وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                
وقال (عليه السلام): مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا.                
وقال (عليه السلام): لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                

Search form

إرسال الی صدیق
الدنيا في نهج البلاغة – الأول

ما هي الدنيا

يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

"وأحذركم الدنيا فإنها منزل قُلعةٍ [١] وليست بدار نجعة[٢] قد تزينت بغرورها، وغرَّت بزينتها. دارها هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرِّها وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، لم يُصفها اللّه تعالى لأوليائه، ولم يضنّ‏َ بها على أعدائه. خيرها زهيد وشرها عتيد وجمعها ينفد، وملكها يُسلبُ، وعامرها يخرب"[٣].

إن نظرة الإنسان للدنيا ستحدد له أهدافه وأولوياته وطرق عمله وستنعكس على مسلكيته فيها. وبالتالي فإن نظرة الإنسان للدنيا ستصنع شخصيته وتحدد مآله ومصيره.

من هنا أكثر الإمام عليه السلام من وصف الدنيا وفصل ذلك بأساليب متعددة. فكيف يقدم الإمام عليه السلام هذه الدنيا؟

هناك عدة صفات أساسية تتميز بها الدنيا أشار إليها الإمام عليه السلام تتلخص بما يلي:

الدنيا دار فناء

"فإنها منزل قلعة وليست بدار نجعة".

ويقول عليه السلام:

"ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وغِير وعبر"[٤].

فالدنيا ليست ملازمة للإنسان وإنما هي مرحلة يمر بها وجسر يعبره. وهذه المرحلة إذا قسناها بالمراحل التي يمر بها الإنسان منذ خلقه الله تعالى إلى أن يترك الدنيا ثم حياة البرزخ التي هي أطول بكثير من عمر الإنسان في الدنيا، ثم الآخرة التي سيخلد فيها، سنجد الدنيا مقابل ذلك زهيدة جداً، لا قيمة لها.

وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام في العديد من كلماته:

"وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها..."[٥].

"ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز..."[٦].

هذه الدنيا التي تمر بهذه السرعة والتي يخبر تعالى عنها في القرآن الكريم:

"قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ء قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ ء قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"[٧].

كم تستحق أن يلتفت إليها الإنسان ويصرف من طاقاته وإمكاناته التي أعطاه الله تعالى؟ هل تساوي نصف أو ربع أم أنها ليست شيئاً يذكر أمام المراحل الأخرى التي يعيشها؟ فلماذا يعطيها أكثر مما تستحق؟ ولماذا يتوجه إليها بكل مجهوده ويصرف فيها كل طاقاته وهو يعلم أنه سيتركها بعد لحظات؟! أليس حرياً بالعاقل أن يصرف طاقاته فيما هو أبقى له؟

أفلا قرأنا بقلوبنا هذه الكلمات النورانية لأمير المؤمنين عليه السلام:

"خيرها زهيد وشرها عتيد وجمعها ينفذ وملكها يسلب وعامرها يخرب".

ويقول عليه السلام:

"عباد اللّه أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلاً فكأنهم قد قطعوا، وأمّوا[٨] علماً فكأنهم قد بلغوه... وما عسى أن يكون بقاءُ من له يو لا يعدوه وطال حثي من الموت يحدوه[٩] ومزع في الدنيا حتى يفارقها رغماً، فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها..."[١٠].

الدنيا دار غرور

إن من صفات الدنيا السيئة أنها دار غش وخداع. فهي تزين كل قبيح وتقدمه للإنسان بأبهى صورة. تماماً كسراب الصحراء القاحلة:

"قد تزينت بغرورها وغرت بزينتها".

هذه الزينة التي تتألف من عدة عناصر تجمعها كلمة أمير المؤمنين عليه السلام:

"فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حُفَّت بالشهوات وتحببت بالعاملة وراقت بالقليل وتحلَّت بالآمال وتزينَّت بالغرور، لا تدوم حبرتها[١١] ولا تؤمن فجعتها غرّارة ضرّارة، حائلة[١٢] زائلة نافذة[١٣] بائدة[١٤] أكّالة غوّالة[١٥] -[١٦].

فقد تزينت بظاهرها "حلوة" واستدرجت الإنسان بشهواته "حفت بالشهوات" وأغفلته عن قصر عمرها وتركه لها من خلال الآمال "تحلت بالآمال".

الدنيا دار امتحان

إن الإنسان ممتحن في كل لحظة من لحظات هذه الدنيا وسيجد البلاء وسيجد البلاء والامتحان ومحاولات الاستدراج والمعاصي في أي موقع كان:

"فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرها وحياتها بموتها وحلوها بمرها لم يصفها الله تعالى لأوليائه ولم يضن بها على أعدائه".

الانغماس في الدنيا

الإمام علي‏عليه السلام حذر من الانغماس والغرق في الدنيا لما لها من تأثير سلبي إذا استخدمت بغير طاعة اللّه تعالى ولم يكن المأخوذ منها ما يغذي الحياة الآخرة لأنه يجب أن تكون في نظرنا وسلوكنا أنها مزرعة للآخرة وعوناً عليها فنأخذ منها ما ينسجم مع مشروعنا الأخروي والسعادة الأخروية الحقيقية. ولا نقبل عليها مع تجاهل النتائج والآثار والمآل، بل إن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار الجسيمة على مستوى على الفرد والمجتمع، فيتفكك بذلك المجتمع ويعيش الأفراد فيه حالة الجشع والطمع لا ينظر إلى الأمور بواقعية ولا يقيسها بميزان العقل كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

"ومن عشق شيئاً أعشى[١٧] بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها، ولمن في يده شي‏ء منها، حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها"[١٨].

ويهذا يصل إلى مرحلة لم تعد تنفعه المواعظ ولا تفيده الزواجر حتى يصل إلى يوم يقول يا ليتني كنت تراباً، أو يطلب من اللّه تعالى العودة حتى يعمل صالحاً من جديد.

يقول عليه السلام:

"لا يزدجر من اللّه بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ وهو يرى المأخوذين على الغِرَّة[١٩] حيث لا إقالة ولا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون"[٢٠].

احذر الدنيا

كان عليه السلام يحذر الناس دائماً من هذا الزمان الذي وصلوا إليه من قلة السالكين في طريق الخير والمقبلين على الدنيا وشرورها.

يقول عليه السلام:

"وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر فيه إلا إقبالاً ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً..."[٢١].

وفي مواجهة ذلك لا بد من جهاد النفس وترويضها بالأساليب المناسبة لها. فإذا وجدت نفسك قد غرقت في الدنيا حتى صارت الدنيا أكبر همك فعليك أن تتذكر الأنبياء والأولياء وموقفهم من الدنيا ومقدار استفادتهم منها.

فهذا أمير المؤمين عليه السلام يقول:

"ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضي‏ء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه[٢٢] ومن طعمه بقرصيه[٢٣] ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً[٢٤] ولا ادخرت من غنائمها وفرا. ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا[٢٥]، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أثاثٍ دبرة[٢٦] ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة[٢٧]".

ولكم في رسول اللّه أسوة حسنة

يقول أمير المؤمنين‏ عليه السلام:

"ولقد كان في رسول اللّه صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوي‏ء الدنيا وعيوبها: إذ جاع فيها مع خاصته[٢٨] وزويت عنه[٢٩] زخارفها مع عظيم زلفته[٣٠] فلينظر ناظر بعقله: أكرم اللّه محمداً أم أهانه، فإن قال أهانه، فقد كذب واللّه العظيم بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه فليعلم أن اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه..."[٣١].

ويقول عليه السلام في موضع آخر:

"قد حقَّر الدنيا وصغرها وأهون بها وهوَّنها، وعلم أن اللّه زواها عنه اختياراً وبسطها لغيره احتقاراً، فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها عن نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً[٣٢]، أو يرجو فيها مقاماً، بلَّغ عن ربِّه معذراً ونصح لأمته منذراً. ودعا إلى الجنة مبشراً وخوَّف من النار محذِّراً"[٣٣].

حال أهل الإيمان مع الدنيا

هنا نورد وصف أمير المؤمنين عليه السلام لأهل الإيمان وأولياء اللّه مع هذه الدنيا كيف تعاملوا معها وماذا كانت تعني لهم وما هو مدى وقعها في نفوسهم وهم ليسوا بأنبياء ولا أئمة، لكن بإيمانهم وثقتهم باللّه تعالى وعبادتهم الحقيقية التي تربطهم باللّه تعالى ومن خلال تفكرهم بأحوال الماضين الذين جمعوا الدنيا كهارون وقارون، علموا بأن النفس مظانها في غدٍ جدث ينقطع في ظلمته أخبارها وتغيب آثارها ولا يأخذ معه الإنسان إلا عمله الخالص للّه تعالى.

فيقول سلام اللِه عليه في وصف المتقين ونظرتهم إلى الدنيا:

"... أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها..."[٣٤].

ويقول‏ عليه السلام في موضع آخر:

"... والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه..."[٣٥].

ويقول‏ عليه السلام في موضع آخر يصف الزاهدين:

"... كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها، فكانوا منها كمن ليس منها، عملوا فيها بما يُبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون، تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة، ويرون أهل الدنيا يعظمون موتى أجسادهم وهم أشدُّ إعظاماً لموتى قلوب أحيائهم"[٣٦].

وأيضاً يقول عليه السلام في وصف أوليائه:

"... إن أولياء اللّه هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها، فأماتوا منها وخشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالاً ودركهم بها فوتاً..."[٣٧].

ثم يقول عليه السلام في موضع آخر:

"أولئك واللّه الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً، وصحبوا الدنيا بأبدان أوراحها معلقة بالمحل الأعلى... آه آه شوقاً إلى رؤيتهم..."[٣٨].

هذه هي بعض أحوال أهل الإيمان مع الدنيا حيث نراهم يعيشون في هذه الدنيا ولكن تطلعهم الحقيقي إلى الحياة الأبدية الأخرى حيث رضا اللّه ورضوانه ونرى كيف يتشوق الإمام لرؤيتهم تكريماً لهم بالفوز الذي حازوه.

يقول عليه السلام:

"فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ[٣٩] وقراضة الجلم[٤٠] واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم"[٤١].

يتبع  ...

-----------------------------------------------
[١] . قلعة: ليست بمستوطنة وثابتة.
[٢] . نجعة: طلب الكلأ في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الآمال.
[٣] . خطبة ١١٣.
[٤] . خطبة ٠٢٢٤.١١
[٥] . خطبة ٠٣.١٧
[٦] . خطبة ٠١٢٨.٣
[٧] . سورة المؤمنون، الآيات/١١٢-٠١١٤
[٨] . أمّوا: قصدوا علماً.
[٩] . يحدوه: يسوقه.
[١٠] . خطبة ٩٩.
[١١] . حبرتها: سرورها ونعمتها.
[١٢] . حائلة: متغيرة.
[١٣] . نافذة: فانية.
[١٤] . بائدة: هالكة.
[١٥] . غوّالة: مهلة.
[١٦] . خطبة ١٠٩.
[١٧] . أعشى: أعمى.
[١٨] خطبة ١٠.٠١٠٩
[١٩] . الغيّرة: البعثة والغفلة.
[٢٠] . نفس المصدر السابق.
[٢١] . خطبة ١٢٩.
[٢٢] . طمريه: ثوبان باليان.
[٢٣] . قرصيه: رغيف الشعير اليابس.
[٢٤] . تبرا: فتات الذهب والفضة قبل صياغته.
[٢٥] . طمرا: الثوب الخلق البالي.
[٢٦] . دبره: التي عقر ظهرها فقلّ‏َ أكلها.
[٢٧] . مقرة: مرَّة.
[٢٨] . أي مع خصوصية وتفضله عند اللّه.
[٢٩] . أي ابتعدت عنه.
[٣٠]. أي قربه.
[٣١] . خطبة ١٦٠.
[٣٢] رياشاً: اللباس الفاخر.
[٣٣] . خطبة ١٠٩.
[٣٤] . نهج البلاغة، خطبة المتقين.
[٣٥] . نهج البلاغة، ج‏٣، ص‏٧٤.
[٣٦] . نهج البلاغة، ج‏٢، ص‏٢٢٥.
[٣٧] . نهج البلاغة، ج‏٤، ص‏١٠١.
[٣٨] . نهج البلاغة، ج‏٤، ص‏٣٨.
[٣٩] . الحثالة: ما لا خير فيه من القشور، والقرظ: نوع من النبات يستعمل في الدباغة.
[٤٠] . الجلم: مقرض يجز به الصوف، والقراض: ما يسقط منه عند الجز.
[٤١] . نهج البلاغة، ج‏١، ص‏٧٩.
****************************