بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا يليق بجلاله، والصلوة والسلام على سيدنا محمد وآله
من مسك الختام في كتاب الله، وعزيز آية قوله تعالى: اليوم اكملت لكم دينكم، واتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا.
من كمال الدين اصولا وفروعا وبقيام حافظه، ومن تمام النعمة بالهداية والولاية، ومن رضا الله تعالى لنا تسليم امرنا للولي، من كل اولئك نود ان نستخلص حقيقتين:
الاولى: ان الاسلام الذي ارتضاه لنا سبحانه مدرسة انسانية شاملة لكل جوانب حياة الانسان الروحية والمادية، ولكل قضايا دينه ودنياه.
ولامراء في ان رسالة الاسلام اكمل نداء تلقته الارض من السماء، واجل حلقات دين التوحيد.
وافصح رسالاته ابانة لصلة الانسان بخالقه، والدنيا بالاخرة وادقها وصفا لكل من الطريق الى حسن الثواب، والطريق الى سوء الماب.
واذا كان محمد صلى الله عليه وآله المعلم الاول في هذه المدرسة العظيمة، وكتابه (القرآن الكريم) اول كتاب فيها، يليه حديثه الشريف «وما ينطق عن الهوى ان هوالا وحي يوحى» صار واضحا وسهلا ان نستخلص الحقيقة:
الثانية: وهي ان علي بن ابي طالب عليه السلام المعلم الثاني فيها، وخطبه الشريفة التي يضم معظمها كتاب (نهج البلاغة) هي الكتاب الثاني فيها.
علي عليه السلام ربيب بيت النبوة، عرف التوحيد قبل المؤمنين بسنين وعبدالله مع محمد (ص) قبل الدعوة، واوتي من علم الكون تسعة اعشار وكل الناس عشرا، لم يكن تلميذ النبي وابن عمه فحسب بل كان منه كما قال صلوات الله عليه وآله: (علي مني بمنزلة راسي من جسدي)[١].
ولم يكن حافظا للقرآن الكريم فحسب اوعالما لاسراره يوقر سبعين جملا من سورة الفاتحة فقط، بل كان
(علي مع القرآن، والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)[٢].
ولانبالغ اذا قلنا ان الحديث الشريف لايجعله تابعا للقرآن بل صنوا له اذ كلاهما تابع متبوع.
وامام هذا الحديث الذي (وما ينطق عن الهوى) يصغر قول الخليل بن احمد:
(احتياج الكل اليه، واستغناوه عن الكل، دليل على انه امام الكل في الكل)[٣].
فلاعجب ان يكون الامام علي عليه السلام مدهشا للدارسين على اختلاف عقائدهم ومشاربهم فما يكاد الواحد منهم يقترب من بحره حتى يقدم لدراسته اوكتابه بالتعبير عن شعور بالهيبة وكانه امام محيط زاخر لا يعرف انى يخوض ولا كيف يخرج.
بمثل هذا الشعور سنحاول قراءة (الزهد) كجانب من شخصيته عليه السلام من خلال خطبه واقواله التي يضمها كتاب نهج البلاغة الذي كان للشريف الرضي طيب الله ثراه- فضل جمعه، وهومازال فينا كتابا لم نقراه حق القراءة، ونبراسا لم نستضء به حق الاستضاءة.
محاولين التزام الكتاب دوام التاريخ والاخبار، نظرا لوفرتها ولاننا لن نستطيع الاتيان بشىء منها الا مكرورا.
ما مفهوم الزهد عنده؟ اهوخلق معجز لانستطيع بلوغه؟ ام مدرسة نتعلم منها قدر ما تستطيع؟ اهوخضم فلسفة؟ ام جادة صواب؟ ام ثورة روحية؟ ما وسائله؟ ما سماته؟ ما غايته؟ اين الرهبانية والصوفية منه؟.
(معنى الزهد وحدوده)
الزهد بالشىء- لغة- ضد الرغبة فيه، وعرفا: الاعراض عن مباهج الدنيا وملاذها اومتاعها.
فما الزهد في عرف الامام (ع)؟
(الزهادة: قصر الامل، والشكر عند النعم، والتورع عند المحارم)[٤].
وجاء في شرح ابن ابي الحديد: (فسر عليه السلام الزهادة- وهي الزهد- بثلاثة امور... فقال لايسمى الزاهد زاهدا حتى يبلغ هذه الامور الثلاثة).
ثلاثة مباديء اواركان يقوم الزهد بها مجتمعة:
١- اما قصر الامل فهوعدم الركون، الى متاع الدنيا لسرعة زواله وضالة شانه اذا ما قيس بمتاع الاخرة، ولانه يشغل عنها بما يستزيده من رغبة الانسان في الدنيا.
ولذا قال المعلم الاول محمد صلى الله، عليه وآله:
(لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا)[٥].
٢- واما الشكرعند النعم فمنجاه من البطر، وحفاظ على صلة لابس النعمة بواهبها وهذا بالتالي منجاه منه الركون الى الدنيا ونسيان المنعم الكريم.
٣- واما الورع عند المحارم ففيه صون للنفس وحمايه لها من المعاصي: ومن الحيادة عن الحق.
(فان عزب عنكم فلا يغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم) تابع[٦].
فان عزب اي بعد(اوشق عليكم بلوغها مجتمعة، فلتغالبوا ما يستهوى انفسكم من حرام الدنيا وهذا يحتاج الى صبر. واديموا الشكر عند النعم كيلا تغلبكم الدنيا فهل نكون زهادا بهذين الشرطين؟ قال ابن ابيالحديد: (امران من الثلاثة لابد منهما وهما الورع وشكر النعم جعلهما آكد واهم من قصر الامل).
وخلافا لراي الشارح الجليل، لا نرى ان الزهد يبلغ بهما ولا ان قصرالامل اقل منهما اهمية، وقد اكدت خطب الامام (ع) واقواله اهمية الاستهانة بالدنيا لبلوغ الزهد ومن ذلك قوله:
(اخوف ما اخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الامل: فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق، واما طول الامل فينسي الاخرة)[٧].
ومادام طول الامل ينسي الاخرة ولازهد مع نسيان الاخرة، فلا زهد بلا قصر الامل، ويزداد الامر وضوحا ورسوخا بقوله عليه السلام:
(الزهد كله بين كلمتين: قال سبحانه: (لكيلا تاسوا على مافاتكم)، ولا تفرحوا بما آتاكم ومن لم ياس على الماضي، ولم يفرح بالاتي فقد اخذ الزهد بطرفيه)[٨].
افلا يعني هذا ان قصر الامل في الدنيا يشكل القاعدة الهامة التي يقوم عليها الزهد؟ انه ليذكرنا بتقسيمه للناس امام الجنة والنار الى ثلاثة: ساع سريع نجا، وبطي رجا، ومقصر هوى.
اما الزاهد العابد الذي اخذ الزهد بطرفيه فقد سعى الى الاخرة سريعا فنجا، واما البطىء الذي عاقت الدنيا سعيه فراح يغالبها صابرا شاكرا فقد رجا رحمة الله ومن لم يفر بشيء مما سبق فقد هوى.
مبادي بسيطة يقوم عليها الزهد في مدرسة الامام المنبثقة من مدرسة الاسلام اذا اجتمعت بلغ بها الزاهد مرتبة الكمال البشري وان لم تجتمع بلغ ما دون ذلك.
فليس الامر معجزا، ولا هووليد تاويلات فلسفية كما سنرى في الصوفية، بل هومدرسة نتعلم فيها الاهتداء الى جادة العبور من الدنيا الى الاخرة.
وبالبساطة نفسها يجلوالامام (ع) الصلة بين الدنيا والاخرة:
(الدنيا دار ممر، لا دار مفر)[٩].
او(انما الدنيا دار مجاز، والاخره دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم...)[١٠].
الرحله شاقه لما حفيت به من بهارج، والدرب كثيرة المزالق والمداحض.
فمن اجنازها جادا الى قصده. لم يثنه جمال المشهد عن طلب المرام ولم يشغله جمال الرياض والوان الجبال الا بقدر ما يخفف من وعثاء السفر ولم يحزنه فوتها مادام يقترب من القصد. اما من اجنازها بطيئا فسوف يشغله ما حف بها عن السعي الجاد.
(فانه الدنيا مشغلة عن غيرها، ولم يصب صاحبتها منها شيئا الا فتحت له حرصا عليها)[١١].
يمكن ان نعرف (الزهد) هنا بانه ذلك النضج العقلى اوالسموالانساني الذي بلغ بصاحبه ذروة من الكمال يطل منها على الدنيا فتبدولعين عقله اقل شانا من ان يشغله عن حقيقته الازلية وهي صلته بالخالق وشوقه الى وجهه، اوبعبارة ابسط: يبدوكل ما فيها وسيلة والاخرة هي الغاية، عملا بالاية الكريمة:
(وابتغ فيما آتاك الله الدارالاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).
(من الزاهد)؟
بعد ان بينا جاده الصواب في الزهد، يجد ربنا ان نبحث عن صوره لحياه الزاهد في الدنيا، فربما قدم لنا الوصف مزيدا من وضوح النهج امامنا، وقد ورد في كتاب النهج وصف الزهاد في اكثر من موضع ولكن اوجزه واشمله ماجاء في:
(كانوا قوما من اهل الدنيا وليسوا من اهلها، فكانوا فيها كمن ليس منها، عملوا فيها بما يبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون، تقلب ابدانهم بين ظهرانى اهل الاخره، وييرون اهل الدنيا يعظمون موت اجسادهم، وهم اشد اعظاما لموت قلوب احيائهم)[١٢].
الزاهد: من اهل الدنيا، يعيش جسديا على الخبز والماء والهواء.
وليس من اهلها فيما عدا ذلك، فهومشغول بالاخرة انشغالهم بالدنيا. يفتدى بعقله (بصيرته) افتداءهم باهوائهم، يطلب الموت بمقدار ما يفرون منه لانه مطمئن الى ما بعده وهم خائفون، عصم بدنه عن ملاذها ونذره للاخرة بقدر ما اعرفوا ابدانهم بالمتع، فهان عنده موت الجسد بقدر ما عظم عندهم، واستعظم رسوخ قلوبهم في الدنيا بقدر ما غرقوا في الغفلة. وكان الغربة في الدنيا صارت شعبة من شعب الزهد.
وهذا مصداق الحديث الشريف: (الدنيا سجن المومن وجنة الكافر)
ونقرا- في هذا- القاعده الاساسية لحياة الزاهد لا جملة اخلاقه ومبادثه وفضائله التي سنعود اليها في بحث سمات زهد الامام (ع).
(نشأة الزهد)
كل حلقات الدين السماوي، وجل العقائد الوثنية حثت الانسان على الخيرحسب مفهومها واغلبها عد الانسان بالثواب واوعده بالعقاب، واكثرها عرف لونا من الزهد اوجذرا من جذوره، واقربها الى الاسلام زهد السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
وعرفت اطراف الجزيرة العربية قبيل بعثة محمد (ص) صوامع، واديره، انقطع فيها رهبان ونساك للعبادة والقراءة وكان هؤلاء يبشرون بظهور نبي تتحدث عنه كتبهم (الراهب بحيري).
ويحاول بعض المستشرقين ان يصلوا بين زهد اولئك وزهد مدرسة الاسلام وقد كثرت الاراء والاقوال في ذلك حتى اننا لانستطيع تفنيدها في هذه العجالة الا ان امر رفض الاسلام للرهبانية التي ابتدعوها واضح في الاية الكريمة:
«ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فمارعوها حق رعايتها»
وعلى الرغم من تقدير الرسول الكريم (ص) لعلم المؤمنين منهم فان حديثه (لا رهبانية في الاسلام) مشهور.
وما ذلك الا لان اهلها لم يرعوها حق رعايتها فحولوها الى هرب من الدنيا وتخل عن الواجبات والفرائض وهذا ما سنعود الى تفصيله.
اما فصل الزهد في مدرسة الامام فهومن صميم مدرسة الاسلام العظمى تابع بالفطرة من عمق ايمان الامام (ع) وتلامذته، وتطبيع تعاليم القرآن بصدق في حياتهم.
وحملهم راية الاسلام عبادة وثورة. فكيف نشا زهدهم؟
- كان الامام (ع) اعمق المؤمنين صلة بالقرآن الكريم، فقد عبدالله مع النبي (ص) قبل ان يعبده احد وسمع القرآن قبل ان يسمعه احد: (كنت اسمع الصوت وابصر الضوء سنين سبعا)[١٣].
وهوبعد غض الاهاب، مرهف القلب، متوفد الفكر، مرهف المشاعر فنزل القرآن على قلبه نزول المداد على الرقعة البيضاء
- نزلت السور القرآنية ببيان ساحر ووصف موثر فحقرت من شان الدنيا ابلغ تحقير وعظمت شان الاخرة بحاليها جحيما ونعيما.
فاذا صور الجنة اخاذه رائعة بين سعادة روحية ونعيم بدني، ينشرح لها الصدر، ونحن النفس وينحفر الضمير الى الثواب، حتى لتغدوالنفس البشرية وكانها زجاجه صافية ما فيها الا اشراقه العقل ووجيب القلب.
- ومن ثم جاءت موعظة الاسلام تضيء جادة اليمين وتحذر من جادة الشمال فتصف المؤمنين في الدنيا بالورع والتقوى والايثار والتواضع والرحمة والزهد في الدنيا وتصفهم في الاخرة متكئين على الارائك تشع وجوههم نضرة ونفوسهم غبطة ينظرون الى وجه الله وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وتصف الكافرين على النقيض من ذلك في الدنيا والاخرة.
فاذا باصحاب النبي (ص) الاوائل يشتعلون حماسة للقاء وجه ربهم وياخذون انفسهم بكل ما يقربهم من الله من صفات اسبغها القرآن الكريم على المؤمنين المقربين فاذا هم زهاد في الدنيا على اروع ما يكون الزهد حالا وامامهم في ذلك بعد النبي علي عليه السلام يقراون القرآن وكانه نداء روحي يفجر في نفوسهم العجائب.
- وبعد غياب الرسول، وتحسن حال المسلمين وتهافت اكثرهم على الدنيا صار الزهد ضرورة لابد منها فراح الصابرون منهم يتخذون منه شعارا بل مبدا ثوريا في ملحمة الاسلام يرفعونه في وجه زعامة المسلمين التي تهاونت اوتواطات مع ذلك الانحدر الخطير في مسار رسالة محمد وراحت خطب الامام (ع) تحفزهم وتنطق باسمهم، ولمعت اسماء سلمان المحمدي، وابي ذر الغفاري وحذيفة بن اليمان... وبدا الزهد يتخذ طابع تيار ثوري ضمن مدرسة الاسلام واخذت اسسه تبلور من خلال خطب الامام (ع) وسيرته واصحابه.
(وسائل الزهد)
لم يال للامام علي (ع) جهدا في دعوه الناس الى الزهد.
وفي خطبه الشريفة اساليب متعددة لهذه الدعوة بين نصائح مباشرة اودعوة الى الاعتبار والتبصر اوذم للدنيا وتهوين لشانها في مقابل تعظيم الاخرة.
ولكن اروعها اتخاذه من نفسه وسيرته نبراسا يضيء لهم طريقهم.
فمن مواعظه المباشرة.
(ايها الناس! انظروا الى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادقين عنها)[١٤].
(عباد الله! اوصيكم برفض الدنيا التاركه لكم، وان لم تحبوا تركها)[١٥].
ولعل القول الثاني يوضح المقصد من القول الاول، انها ستتركنا غير عابئة بنا ولن يهون علينا فراقها الا الزهد فيها ومبادرة الفراق قبل حلوله، فلنسقبلها بما تودعنا به من اعراض وقلة احتفال.
وكيف يكون الرفض؟ هل هورفض لكل ما فيها وهروب من مسؤولياتنا فيها من عمل وجهاد وطلب للعلم ونشر لدين الله؟
- ان الدنيا في خطب الامام (ع) مثلها في القرآن الكريم والحديث الشريف، ليست نقيض الاخرة بل سبيل اليها، هي دار ممر وابتلاء وتزود ولذا كان يقول:
(انما الدنيا دار مجاز، والاخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا استاركم عند من يعلم اسراركم، واخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل ان تخرج منها ابدانكم، ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم)[١٦].
انه رفض الحذر المتحرر من سلطانها، رفض من يريدها تسلس قياها له ولا يسلس قيادة لها، لان اسلاس القياد للدنيا مهلكة لانها حافلة بالوان الغرور.
(حلوة خضرة، حفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالامال وتزينت بالغرور)[١٧].
ان في خضرتها لفتنة، وان في شهواتها لقوة، تطل على الانسان من كل باب وتعترض سبيله متبرجة، وتسنح له مع كل سانحة، حتى نوقظ الغرائز وتولب الاهواء، وتخدع البصيرة، فلا ينجومن غرورها الا من اوتي صبرا عظيما.
(كمثل الحية لين مسها، والسم النافع في جوفها، يهوى اليها الغر الجاهل ويحذرها ذواللب العاقل)[١٨].
- لاينخدع بها ذواللب لانه يدرك غدرها، وغدرها نتيجة محتومة لسرعة تقلبها، فما يكاد الانسان يانس بها ويستطيب طيبها حتى تفجعه بما استهواه وملك عليه لبه، لذلك افاضت خطبة عليه السلام بعرض هذه الصفة من صفات الدنيا محذرة ومكررة فهي تارة: (لاندوم حبرتها، ولا تومن فجعتها، غرارة ضرارة، حائلة زائلة نافدة بائدة» تابع)[١٩].
ومن صفاتها تارة اخرى: (فانها غدارة غرارة خدوع، معطية منوع ملبسه نزوع، لايدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها ولايركد بلاؤها)[٢٠].
يكثر مثل هذا الوصف في خطب الامام (ع) للدنيا، وفي مواضع كثيرة من نهج البلاغة فياتي بادق الوصف واعمق التحليل لاحوالها باساليب بلاغية رائعة، وقد ورد ذم الدنيا فيما ينوف عل خسمين خطبة اوحديثا له عليه السلام، ونستطيع ان نجمل الصفات الواردة للدنيا بمايلي: الاغراء والغرور، اشرافها على الزوال، الخير فيها مشوب بالشر، تربص دهرها باهلها، سوء عاقبه الركون اليها ووعورة مركبها صغر شانها عند الله... الخ.
- ولكن الدنيا لا تقصر في مكاشفة الانسان العبرة والعظة: ف (ما اكثر العبر واقل الاعتبار)[٢١].
وذم الامام لها ليس هدفا بل امعانا في التنبيه والتحذير وطلبا للعظة والاعتبار فهويصفها لمن يذمها قائلا: (اتغتر بالدنيا ثم تذمها؟) ثم يقول:
(ان الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودارعافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار مواعظ لمن اتعظ بها)[٢٢].
كل اولئك واجد فيها مبتغاه.
روى ابن ابيالحديد عن بعض الكتب الالهية القديمة ان الله سبحانه قال لها: «يا دنيا من خدمنة فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه» فهي لاتناصب خليفة الخالق العداء، ولا تنصب له شباك الهلاك. ولكنه يراها ولا يبصرها يقوده هواه فيقع في حبائلها.
(حقا اقول: ما الدنيا غرتك ولكن بها اغتررت، ولقد كاشفتك العظات، وآذنتك على سواء- ولهي- بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، والنقص في قوتك- اصدق واوفيمن ان تكذبك اوتغرك)[٢٣].
انها تقدم له العظة تلوا العظة بما يبتلى به غيره اوبما يبتلى به هو، وما عليه الا ان يقراها كما يقرا في الكتاب فيتعظ ويعتبر، فما غاية العظة؟
- يكفي ان يتعظ بمصير السابقين وفيهم من بلغ من الغنى اوالسلطان حدا عاليا ليذكر انه لاحق بهم لامحاله، وعندها يزهد في عرضها وبالزهد يزداد بصيرة.
(ازهد في الدنيا يبصرك الله عوارتها، ولا تغعل فلست بمغفول عنك)[٢٤].
وهكذا فانه (من اعتبر ابصر، ومن ابصرفهم، ومن فهم علم)[٢٥].
- تسلسل رائع يحمل الانسان على اخذ نفسه بالرياضة، بالتدرب على الزهد.
العبرة نقود الى الزهد والزهد الى البصيرة الواعية، والبصيرة الى الفهم، فهم ما فطرت عليه الدنيا وفهم ثوابها وعقابها، ثم الى العلم...!
- فان لم يكف الانسان كل هذا ليعتبر فيبصر فان امامه من القدوة ما يفتح القلب العمى، اتظن ايها الانسان ان في الزهد مذله؟ لوكان كذلك ما رضيه الله لانبيائه وان كان الزمن قد باعد بيننا وبينهم ففي الكتاب خبرهم وان لم يردنا خبر الكتاب ففي سيرة النبي (ص) احسن قدره.
(وقد كان- صلى الله عليه وآله- ياكل على الارض- ويجلس جلسه العبد، ويخصف بيده نعله، ويرفع بيده ثوبه...)[٢٦].
وما سيرة الامام عليه السلام الا استمرار لسيرة النبي (ص).
لذا جعل منها درسا عظيما شاملا في المدرسة الشاملة وهذا الدرس يفرضه كونه في محل قطب الرحى من قيادة المؤمنين، ومولاهم جميعا «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه» وهومرجعهم بعد غياب النبي (ص)، وحجة الله على خلقه.
وهوفي ذلك كله المثل الاعلى لهم والقدوة التي لاتدرك، وقد حفلت كتب التاريخ والسيرة باخبار زهده المعجز، وحفلت خطبه بدروس الاقتداء حتى انه يصرح بواجب اقتدائهم بسيرته فها هوذا يكتب الى عثمان الانصاري عامله على البصرة: (الا وان لكل ماموم اماما يقتدى به ويستضيء بنور علمه، الا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. الا وانكم لاتقدرون على ذلك. ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)[٢٧].
هاهي ذى سيرته فدوه لعماله ورجاله ولكن صبره معجز لايستطيعونه، ولايريد ان يحملهم على المشقة، فلياخذوا انفسهم بمايجب ان يتصف بها كل حاكم الورع عن الحرام لانه يصد عن الحق، والاجتهاد في طلب العلم والثواب لكيلا بطول الامل، والتعفف عند الطمع لئلا تشغلهم الدنيا، وسداد البصيرة حتى لا يغلبهم غرورها.
ومن رائع سيريه في الزهد حديث (المدرعة) التي قال فيها: (والله لقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها، ولقد قال قائل: الا تنبذها عنك؟ فقلت: اعرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى)[٢٨].
(سمات تيار الزهد الثوري الاسلامي)
صار لزهد الامام والصحابة السباقين بقيادة الرسول (ص) ملامح مذهب ثوري، وتوضحت هذه الملامح بعد التحاق الرسول بالرفيق الاعلى بقيادة الامام علي عليه السلام فليس الزهد بان نجوع ونعرى ولكن بان نروض النفس ونرى بابها عن ان تطلب ما ليس ضروريا لامساك الرمق. وليست الحياة مطلبا بل هي فرصة للاجتهاد (ونفهم في الاجتهاد: العمل. والعلم). وليست الدنيا نقيض الاخرة بل سبيل اليها. وقد راينا انهم لم يتاثروا في ثورتهم بغير القرآن الكريم.
وهكذا ثارالزهاد بقيادة الامام (ع) على من يحاولون تمييع ثورية الاسلام وروحيته وتحويلها الى سياسة وطبقات.
كما ثاروا بقيادة النبي (ص) على وثنية الجاهلية وطبقاتها. وكانهم بذلك يسنون للعصر الحديث سنة (الثورة على الثورة).
وقد جعلوا من الزهد قاعدة لثورتهم في حب الله ورسوله وآله، واقاموا زهدهم على جانبين هامين من الاجتهاد:(العمل في حب الله- وطلب معرفته).
وامثالهم كان الامام (ع) يصف:
(طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الاخرة، اولئك قوم اتخذوا الارض بساطا، وترابها فراشا، ومائها طيبا، والقرآن شعارا والدعاء دثارا. ثم قرضوا الدنيا (اي تركوها خلفهم) على منهاج المسيح.)[٢٩].ولعلنا نستطيع ان نلمح في هذا القول الشريف - الذي جمع بين الزهادة والانقطاع الى العبادة- بذرة من بذور التصوف الاسلامي الذي ستشهده القرون التالية.
(الزهد والصوفية)
فتح مثل هذا الباب الواسع في مقالنا يخرجنا من ميدانه، لكن الموقف يقتضي ان نشير الى اهم ما يميز زهد الامام (ع) واصحابه عما سمى من بعد بالتصوف الاسلامى فنحن نرى ان زهد الامام تصاعد مع التاريخ مواجها لامعان القيادة السياسية في طغيانها فاذا جمعنا الى هذا اخفاق تورات اهل النبي استطعنا ان نميز تراجع الجانب اوالوجه العملي الثوري من الزهد وتصاعد الوجه الروحي من مجاهدة النفس الى تنظيم للرياضة الروحية وامعان فيها طلبا لمعرفه الله.
وهكذا تطور مبدا رفض ما يفتن الحواس الى رفض حياة الحواس، لان كل حسي امتداح للطبيعة وحياة الحواس ارتباط بالطبيعة وهوبالتالي نفي للاخلاق، فالاخلاق تناضل ضد الطبيعة بقيادة العقل ومثل هذا الكلام يشير الى ان تعابير الفلسفة واقيستها قد دخلت التصوف من بابه الامامي اما زهد الامام (ع) فقد كان مبنيا على البساطة في المبدا والصدق في الموقف.
(الزهد والرهبانية)
على الرغم من قول الحسن البصري: (رحم الله عليا، كان رهباني هذه الامة) فان بعد مابين الزهد والرهبانية يبقى وجود صلة تاثر بينهما الا ان يكون رهبانيها ممن حيث احاطته بالعلم الذي لم يحط به غيره اوان يكون التعبير لايقصد به الدقة العلمية ونقاط التباين واضحة يمكن اختصارها بما يلي:
- الرهبانية تكبت الفطرة البشرية للنفس والاسلام يرفض ذلك ويرفض الرهبانية، وزهد الامام من صميم الاسلام.
- الرهبانية تقوم على الانقطاع الى التعبد والتامل وبذا تنفي الجانب العملي من العبادة. والزهد عبادة وعمل: عمل في رزق يمسك الرمق. وعمل في حب الله.
- الرهبانية هرب من شرور الدنيا، والزهد مواجهه لها، وكفاح لاحقاق الحق. فهوزهد هدائي تربوي للامام والماموم والقائد والمقود.
- ونتيجة لما سبق تبدوالرهبانية كما ابتدعوها غير ملائمة لروح العصر. لسلبيتها سلوكا وعلما. اما زهد الامام فهوصالح اساسا لكل ثورات الامم الحديثة المكافحة لتحقيق الحق والسلام. بل هوخير اساس.
(غاية الزهد)
اذا كان هدف كل من الصوفية والرهبانية انفاذ النفس البشرية (الذات) من مداحض الدنيا تقربا الى الخالق، فان غاية الزهد ليست فردية ذاتية فقط، بل اننا نستطيع ان نلمس فيه الهدف الذاتي والغاية الغيرية العامة. واهم ما يرمي اليه:
عصمة النفس
«انما هي نفسي اروضها بالتقوى، لتاتي آمنة يوم الخوف الاكبر» وليس هذا اذلالا لانسانيتها بل ارتقاء بها عما يحول دون خلودها. ومن ناقلة القول ان نذكر ان العصمة عن طريق الزهد غيرالنجاة السلبية الهاربة بالرهبانية اوالتصوف.
العدل
العدل اسمى ما تريد الشعوب ان تستظل به في حياتها السياسة والاجتماعية وترويض النفس بالزهد خير وسيلة لتسليح الانسان بالقدرة على اقامة العدل واحقاق الحق- وهذا الهدف العام للزهد- وقد كان الامام عليه السلام خير قدوة في ذلك فان زهده لم يضعف قوته في القتال، وما عرف عنه انه سكت على باطل. اوتوانى في قيادة المؤمنين في سبيل الله. وما الامارة في نظره الا وسيلة لاقامة الحق ودفع الباطل فهويقول في نعل يخصفها: (لهي احب الي من امرتكم الا ان اقيم حقا اوادفع باطلا)[٣٠].وهوعليه السلام يرى اقامة الحق امانة في عنقه بعد الرسول (ص) وهومنه بمنزلة هارون من موسى. اوبمنزلة الراس من الجسد.
(خاتمة)
هذا غيض من فيض ماجاء في خطب الامام علي عليه السلام في الزهد: سواء ما كان تفسيرا له وبيانا لسبيله واظهارا لفضل اهله. ام ذما لمتاع الدنيا وتمجيدا لثواب الاخرة.
ولم يكن غرضنا احصائيا بل كان تلمس ميزان هذا السلوك الانساني السامي الذي صار تيارا اومذهبا ثوريا في تاريخ المسلمين كان له الفضل الكبير في الحفاظ على قدسية رسالة محمد صلى الله عليه وآله، ولن يشق على دارس كتاب نهج البلاغة ان يختار مزيدا من الاقوال ذات المعنى الجليل اوالتوجيه العميق الى الزهد قد تجاوزناها لكفاية ما انتقينا منها.
بهذا الزهد قامت رسالة محمد (ص) وبفضله ثم الفتح، وظل المنارة المضيئة في ليل اهوائهم وانوائهم.
نذر اصحابه انفسهم لحماية الدين ونشر احكامه، واحقاق الحق. ونصرة الله.
وان الله والحق لايفترقان.
فما احوجنا- اليوم- وقد مزقت رياح الاهواء شراع الرسالة، وطفا المسلمون على امواج التاريخ كغثاء السيل، ووقف بنا العالم على شفا حفرة من نار- ما احوجنا الى زهد مثل زهد مدرسة الامام، يعصم نفوسنا من الميل الى الباطل ويروضنا على احقاق الحق، ويقينا شر طول الامل واتباع الهوى علنا نعيد لرسالة الحق سيرتها الظافرة، والله ولي التوفيق.