بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإن (نهج البلاغة) اسم وضعه الشريف الرضي على كتاب جمع فيه، ـ كما هو مذكور ـ المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه. وقد اشتمل على عدد كبير من الخطب والمواعظ والعهود والرسائل والحكم والوصايا والآداب، توزعت على ٢٣٨ خطبة و٧٩ بين كتاب ووصية وعهد، و٤٨٨ من الكلمات القصار، واحتوت على عوالم وآفاق متعددة منها: عالم الزهد والتقوى، عالم العرفان والعبادة، عالم الحكمة والفلسفة، عالم النصح والموعظة، عالم الملاحم والمغيبات، عالم السياسة والمسؤوليات الاجتماعية، عالم الشجاعة والحماسة وغير ذلك.
ولقد انفرد هذا المصنف بسمات قلما نجد لها مثيلاً في أي كتاب إسلامي آخر سوى القرآن والسنة النبوية، إذ لا نكاد نرى كتاباً تميز بقطعات مختلفة يجمعها سلك واحد من الشخصية والواحدة والأسلوب الواحد كما نراه في (نهج البلاغة).
وهو اليوم وبعد أربعة عشر قرناً من عهده، يحافظ على نفس الحلاوة والطلاوة، ونفس القدرة في تحريك العواطف والأحاسيس، تلك التي كانت له في عهده، رغم كل ما حدث من تحول وتغيير في الأفكار والأذواق والثقافات لأن كلماته لا تحدّ بزمان أو مكان، بل هي عالمية الوجهة، إنسانية الهدف، من حيث أنها تتجه إلى كل إنسان في كل زمان ومكان.
ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعه، سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، وأعجب به كل من وصل إليه، وتدارسوه في كل مكان، لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى والمعنى المشرف، وما احتواه من جوامع الكلم في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك يجمع بين البلاغة والشمول ويعد في الذروة العليا من النثر العربي الرفيع.
لقد شغل الإنسان بكل أبعاده، مختلف خطب الإمام علي (عليه السلام) وكلماته بهدف تحريره من ربقة الجهل وإنارة عقله بالعلوم والمعارف، تمهيداً لإيقاظه من سباته وبعثه على التأمل في الكون وما يتخلله من أنظمة ونواميس وما يحكمه من إرادة خفية دقيقة التنظيم، ليخلص من ذلك كله إلى الإيمان بالله خالق الكون وواهب الحياة.
وليس بوسع هذا الإنسان المحدود حياة وقدرة، أن يدرك هذه الحقيقة المطلقة، ما لم يرتفع فوق الصغائر والشهوات، ويتحرر من قيود المادة وأغلالها ويحترز من أغوائها وأهوائها ويفطم طبيعته عن ألبانها، لذلك فقد ركزت خطب الإمام علي (عليه السلام) على التقوى تلك التي تهب النفس القوة والنشاط، وتصونها عن الانحراف والشطط، وتدفع بها إلى ملكوت الله حيث السعادة الأبدية. ولا يعني ذلك، ترك المجتمع واعتزاله، إذ لا رهبنة في الإسلام، ولا يبدو من كلماته (عليه السلام) أنها تدعو إلى مثل ذلك، بل هي توحي إلى الإنسان بأن يتقي الله في دنياه، ويعمل لدنياه كما لآخرته، ويعيش حياته بكل بساطة وقناعة، في ظل علاقة اجتماعية ورابطة حيوية تنبع من المسؤولية بالتعهدات الاجتماعية والمطالب الحياتية لكافة الناس، هذه المشاركة في الحياة تفرض على الإنسان أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه في مستوى واحد من الحماسة والاهتمام.
هذه المعاني الإنسانية الخالدة التي تضمنها نهج الإمام علي (عليه السلام) جعلته موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر في كل عصر وجيل وسوف يبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف فهي منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله أن تكون.
ومع هذه الأهمية التي حظي بها كتاب (النهج) فقد امتدت إليه سهام الشك منذ أن صدر عن جامعه وحتى يومنا هذا، واختلفت فيه الآراء، وفي كونه للإمام علي (عليه السلام) أم للشريف الرضي، وما زالت المواقف على حالها دون البت في ذلك، رغم أن الموضوع قد استنفذ البحث.
هل في النهج دخيل
ذهب شطر من الكتاب وفيهم الكاتب المعتزلي عبد الحميد بن أبي الحديد فيلسوف المؤرخين إلى القول بأن المجموع في نهج البلاغة من الدفة إلى الدفة معلوم الثبوت قطعي الصدور من أمير المؤمنين من فمه أو من قلمه.
وإليك من مقاله الآتي في شرحه على نهج البلاغة، ج١٠، ص٥٤٦ بعد إيراده لخطبة ابن أبي الشحناء المشهورة ما نصه: كثير من أرباب الهوى يقولون أن كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح ونكبوا بينات الطريق ضلالة وقلة معرفة بأساليب الكلام وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول: لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين وقد نقل المحدثون كلهم أوجلهم والمؤرخون كثير منهم وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك؛ والثاني يدل على ما قلناه لأن من قد آنس بالكلام والخطابة وشد طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابدّ أن يفرق بين الكلام الركيك وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد. وإذا وقفت على كراس واحد يتضمن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلابدّ أن تفرق بين الكلامين وتميز بين الطريقتين.
ألا ترى: إنا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر؟ وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس شيئاً كثيراً لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة؟ وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور.
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الوضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم تثق بصحة كلام منقول عن رسول الله أبداً وساغ لطاعن أن يطعن ويقول هذا الخبر منحول وهذا الكلام مصنوع. انتهى كلامه.
وكذلك ما نقل أن الخطب والكتب والكلم المرويات في نهج البلاغة حالها كحال الخطب المروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) التي بعضها متواتر قطعي الصدور وبعضها غير متواتر فهو ظني السند لا تحكم عليه بالانتحال والافتعال إلا بعد قيام الدليل العلمي على كذبه، كما أننا لا نحكم بصحته جزماً إلا بعد قيام الدليل عليه وعليه فالاعتدال والحق الذي أحق أن يتبع يقضيان علينا بأن نجعل لهذا الكتاب من القيمة الدينية ما نجعله لغيره من الجوامع الصحاح والكتب الدينية المعتبرة ونعترف بقيمته الأدبية وتفوقها من هذه الجهة على كل كتاب بعد كتاب الله عزّ وجلّ.
دفع الشبهات عن نـــهـــج البـلاغــة
لقد نال موضوع تصحيح نهج البلاغة منزلة من الوضوح وتنورت أطرافه من حيث كثرة الأسانيد لحد لم يدع مجالاً للمتقولين عليه فيما بحثنا عنه، إلا أن البعض ممن ركبوا العصبية ونكبوا عن النهج قد يضربون عن كل هذه الحجج والدلائل صفحا ويتشبثون بشبهات واهية.
- الشبهة الأولى: كثرة الخطب وطولها وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها، فإن الخطب الطوال يصعب حفظها وتذكر ألفاظها بعد الأجيال.
والجواب عنها أنها ليست بأعجب من رواية المعلقات السبع والقصائد الأخرى من الأوائل ومن الخطب والمأثورات التي رويت عن النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وعن غيره ممن تقدم عليه زمانه أو تأخر، في حين أن العناية بالحفظ والكتابة كانت في زمن بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) أهم وأعظم ممّا قبله، ونعتوا ابن عباس بأنه كان يحفظ القصائد الطوال لأول مرة من سماعها وكان مثله في عامة العرب كثيراً ولا يزال حتى اليوم، والاعتناء بحفظ خطب الإمام كان أكثر حتى قال مدرس دار العلوم المصرية في كتاب علي (عليه السلام) ص١٢٥: (إن الأدباء والمؤرخين الذين تقدموا الشريف الرضي كانوا يعتقدون أن خطب الإمام (عليه السلام) كانت بضع مئات، وحكي عن المسعودي أربعمائة ونيفاً وثمانين خطبة).
- الشبهة الثانية: إسناد بعض الخطب المروية في النهج إلى القطر الخارجي وغيره، والجواب عنها أن الشريف الرضي أحق بالتصديق في روايته من غيره وأعرف بأساليب بلغاء العرب، ولا يبعد أن يكون الذين جاءوا بعد الإمام اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم، وربما نحلها هؤلاء أشياعهم كما نحل معاوية بن أبي سفيان بعض خطب الإمام. قال: مدرس دار العلوم أحمد زكي صفوة المؤرخين: (وممّا يستوقف الباحث في هذا الباب ما أورده الجاحظ المتوفى سنة ٢٥٥هـ في البيان والتبيين، قال: قالوا لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك فقال: ويحك ولم؟ قال: لا أدري. قال: فوالله ما هم بعدي إلا الذي يسوؤهم. وأذن للناس فدخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوجز ثم خطبهم خطبة أوردها الجاحظ وعقبها بقوله: وفي هذه الخطبة ـ أبقاك الله ـ ضروب من العجب: منها أن هذا الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الأخبار عنهم وعما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي وبمعانيه بحاله منه بحال معاوية؛ ومنها إنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه. والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم.
وفي الحق أن الناقد المتأمل لا تخالجه ريبة في أن هذه الخطبة أحرى بها أن تعزى إلى الإمام، إذ ترى روحه واضحة جلية، فيها أسلوباً ومعنى وغرضاً، وكأني بالجاحظ يبغي أن يقول: إن الرواة نحلوها معاوية وهو يتشكك في صدق روايتهم هذه كما يلمح من قوله: (والله اعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم) ولكنه يتحرج من المجاهرة بذلك لأنه (إنما يكتب ويخبر بما سمعه).
أقول: ويؤيد ما احتملناه إسناد الوزير الآبى بعض الخطب إلى زيد الشهيد في حين أنها مسندة في النهج إلى جده الإمام عليه السلام، ويعتز سند الشريف الرضي بالمصادر القديمة لخطب النهج التي تروى هاتيك الخطب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فلا يكون إلقاء زيد الشهيد لها إلا ضرباً من الاقتفاء والاقتباس.
- الشبهة الثالثة: إن المجموع من خطبه (عليه السلام) يتضمن أنباء غيبية وأخبار الملاحم والفتن ممّا يختص علمه بالله وحده.
والجواب عنها أن الغيب يختص علمه بالله سبحانه ومن ارتضاهم من أنبيائه وأوليائه وكم حوت السنة النبوية أنباء غيبية وأخباراً عن الملاحم والفتن، وما ذلك عن النبي الكريم إلا بوحي من ربه العليم الخبير، كذلك لا ينطق ابن عمه وربيب حجره وصاحب سره في الملاحم والخفايا إلا بخبر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ولقد قيل له (عليه السلام): لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فأجاب (عليه السلام): ليس هو بعلم غيب وإنما تعلم من ذي علم..
ولا غرو فقد ثبت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيه أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) وقول علي (عليه السلام): لقد علمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب.
فمن اختص من مهبط الوحي ومدينة العلم بمثل هذا الاختصاص لا يستغرب منه أن يملأ الكتب من أسرار الكائنات وكامنات الحوادث ولنعتزل عن خطبه المروية في النهج ونسلك آثاره المتواترة في التاريخ، فقد روى عه المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب وابن أبي الحديد في شرح النهج ص٤٢٥ مجلد ١ وابن بطة في الإبانة وأبي داود في السنن، وغيرهم في غيرها أنه تنبأ بمصير الخوارج حينما أخبره الناس بأنهم عبروا النهر قال (عليه السلام): (لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة) فكان الأمر كذلك. واستفاض عنه الخبر بمقتله وإنه سوف يخضب أشقاها هذه من هذه ـ وأشار بيده إلى لحيته وجبهته ـ وكان إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي ***** عذيرك من خليلك من مراد
واستفاضت أنباؤه في توسع ملك بني أمية وبني العباس وخبره بمقتل الحسين في كربلاء [١].
وممّا يدلك على جواز مثله واستقاء هذه العلوم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خبر أم سلمة زوجة النبي بمقتل الحسين قبل وقوعه ـ كما رواه الترمذي في صحيحه. فإذا جاز لمثلها النبأ عن الحوادث المستقبلة واستقائها العلم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم لا يجوز مثل ذلك من علي (عليه السلام) وهو عيبة علمه وصاحب سره الذي كان يسكن في ظله ويتحرك في ضوئه. هذا من ناحية الدين وأما من سواها فقد بلغتنا عن ساسة الأمم وحكمائها تنبؤات صادقة عن مصيرها في مسيرها، ونحن لا نمارى في ذلك مبدئياً فكيف نمارى في المنقول عن ابن عم الرسول (صلّى الله عليه وآله) وترجمان وحيه وخازن علمه؟
- الشبهة الرابعة: اشتمال خطب النهج على علوم تولدت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الصحابة والتابعين ممّا يستبعد التحدث عنها قبلاً، كدقائق علم التوحيد وأبحاث الرؤية والعدل والتوسع في كيفية كلام الخالق وابتعاده عن صفات الجسم وكيفياته وتنزهه عن مجانسة مخلوقاته.
وأجاب عنها أحمد زكي صفوة المؤرخين في ص١٢٦ من كتابه علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قائلاً: هل في فكر الإمام وحكمه نظريات فلسفية يعتاص على الباحث فهمها ويفتقر في درسها إلى كد ذهن وكدح خاطر، اللهم إلا أنهم حكم سائغة مرسلة تمتزج بالروح من أقرب طريق وتدب إلى القلب دون تعقل أو عناء، وليس أحد يمارى في أن إيراد العرب للحكمة البالغة وضربهم الأمثال الرائعة فطري فيهم معروف عنهم منذ جاهليتهم لما أوتوا من صفاء الذهن وانقاد الحرية وسرعة الخاطر وقد اشتهر منهم بذلك كثير قبل الإسلام أفتستكثر الحكمة السامية على علي (عليه السلام)؟ وهو من علمت سليل قريش الذين كانوا أفصح العرب لساناً وأعذبها بيناناً وأرقها لفظاً وأصفاها مزاجاً وألطفها ذوقاً! وقد قدمنا لك أنه ربي في بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) منذ حداثته فنشأ وشب في بيت النبوة ومهد الحكمة وينبوعها ولازم الرسول حتى مماته. وقد قال علي (عليه السلام) في بعض خطبه: (كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) وكان من كبار كتاب وحيه وحفظ القرآن كله حفظاً جيداً وسمع الحديث الشريف ووعاه وتفقه في الدين حتى كان إماماً هادياً وعالماً عليماً، وفوق ذلك فأنت تعلم أن الشدائد ثقاف الأذهان وصقال العقول تفتق عن مكنون الحكمة وتستخرج عصيها، وقد مر بالإمام حين من عمره حافل بالشدائد ملئ بالعظائم والأهوال.
وحسبه أن يحمل مع ابن عمه (صلّى الله عليه وآله) أعباء أمره ويبيته في فراشه ليلة هجرته متعارضاً لأذى المشركين الراصدين للرسول وإن يخوض غمار الحرب في كل غزواته ـ إلا واحد ـ ثم هو يقضي طول خلافته مذّ بويع إلى أن قُتل ـ أربع سنين وتسعة أشهر ـ في شجار ونضال وجلاد وكفاح تارة مع عائشة ومناصريها وأخرى مع معاوية وأشياعه ثم يبتلي بخلاف أصحابه عليه ويعاني من اختلاف مشاربهم وتباين أهوائهم وغريب شذوذهم وتحكمهم واعتسافهم ما يضيق عنه صدر الحليم ويند معه صبر الصبور. كل أولئك التجاريب والظروف قد حنكته وصفت من جوهر عقله وثقفت من حديد ذهنه وأمدته بفيض زاخر من الحكم الثاقبة والآراء الناضجة، وما العقل إلى التجربة والاختبار؟! وأخالك تذكر ما قدمناه لك آنفاً من أنه كان معروفاً بين الصحابة بأصالة الرأي وسداد الفكر، فكان بعض الخلفاء يفزع إلى مشورته إذا حز به أمر فيجيد الحز ويطبق الفصل. ولم يكن رضي الله عنه بالرجل الخامل الغمر بل كان من سادة القوم وعليتهم، وكان كل ما يجري من الشؤون السياسية في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعهد الخلفاء السابقين له بمرأى منه ومسمع بل كان له في بعضها ضلع قوية وشأن خطير؛ هذا المران السياسي الطويل العهد ـ وهو خمس وثلاثون سنة من بدء الهجرة عدا ما تقدمها ـ أفاده شحذا في الذهن وثقوبا في الفكر فليس بمستنكر على مثل علي أن يكون حكيماً ـ انتهى كلامه.
وأما جوابنا عنها: فهو أن المتأخر أخذ عن المتقدم لأن المتأخر نسب إلى المتقدم، وبيان ذلك: إن علماء الإسلام المتأخرين إنما توسعوا في علومهم بعد ما تعمقوا في آيات التوحيد والمعارف القرآنية وما وصل إليهم من خطب علي (عليه السلام) وكلمه في أبواب التوحيد وشؤون العالم الربوبي، حتى أن الحجاج ألقى على علماء التابعين يوماً شبهة الجبر فرده كل منهم بكلام خاص انفرد به؛ فلما سألهم عن المأخذ قال كل منهم أنه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال الحجاج: لقد جئتموها من عين صافية.
ولقد كان ابن عم رسول الله يفيض على أبناء عصره ومصره بعلوم النبوة ومعارف الدين العالية، إلا أن أكثرهم لم يكونوا ليفهموها بل كانوا يحملون هاتك الكلم الجامعة إلى من ولدوا بعدهم كما قيل: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه).
ونظير هذا آيات التوحيد والرؤية والكلام والعدل تلك الآيات التي تدبر فيها حكماء الإسلام في القرون المتأخرة وأظهروا معارفها العالية التي لم تخطر ببال أحد في عصر الصحابة.
وأوضح برهان لنا في المقام وجود جمل في خطب نهج البلاغة تنطق بحركة الأرض وتنطبق على أصول الهيئة الجديدة ومسائلها التي حدثت بعد الألف الهجري، كقوله (عليه السلام) في صفة الأرض: (فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها) وقوله (عليه السلام): (وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها) وكلنا نعلم أن الرأي القائل بتحرك الأرض مع سكونها الظاهر مستحدث من بعد (غالية) الإيطالي (وكوبرنيك) الألماني و(نيوتن) الإنكليزي، ورأى ثبوت الحركات العشر للأرض متأخر عنهم جداً. وكل هذه الآراء حادثة بعد انتشار شروح نهج البلاغة فضلاً عن النهج ـ الذي اشتهر أمره من قبلها فهل يسوغ لأمري، أن يشك في تأليف نهج البلاغة وشروحه بحجة أنها مشتملة على مسائل الهيئة المتأخرة عن الألف الهجري؟
- الشبهة الخامسة: اشتمال الخطب على اصطلاحات وجدت في القرون المتأخرة وعلى سبك حديث الطراز كقوله (عليه السلام): وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه.. الخ.
والجواب عنها يعرف ممّا سبق؛ فإنّما المتأخرين إنما توسعوا في معارفهم بعد العثور على هذه الحكم الجلائل واختاروا الاصطلاحات من قبيل الكيف والأين بعد ما استأنسوا بمبادئها في كلام الإمام (عليه السلام) لأن الكلام نسب إلى الإمام بعد ظهور هذه المصطلحات، بدليل أن أمثال هذه المبادئ مستفيضة في أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي كلام فصحاء العرب الأوائل ولا يعز المتتبع وافره؛ وأي عاقل يستطيع أن يصوغ هذه الجمل ثم ينسبها إلى غيره؟ ولو كان أحد ينسب إلى الإمام شيئاً من المصطلحات بعد تاريخ حدوثها لجاءت في خطبه كلمة الماهية المنحوتة من (ما هي)، واللمية المنحوتة من (لم)، والإنية المنحوتة من (إنه)، والهيولى المنحوتة من (هي الأولى) وأمثال ذلك من مصطلحات حكماء الإسلام. في حين أن النهج كله خلو عن كل هذا.
ونظير هذا قول أبي نؤاس (كأن صغرى وكبرى من فوافقها) الذي يظن فيه سامعه لأول وهلة أنه أخذ عن المنطقيين مصطلحهم في صغرى وكبرى القياس، في حين أن اصطلاح متأخر عنه جداً ولا يستلزم تأخره نفى ذلك الشعر المتقدم. ومثل هذا غير عزيز على من طلبه.
ومن الغريب استغراب بعضهم في كلام الإمام استنتاجه الجمل متفرعة بعضها من بعض كقوله (عليه السلام): فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه... الخ، يحسب أن ترتيب الكلام على شاكلة القياس المؤلف من صغراه وكبراه غير مألوف من العرب في حين أن هذا الحسبان قدح في الأدب العربي من حيث لا يقصد؛ ومعناه أن نظم القياس المعقول قصى عن الذوق العربي. وهذا شيء لا نقبله والعرب هم الأقربون إلى القياس المنقول بفطرتهم وكم له نظير في الكتاب والسنة؟ قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) وروى البخاري في صحيحه عنه (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله) فإذا ورد في أفصح الكلم نظم القياس وتفريغ الجمل فهل يستغرب من حفظة القرآن أن يتوسعوا في نظم الأقيسة الاقترانية والاستثنائية في أساليب حديثهم؟
ولقد قطعنا جهيزة كل خطيب بأن المسانيد المشهّرة إذا حوت خطبة للإمام بأسانيد معتبرة فغير جدير الإصغاء إلى أمثال هذه الشبهات الضعيفة.
مؤلف نهج البلاغة وغرضه الشريف
إن مجموع نهج البلاغة عقد في الأدب ثمين، ينبوع للعلم غزير المادة لا ينبغي أن يستخف بوزنه لمجرد تعصب أشخاص أو طوائف ضعيفة المركز لا تعرف ثمن الحكمة ولا تلتفت إلى العواقب، قام في عصره سيد الشعراء بلا مراء ألا وهو الشريف الرضي فسن لنهضة النشؤ العربي نهج البلاغة واختار من مختار كلام أمير البلاغة، وإمام الإنشاء مجموعة وافية بالغرض وثق من إسنادها وهو الثقة عند الجميع.
فكتاب نهج البلاغة المنوه عنه المنتشر في دواوين الأدباء وأندية العلماء فلا ينبغي الشك في أنه من جمع الشريف الرضي محمد بن الحسين ذي الحسبين المتوفى سنة ٤٠٦. ونسبة الكتاب إليه مشهورة وأسانيد شيوخنا في أجازاتهم متواترة ونسخة عصر الشريف موجودة والتي وشحت بخطه الشريف مشهورة وعليه فكلما في مجموعة نهج البلاغة هو من جمع الشريف الرضي محمد بن الحسين بلاء مراء.
أما نسبة انتحال الشريف الرضي جامع نهج البلاغة خطبة أو كلمة إلى سيدنا الإمام علي (عليه السلام) وتعمده الكذب عليه بأي دافع من الدوافع منشئ لا يسع أهل العلم والعرفاء بحال الرضي أن يقبلوه، لأن نزاهة الشريف الرضي معلومة وعفته مشهورة وزهده ثابت وورعه معروف.
إذن فما الذي دفع الشريف الرضي إلى تجشم التأليف؟ نعم، كان الرضي في بداية أمره مولعاً بأساليب البلاغة شغفاً في صنعتي الإنشاء والكتابة ينتقي من جوامع الكلم أبلغها، ويختار من أحاسن الإنشاء أبدعها ليعينه حفظ ما جمع على كماله في صناعة الإنشاء وبراعته في فن الخطابة والكتابة، شأن المشتغلين بالأدب في كل عصر ومصر. هذا ولا غيره حمل الشريف الرضي على تدوين الخطب والكتب والكلم المأثورة عن أمير البلغاء وإمام الفصحاء، الإمام علي (عليه السلام)، ولو كان يجمع بغرض فقهي أو غاية مذهبية لا ورد كثيراً من الخطب بأسانيدها المستفيضة. وليس الرضي مخطئاً في سلوك هذا المذهب في الأدب لأننا شاهدنا جماهير العرب والعجم والشرقيين والمستشرقين ممن يتطلبون بلاغة اللسان وبراعة القلم يستظهرون نهج البلاغة لما فيه من فصاحة بانسجام وبلاغة خالية من كل تعقيد أو تكلف.
وليس الرضي بدعاً من الرسل ولا بأول سالك نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا بأول من استضاء نبراسه، فقد سبقته قوافل من رواد العبقرية الإنشائية مسترشدين بكلم علي (عليه السلام) وخطبه وكتبه.
فهذا ابن نباتة يقول: حفظت من الخطب كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي ابن أبي طالب.
وكم زين الجاحظ كتبه مثل البيان والتبيين بفصول من خطب أمير المؤمنين إعجاباً بها وإعداداً للنفوس لبلوغ أقصى البلاغة.
هذه غاية الأدباء في حفظ كلامه وهذا ما حمل الشريف الرضي على جمع المختار من خطب الإمام علي (عليه السلام) .