاً يجب عليه أن لا يغفل لحظة عن حراسة التقوى وحفاظتها، فإن التقوى وإن كانت واقعية للإنسان فمع ذلك يجب على الإنسان أيضاً أن يكون واقياً لها وليس هذا من (الدور المُحال الباطل) بلى هو من نوع المحافظة المتقابلة بين الإنسان والثياب، إذ الإنسان يحافظ عليها من التمزق والسرقة، وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس والبؤس، ولقد عبّر القرآن الكريم أيضاً عن التقوى باللباس فقال: (.. وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ..) [٨] .
وقال الإمام علي (عليه السلام) بهذا الصدد:
(... أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم وأشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.. ألا فصونوها وتصوّنوا بها...) [٩] .
وقال (عليه السلام): (.. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله..) [١٠] .
الزهد
وهو الموضوع الآخر من مواضيع المواعظ في نهج البلاغة، ولعله بعد التقوى من أكثر المواضيع تكراراً وتأكيداً فيه.
والزهد: كلمة ترادف ترك الدنيا، وفي نهج البلاغة الكثير من ذم الدنيا والدعوة إلى الإعراض عنها. إنه من أهم المواضيع التي يجب أن تفسّر وتوضّح مع الالتفات إلى مجموع كلمات الإمام (عليه السلام) بهذا الصدد. وإذا لاحظنا أن الزهد مرادف لترك الدنيا فهو إذن من أكثر المواضيع بحثاً في نهج البلاغة قطعاً.
ونبدأ البحث هنا بالكلام حول كلمة الزهد، فنقول:
إن كلمة (الزهد) إذا ذكرت بدون متعلق فهي تقابل (الرغبة) فإن الزهد يعني: الإعراض، والرغبة تعني: الاتجاه والإقبال والميل والانجذاب.
والإعراض نوعان:
طبيعي: وهو عدم إقبال الطبع على شيء معين، كطبع المريض إذ لا يشتهي الطعام والشراب. وواضح أن الإعراض هذا ليس من الزهد المراد.
وروحي عقلي قلبي: وهو ضد الطبيعي، إذ الطبع هنا يرغب في الأشياء كيفما يشاء، ولكن الإنسان - بدوافع من فكره وأمله في الكمال والسعادة الدائمة - لا يجعلها مورد هدفه وقصده. إذ أن قصده وهدفه وأمله المطلوب - وهو الكمال - أمور أسمى من هذه المشتهيات النفسية الدنيوية. سواء كانت تلك الأمور التي يهدف إليها من المشتهيات الأخروية، أو لم تكن منها بل كانت من نوع الفضائل الأخلاقية: كالعزة والشرف، والكرامة، والحرية والواقعية، أو من نوع المعارف الإلهية والمعنوية: كذكر الله، وحب الله، والتقرب إليه، وطلب مرضاته سبحانه. وهذا هو الزهد المقصود.
فالزاهد إذن: هو الذي اجتاز في نظره الدنيا المادية إلى الكمال المطلوب وأسمى المُنى، وتوجّه في نظره إلى أمور هي من نوع ما ذكرناه. فعدم الرغبة فيه ليس من الناحية الطبيعية، بل من الناحية الفكرية والمُنى والآمال.
وقد عرف الإمام (عليه السلام) الزهد في نهج البلاغة في موردين، لا نصل منهما إلا إلى ما قلناه.
الأول: في الخطبة ٧٩ يقول (عليه السلام): (... أيها الناس! الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والورع عند المحارم..).
الثاني: في الحكمة ٤٣٩ يقول (عليه السلام): (.. الزهد بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: (لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه).
وإذا لم يكن الشيء هو كمال المطلوب بل لم يكن المطلوب، بل كان وسيلة إليه، فلا تحوم حوله طيور الآمال بل ولا تجنح إليه، وحينذاك فلا يوجب إقباله المسرة الشديدة، ولا إدباره الأسى الشديد.
ولكن يجب علينا أن ننظر:
هل أن الزهد والإعراض عن الدنيا الذي يؤكد عليه نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) تبعاً للقرآن الكريم، صفة أخلاقية روحية فحسب؟ هل أن الزهد كيفية روحية فقط أم أن لها جوانب عملية أيضاً؟ هل أن الزهد هو إعراض الروح أم إعراض عملي وروحي؟
وعلى الثاني، فهل أنه إعراض عملي عن المحرمات فحسب (كما في الخطبة: ٧٩) أم أكثر من المحرمات (كما في حياة الإمام (عليه السلام) والرسول (صلّى الله عليه وآله))؟
وإذا كان الثاني، فما هي فلسفته؟ وما هي خواص الحياة مع الإعراض عن نعيمها؟
ثم هل يصح العمل به مطلقاً، أم أنه إنما يصح بشرائط خاصة معينة؟
ثم هل يتلاءم هذا مع سائر التعاليم الإسلامية أم لا؟
ثم إذا كان الزهد مبنياً على أساس اختيار أهداف غير مادية، فما هي تلك الأهداف في الإسلام، وما هو بيان نهج البلاغة بهذا الصدد؟
هذه هي مجموعة الأسئلة التي تحدّث عنها الإمام في نهج البلاغة في موضوع الزهد، ويجب أن تتضح لنا. وسنبحث عنها في الفصول التالية:
الزهد والرهبنة
قلنا أن الزهد حسب التعريف والتفسير الذي يستفاد من نهج البلاغة هو حالة روحية، وأن الزاهد بما له من العلائق الأخروية والمعنوية لا يعتني بمظاهر الحياة المادية.
ونقول: إن الزهد وعدم الاعتناء بمظاهر الحياة المادية لا ينتهي بالإحساس والفكر والضمير فقط، بل أن الزاهد زاهد في حياته العملية أيضاً، فهو قانع فيها محترز عن التنعم باللذائذ والكماليات المادية. وليس الزاهد هو من كان في تفكيره معرضاً عن الأمور المادية فقط، بل هو من يحذر في مرحلة العمل عن التنعم باللذائذ والكماليات ويكتفي من الماديات بالحد الأقل من التمتع بها. وليس الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) زاهداً لكونه لم يكن يرغب في الدنيا بقلبه فقط بل لأنه كان يأبى عن التمتع باللذائذ، وكان - كما يقولون - تاركاً للدنيا معرضاً عنها في الفكر والعمل.
مسألتان
وهنا مسألتان تطرحان نفسهما على ذهن القارئ الكريم، لابدّ من أن نجيب عنهما:
المسألة الأولى: إنا نعلم أن الإسلام يخالف الرهبنة المسيحية، ويعدها من بدع الرهبان والقُسس [١١] .
وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لا رهبانية في الإسلام) [١٢] . وحينما أخبروه أن جماعة من صحابته قد أعرضوا عن الحياة وكل شيء فيها، وأقبلوا على الاعتزال عن المجتمع وعبادة الله وحده. عاتبهم على حالتهم تلك وقال لهم: أنا نبيكم، ولست أفعل كما تفعلون أنتم! وبهذا أعلن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن الإسلام دين حيوي، اجتماعي لا رهباني!
أضف إلى ذلك أن تعاليم الإسلام تشمل جميع جوانب الحياة، وهي في المسائل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسة، والأخلاقية، إنما تبتني على أساس كرامة الحياة الإنسانية، لا الإعراض عنها!
أضف إلى ذلك أن الرهبنة والإعراض عن الحياة يتنافى مع الفلسفة الإسلامية المتفائلة في شأن الكون والوجود، إذ ليس الإسلام كبعض الأديان الأرضية المختلفة والفلسفات المصطنعة التي تتشاءم من الكون والوجود أو تقسم الخلقة إلى قسمين: خير وشر، حسن وقبيح، ظلام وضياء، حق وباطل، صحيح وغير صحيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون.
المسألة الثانية: هي أنه فضلاً عن أن الزهد هي الرهبنة التي تتنافى مع الفلسفة الإسلامية، نقول: ما هي فلسفة الزهد في الإسلام؟ ولماذا يزهد الإنسان في الحياة؟ لماذا يأتي إلى الحياة ويرى بعينه بحور النعم الإلهية ثم هو يمر عليها مرور الكرام ولا يبل منها الأقدام؟
وعلى هذا: أفلا يمكننا أن نتّهم هذه التعاليم التي نراها في الإسلام في الزهد والرهبنة، بأنها من البدع التي دخلت الإسلام بعد صدره الأول من الأديان الأخرى كالمسيحية والبوذية؟! إذن فما نقول فيما جاء من ذلك في نهج البلاغة؟! بل ماذا نقول في حياة الإمام علي (عليه السلام)، ومن قبله حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبم نفسّر ذلك؟ وكيف نوجّهه ونأوّله؟!
والحقيقة في الجواب أن نقول: إن الزهد الإسلامي شيء والرهبنة شيء آخر.
فالرهبنة: انقطاع عن الخلق لعبادة الخالق، على أساس التضاد بين عمل الدنيا والآخرة، فإما العبادة ورياضة النفس في الدنيا لاستكمال نعيم الآخرة، وإما الحياة الدنيا للحياة فيها فحسب، وعلى هذا فالرهبنة تستلزم الانقطاع عن الحياة والمجتمع والمسؤولية أيضاً. وهذه هي الرهبنة المقيتة.
أما الزهد الإسلامي: فهو وإن كان يستلزم اختيار حياة ساذجة غير متكلّف فيها، وعلى أساس الإعراض عن التنعم والتجمل بلذائذ الحياة وكماليتها المادية الإضافية، لكنه - في نفس الوقت - علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية في الإسلام، ومن أجل الخروج الصحيح عن عهدة أدائها لوجهها.
إذن، فليست فلسفة الزهد في الإسلام هي نفس تلك الفلسفة في الرهبنة المسيحية المبتدعة. إذ ليس في الإسلام مضادة بين الحياتين، بل ولا تجزئه بينهما، ولا بين العمل لهما. بل إن الإسلام يرى العلاقة بين هاتين الحياتين علاقة ظاهر الشيء بباطنه، والشعار بالدثار، والجسد بالروح، لا وحدة، ولا مضادة، وإنما الاختلاف بينهما في الكيفية. وفي الحقيقة، كل ما كان صالحاً لهذه الحياة - واقعاً - فهو صالح لتلك الحياة الأخرى أيضاً، ولهذا وجب الترابط بين العمل الصالح في هذه الحياة لتلك الأخرى بالنية، ولذلك: فلو عمل المرء عملاً يتفق مع المصالح السامية لهذه الحياة ولكنه يخلو من النية الصالحة المرتبطة بتلك الحياة، عُدّ هذا العمل دنيوياً، أما إذا كانت الناحية الإنسانية في العمل تنطوي على أهداف أسمى من الدنيا رامية إلى الآخرة، فذاك العمل عمل أخروي مقرب محبوب راجح، أما واجب أو مستحب مندوب إليه.
فالزهد الإسلامي - كما بيّنا - تكييف خاص للحياة ينشأ من إدخال معان من المثل والقيم الأخلاقية القيمة في الحياة الاجتماعية للفرد المسلم، وهو - كما يظهر من النصوص- يستقر في صميم الحياة الاجتماعية الإسلامية على أسس ثلاثة .
أصول الزهد في الإسلام
١- إن الإفادة المادية من مواد هذه الحياة والتمتع بنعيمها الفاني ليس هو العمل الوحيد لتأمين سعادة الإنسان، بل لابدّ من أمور معنوية أخرى لا تكفي الحياة المادية بدونها لإسعاد الإنسان، فيها أو فيما بعدها.
٢- إن مصير سعادة الفرد لا ينفك عن مصير أمته، فإن له - بحكم إنسانيته - سلسلة من العلائق العاطفية، والإحساس بالمسؤولية، لا يستطيع معها أن تكون له راحة وطمأنينة فارغاً عن قلق الآخرين واضطرابهم.
٣- إن للروح أصالتها - كما للبدن - ولها آلام ولذائذ، وهي تحتاج - كالبدن بل أكثر منه - إلى الغذاء والدواء، والطعام والشراب، والتربية والتهذيب، والتأييد والتسديد. وهي لا تستغني عن الجسد وسلامته وقوته وقدرته. ولكن انغماس الإنسان في اللذائذ المادية والإقبال على التنعم والتجمل الجسماني، لا يدع مجالاً لتقوية الروح، بل يوجد نوعاً من المضادة بين النعم المادية والروحية.
وليست نسبة الروح إلى البدن - كما يتصورها البعض - نسبة الألم إلى النعيم، فليس كل ما يرتبط بالروح ألماً وكل ما يرتبط بالبدن نعيماً، إذ أن اللذائذ الروحية قد تكون أصفى وأعمق وأدوم من لذات البدن، وإن الإقبال الشديد على لذائذ البدن لمما يقل من الراحة واللذة الواقعية للبشر، ولهذا ترانا لا نستسيغ التخلي عن اللذات الروحية حينما نواجه الحياة ونريد أن نكسبها رونقاً وصفاء وبهجة وجلالاً، ونضع منها جمالاً وكمالاً.
وإذا التفتنا إلى هذه الأصول الثلاثة للزهد الإسلامي الصحيح، اتضح لنا كيف أن الإسلام حين ينفي الرهبنة يضع زهده في صميم الحياة وقلب المجتمع.
وسنوضح في الفصول التالية بعض النصوص الإسلامية التي تبتني على هذه الأسس الثلاثة.
الزاهد، والراهب
قلنا: إن الإسلام دعا إلى الزهد، وأدان الرهبنة.
ولا شك أن الزاهد والراهب يبتعدان كلاهما عن التنعم باللذائذ، إلا أن الراهب يفرّ بذلك عن المجتمع ومسؤولياته، ويعدّهما من أمور الدنيا الدنية، ويلجأ منهما إلى الصوامع والأديرة وسفوح الجبال، أما الزاهد فهو يقبل على المجتمع وآماله ومسؤولياته.
وإن الزاهد والراهب كلاهما يتجهان إلى الآخرة، راغبان عن الدنيا وما فيها ومن فيها. وإنهما يبتعدان عن اللذائذ ولكن لا سواء، فإن الراهب يرهب من الزواج والإنجاب أو قل من النظافة والسلامة النفسية! أما الزاهد فهو يعد (النظافة من الإيمان) و(النكاح من الدين، وتكثير النسل - الطيب) من الوظائف الدينية والاجتماعية.
وإن الزاهد والراهب كلاهما يتركان الدنيا، إلا أن الزاهد يترك الدنيا بترك الانهماك بالتنعم والتمتع والكماليات، ويحذر من أن يحسبها منتهى آماله وأكمل مناه، أما الراهب فإنه يترك الدنيا بترك العمل فيها وتحمل مسؤولياتها..
ولهذا نقول أن الزاهد يعيش في صميم الحياة والروابط الاجتماعية، ولا يحسب زهده ممّا يتنافى مع تحمل المسؤوليات الاجتماعية، بل إن الزهد لديه خير وسيلة لتعهد المسؤوليات على الوجه الأكمل والأحسن، بخلاف الراهب.
وإن هذا التفاوت بين سيرة الراهب والزاهد إنما ينشأ من الاختلاف في وجهة النظر إلى الحياة.
إن الراهب: يرى الحياة الدنيا والآخرة عالمين مستقلين لا علاقة بينهما، ويحسب أن السعادة في هذه الحياة غير مرتبطة بسعادة الآخرة، بل هما متضادان لا يجتمعان! ومن الطبيعي لديه - حينئذ - أن يكون العمل المفيد لسعادة الدنيا يغاير العمل المفيد لها في الآخرة، وإن وسائل السعادة في الدنيا تغاير بل تباين وسائل السعادة في الآخرة، بل لا يمكن - لديه - أن يكون الشيء الواحد والعمل الواحد وسيلة لسعادة الدارين أبداً.
أما الزاهد: في هو يرى أن الدنيا مزرعة الآخرة فهما مرتبطتان. وأن الذي يهب لهذه الحياة الدنيا الأمن والصفاء، والراحة والهناء، هو أن يرد قصد تلك الحياة في أمور هذه الحياة، وأن ما يوجب السعادة لتلك الحياة هو الإتقان في العمل بمسؤوليات هذه الحياة، وأن يكون العمل بها قريناً بالإيمان والطهارة والتقوى.
فالحقيقة: إن هناك مغايرة بين فلسفة الزهد عند الزاهد في الإسلام، وفلسفة الرهبنة للراهب في المسيحية. وأن الثانية ليست إلا تحريفة أوجدها الإنسان بجهله أو سوء نيته في تعاليم الزهد للأنبياء السابقين.
وسنوضح فيما يلي فلسفة الزهد في الإسلام بالنظر إلى النصوص الإسلامية، وعلى أساس هذا المفهوم الذي شرحناه من الزهد.
الزهد والإيثار
من فلسفة الزهد في الإسلام الإيثار. وهو ضد الأثرة، والأثرة: تقديم الشخص لنفسه ومصالحها ومنافعها على غيره، والإيثار: هو تقديم الشخص غيره على نفسه.
والزاهد يختار العيش بكل بساطة وقناعة، ويضيّق على نفسه في الحياة، من أجل راحة الآخرين، وإنما يهب ماله للفقراء لأنه إنما يلتذ بنعم الحياة حينما لا يرى معه فقيراً ينام بلا عشاء، فهو يلتذ بإعطاء الآخرين وإطعامهم وكسوتهم أكثر من راحة نفسه وطعامها وكسائها، وإنما يتحمل الجوع والحرمان والعناء من أجل راحة الآخرين وهنائهم. وهذا هو الإيثار.
والإيثار من أعظم مظاهر الجلال والجمال والكمال الإنساني المأمول، وإنما يستطيع الرقي إلى هذه القمة الشامخة من العمل الصالح أناس عظماء من أمثال علي والزهراء وابنيهما السبطين الحسنين أصحاب الكساء، الذين نزلت في شأنهم هذا (سورة هل أتى) مرآة صافية باقية تعكس للأجيال المتعاقبة ذلك الكمال المتمثل في هؤلاء العظماء الذين (يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [١٣] وهم يقولون: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) [١٤] .
وقد نالوا بهذا الإيثار أكمل الكرم والسخاء والجود، إذ بذلوا ذلك الميسور من أقراص الشعير، مع عسرهم الشديد، ولم يراعوا في ذلك القريب والبعيد، فأعطوا الأسير كما أعطوا اليتيم والمسكين. ولذلك دوّى هذا العمل الصالح من هؤلاء العظماء في السماء، حتى نزل في حقهم قرآن يتلى كل صباح ومساء!
ودخل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم على ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فرأى على باب بيتها ستاراً وعلى يديها معاضد من فضة، فأنكر ذلك بوجهه حتى عرفته منه ورجع عنها فلم يدخل عليها. فلما رجع خلعت الستار وشدت فيه المعاضد وبعثت بهما إلى أبيها رسول الله ليفعل بها ما يشاء. وفرح رسول الله بذلك وقال: (فعلت، فداها أبوها)!
وكانت تقوم في محرابها لربها حتى تتورم قدماها، وهي تدعو لجيرانها، فسألها ابنها الحسن (عليه السلام) يوماً: أماه! ما لي أراك تدعين لجيراننا ولا تدعين لنا؟ فقالت: (الجار، ثم الدار).
ويصف القرآن الكريم أنصار رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مدينته الطيبة فيقول: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [١٥] .
والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يصف المتقين في خطبته لهمام فيقول: (نفسه منه في عناء والناس منه في راحة).
وبما أن فلسفة الزهد مبنية على أساس الإيثار، والإيثار يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكذلك الزهد يختلف هذا الاختلاف باختلاف الزمان والمكان، إذ أن الإيثار في مجتمع فقير كالمدينة على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يشتد أكثر منه فيها نفسها على عهد حفيده الإمام الصادق (عليه السلام). ولعل هذا هو سر اختلاف السيرتين: علي ورسول الله في جانب وأبناؤهما الأئمة الأطهار في جانب آخر.
إن زهد هؤلاء العظماء كان قائماً على فلسفة الإيثار، وأن الزهد الذي يبتني على فلسفة الإيثار ليس من الرهبنة في شيء بل هو عظمة إنسانية فذة نابعة من أنبل عواطف الإنسانية، وهو ينتج أقوى الروابط الاجتماعية على الإطلاق.
الزهد، والمواساة
ومن فلسفة الزهد مواساة المحرومين ومشاركتهم في حياتهم. فإن هؤلاء حينما يقيسون أنفسهم بأمثالهم من بني الإنسان وهم أغنياء يحسون في قرارة نفوسهم بالفقر والحرمان من ناحية، وتأخر عن أمثالهم من الناس من ناحية أخرى. ولا يستطيع الإنسان بطبعه أن يرى غيره ممن لا فضل له عليه يأكل ويتمتع ويفرح ويمرح، ثم يقف هو جائعاً حزيناً كئيباً وقفة المتفرّج.
وهنا يحس المتدين بمسؤولية ملقاة على عاتقه تثقل كاهله، أمام هذا الواقع السيئ، فهو يشعر في قرارة نفسه الصافية بنداء الضمير والوجدان الإنساني الحي الذي عبّر عنه الإمام (عليه السلام) فقال: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم) فيشعر بمسؤوليته تجاه هذا الواقع السيئ وفاءً بما أخذ الله عليه وما عاهد عليه الله إذ آمن بالله وكتبه ورسله.
وإذ لم يستطع ذلك بيد أو لسان فلا أقل من الإيثار ومقاسمة ما عنده لهؤلاء الفقراء المعوزين، سعياً في سعادتهم وترسم واقعهم المقيت - كما فعل ذلك ثلاثة من أئمتنا: الحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام) - وإذا لم يستطع ذلك أيضاً لكثرة الضحايا في هذا الميدان فلا أقل من أن يضمّد جراح هؤلاء الضحايا - ضحايا قسوة المجتمع الظالم - ببلسم المواساة ومشاركتهم في آلامهم وهمومهم، والتساوي معهم في فقرهم.
وإن لمواساة الآخرين في أحزانهم أهمية عظمى، خصوصاً في حياة أئمة الأمة، أولئك الذين تنظر إليهم الأمة لتقتدي بأفعالهم وأقوالهم. ولذلك نرى أن الإمام (عليه السلام) قد زهد في حياته في الخلافة أكثر من أي وقت مضى، وكان يقول في ذلك:
(إن الله فرض على أئمة العدل: أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره) [١٦] .
ويقول (عليه السلام) في كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف الأنصاري):
(أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون (أسوة) لهم في جشوبة العيش.. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالبشع! أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟! أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة ***** وحولك أكباد تحن إلى القدّ [١٧]
نعم، كان الإمام (عليه السلام) هو هكذا، ولكنه كان إذا سمع برجل يضيق على نفسه كان ينكر عليه ذلك.
فقد شكا إليه العلاء بن زياد الحارثي الهمداني أخاه عاصم بن زياد، فقال له وماله؟ قال: لبس العباءة، وتخلى عن الدنيا! قال: عليّ به. فلما جاء قال له:
(يا عُديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى أحل الله لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك)!
فقال: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك؟!
فقال (عليه السلام): (ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس..) [١٨].
وفي (أصول الكافي) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (إن الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري ولا يُطغي الغني غناه) [١٩] .
وقال رجل لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): أصلحك الله! ذكرت أن علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن والقميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد؟!
فقال له: (إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به).
إذن فهذا الزهد الناتج عن فلفة المواساة - كما ترى بوضوح - لا يمت إلى الرهبنة بشيء، وليس - كما يقولون - فراراً من المسؤولية وإعراضاً عنها، بل هو المواساة لآلام الفقراء والضعفاء.
الزهد والتحرّر
ومن فلسفة الزهد: الحرية والتحرّر، فإن بين الزهد والحرية روابط قديمة وقويمة.
إن الحاجة والافتقار ميزة ظاهرة، والاستغناء ميزة الحرية.
إن أقوى الآمال في حياة الأحرار هو وضع الأثقال عن كاهلهم، والخفة والنشاط في الحركة والتنقل. وإنما يجعل هؤلاء زادهم الزهد والقناعة ليقللوا بذلك من حوائجهم المادية فيطلقوا أنفسهم من أسر الأشياء والأشخاص وقيودهما.
إن الحياة المادية للإنسان - كسائر الحيوانات الأخرى - تحتاج إلى سلسلة من الأمور الطبيعية والضرورية التي لابدّ منها، كالهواء للتنفس والأرض للسكن والطعام للأكل والماء للشرب والثوب للستر، فالإنسان لا يستطيع أن يكتفي بذاته - على حد تعبير الحكماء - عن هذه الأمور وأمور أخرى كالنور والحرارة، ولا أن يتحرر من قيودها تحرراً مطلقاً.
ولكن، هناك سلسلة من الحاجات ليست طبيعية ولا ضرورية، وإنما حملت على الإنسان على مدى تاريخه الطويل من قبله هو أو من العوامل التاريخية والاجتماعية الأخرى، وقد كانت عاملاً فعالاً في الحد من حريته شيئاً فشيئاً.
والأمور التي تحمل على الإنسان من الخارج بصورة قسرية للاضطرار السياسي مثلاً، ليست في خطرها عليه كالأمور النفسية التي تعمل على أن تجرّه من إطاره الداخلي إلى إطارها الغريب، وعلى هذا فإن أخطر القيود على الإنسان إنما هو هذه القيود التي تعزله عن نفسه.
وترى الفلسفة الميكانيكية لهذه العوامل التي تؤدي إلى عجز الإنسان وضعفه: أن الإنسان يحاول - من جهة - أن يكسب حياته صفاءً وبهاءً ورونقاً وجلالاً، فيقبل على التجمل والتنعم بكماليات الحياة، ولأجل الحصول على القوة والقدرة يقبل على تملك الأشياء. ومن جهة أخرى يعتاد على وسائل للتنعم والتجمل والقوة والقدرة شيئاً فشيئاً، ويعجب بها فيعشقها، وتنشأ بينه وبينها روابط خفية دقيقة تشده إليها، فيصبح ذليلاً لها عاجزاً أمامها. وحينئذ يتحول الشيء الذي كان مادة لصفائه ورونقه إلى سبب لذهاب رونقه وصفائه، والذي كان وسيلة لقدرته وقوته إلى سبب لضعفه وعجزه في دخيلة نفسه. فيصبح لها كالعبد المدين لمولاه لا يقدر أمامه على شيء.
إن تقيد أي إنسان بالزهد - إن صح التعبير بالتقيد - تابع من أصول فطرية، فإن الإنسان بطبعه يميل إلى تملك الثروة والاستفادة من متع الحياة، ولكنه حينما يرى أن هذه الأشياء كلما منحته القدرة على الحياة في الظاهر سلبته القدرة الإرادية، في واقع الحال على نفس المدى، وجعلته: (عبداً لها ولمن في يده شيء منها) فهو يثور - حينما يرى ذلك - على هذه العبودية. ويصطلح على هذه الثورة بالزهد.
وإنما أصبح الإمام علي (عليه السلام) حراً بمعنى الكلمة لأنه كان زاهداً بمعنى الكلمة، وكان (عليه السلام) كثيراً ما يعبر في خطبه في نهج البلاغة عن الزهد بالحرية، وعن الشره والنهم بالعبودية.
يقول (عليه السلام) في بعض كلماته القصار: (الطمع رقٌّ مؤبّد) [٢٠] .
ويصف زهد عيسى ابن مريم فيقول: (.. ولا طمع يذله) [٢١].
ويقول (عليه السلام): (الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقته، ورجل اشترى نفسه فأعتقته) [٢٢].
وأصرح من الجميع كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري:
(... إليك عني يا دنيا! فحبلك على غاربك! قد انسللتُ من مخالبك، وأفلت من حبائلك! اعزبي عني، فوالله لا أذل فتستذليني ولا أسلس فتقوديني) [٢٣].
نعم، إن زهد الإمام (عليه السلام) ثورة على الذل في اللذة، وعلى الضعف في الشهرة، وعصيان على عبودية الدنيا، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يبعث حياً!
الزهد، والمعنوية
ومن فلسفة الزهد: إيجاد المعنوية في روح هذه الحياة المادية. ومن الواضح أنّا لا نقصد هنا الماديين في هذه الحياة، إذ من البديهي أن الزهد في الدنيا وثرواتها وجمالها، والإعراض عن عبادة أموالها، وترك التقيد بلذائذها.. لا يجد لنفسه عند أصحاب النظرة المادية أي معنى قط. إنما الحديث هنا مع من يرى لهذه الحياة المادية شيئاً من المعاني أيضاً. فنقول لهؤلاء:
إن من الواضح البديهي لدى هؤلاء أن الإنسان ما لم يتحرر من قيود المادة وأغلالها. وما لم يحترز عن إغوائها وأهوائها، وما لم يفطم طبيعته عن ألبانها.. وأخيراً ما لم يكن يحسن جعل الدنيا وسيلة لا غاية.. لا يتهيأ صعيد قلبه لتلقي الفيوضات الإلهية، والإشراقات الربانية، والإحساس المقدس، والشعور الطاهر، والفكر النيّر.. وأخيراً العقل السليم إلى جانب العاطفة الرحيمة. ولهذا قيل: إن الزهد شرط أساس لإفاضة المعرفة، وله بها علاقة وثيقة.
ومن الواضح أيضاً أن عبادة الحق والحقيقة - بكل ما لهما من المعاني الواقعية - والتلذذ في طاعتهما، وذكر الله الحق المطلق في كل حال، والأنس بالخالق ولطفه حين خدمة المخلوق.. يتنافى مع عبادة النفس والنفيس، والتقيد باللذة، والوقوع في أسار المادة وزخرفها وزبرجها.
بل وفوق هذا نقول: ليست عبادة الله هي التي تستلزم نوعاً من الزهد في الدنيا فقط، بل أن الالتزام والغرام بأية عبادة أو ريادة، في دين أو مذهب، أو فكرة أو مبدأ، أو قومية أو وطنية.. تستلزم نوعاً من الزهد والإعراض عن الشؤون المادية أيضاً!
إلا أن الفرق بين العلوم والفلسفات والتعشق للخيال، وبين الصحيح من العبادات، وهو: أن العبادة، بما أن مقرّها القلب أو الفكر فهي لا تقبل الضرّة أو الرقيب. لا مانع من أن يتعبد العالم أو الفيلسوف بدراهم المادة ثم يجول بفكره في المسائل الفلسفية أو المنطقية أو الطبيعية أو الرياضية. ولكن لا مجال في فكر هذا الفيلسوف أو قلب هذا العالم للتعبد والالتزام بتضحية من تلك التضحيات الإنسانية، أو المبدئية أو المذهبية، بل وحتى القومية منها الوطنية.. فضلاً عن محبة الخالق في خدمة المخلوق. ولهذا نقول أن إبعاد القلب عن التقلب بالمادة العمياء، وإخلائه عن أصنام الذهب والفضة الغراء، شرط ضروري للتربية المعنوية في الإنسان.
وقد قلنا أنه لا ينبغي الخلط بين التحرر عن قيد الذهب والفضة وعدم الاعتناء بكل ما يتبدل بهما، وبين الرهبنة والفرار عن المسؤولية، بل أن المسؤولية والعهود إنما تجد حقيقتها في ظل هذا الزهد، ولا تظل ألفاظاً جوفاء وادعاءات فارغة لا ضمان لها.
ولقد اجتمع الزهد والإحساس بالمسؤولية في شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان أكبر زاهد في العالم، وكان يحمل في صدره أكثر القلوب إحساساً بالمسؤولية الاجتماعية.
إنه (عليه السلام) من ناحية كان يقول: (ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى).
ومن ناحية أخرى، كان يسهر الليل كله لحيف قليل في العدالة مع مظلوم، ولا يرضى أن ينام مبطاناً ويقول: (ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع) وقد كان بين زهده ذاك وإحساسه هذا الرهيف علاقة وثيقة.
إن علياً (عليه السلام) بما أنه كان زاهداً لا طمع له، ومن ناحية أخرى كان قلبه مليئاً من حب الله، وكان يرى العالم من الذرة إلى الذرى مسؤولية مترابطة أمام الخالق العظيم، لذلك كان يشعر بمسؤولية كهذه أمام تعدي حدود الحقوق والواجبات الاجتماعية. ولو كان شخصية ثرية متنعمة متنفذة، لكان من المحال أن يشعر بمثل هذه المسؤولية.
وقد صرحت الروايات والأحاديث الإسلامية بهذه الفلسفة للزهد، وأكد عليها الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة.
جاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (... وكل قلب فيه شك أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا الزهد لتفرغ قلوبهم للآخرة..) [٢٤] .
إن الإمام الصادق (عليه السلام) - كما نراه في هذه الرواية - يعدّ عبادة الهوى بجميع أنواعها واللذائذ شكاً في الله أو شركاً مع الله، ويقول: إنما أراد الإسلام الزهد للمسلمين لتفرغ قلوبهم من كل ما سوى الله فترغب إلى الآخرة.
ولهذا نرى علياً (عليه السلام) حينما يسأل عن إزاره الخَلِق المرقّع يقول:
(يخشع له القلب، وتذل به النفس، ويقتدي به المؤمنون) [٢٥].
ويقصد بذلك أن المؤمنين الذين لا يجدون لأنفسهم إزاراً أحسن من هذا الإزار الخلق المرقّّع، سوف لا يجدون فيه فورة حقد على المجتمع، أو شعوراً بعقدة الحقارة في النفس، وذلك لأنهم يجدون إمامهم قد اكتفى من دنياه بإزار كإزارهم.
ثم يقول (عليه السلام): (... إن الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماشٍ بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر. وهما بعد ضرّتان) [٢٦] .
ولذلك أيضاً نراه يقول في نهاية كتابه إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف):
(... وأيم الله! يميناً - أستثني فيها بمشيئة الله - لأروّض نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقتنع بالملح مأدوماً. ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟! قرّت إذاً عينُه! إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهية الهاملة والسائمة المرعية).
ثم يقول (عليه السلام): (.. طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفّها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)..).
وقد ذكرنا هذين المقطعين من كتاب الإمام (عليه السلام) متتاليين، إذ بهما معاً تتضح لنا العلاقة بين الزهد والمعنوية.
وخلاصة هذين القسمين من الكتاب: هو أنه لابدّ للإنسان المسلم من أن يختار أحد هذين الطريقين: إما الدنيا وإما الآخرة، فإما شهوة الأكل والشرب والغرام والمنام كالأنعام، وإما الإنسانية الإلهية، والنور الرباني الذي يخص القلوب والأرواح النيرة الطاهرة.