المدرس الدكتورخليل خلف بشير
جامعة البصرة - كلية الآداب - قسم اللغة العربية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد فحينما سمعتُ بمؤتمر نهج البلاغة قلتُ في نفسي ماذا عساني أكتب بعدما كُتبتْ البحوث الكثيرة والأطاريح الغزيرة لكني بعدما اطلعتُ على محاور المؤتمر ونهج البلاغة وبعض ما كُتِب عنها وجدتُ في نهج البلاغة الكثير من الموضوعات التي تحتاج إلى بحث وتنقيب، ومنها موضوع ( الدعاء في نهج البلاغة ) الذي شُغفتُ به مدة ً ليستْ بالقصيرة جامعاً مادته من نهج البلاغة مُستعيناً ببعض الدراسات التي تناولتْ نزراً يسيراً من هذا الموضوع، وقد طغتْ على دراستي الجنبة البلاغية ؛ لأن الدعاء هو أقرب ما يكون إلى البلاغة منه إلى العلوم الأخرى فقد قسمت موضوعي على فقرات ابتدأته بمدخل عن الدعاء ونهج البلاغة ثم عرّجتُ على عناصر الدعاء في نهج البلاغة، وبلاغة هذه الأدعية، وأغراضها، الصور البلاغية التي تتضمنها على أنني بذلتُ جهدي بالرغم من انشغالي بالتدريس لأضع هذا البحث بالمستوى المطلوب مُقدّماً اعتذاري لسيدي ومولاي أمير المؤمنين إنْ كان ثمة خلل أو زلل أو خطل - أعاذنا الله من ذلك كله-، «وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ - هود/٨٨» .
مدخل
الدعاء ونهج البلاغة
يعد الدعاء من أشد روابط القرب إلى المعبود، ومن أقوى الأسباب في نجح المطلوب وأعظمها في نيل المقصود، وهو وسيلة بين العبد وخالقه، واتصال من عالم الملك بعالم الملكوت فهو شعور الإنسان الباطني بصلته وارتباطه بعالم لا مبدأ له ولا نهاية، ولا حد ولا غاية لسعة رحمته وقدرته وإحاطته بجميع ما سواه[١]، وهو إقبال العبد على ربه، والإقبال عليه روح العبادة، والعبادة هي الغاية من خلق الإنسان[٢]؛ لقوله تعالى «ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»[٣].
ومن آثار الدعاء أنه يمحو حالات اليأس والقنوط والهجران والوحدة والغربة والاضطراب كما يخفف من وطأة كل ذلك ومن حدتها، ويدعو إلى الهدوء والسكينة والطمأنينة التي يكتسبها الداعي مما يشعره بالسرور والغبطة والفرح والانقطاع إلى الله، ويقوي إيمانه ويوثق صلته بالله تعالى[٤].
وقد عني الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالدعاء عناية بالغة، ذلك لما يترتب عليه من آثار تعود لصالح الداعي في الدنيا والآخرة، فهو من أنجع الوسائل وأعمقها في تهذيب النفوس، وهو مفتاح الرحمة ونجاح الحاجة، ولا يدرك ما عند الله تعالى إلاّ بالدعاء والابتهال، وهو من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وكذا مخ العبادة وجوهرها وأفضلها، وهو سلاح الأنبياء والمؤمنين، ومفتاح الرحمة والنجاح والجنان والفلاح، وعمود الدين، وشفاء من كل داء، ودافع للبلاء، وراد للقضاء[٥].
قال تعالى: «قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم»، وقد حفلت كتب الدعاء الكثيرة بتراث غزير من أدعية أهل البيت عليهم السلام، التي تعدّ صفحة مشرقة من صفحات التراث الإنساني، وذخيرة فذّة من ذخائر المسلمين، فهي من حيث الصياغة والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع، ومن حيث المضمون فقد أودع الأئمة عليهم السلام في أدعيتهم خلاصة المعارف الدينية، وهي من أرقى المناهل في الإلهيات والأخلاق، وهي وسيلة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وبيان أدقّ أسرار التوحيد والنبوة والمعاد وغيرها من المضامين التي يترتب عليها آثار واضحة في تعليم الناس روحية الدين والزهد والأخلاق، وقد تحول الدعاء إلى مدرسة كاملة لثقافة أهل البيت تدرس فيه العقائد، والأخلاق والمفاهيم الإسلامية والاجتماعية والإنسانية، والأدب العالي فضلاً عن التزكية والتربية العالية، وقد أسس هذا الأسلوب أهل البيت (عليهم السلام) لاسيما أمير المؤمنين في أدعيته ومناجاته المشهورة، وقد أفاد من هذا الأسلوب حفيده الإمام زين العابدين (عليه السلام) في زبور آل محمد الموسوم ( الصحيفة السجادية ) فكان نتاجه واسعاً ومتميّزاً وتأثيره ودوره في المنهج الثقافي كبيراً فكان بحق أنجح الأساليب في معالجة التدهور الثقافي والأخلاقي في المجتمع الإسلامي فضلاً عن التغلب على الظروف السياسية الصعبة التي واجهها الإمام بعد استشهاد أبيه الحسين (عليه السلام )[٦].
ومن كنوز تراثنا العربي الإسلامي كتاب نهج البلاغة الذي حفل بالكثير من المباحث منها: العبادات، والحكم والإدارة، والخلافة، والمواعظ، والأدعية، والمناجاة، والحرب والحماسة، والملاحم، والمغيبات، وغيرها[٧]، وقد حثّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة على الدعاء مضمناً معاني قرآنية منها: تكفلُ الباري عزّ وجل بالإجابة لمن يدعوه بقوله «وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَتَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يُعَيِّرْكَ بِالْإِنَابَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى وَلَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وَفَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَبَابَ الِاسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَأَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَسَعَةِ الْأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ»[٨]، وكذا قوله «من أعطي أربعاً لم يُحرم أربعاً: منْ أعطي الدعاء لم يُحرم الإجابة، ومنْ أعطي التوبة لم يُحرم القبول، وإنْ أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومنْ أعطي الشكر لم يُحرم الزيادة»[٩] وكذا قوله «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الشُّكْرِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ وَلَا لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الدُّعَاءِ وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْإِجَابَةِ وَلَا لِيَفْتَحَ لِعَبْدٍ بَابَ التَّوْبَةِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَةِ، ...»[١٠]، وقد ذكر آداب الدعاء وشروطه من ذلك قوله في وقت الدعاء ومكانه «فمتى شئتَ استفتحتَ بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرتَ شآبيب رحمته»[١١] وكذا في رواية عَنْ نَوْفٍ الْبَكَالِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ فِرَاشِهِ فَنَظَرَ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لِي: يَا نَوْفُ أَرَاقِدٌ أَنْتَ أَمْ رَامِقٌ، فَقُلْتُ بَلْ رَامِقٌ، قَالَ: يَا نَوْفُ طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَتُرَابَهَا فِرَاشاً وَمَاءَهَا طِيباً وَالْقُرْآنَ شِعَاراً وَالدُّعَاءَ دِثَاراً ثُمَّ قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ[١٢].
ومن شروط الدعاء أيضاً الإخلاص فيه، وعقد القلب عليه كما في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): «وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَمَانِعٍ عَزِيزٍ وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ»[١٣]، وكذا في حكمته التي يقول فيها: «أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الْإِبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْلًا لَا يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَخَافَنَّ إِلَّا ذَنْبَهُ وَلَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ وَلَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ»[١٤].
ومن الشروط أيضاً اليأس من غير الله تعالى ؛ لأنّ مفاتيح الغيب عند الله تعالى فهو الذي يعطي من يشاء، ويمنع عمن يشاء بحسب المصلحة الإلهية فربما يسأل العبد ما هو شر له والله يبدله إلى الخير، وربما يسأل الخير فيؤخره ؛ لأن المصلحة تقتضي التأخير، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين: «فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَاسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الْآمِلِ وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاهُ وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَلَا تَبْقَى لَهُ»[١٥].
ومن آداب الدعاء الافتتاح بذكر الله والثناء عليه والصلاة على النبي وآله، وقد أكّد هذا المعنى في قوله «إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ حَاجَتَيْنِ فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا وَيَمْنَعَ الْأُخْرَى»[١٦].
ومن ذلك قوله «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَجَلَالِ كِبْرِيَائِهِ مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَرَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَإِيقَانٍ وَإِخْلَاصٍ وَإِذْعَانٍ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَأَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ وَمَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ وَهَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»[١٧].
عناصر الدعاء في نهج البلاغة
يعد الدعاء شكلاً فنياً فهو من حيث المظهر الخارجي يقوم عل عنصر المحاورة الانفرادية إذ يتوجه الإمام بكلامه المسموع إلى الله تعالى، ومن حيث المظهر الداخلي يقوم على عنصر وجداني يجسّده الكلام المذكور إذ يتصاعد به الداعي إلى أوج الانفعالات الصادرة عنه[١٨].
ومن حيث المضمون تنطوي هذه المحاورة على محورين[١٩]:
الأول: فردي أو ذاتي يتصل بحاجات الداعي الشخصية كطلب المغفرة، والشفاء من المرض، وغيرهما .
ومثاله عند الإمام (عليه السلام) قوله «اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَلَا تَبْذُلْ جَاهِيَ بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَأُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[٢٠].
الثاني: موضوعي، ويشمل كل ما هو غير ذاتي، وهو نمطان:
أ- عبادي: يتصل بتمجيد الله والثناء عليه بذكر صفاته ومعطياته .
ب- اجتماعي: وينحصر بطلب إلى الله تعالى بتحقيق حاجات الآخرين مثل طلب النصر على العدو، واستسقاء المطر، والدعاء للآخرين ... الخ مثال ذلك قوله في خطبة الاستسقاء «اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَهَامَتْ دَوَابُّنَا وَتَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلَادِهَا وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا وَالْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا»[٢١].
ويمكن تلمس عناصر الدعاء من خلال العنصر الرئيس، وهو عنصر المحاورة الانفرادية بالآتي[٢٢]:
١- العنصر الإيقاعي: لما كان الدعاء شكلاً معدّاً للتلاوة فحريّ به أن يتسم بوجود عنصر إيقاعي متمثل بالتجنيس والسجع ونحوهما ؛ لذا نجد الأدعية مشحونة بالإيقاع بنحو لافت النظر فإذا ما استخدم الإيقاع بصورة صحيحة فإنه سيضفي جمالاً آخر يجمع بين جمال المعنى وجمال الإيقاع، ولما كان الإيقاع من خصائص القرآن الكريم لذا فالخطاب العلوي يستمد معانيه وأساليبه من الخطاب القرآني، وتتوقف قوة استخدام العنصر الإيقاعي على قدرة المتكلم على التلاعب بالحروف والكلمات[٢٣].
٢- العنصر الصوري: ونظراً للوضوح والمباشرة والتقريرية التي تتضمنها طبيعة الحاجات المدعو بها فإن الدعاء لا يمنحه نفس الأهمية التي نجدها للإيقاع فالداعي يتقدم بحاجاته بلغة واضحة لا غموض ولا تعقيد ولا تعميق إلا في بعض الأدعية التي تتطلب عنصراً صورياً كالمناجاة التي تستلزم دخولاً إلى أغوار النفس في تشابك حالاتها المختلفة .
بلاغة الدعاء في نهج البلاغة
يوضَع كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمرتبة الثالثة من الإعجاز البلاغي بعد القرآن الكريم والحديث النبوي ؛ لأنّ في كلامه مسحة من الكلام الإلهي، وفيه عبقة ونفحة من الكلام النبوي، وبلاغته فن وذوق ينسجمان مع كل عصر وزمن فقد تعدّتْ طريقته الطريقة الكلاسيكية، وقفزتْ على المراحل الزمنية حتى عدّ البلغاء أدبه متماشياً مع كل عصر، وقد امتاز بأسلوبه البلاغي الخاص وبطريقته في صنع العبارة والجملة فأصبح أدبه متفرداً ذا خصائص معينة لا يشابهه أحد من البلغاء، ولما كانتْ البلاغة – كما يقول الدكتور محسن باقر الموسوي – تطير بجناحين هما: العلم، والشجاعة، وقد امتلكهما أمير المؤمنين فبلاغته تكون بالمستوى المطلوب؛ لأنها بمستوى شخصيته العلمية فهي بلاغة مستمدة من علم يستقي معينه من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن كينونة جُبلتْ على الشجاعة والإقدام[٢٤]، أما أسلوب نهج البلاغة فهو أسلوب مبتكر لم يسبق بأسلوب قبله إلا القرآن الكريم إذ إن أرضية الأفكار المطروحة في نهج البلاغة هي من ثمار الإبداع القرآني[٢٥].
إنّ خصائص بلاغة الإمام علي (عليه السلام) موجودة ومطبوعة بأسلوبه وبيانه حتى في أدعيته، ولعل هذا رمز عظمة الإمام (عليه السلام) فقد حافظ على مستواه البلاغي في كل ما قاله وما كتبه في الخطابة أو الكلام أو الدعاء فأدعيته مصبوغة بصبغة بلاغية قلما نجدها في الأدعية الأخرى كما إنها مصبوغة أيضاً بصبغة روحانية قلما نجدها في الأدعية الأخرى فقد سكب الإمام من روحانيته أقصى ما يستطيع من التعابير الأدبية والفنية التي تظهر الخشوع والخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى[٢٦].
إنّ بلاغة الإمام عليّ (عليه السّلام) تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة الباهرة، وتتجلى جمالية نهج البلاغة في ألفاظه الفصيحة العذبة – ومنها ألفاظ الدعاء -، وفي نظمه المحكم، ودلالته على المعنى فالألفاظ سهلة في جريانها على اللسان، خفيفة في وقعها على النفس، يألفها الذوق ولا يجد صعوبة في إدراكها، وكل كلمة تقع موقعها اللائق والمناسب لها، وعندما يطرق اللفظ السمع يخطر معناه في القلب بوساطة قوالب جميلة محببة إلى النفس كالتشبيه، والاستعارة، والكناية، وغيرها[٢٧] إذ يتناول مسائله الفكرية المتداولة والمشتركة، وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية مبتكرة فالنص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به.
أغراض الدعاء في نهج البلاغة
لم يكن الدعاء وسيلة لإظهار التعبد والتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى فحسب بل أنه يحمل معاني عديدة منها بث الشكوى لله تعالى، وإظهار عجز المخلوق وضعفه أمام قدرة الخالق، وقد استخدم أمير المؤمنين (عليه السلام) أسلوب الدعاء لأغراض كثيرة منها[٢٨]:
الاستسقاء: أورد أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبا كثيرة طلباً لنزول المطر، وتعد هذه الخطب آية من آيات البلاغة، وموئلاً من موائل العلم والمعرفة فلو أخذنا الخطبة المائة وخمسة عشرة نجده يمهد لها بالوضع المأساوي الذي أصاب الناس في ذلك الزمان فقد كشف النقاب عن وضع الجبال والأراضي والمراتع والدواب من أثر الجفاف الشديد بقوله «اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَهَامَتْ دَوَابُّنَا وَتَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا وَ عَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلَادِهَا وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا وَ الْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا»[٢٩]رافعاً يديه بالدعاء مبتهلاً إلى الله بأن يرحم أنين الشاة، وحنين الجمل من شدة عطشهما وصراخهما في أمكانهما بقوله «اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الْآنَّةِ وَحَنِينَ الْحَانَّةِ اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا وَ أَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا»[٣٠] مردفاً ذلك بحال المسلمين الذي شبهه بالحدابير التي واحدها الحدبور، وهو الجمل الذي بان عظام سنامه، وقد حزّ لحمه بصورة تامة أثر شدة الضعف في قوله «اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ»[٣١]مبتهلاً إلى الله في أنه الأمل والرجاء لكل بأس، وحلال لكل مشكلة لاسيما أنّ اليأس قد سيطر على الناس، ومنعت السماء بركاتها، والغيوم مياهها، وقد أشرفت الحيوانات على الهلاك سائلاً الباري عزّ وجل أن لا ياخذه بسيئات الأعمال وبوائق الذنوب في قوله «فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ وَالْبَلَاغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الْأَنَامُ وَمُنِعَ الْغَمَامُ وَ هَلَكَ السَّوَامُ أَلَّا تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا وَلَا تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا»[٣٢] طارحاً طلبته الأصلية، وهي نزول الرحمة الإلهية، والبركة السماوية بنزول المطر بقوله «وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ وَ النَّبَاتِ الْمُونِقِ سَحّاً وَابِلًا تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ وَ تَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ»[٣٣] ثم أتبعه بوصف المطر النازل بجملة أوصاف بلغت عشرين وصفاً، وهي أوصاف تجعل الإنسان يشعر بخضوع وتواضع أمام عظمة الخالق بقوله «اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً هَنِيئَةً مَرِيعَةً زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً فَرْعُهَا نَاضِراً وَرَقُهَا تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلَادِكَ اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا وَيُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ»[٣٤] وأضاف في معرض تواصله بطلب الماء ونزول المطر الذي يفيض بالخير والبركة بقوله «وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً مِدْرَاراً هَاطِلَةً يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ وَيَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ»[٣٥] وأردف ذلك بذكر تسعة أوصاف للمطر فضلاً العشرين بقوله «غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا وَلَا جَهَامٍ عَارِضُهَا وَ لَا قَزَعٍ رَبَابُهَا وَلَا شَفَّانٍ ذِهَابُهَا حَتَّى يُخْصِبَ لِإِمْرَاعِهَا الْمُجْدِبُونَ وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا الْمُسْنِتُونَ فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ»[٣٦]، وإنه من دواعي العجب والدهشة أن يستسقي الإمام بذكر ٢٩وصفاً للمطر في حين يذكر غيره صفة أو صفتين لنزول المطر بيد أن الإمام استفرغ أقصى فصاحته وبلاغته وتوسّل إلى الله تعالى مسهباً في أوصاف المطر ليعرّف الناس ألطاف الله وأفضاله ونعمه ورحماته، ويفهمهم أن مسار النعمة مليء بكثير من الموانع بحيث لا يسعهم بلوغ الكمال المنشود ما لم تشملهم رعاية الله ورحمته[٣٧] مما حدا ببعض الباحثين أن يذهب إلى أنّ هذا الدعاء – دعاء الاستسقاء – قد اشتمل على علوم الجغرافية والتضاريس والأنواء الجوية والاقتصاد[٣٨].
عرض الأوضاع وتحليل الأحداث: يعرض الإمام الحالة السياسية التي تعيشها الأمة الإسلامية في عهده بأسلوب دعائي ليقع موقعاً حسناً في النفوس، وليعرف الناس ما يجري ما حولهم من أحداث كما في قوله «أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وَبِأَدَائِهِمُ الْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ وَ بِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»[٣٩] فقد وصف تثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له بالرأي بعد أن استباح بسر بن أرطاة المدينة ثم اليمن وسفك الدماء وروّع الناس فقد استاء الإمام من موقف أصحابه وتخاذل قائديه عبيد الله بن عباس، وسعيد بن نمران هنالك دعا إمامنا الله تعالى أن يبدله بهم خيراً منهم ويبدلهم به شراً منه، ويذيب قلوبهم كما يُذاب الملح في الماء بضياع عقولهم وفطنتهم ودرايتهم وحكمتهم[٤٠].
الشكوى : يستخدم الإمام أسلوب الدعاء لغرض الشكوى ممن ظلمه من رعيته أو من أفراد مخصوصين ولهم باع في الدولة الإسلامية مثل طلحة والزبير كما في قوله «اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَظَلَمَانِي وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَأَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَلَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَعَمِلَا»[٤١].
أغراض فكرية: يستخدم الإمام أسلوب الدعاء لأغراض فكرية مثل التوحيد، وما يتعلق بصفات الله تعالى نحو قوله «اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ اللَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَلَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَلَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيبَةِ وَعَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ وَلَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَالْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ وَلَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[٤٢].
التعبير عن مكنونات النفس وما يختلج في الأعماق من نوايا: يكون الدعاء أحياناً معبراً عما تكنه النفس الإنسانية من نوايا وما يختلج في الأعماق من دوافع مثل كون الإمام لم يطمح لمنافسة في سلطان، ولكنه أراد الإصلاح في البلاد والعباد إذ يقول: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَسَمِعَ وَأَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) بِالصَّلَاةِ»[٤٣].
رفع معنويات المقاتلين: يلجأ الإمام إلى الدعاء ليقوي عزيمة أصحابه ومعنوياتهم في ملاقاة الأعداء ؛ لأن الدعاء يرد البلاء لاسيما إذا صدر من مؤمن فكيف بالإمام المعصوم المفترض الطاعة فالدعاء بالنسبة لأصحابه يمثل قوة ومنعة ضد الأعداء كما في دعائه عند لقاء العدو في صفين «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْجَوِّ الْمَكْفُوفِ الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَجْرًى لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ وَجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِكَتِكَ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ وَرَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ وَمَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لَا يُرَى وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً وَ لِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ»[٤٤].
وكذا الحال في استنهاضه أصحابه لجهاد أهل الشام في قوله «اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ وَالْمُصْلِحَةَ غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ وَالْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً وَنَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ ثُمَّ أَنْتَ بَعْدُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ وَالْآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ»[٤٥].
رسم صورة الصراع بينه وبين أعدائه: يستخدم الإمام الدعاء أحياناً ليرسم صورة بارعة للصراع الدائر بينه وبين أعدائه كما في قوله في قريش «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ»[٤٦].
حقن الدماء وصلاح ذات البين وطلب الهداية: لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) غاية في الخلق حتى مع أعدائه فعندما يسمع أصحابه يسبون أهل الشام ينادى بهم «إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ»[٤٧] مبتهلاً إلى الله بقوله «اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ»[٤٨].
أهداف تربوية: من المعروف أنّ الدعاء يؤدي دوراً مهماً في تربية النفوس البشرية وسوقها نحو مدارج السمو والرفعة والكمال ناهيك عما يشتمل عليه من فضائل أخلاقية ومعارف ربانية تسبغ بها النفس وتمنحها الهدوء والسكينة كما في قوله «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَلَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ وَسَقَطَاتِ الْأَلْفَاظِ وَشَهَوَاتِ الْجَنَانِ وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ»[٤٩] فرصيد الإنسان هو النسيان فيقارف الكثير من الذنوب والمعاصي إلى درجة نسيانها وعدم الاعتذار إلى الله منها وطلب العفو والمغفرة أو الإصرار عليها وعدم الكف عنها فينبغي استحضار الذنوب والمعاصي وطلب العفو والمغفرة كما ينبغي التضرع إلى الله تعالى بغفران الذنوب المنسية التي يعلمها الله فضلاً عن العهود والمواثيق التي عاهد بها نفسه ولم يفِ بها[٥٠] ثم يطلب غفران ما يتقرب به إلى الله باللسان ثم يخالفه القلب ثم يعقبها بكلمات تبدو مترادفة المعنى، متساوقة في التعبير، متسقة في الوزن هي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان وهفوات اللسان، وما هذه إلا الذنوب التي تقترفها جوارح الإنسان المتمثلة بالعين والقلب واللسان فرمزات الألحاظ هي إشارات العيون إلى عيوب الناس ومساوئهم، وسقطات الألفاظ لغوها أي ما ينطق به اللسان مما لا يُرضي الرحمن، وشهوات الجنان هي شهوات القلب أي ما يميل إليه القلب من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وهفوات اللسان الكلام المحرّم الذي يقذفه اللسان من الغيبة والنميمة والبهتان والاستهزاء والسب والشتم والتهمة[٥١].
ولما كان الدعاء سلاح الأنبياء والأوصياء والمؤمنين، ومخ العبادة، ودافعاً للبلاء لذا نجد أمير المؤمنين مواظباً على أدعية في أوقات معينة منها دعاؤه في الصباح الذي يقول فيه «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَلَا سَقِيماً وَلَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ وَلَا مَأْخُوذاً بِأسْوَء عَمَلِي وَلَا مَقْطُوعاً دَابِرِي وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَلَا مُنْكِراً لِرَبِّي وَلَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَلَا مُلْتَبِساً عَقْلِي وَلَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَلَا حُجَّةَ لِي وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي وَأَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ»[٥٢].
وكذا دعاؤه عند النوم، وعند تقلبه في الفراش، وفي جوف الليل، وبعد الركعة الثامنة من صلاة الليل، وفي ركعة الوتر[٥٣]، وغيرها، وهذا يدلّ على أدب الأئمة – ومنهم أمير المؤمنين – مع خالقهم فهم عنوان المؤمنين، ومؤدبو البشرية، وسادات المؤمنين، ارتضعوا من ثدي الرسالة ودرجوا في بيت الوحي والتنزيل، ومنهم نتعلم الآداب والأخلاق والفضيلة، وقد اختطوا منهجاً واضحاً، وطريقاً لاحباً في أدب الدعاء والمناجاة[٥٤]، ولعل خير دليل على ذلك تكراره (عليه السلام) كلمة ( اللهم)[٥٥] في أدعيته المباركة والتي تُلمع إلى شدة تقرب العبد إلى ربه، وتفسّر حالة انقطاع العبد إلى خالقه فتستقر النفس وتأنس باللطف والعناية الإلهية ؛ لأنّ خالقها يسمع دعاءها، ويلبي نداءها فهو القائل «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»[٥٦] على أنّ هذه الأدعية بمجموعها تمثل مدرسة ومنهاجاً عملياً تطبيقياً يعيشه الإنسان، وتربيه على مخاطبة خالقه وتعرّفه صفاته ونعمه وعطاياه، وتحثه على الورع والتقوى والتوبة والإنابة ومكارم الأخلاق وترويض شهوات النفس، وتعرّفه الأعمال الصالحة والسلوك الشرعي الراقي، وتكشف وسائل الشيطان ومداخله التي يدخل منها إلى الإنسان[٥٧]، لذا يعد الدعاء نوعاً من الممارسات الوجدانية، ويفترق عن غيره من سائر أنواع التعبير الفني بكونه يجسد تجربة داخلية يتكفل بصياغتها المشرع الإسلامي ويقدمها ليتمثلها الداعي وكأنها من نتاج ذاته[٥٨].
صور بلاغية في أدعية نهج البلاغة
عندما نتفحص أدعية الإمام علي (عليه السلام) سنجد أنها مشتملة على صور بلاغية متنوعة تشكلها فنون بيانية مختلفة من مجاز وكناية واستعارة فقد توافر الإمام على جميع الصور الفنية وتداخلتْ هذه الصور المختلفة في نص واحد لتكوين أسرار فنية كامنة وراء حشد بعض الأدعية بعنصر الصورة، وضمور ذلك في سائر الأدعية فضلاً عن أسرار فنية أخرى كامنة وراء حشد غالبية الأدعية بعنصر الإيقاع وصلة ذلك بعنصر التلاوة الذي يميز الدعاء عن غيره من فنون التشريع الإسلامي[٥٩]، ويمكن تلمس بعض الصور البيانية في أدعية نهج البلاغة في ما يأتي[٦٠]:
في قوله (اللهم إليك أفضتْ القلوب ومُدّت الأعناق) نلمح كناية فمد العنق بمعنى تطويله، وهو كناية عن الميل والتطلع، وفي قوله (اللهم وقد بسطتَ لي في ما لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحد سواك) كناية عن بلاغة الكلام وعذوبة لسانه (عليه السلام)، وفي قوله ( اللهم فإن ردوا الحق فافضضْ جماعتهم وشتتْ كلمتهم ) شبه الآراء بالكلمة أي شتتَ آراءهم لأنها التي تتفرق، ولما كانتْ الكلمة سبب ظهور الآراء أطلقتْ عليها مجازاً مرسلاً، وفي قوله (استودع الله دينك ودنياك، وأسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة ) يشبه الخالق بالأمين الذي يأمِّن الإنسان لديه أمواله وممتلكاته كما يشير إلى ذلك بوساطة لفظة (استودع)، وفي قوله (اللهم قد صرح مكنون الشنآن، وجاشتْ مراجل الأضغان) يستعير شدة البغضاء وتأصيلها في النفوس بقوله (جاشتْ مراجل الأضغان).
الخاتمة
يعد الدعاء شكلاً فنياً فهو من حيث المظهر الخارجي يقوم عل عنصر المحاورة الانفرادية إذ يتوجه الإمام بكلامه المسموع إلى الله تعالى، ومن حيث المظهر الداخلي يقوم على عنصر وجداني يجسّده الكلام المذكور إذ يتصاعد به الداعي إلى أوج الانفعالات الصادرة عنه، ومن حيث المضمون تنطوي هذه المحاورة على محورين: الأول، فردي أو ذاتي يتصل بحاجات الداعي الشخصية كطلب المغفرة، والشفاء من المرض، وغيرهما، والثاني، موضوعي، ويشمل كل ما هو غير ذاتي، وهو نمطان:عبادي: يتصل بتمجيد الله والثناء عليه بذكر صفاته ومعطياته، واجتماعي: ينحصر بطلب إلى الله تعالى بتحقيق حاجات الآخرين مثل طلب النصر على العدو، واستسقاء المطر، والدعاء للآخرين ... الخ
أما عناصر الدعاء فهي: عنصر المحاورة الانفرادية، والعنصر الإيقاعي، والعنصر الصوري .
ويوضَع كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمرتبة الثالثة من الإعجاز البلاغي بعد القرآن الكريم والحديث النبوي ؛ لأنّ في كلامه مسحة من الكلام الإلهي، وفيه عبقة ونفحة من الكلام النبوي، وبلاغته فن وذوق ينسجمان مع كل عصر وزمن فقد تعدّتْ طريقته الطريقة الكلاسيكية، وقفزتْ على المراحل الزمنية حتى عدّ البلغاء أدبه متماشياً مع كل عصر، وقد امتاز بأسلوبه البلاغي الخاص وبطريقته في صنع العبارة والجملة فأصبح أدبه متفرداً ذا خصائص معينة لا يشابهه أحد من البلغاء، ولما كانتْ البلاغة تعتمد على عنصرين هما: العلم، والشجاعة، وقد امتلكهما أمير المؤمنين فبلاغته تكون بالمستوى المطلوب؛ لأنها بمستوى شخصيته العلمية فهي بلاغة مستمدة من علم يستقي معينه من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن كينونة جُبلتْ على الشجاعة والإقدام.
أما أسلوب نهج البلاغة فهو أسلوب مبتكر لم يسبق بأسلوب قبله إلا القرآن الكريم إذ إن أرضية الأفكار المطروحة في نهج البلاغة هي من ثمار الإبداع القرآني.
إنّ خصائص بلاغة الإمام علي (عليه السلام) موجودة ومطبوعة بأسلوبه وبيانه حتى في أدعيته، ولعل هذا رمز عظمة أمير المؤمنين فقد حافظ على مستواه البلاغي في كل ما قاله وما كتبه في الخطابة أو الكلام أو الدعاء فأدعيته مصبوغة بصبغة بلاغية قلما نجدها في الأدعية الأخرى كما إنها مصبوغة أيضاً بصبغة روحانية قلما نجدها في الأدعية الأخرى فقد سكب الإمام من روحانيته أقصى ما يستطيع من التعابير الأدبية والفنية التي تظهر الخشوع والخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى .
إنّ بلاغة الإمام عليّ (عليه السّلام) تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة الباهرة، وتتجلى جمالية ألفاظ الدعاء في نهج البلاغة في ألفاظه الفصيحة العذبة، وفي نظمه المحكم، ودلالته على المعنى فالألفاظ سهلة في جريانها على اللسان، خفيفة في وقعها على النفس، يألفها الذوق ولا يجد صعوبة في إدراكها، وكل كلمة تقع موقعها اللائق والمناسب لها، وعندما يطرق اللفظ السمع يخطر معناه في القلب بوساطة قوالب جميلة محببة إلى النفس كالتشبيه، والاستعارة، والكناية، وغيرها إذ يتناول مسائله الفكرية المتداولة والمشتركة، وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية مبتكرة فالنص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به.
وقد تنوعتْ أغراض الدعاء في نهج البلاغة إلى: الاستسقاء، عرض الأوضاع وتحليل الأحداث، الشكوى، وأغراض فكرية، التعبير عن مكنونات النفس وما يختلج في الأعماق من نوايا، ورفع معنويات المقاتلين، رسم صورة الصراع بينه وبين أعدائه، حقن الدماء وصلاح ذات البين وطلب الهداية فضلاً عن أهداف تربوية مهمة يؤديها الدعاء في تربية النفوس البشرية وسوقها نحو مدارج السمو والرفعة والكمال ناهيك عما يشتمل عليه من فضائل أخلاقية ومعارف ربانية تسبغ بها النفس وتمنحها الهدوء والسكينة.
وبالرغم من الوضوح والمباشرة والتقريرية التي تتضمنها طبيعة الحاجات المدعو بها إذ الداعي يتقدم بحاجاته بلغة واضحة لا غموض ولا تعقيد ولا تعميق فلا تتطلب عنصراً صورياً
إلا إننا وجدنا اشتمال بعض أدعية الإمام على صور كنائية واستعارية ومجازية لتكوين أسرار فنية كامنة وراء هذه الصور.
---------------------------------------------------------------
[١] . ينظر : مواهب الرحمن في تفسير القرآن / السيد عبد الأعلى السبزواري ٣/٦٧-٧١.
[٢] . ينظر : الدعاء عند أهل البيت / محمد مهدي الآصفي ١٣.
[٣] . – الذاريات/٥٦ .
[٤] . ينظر : فلسفة المناجاة والتضرع والدعاء / محمد حسين المختاري المازنداني ٤٥.
[٥] . ينظر : منهج الدعاء عند أهل البيت / صباح علي البياتي ١٤-١٨،فلسفة الابتلاء / الشيخ حافظ حداد ٨٥.
[٦] . ينظر : دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة / الشهيد محمد باقر الحكيم ١/١٣٢-١٣٣.
[٧] . ينظر : في رحاب نهج البلاغة / مرتضى مطهري ٣٢.
[٨] . نهج البلاغة ، الرسالة ٣١،ص٤٦٤-٤٦٥.
[٩] . المصدر نفسه ،الحكمة ١٣٥،ص٥٧٧.
[١٠] . المصدر نفسه ،الحكمة ٤٣٥،ص٦٣١.
[١١] . المصدر نفسه ،الرسالة ٣١، ص٤٦٤-٤٦٥.
[١٢] . وَهِيَ الطُّنْبُورُ ـ أَوْ صَاحِبَ كَوْبَةٍ ـ وَ هِيَ الطَّبْلُ ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضاً إِنَّ الْعَرْطَبَةَ الطَّبْلُ وَالْكَوْبَةَ الطُّنْبُورُ ( المصدر نفسه ، الحكمة ١٠٤،ص٥٦٨-٥٦٩).
[١٣] . المصدر نفسه ، وصيته إلى ابنه الإمام الحسن (ع) ص٤٥٨.
[١٤] . المصدر نفسه، الحكمة ٨٢،ص٥٦٤.
[١٥] . المصدر نفسه ، وصيته إلى ابنه الإمام الحسن (ع) ٤٦٤-٤٦٥.
[١٦] . المصدر نفسه ، الحكمة ٣٦١،ص٦١٦.
[١٧] . المصدر نفسه ، الخطبة ١٩٥،ص٣٥٦-٣٥٧
[١٨] . ينظر : تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي / د. محمود البستاني ٢٣٤،والبلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي/ د. محمود البستاني ١٥٠-١٥١.
[١٩] . ينظر : أدب الشريعة الإسلامية – دراسة جديدة في بلاغة نصوص القرآن الكريم ونصوص الأربعة عشر معصوماً / د. محمود البستاني١٦٣.
[٢٠] . نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٥،ص٤٠٤.
[٢١] . المصدر نفسه ، الخطبة ١١٥،ص١٩٦.
[٢٢] . ينظر : البلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي ١٥١-١٥٢.
[٢٣] . ينظر : علوم نهج البلاغة / د. محسن باقر الموسوي ٣٧٣.
[٢٤] . ينظر : علوم نهج البلاغة ٣٦٥-٣٦٩.
[٢٥] . ينظر : في رحاب نهج البلاغة ٥٥.
[٢٦] . ينظر : المدخل إلى علوم نهج البلاغة / د. محسن باقر الموسوي ١٢٧.
[٢٧] . ينظر : علوم نهج البلاغة ٣٦٩.
[٢٨] . ينظر : المصدر نفسه ٣٨٧-٣٨٩.
[٢٩] . نهج البلاغة ، الخطبة ١١٥،ص ١٩٦-١٩٨،ومثلها الخطبة ،١٤٣،ص ٢٢٩-٢٣٠والحكمة ٤٧٢،ص٦٣٧.
[٣٠] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣١] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣٢] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣٣] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣٤] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣٥] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣٦] . ينظر : المصدر نفسه.
[٣٧] . ينظر : نفحات الولاية - شرح نهج البلاغة / ناصر مكارم الشيرازي٥/ ٧٩-٨٨.
[٣٨] . ينظر : علوم نهج البلاغة ٣٨٧.
[٣٩] . نهج البلاغة ، الخطبة ٢٥،ص٥١-٥٢.
[٤٠] . ينظر : نفحات الولاية ٢/٦٦-٦٧.
[٤١] . نهج البلاغة ، الخطبة ١٣٧،ص٢٢٤.
[٤٢] . المصدر نفسه ، الخطبة ٩١،ص١٥٣-١٥٤، وهي الخطبة المعروفة بخطبة الأشباح.
[٤٣] . المصدر نفسه ، الخطبة ١٣١،ص٢١٧.
[٤٤] . المصدر نفسه ، الخطبة ١٧١،٢٨٣-٢٨٤.
[٤٥] . المصدر نفسه ، الخطبة ٢١٢،٣٨١.
[٤٦] . المصدر نفسه ، الخطبة ١٧٢،٢٨٥.
[٤٧] . المصدر نفسه ، من كلامه ٢٠٦،ص٣٧٤،وكذا الخطبة ٢٢٧ص٤٠٦-٤٠٧.
[٤٨] . المصدر نفسه ، من كلامه ٢٠٦،ص٣٧٤،وكذا الخطبة ٢٢٧ص٤٠٦-٤٠٧.
[٤٩] . المصدر نفسه ،من كلمات كان يدعو بها ٧٨،ص١٠٦-١٠٧.
[٥٠] . ومثل ذلك في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في يوم الاثنين ((اللهم إني أستغفرك لكل نذر نذرته ،وكل عهد عاهدته ثمّ لم أفِ به)) ينظر : الصحيفة السجادية١٣١.
[٥١] . ينظر : في ظلال نهج البلاغة / الشيخ محمد جواد مغنية ١/٣٨٦،و نفحات الولاية ٢/١٥٩.
[٥٢] . نهج البلاغة ،من دعاء له كان يدعو به كثيراً ٢١٥،ص ٣٨٤-٣٨٥،و أدعية الإمام علي (عليه السلام)- الصحيفة العلوية ١٦٤، و١٦٥،وكذا أدعيته في أيام الأسبوع فلكل يوم دعاء خاص كما هو الحال في الصحيفة السجادية ، ويبدو أن الإمام زين العابدين قد اقتدى بجده أمير المؤمنين (ينظر هذه الأدعية في : أدعية الإمام علي (عليه السلام)- الصحيفة العلوية٣٤٣-٣٧٨)، وهناك أدعية شهرية لكل يوم من كل شهر دعاء خاص على مدار أشهر السنة من اليوم الأول من كل شهر إلى الثلاثين ( ينظر : أدعية الإمام علي (عليه السلام)- الصحيفة العلوية ٢١٩-٣٤٣).
[٥٣] . ينظر : أدعية الإمام علي (عليه السلام)- الصحيفة العلوية ،٢١٦،٢٠٨،٢٠٩،٢١٠،٢١٥،وغيرها.
[٥٤] . ينظر : منهج الدعاء عند أهل البيت ٣٨-٣٩.
[٥٥] . من ذلك : الخطب ٢٥،٧٢،٩١،١٠٦،١١٥،١٤٣،١٧٢،١٩٣،٢٠٦،وغيرها.
[٥٦] . – البقرة /١٨٦ .
[٥٧] . ينظر : دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة ٢/٤٢٠.
[٥٨] . ينظر : الإسلام والفن / د.محمود البستاني١٧٠.
[٥٩] . ينظر : المصدر نفسه ١٧٨.
[٦٠] . ينظر : علوم نهج البلاغة٣٩٧-٤١٦.
قائمة المصادر والمراجع
- القرآن الكريم .
- أدب الشريعة الإسلامية – دراسة جديدة في بلاغة نصوص القرآن الكريم ونصوص الأربعة عشر معصوماً، د. محمود البستاني، ط١، مؤسسة السبطين (عليهما السلام) العالمية، ١٤٢٤هـ .ق / ١٣٨٢هـ .ش .
- أدعية الإمام علي (عليه السلام)- الصحيفة العلوية المباركة، الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي، ط١، دار المرتضى للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ١٤٢٣هـ - ٢٠٠٢م.
- الإسلام والفن، د.محمود البستاني، ط١، مجمع البحوث الإسلامية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ١٤١٣هـ - ١٩٩٢م.
- البلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي، د.محمود البستاني، ط١، دار الفقه للطباعة والنشر، مطبعة سليمان زادة، ١٤٢٤هـ - ق -١٣٨٢هـ - ش.
- تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي، د.محمود البستاني، ط١، مجمع البحوث الإسلامية، مؤسسة الطبع والنشر للاستانة الرضوية المقدسة، مشهد، إيران، ١٤١٣هـ .
- الدعاء عند أهل البيت، الشيخ محمد مهدي الآصفي، ط٤، منشورات جامعة المصطفى العالمية، ١٤٢٩ق/١٣٨٧ش .
- دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، شهيد المحراب آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم(قدس سره)، ط٥، مؤسسة تراث الشهيد الحكيم، مطبعة العترة الطاهرة، النجف الأشرف، صيف ٢٠٠٧م.
- علوم نهج البلاغة، د. محسن باقر الموسوي، ط١، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ١٤٢٢هـ - ٢٠٠٢م.
- فلسفة الابتلاء، الشيخ حافظ حداد، ط٢، مركز أمير المؤمنين (ع)، ١٤٢٤هـ- ٢٠٠٣م.
- فلسفة المناجاة والتضرع والدعاء / محمد حسين المختاري المازنداني، ط١، الناشر مهدي بار، مطبعة محمد، قم، جمادي الثاني ١٤٢٣هـ .
- في رحاب نهج البلاغة، الأستاذ مرتض مطهري، ط١، الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، ١٤١٣هـ - ١٩٩٢م.
- في ظلال نهج البلاغة، الشيخ محمد جواد مغنية، ط١، انتشارات كلمة الحق، ١٤٢٧هـ.ق.
- الصحيفة السجادية الكاملة، الإمام السجاد علي بن الحسين (عليهما السلام)، دار الكتب العلمية، بغداد، ٢٠٠٠م.
- المدخل إلى علوم نهج البلاغة، د. محسن باقر الموسوي، ط١، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ١٤٢٣هـ -٢٠٠٢م.
- منهج الدعاء عند أهل البيت ونماذج منه، صباح علي البياتي، ط١، المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (ع)، مطبعة ليلى، ١٤٢٧هـ .
- مواهب الرحمن في تفسير القرآن، آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري، ط٢، انتشارات دار التفسير، ١٤٢٨هـ -٢٠٠٧م.
- نفحات الولاية – شرح نهج البلاغة، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ط١، دار جواد الأئمة، بيروت، لبنان، ١٤٢٧هـ - ٢٠٠٦م.
- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ط٤، مطبعة ثامن الأئمة (ع)، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر والتوزيع، قم ١٣٨٤ هش-١٤٢٦ هـ ق٢٠٠٦م.