وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الدلالات التفسيرية في شواهد نهج البلاغة القرآنية

المدرس الدكتور: عدي جواد الحجار

جامعة الكوفة - كلية التربية الأساسية

المقدمة

إن لكتاب "نهج البلاغة" بما يحمل من خطب, وأقوال, وكلمات قصار, وأمثال, وشواهد بلاغية وقرآنية, أهمية كبرى في العلوم الشرعية وعلوم اللغة والعلوم التي تصب في خدمتها عموماً, إذ انتظم بين دفتيه معارف ‏الهية عالية، ومنهجاً للاخلاق الفاضلة، وقوانين الاجتماع الدقيقة، إلى جانب السياسة الملتزمة، وضوابط الحرب العادلة، وما يتعلق بأصول الاقتصاد, وما يمت إلى العلوم النظرية والتطبيقية بكافة نواحيها, وقد كان لعلوم الشريعة والعلوم المساعدة حيزاً كبيراً فيه, ولذا فهو منهل للباحثين في الحكمة، والادب، والعرفان وتفسير القرآن الكريم, وقد امتاز كتاب "نهج البلاغة : بوحدة الروح والمثل والاسلوب على اختلاف موضوعاته‏ ومقاصده وفنونه ‏في صور فنية رائعة تسمو بأرفع أساليب البلاغة والفصاحة. وذلك مما يضيف للباحثين من توثيق لنسبته إلى إمام البلغاء, زائداً إلى وثاقة ما اعتمده الشريف الرضي من مصادر جمع منها نهج البلاغة, كونه عالما بصيرا، وثبتا مؤتمناً، مما يجعل كتاب النهج جديراً بأن يكون من أوثق الكتب وأعلاها قيمة، إذ يرتقي لدرجة ما يرويه المحدثون الثقات، الذين يؤخذ بمروياتهم مسلمة من دون‏ تشكيك، وبعد ثبوت نسبة ما في "نهج البلاغة" من الخطب والكلمات إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, الذي ألقيت على عاتقه مسؤوليات تفسير القرآن بعد النبي, يتضح أن الأداء الفكري والتطبيقي والتنظيري لتفسير القرآن, هو من ذلك النمير الرائق المتصل بالعلم الإلهي الذي أوحاه الله لرسوله الكريم, فقد ورد في نهج البلاغة جملة من تفسير الآيات والألفاظ القرآنية, بل يمكن الإفادة من بعض الشواهد أسسا تمثل قواعد أولية للجانب النظري في تفسير القرآن الكريم, وانتظم جملة من الدلالات التفسيرية التي يتلمسها الباحث في شواهد "نهج البلاغة" القرآنية, واضحة وجلية كما سيثبت البحث ذلك, باعتبار أن أمير المؤمنين هو الأعرف بكتاب الله تعالى بعد الرسول الأكرم, إذ أنه كان الأذن الواعية للقرآن الكريم وما فيه من أحكام ودلالات, من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط, ومن بيان مصاديق لكلي ورد في القرآن الكريم, وبيان مفردة أو تفصيل إجمال, أو بيان تخصيص عام, وغير ذلك من شواهد.

لذا اقتضت طبيعة البحث أن ينتظم على النحو الآتي :

  • نهج البلاغة منهل العلوم.

- نسبة نهج البلاغة.

- الشخصية التفسيرية لأمير المؤمنين .

- الأداء التأسيسي لتفسير القرآن الكريم في "نهج البلاغة".

- الشواهد التطبيقية في التفسير في "نهج البلاغة".

"نهج البلاغة" منهل العلوم

من نافلة القول التعريف بكتاب "نهج البلاغة" من حيث شهرته ونسبته وسمو مكانته, واشتماله على المعارف الإلهية والعلوم الشرعية وعلوم اللغة وغيرها, لما ضم -من علم الإمام الذي هو من رشحات ينبوعه المعرفي ومكنون علمه - من ومضات علمية ومعرفية, فهو يلقي الضوء على التوحيد ويشير إلى بداية الخليقة وانبثاق الوجود، وخلق الملائكة، وخلق السماوات والأرضين، والإنسان، والحيوان، وما اشتمل من رؤى مكثفة في علوم الاجتماع، وعلم النفس، والتاريخ، والأدب، بل انتظم العلوم الطبيعية من فيزياء، وعلم الأرض "الجيولوجيا" مما لا يزال يتسم بالجدة والحداثة لدى العلماء المعاصرين على الرغم من التطور الذي وصل له الإنسان في هذا العصر.

ولا غرو وهو عمّن هتف بصلابة ورسوخ: "سلوني قبل أن تفقدوني"، ثم لم يعجز عن جواب سؤال قط، ولم يسجل التاريخ مثيلا لهذه الظاهرة، وقد كان هذا القول منه في عدة مواقف, منها ما يتعلق بعلوم شتى, ومنها يختص بالقرآن الكريم, إذ قال: (سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو سألتموني عن أية آية، في ليل أنزلت، أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، إلا أخبرتكم).

وقد ضم نهج البلاغة من روائع البيان وأسرار العلوم, وقد أشار الشيخ محمد عبده(ت١٣٢٣هـ) إلى انطباق اسمه على محتواه, بقوله: (ولا أعلم اسـماً أليَق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسـعي أن أصـف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسـمه, ولا أن آتي بشئ في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار), وذلك أنه كلام وصي خاتم الأنبياء, الذي انتهل من مدينة العلم ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب, فهو قبس من نور الخطاب الإلهي وسراج يضيء بفصاحة المنطق النبوي, ومن هذا قيل: (ليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأنّ كلام الإمام عليّ بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادّة، وأرفعه أُسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني), بما يمثله من أُنموذج واضح وصورة من صور المنهج العام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب, في الدين والسياسة والإدارة العامّة للدولة، وسائر شؤون النشأتين من أمر المعاش والمعاد.

ويلحظ أن الخطب والأقوال والحكم التي في نهج البلاغة تتسق ونظام القرآن الكريم تفسيراً واستشهاداً وحثاً على قراءته وحفظه والاعتبار به وتدبره, وتطبيقه، ولا غرو أن يكون الهدف الأساسي في "نهج البلاغة" هو القرآن الكريم بوصفه الدستور الإلهي, إذ هو جدير بأن يصب في خدمته كل كلام, استجلاءً للخطاب الإلهي في القرآن الكريم, قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن اُخبركم عنه: ألا إنّ فيه علم ما يأتى، والحديث عن الماضى، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم), وهو أعرف بتفسيره, بعد رسول الله لما حباه من علوم هي أسس في تفسير النص القرآني, إذ قال: (إنّ الله تبارك وتعالي قد خصّنى من بين أصحاب محمّد بعلم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والخاصّ والعامّ، وذلك ممّا منَّ الله به عليَّ وعلى رسوله), ومن الأداء التفسيري, لما اختص بذلك, إذ قال: (لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيراً), وذلك مما دعى البحث أن يتتبع مظان الشواهد التفسيرية في "نهج البلاغة".

نسبة نهج البلاغة

من المسلم به حتى عند من شكك في نسبة "نهج البلاغة" إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, أن جامعه هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب, المتوفى في المحرم سنة ست وأربعمائة, كان فاضلا عالما شاعرا مبرزا.

قال الثعالبي(ت٤٢٩هـ): (ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل وهو اليوم أبرع أبناء الزمان وانجب سادات العراق يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر), والثعالبي قد عاصر الشريف الرضي وشهادته عن حس.

وكذلك شهادة أبي الحسن العمري العلوي إذ قال: (وكانت له هيبة وجلالة، وفيه ورع وعفة وتقشف ومراعاة للاهل وغيرة عليهم وعسف بالجاني منهم، وكان أحد علماء الزمان ، قد قرء على أجلاء الرجال. وشاهدت له جزءا "مجلدا" من تفسير منسوب إليه في القرآن مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكثر), وهذا ما يضيف للشريف الرضي فوق ما هو معروف عنه من العدالة لدى الإمامية, شهادة حسية بالتقوى والورع المانعة من الإقدام على الوضع, وشهادة له بالمعرفة بالرجال ووثاقة حديثه واضطلاعه من درايته, ومعرفته بالتفسير, وذلك تعضيد وتمجيد ينزه ساحته عن أن ينسب إلى أمير المؤمنين, ما ليس له, لعدم حاجة الإمام إلى ذلك, مع ما فيه من كذب على المعصوم الذي يمثل معصية وذنباً, وهو في مندوحة عنه, (وكيف يقبل العقل أن يزور مثل الشريف على مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في كتاب اطلع عليه السني والشيعي في عصره، سيما في مدينة بغداد الحافلة بجماهير من العلماء، من غير أن ينكر ذلك أحد عليه أو يرده، مع وجود الدواعي الشديدة لهم في تكذيبه، واظهار تزويره، فاحتمال ذلك حتى بالنسبة إلى كلمة من هذا الكتاب مقطوع العدم).

يضاف إلى ذلك أمور, منها:

إن الكثير من نصوص النهج محكوم بتواترها عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وإذا ثبت صحة نسبة البعض, ثبت أن الجميع منه, لاتفاق جميع نصوصه في الأسلوب.

 والطعن عليه بأنه يستقيم بأسلوب واحد لأنه من وضع واحد وهو الشريف الرضي, مدفوع بعد مقارنته مع مؤلفات الشريف الرضي مثل "حقائق التأويل"، و"المجازات النبوية" و ديوانه الشعري،  وغيرها, فإن بينهما اختلاف واضح في الأسلوب والمتانة.

إن كثيراً من خطب نهج البلاغة موجودة في مصادر شتى, قبل زمن الشريف الرضي, أما ما لم نقف اليوم على مصادره, فلا يعني أنه موضوع, فقد كان في متناول يده الكثير من المكتبات الكبيرة, مع ما يلحظ من وحدة النظم والأسلوب, ولعدالة الشريف وأمانته, وقد قبلت مراسيل من هو أقل منه شأناً.

الإخبار بالمغيبات وأسرار العلوم الواردة في النهج بتلك الجزالة والقوة في السبك والدلالة, مما يبعد الشبهة واحتمال الوضع, فإن من دواعي اعتبار خبر الواحد الاعتبار بمتنه ودلالته.

مطابقة الكلام المثبت في النهج والقرآن الكريم, فلو تأملنا كل كلمة لوجدنا فيها دلالة مبينة للقرآن الكريم بالتفصيل أو الإجمال أو بما انطوت عليه من مباحث قرآنية, هذا مع أن كلام الله تعالى تفرد بخصائص لا يشاركه فيها كلام البشر, ولا يمكن أن ينشئ النهج بهذه الكيفية غير وصي الرسول الأكرم الذي خصه بعلم القرآن.

وقد أشار إلى ذلك جملة من العلماء والباحثين, مما يدفع المطاعن ولا يدع مجالا للتشكيك في نسبة المجموع في "نهج البلاغة: إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

الشخصية التفسيرية لأمير المؤمنين

وتتمثل بأهليته لبيان مراد الله تعالى في خطابه في القرآن الكريم, من إيضاح معنى لغوي عام, أو تفصيل إجمال, أو بيان مبهم, أو تخصيص عام, أو تجلية مصداق, أو استنباط حكم شرعي فرعي, أو إرشادي أو تنزيهي, وغير ذلك مما ينتظمه تفسير النص القرآني.

كان النبي الأكرم المفسر الأول للقرآن الكريم, كما عهد إليه الله سبحانه وتعالى, بقوله:   ونهض من بعده أئمة أهل البيت, فهم الراسخون في العلم, وهم عدل القرآن الذي أكد عليه النبي في مواقف عديدة.

وعلى رأسهم أول من تكلم في تفسير القرآن بعد رسول الله  مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو أعلم المسلمين بتفسير كتاب الله وتأويله بلا مدافع، بل هو باب مدينة العلم.

عن ابن مسعود أنه قال: "إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علياً عنده من الظاهر والباطن. ثم لاشك ولاريب أن أحاديث أهل البيتc داخلة في السنة الشريفة, وتفسير القرآن لايمكن أن يخلو مما صدر عنهم صلوات الله عليهم, لما جعلهم الله وعاة للقرآن, فقد ورد أنه قرأ رسول الله:  فما سمعت شيئا نسيته.

قال الزمخشري(ت٥٣٨هـ): (إن قلت: لم قيل "أذن واعية" على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم وإن ملأوا ما بين الخافقين), وروى الكليني(ت٣٢٩هـ) بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي(ت: نحو٨٥هـ): قال سمعت أمير المؤمنين, يقول... وساق الحديث إلى أن قال: (ما نزلت آية على رسول الله إلا أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه علي فكتبته منذ دعا لي بما دعا وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس منه حرفا واحدا ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وحكمة ونورا. فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي مذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شئ لم أكتبه أوَ تتخوف علي النسيان فيما بعد؟ فقال: لست أتخوف عليك نسيانا ولا جهلا).

فأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب تكونت شخصيته التفسيرية من خلال الجعل التكويني لوجود المؤهل ومن خلال التربية النبوية الكريمة, بما تحمل من إعداد له لتحمّل أعباء الوصية الكبرى للولاية التشريعية العامة, ولما جعله الله تعالى الأذن الواعية للقرآن الكريم, صار سيد الراسخين في العلم, وخصه الرسول الأكرم بعلوم القرآن بما فيها من أسس تفسيرية كعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والخاص والعام, وغيرها, وبما ألهمه الله تعالى من علوم أخرى فوق كونه من أفصح أهل اللسان الذي أنزل به القرآن الكريم. ونجد العلوم التفسيرية وشواهدها التطبيقية مبثوثة في أمهات كتب التفسير والمجاميع الحديثية وغيرها من الكتب التاريخية الإسلامية, فكان أولى بنا أن نتتبع تلك الشواهد التفسيرية في كتاب "نهج البلاغة" الذي اشتمل الجمَّ من مختلف العلوم بعد أن ثبتت صحة نسبته إلى أمير المؤمنين.

الأداء التأسيسي لتفسير القرآن الكريم في نهج البلاغة

الأداء ما يوصل به أو يتوصل به, ويستعمل في المقدمات التي يُتهيأ بها للوصول, كما يستعمل في الاستعداد الذاتي والقابلية للوصول إلى الشيء, ويكون الشخص الذي يتوسل بها مؤدياً.

فيعبّر عما يتوصل به المفسر لاستكشاف المراد والوقوف على معاني الآيات بالأداء التفسيري, وهو يستند إلى أسس وضوابط تمثل معاييرا تحدد نظام سير الأداء في العملية التفسيرية.

وقد خص الرسول الأكرم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, بهذه الضوابط لما يتفق ومنصب الإمامة الكبرى, التي من أول خصوصياتها بيان المراد من كلام الله تعالى في القرآن الكريم, بلحاظ أن أمير المؤمنين, له مقام حفظ الشريعة المقدسة, وقد بكّر في رسم الخطوط العريضة للتفسير التي تمثل الأطر الأولية التي يمكن أن تكون منطلقاً لتشييد دعائم يتماسك بها البناء المعرفي المحصن للعملية الفكرية التي على رأسها ما يتعلق بكتاب الله تعالى وتفسيره.

ويمكن تلمس جملة من تلك الأسس فيما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, في نهج البلاغة, فمنها ما ذكره من الأسس في أخذ الرواية, والتي يفاد منها أسساً في التفسير والحديث لاتحاد النص القرآني والحديث الشريف لإمكان النسخ والتخصيص والإجمال فيهما, كما عبّر عنه في كلامه, الذي انتظم الملامح الأولى للأداء التفسيري, والتي تظهر معالمها في جوابه لسليم بن قيس (ت- نحو٨٥هـ), إذ سأله قائلا: (رأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن والأحاديث والروايات عن رسول الله، يخالفونها. فيكذب الناس متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم!؟)

فكان جواب أمير المؤمنين: (قد سألت فافهم الجواب) , وفي ذلك إلفات للسائل بما يتضمنه كلامه من قواعد كلية, إذ قال: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً, وصدقاً وكذباً, وناسخاً ومنسوخاً, وعاماً وخاصاً, ومحكماً ومتشابهاً, وحفظاً ووهماً، إنما أتاك بالحديث أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله، متعمداً... ورجل سمع من رسول الله، شيئاً ولم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا... ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ... وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيماً لرسوله، ولم يهِم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به  وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه  وعرف المتشابه ومحكمه، وقد يكون من رسول الله،  الكلام له وجهان، فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عني الله به ولا ما عني رسول الله صلى الله عليه وآله، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله), ثم أشار إلى أن معرفة ذلك لم تكن على حد سواء حتى بالنسبة إلى أصحاب رسول الله, إذ (ليس كل أصحاب رسول الله، كان يسأله عن الشيء ويستفهمه، كان منهم من يسأل ولا يستفهم, حتى لقد كانوا يحبون أن يجئ الأعرابي أو الطاري أو الذمي فيسأل حتى يسمعوا ويفهموا...).

فالذي أسسه الإمام في هذا النص حل لكثير من الإشكاليات في النصوص الشرعية الموروثة وما يتعلق بها من أمر ونهي ونسخ ومتشابه وكشف عن المراد وفهم ذلك, إذا ما قيست وفق الضوابط التي وضعها عليه السلام من حيث سلامة الأداء.

لذا لا بد من اتباع هذا المنهج في التفسير أو الحديث ليفاد منه تفسيرا أو غيره.

وتعد هذه الحوارية قواعد كبرى في "نهج البلاغة" لرسم الخطوط العريضة التي ينبغي أن تبنى عليها جملة من الأسس في  الأداء التفسيري.

ولا عجب فأن المرجع الثاني بعد رسول الله, عند عموم المسلمين في تأسيس الأصول وترسيخ القواعد لشتى العلوم الإسلامية سيما ما يتعلق منها بالقرآن الكريم, هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

ومن أسس التفسير ما جاء في وصيته لابن عباس (ت٦٩هـ) والتي وردت في "نهج البلاغة", لتأسس أن القرآن يحتمل وجوها, وأن (هناك من القرآن ما لا يعلم ولا يفهم إلا ببيان من أهل البيان، وهم المعصومون "عليهم السلام"، ومن القرآن ما يفهم معناه بدون حاجة إلى ذلك، حيث إنه ظاهر اللفظ، واضح المعنى لا سترة فيه), إذ قال: (لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه, تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة, فإنهم لن يجدوا عنها محيصا), وهي من وصية له  لعبد الله بن العباس, لما بعثه للاحتجاج على الخوارج.

وقد فصّل الإمام الصادق,  كلام جده أمير المؤمنين, ومناط المنع من المحاجة بالقرآن, (وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالمتشابه، وهم يرون أنه المحكم، واحتجوا بالخاص، وهم يقدرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السبب في تأويلها. ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا وأضلّوا).

وملخص مفاد هذا الأداء التأسيسي للتفسير, الوارد في "نهج البلاغة": أن القرآن الكريم منه ما يمكن للمفسر أن يفهم منه بأدوات متاحة, والآخر ما اختص المعصوم ببيانه, ومنه ما لا بد من التوقف في تفسيره, وعلى ضوء تلك الوصية بيّن ابن عباس أقسام التفسير, فقال: (تفسير لا يعذر أحد بجهالته. وتفسير تعرفه العرب بكلامها. وتفسير يعلمه العلماء. وتفسير لا يعرفه إلا الله عز وجل. فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته: فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن، وجمل دلائل التوحيد. وأما الذي تعرفه العرب بلسانها: فهو حقائق اللغة، وموضوع كلامهم. وأما الذي يعلمه العلماء: فهو تأويل المتشابه، وفروع الأحكام. وأما الذي لا يعلمه إلا الله: فهو ما يجري مجرى الغيوب، وقيام الساعة), فكلام الإمام في "نهج البلاغة" وضع قاعدة كبرى للتعامل مع النص القرآني, ويمكن إفادة تفريعات هذه القاعدة من كلام الإمام نفسه في موارد أخرى حيث جاء على ذكر هذه التقسيمات.

الشواهد التطبيقية في التفسير في "نهج البلاغة"

أمير المؤمنين هو أعلم الناس بعد الرسول بالقرآن الكريم بلا منازع, وأعرفهم بتفسيره وتأويله بلا مدافع, فكان بحرا زخاراً لا يسبر غوره, ولا يدرك مداه, فهو أعلم بظاهر القرآن وباطنه, وحده ومطلعه, وتنزيله وتأويله, ومن ذلك قوله: (لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب), وقد تناثر التفسير المأثور عن أمير المؤمنين, في بطون الكتب عن ألسنة الرواة, وهناك شواهد تطبيقية اشتملها كتاب "نهج البلاغة" توفرت على مناحي تفسيرية عدة, فمنها:

- كشف المراد من آية

 وهو إيضاح المراد من قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته), فالاستقامة معلومة, ولكن لم يتضح معيار الاستقامة المطلوب لإطلاق اللفظ, فذكر الإمام المعايير الثلاثة لذلك. وهذه المعاني التي وردت في "نهج البلاغة" عن أمير المؤمنين قد انفرد بجمعها, إذ تفرقت مفرداتها في كلام قدماء المفسرين, وأفاد منها البعض من متأخري مفسري الإمامية, مشيرين إلى أن هذا المورد التفسيري من كتاب "نهج البلاغة".

- تفصيل مجمل بالاستشهاد بآية

ورد ذكر الظلم في القرآن الكريم في مواطن كثيرة, ولم تتجلَّ تفاصيله, ومن ذلك: الظلم الذي لايغفر, قال تعالى: } إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ", مفصلا لهذا الإجمال, إذ قال: (ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب. فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا), وهذا الشاهد من محاسن بيان دقائق المراد.

- بيان انصراف الإطلاق في آيتين

إن انصراف الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق معناه, أو بعض أصنافه يمنع من التمسك بالإطلاق، لما له من ظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيد بالتقييد اللفظي، ففي قوله تعالى: }' أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{,   و قوله تعالى } مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ{, بيّن أمير المؤمنين, أن النصرة هنا ليست على إطلاقها, إذ أن النصرة على إطلاقها تكون من ذل, والاستقراض على إطلاقه يكون عن حاجة  فقال: (فلم يستنصركم من ذل، ولم يستقرضكم من قل) بل هو سبحانه (استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد)  ثم كشف سر المراد من الاستنصار والاستقراض بعد أن أضيف لله سبحانه, ليتضح مؤداها: بأنه تعالى(أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا ). وقد أثبت صاحب تفسير نور الثقلين هذا المورد التفسيري عن "نهج البلاغة".

- كشف المراد من خطاب العموم في آية

قد يأتي الخطاب بلفظ يحتمل شمول أنواع أو أفراد, وإن كان لأمور, منها: التأكيد, التعظيم, التشريف, التقريع, التغليظ, التنزيه, التغليب, إلى غير ذلك من الموارد. قال: (إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: }' فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ{, فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوارة), ففي تعميم اللفظ تغليظ لقبح الفعل وعظمه, ولما يترتب عليه من تعميم الجزاء. وقد نقل بعض المفسرين نص كلام الإمام التفسيري من "نهج البلاغة" في هذا المورد.

- بيان مفهوم في آية

قال تعالى:  } أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا{, إذ قال: (إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به. ثم تلا "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا"...), وقد استشهد بعض المفسرين بهذا النص التفسيري دون نسبته إلى "نهج البلاغة".

- بيان مصداق في آية

قد لا يكون من المجازفة القول بأن ذكر الأوصاف المختصة أبلغ في تشخيص المصاديق من ذكر الاسم، فقد يشترك الاسم فيحصل الأجمال في تشخيص الأفراد و المصاديق، أما في الأوصاف المختصة فلا محالة من انصرافها للانطباق على الفرد الأكمل الجامع لتلك الأوصاف، خصوصاً إذا كانت تلك الأوصاف لا تجتمع إلا بمثل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وشواهد ذلك في القرآن كثيرة, وذلك ما جاء من الموارد التفسيرية في "نهج البلاغة", لقوله تعالى: } الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ{, وقوله تعالى: أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا{," إذ شخص مصداق ما ذكر في الآيتين, إذ قال: (فنحن مرة أولى بالقرابة ، وتارة أولى بالطاعة), وذكر ذلك صاحب تفسير نور الثقلين في موردي التفسير للآيتين.

- تفسير آية بلفظ

قال في النهج: (وسئل عليه السلام عن قوله تعالى: } حَيَاةً طَيِّبَةً{, فقال: هي القناعة), وقد اختلفت كلمات المفسرين في تفسير هذه الآية, وذكروا فيها أقوالا, منها أن الحياة الطيبة تعني القناعة, ثم منهم من صرّح بنسبة هذا القول مشيراً إلى وروده في "نهج البلاغة", ومنهم من نسبه إلى الإمام دون ذكر المصدر, ومنهم من أشار إلى القول دون نسبته إلى الإمام.

- تفسير لفظ في آية

قال في النهج: (قال عليه السلام: في قوله تعالى اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ{,: العدل الانصاف، والإحسان التفضل), وقد ذكر المفسرون من الجمهور والإمامية هذا التفسير عن الإمام من مصادر شتى.

- جمع تفسيري بين مفهومي آيتين

في نهج البلاغة: (قال عليه السلام: لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب الله لقوله تعالى }N' يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ{, ولا تيأسن لشر هذه الأمة من روح الله, لقوله تعالى }Pإنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ{...), وقد ذكر ذلك التفسير بعض المفسرين مصرحين بنسبته إلى كتاب نهج البلاغة.

- جري صدق مفهوم في آية

قال: (كان في الأرض أمانان من عذاب الله وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. أما الأمان الذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الأمان الباقي فالاستغفار قال الله تعالى: }' كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ وعلق صاحب النهج على ذلك, بقوله: (وهذا من محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط), وقد صرح بعض المفسرين بنسبة هذا التفسير إلى "نهج البلاغة", قال في الأمثل: (فإن مفهوم الآية لا يختص بمعاصري النبي صلى الله عليه وآله وسلم, بل هو قانون عام كلي يشمل جميع الناس) مفيداً ذلك من قول أمير المؤمنين, كما أفاد من ذلك التفسير بعض المفسرين مصرحين بنسبته إلى نهج البلاغة حينا, والاقتصار على نسبته إلى الإمام حيناً آخر.

- بيان الحد الدلالي للفظ في تفسير آية

قال في النهج: (قال عليه السلام: الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه } لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ{, ومن لم يأس على الماضي, ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه), ففي ذلك تفسير للآية وتصريح بأنها تعني وضع حدٍّ دلاليّ للزهد, وقد نقل بعض المفسرين تلك الفائدة التفسيرية عن الإمام من كتاب "نهج البلاغة".

- بيان مصادر التشريع من تفسير آية

(فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم }' أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ{, فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة) , ويلحظ أنه, قد أشار إلى قيدين للأخذ بالكتاب والسنة, فالكتاب مقيد بالمحكم منه, والسنة الشريفة مقيدة بما كان مجمعاً على صحة نسبتها إلى الرسول, وفي ذلك إرشاد للفقيه والمفسر والحاكم لما يشتبه عليهم من الأمور, وقد ذكر هذه الفائدة التفسيرية بعض المفسرين.

- تفسير لفظتين في آية

قال "عليه السلام" في تفسير قوله تعالى: } الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ{, فالعاكف المقيم به والبادي الذي يحج إليه من غير أهله), وقد استقى جملة من المفسرين هذا التفسير من أمير المؤمنين, منهم من سبق عصره جمع "نهج البلاغ", ومنهم من صرح بنسبته إلى النهج, ومن نسبه إلى أمير المؤمنين دون الإشارة إلى مصدره.

وفي قوله تعالى: } كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ{, قال "عليه السلام": (سائق يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها), وقد صرّح جملة من المفسرين بنسبة هذا التفسير إلى أمير المؤمنين في كتاب "نهج البلاغة".

ومن خلال ما تقدم من تشخيص للدلالات التفسيرية للشواهد القرآنية التي جاء على ذكرها أمير المؤمنين (ع) في خطبه وكتبه ووصاياه وأقواله والتي قام بجمعها الشريف الرضي في كتاب" نهج البلاغة" يظهر للبحث بعداً تأصيلياً جديدا يضاف إلى ما ضمّ هذا السفر القيّم من علوم بِكر في طريقة طرحها, نظرية وتطبيقية, دنيوية وأخروية, تتعلق بالعلة الأولى وبدء الخلق وكيفيته ونهاية ذلك وقيام الساعة وبعث الخلائق. وإن هذا التأصيل يتجلى واضحاً في التفسير والكشف والبيان لمراد الله تعالى في كتابه الكريم كون الإمام معنياً بعد رسول الله (ص) ببيان مبهمه وتفصيل مجمله وتخصيص عامه وتقييد مطلقه و ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله كما صرح بهذا المعنى في مواطن كثيرة حتى قال:( سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لو سألتموني عن أية آية ، في ليل أنزلت، أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، إلا أخبرتكم).

وإن المنصف ليجد في هذا القول تصريحاً واضحا بالمعرفة الجلية التي لا يشوبها تردد ولا يعتريها ضعف أو اشتباه في بيان المعنى والدلالة لجميع الحيثيات التي جاء على ذكرها الإمام في هذا القول, كيف لا وهو صاحب المَلَكَة في زمِّ أعنة اللغة ومعانيها, لتكون طوع قلبه ولسانه ليطبق المفصل بين الألفاظ ومعانيها مضافاً لما حباه الله به من أذن واعية وكفى بها من حبوة .

والشواهد التي جاء البحث على ذكرها والتي كانت شواهد تطبيقية للتفسير في خطب وكتب ومقالات "نهج البلاغة" والتي تنوعت بين كشف المراد من آية  وتفصيل مجمل , وبيان انصراف الإطلاق , وكشف المراد من خطاب العموم , وبيان المفهوم , وبيان المصداق , وتفسير آية بلفظ ,وتفسير لفظ في آية, والجمع التفسيري بين مفهومين, وجري صدق مفهوم في آية وبيان الحد الدلالي للفظ ,وبيان مصادر التشريع من تفسير آية وتفسير لفظتين في آية, تكشف عن اشتمال كتاب "نهج البلاغة" أداءً تفسيريا ثراً يندرج تحت واحد من عناوين الشواهد التفسيرية الآنفة, يمكن الأخذ به واعتماده مصدرا للتفسير لما تقدم من ثبوت صحة نسبة ما في النهج الى الإمام .

خلاصة البحث

إن لكتاب "نهج البلاغة" أهمية كبرى في العلوم الشرعية وعلوم اللغة والعلوم التي تصب في خدمتها عموماً, وقد كان لعلوم الشريعة والعلوم المساعدة حيزاً كبيراً فيه, ولذا فهو منهل للباحثين في الحكمة، والأدب، والعرفان, وتفسير القرآن الكريم.

وقد امتاز كتاب "نهج البلاغة": بوحدة الروح والمثل والأسلوب على اختلاف موضوعاته‏ ومقاصده وفنونه ‏في صور فنية رائعة تسمو بأرفع أساليب البلاغة والفصاحة. وقد ثبتت صحة نسبة ما مجموع في "نهج البلاغة" إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، إذ إن الكثير من نصوصه محكوم بالتواتر عنه، وإذا ثبت صحة نسبة البعض, ثبت أن الجميع منه, لاتفاق جميع نصوصه في الأسلوب.

ثم إن كثيراً من خطب "نهج البلاغة" موجودة في مصادر شتى, قبل زمن الشريف الرضي, أما ما لم نقف اليوم على مصادره, فلا يعني أنه موضوع, لكثرة ما كان في متناوله من المصادر.

ولما اشتمله "نهج البلاغة" من الإخبار بالمغيبات وأسرار العلوم الواردة, بتلك الجزالة والقوة في السبك والدلالة, مما يبعد الشبهة واحتمال الوضع, فإن من دواعي اعتبار خبر الواحد الاعتبار بمتنه ودلالته. وبعد ثبوت نسبة ما في "نهج البلاغة" من الخطب والكلمات إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, الذي ألقيت على عاتقه مسؤوليات تفسير القرآن بعد النبي, يتضح أن الأداء الفكري والتطبيقي والتنظيري لتفسير القرآن, هو من ذلك النمير الرائق المتصل بالعلم الإلهي الذي أوحاه الله لرسوله الكريم, فقد ورد في نهج البلاغة جملة من تفسير الآيات والألفاظ القرآنية, بل يمكن الإفادة من بعض الشواهد أسسا تمثل قواعد أولية للجانب النظري في تفسير القرآن الكريم, وانتظم جملة من الدلالات التفسيرية التي يتلمسها الباحث في شواهد "نهج البلاغة" القرآنية, واضحة وجلية وقد أثبت البحث أن المفسرين قد استقوا موارد تفسيرية عديدة في مصنفاتهم التفسيرية, فمنهم من صرّح بنسبة ذلك التفسير إلى الإمام علي في "نهج البلاغة", ومنهم من اكتفى بذكر التفسير منسوباً إليه, مع أخذه للنص التفسري المثبت في "نهج البلاغة" من دون إشارة إلى المصدر, فضلا عن ورود بعض النصوص التفسيرية المطابقة لما في "نهج البلاغة" المنسوبة للإمام, عند متقدمي المفسرين الذي سبقوا عصر جمع الشريف الرضي لنهج البلاغة, مما يزيد في اعتبار صحة نسبة النهج إلى أن أمير المؤمنين.

****************************