معرفة الإمام جميع اللغات
الإمام الباقر والإمام الصادق : إنّ أمير المؤمنين لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزطّ [١] فسلّموا عليه وكلّموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم [٢] .
الإمام الصادق : أخرج [يهوديّ] من قبائه كتاباً فدفعه إلى أمير المؤمنين ففضّه ونظر فيه وبكى ، فقال له اليهودي : ما يبكيك يا بن أبي طالب ؟ إنّما نظرت في هذا الكتاب وهو كتاب سرياني وأنت رجل عربي ، فهل تدري ما هو ؟
فقال له أمير المؤمنين صلوات الله عليه : نعم ، هذا اسمي مثبت .
فقال له اليهودي : فأرني اسمك في هذا الكتاب ، وأخبرني ما اسمك بالسريانيّة ؟
قال : فأراه أمير المؤمنين سلام الله عليه اسمه في الصحيفة وقال : اسمي إليا [٣] .
عنه : إنّ أمير المؤمنين حين أتى أهل النهروان نزل قَطُفْتا [٤] ، فاجتمع إليه أهل بادرويا [٥] ، فشكوا ثقل خراجهم ، وكلّموه بالنبطية ، وأنّ لهم جيراناً أوسع أرضاً وأقلّ خراجاً ، فأجابهم بالنبطية : وغرزطا من عوديا .
قال : فمعناه : ربّ رجز صغير خير من رجز كبير [٦] .
المناقب لابن شهر آشوب : روى أنّه قال [علي] لابنة يزدجرد : ما اسمك ؟ قالت : جهان بانويه . فقال : بل شهر بانويه . وأجابها بالعجميّة [٧] .
الخرائج والجرائح عن ابن مسعود : كنت قاعداً عند أمير المؤمنين في مسجد رسول الله (ص) إذ نادى رجل : من يدلّني على من آخذ منه علماً ؟ ومرّ .
فقلت له : يا هذا ، هل سمعت قول النبي : أنا مدينة العلم وعلي بابها ؟
فقال : نعم . قلت : وأين تذهب وهذا علي بن أبي طالب ؟ فانصرف الرجل وجثا بين يديه . فقال له : من أي بلاد الله أنت ؟ قال : من أصفهان . قال له : اكتب : أملى علي بن أبي طالب . . . قال : زدني يا أمير المؤمنين . قال ـ باللسان الأصفهاني ـ : أروت إين وس . يعني اليوم حسبك هذا [٨] .
عيون أخبار الرضا عن أبي الصلت الهروي : كان الرضا يكلّم الناس بلغاتهم ، وكان والله أفصح الناس وأعلمهم بكلّ لسان ولغة ، فقلت له يوماً : يا بن رسول الله إنّي لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها !
فقال : يا أبا الصلت أنا حجّة الله على خلقه ، وما كان الله ليتّخذ حجّة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم ، أو ما بلغك قول أمير المؤمنين : اُوتينا فصل الخطاب ؟ فهل فصل الخطاب إلاّ معرفة اللغات ؟ [٩]
راجع : كتاب "أهل البيت في الكتاب والسنّة" / علم أهل البيت / أبواب علومهم / جميع اللغات .
مؤسّس علم النحو
سير أعلام النبلاء عن أبي الأسود : دخلت على علي فرأيته مطرقاً ، فقلت : فيم تتفكّرُ يا أمير المؤمنين ؟
قال : سمعت ببلدكم لحناً فأردت أن أضع كتاباً في اُصول العربيّة .
فقلت : إن فعلت هذا أحييتنا . فأتيته بعد أيّام ، فألقي إلىَّ صحيفة فيها :
الكلام كلّه : اسم ، وفعل ، وحرف ، فالاسم : ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل : ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف : ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل . ثمّ قال لي : زده وتتبّعه . فجمعت أشياء ثمّ عرضتها عليه [١٠].
تاريخ الخلفاء عن أبي الأسود الدؤلي : دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فرأيته مطرقاً مفكّراً ، فقلت : فيم تفكّر يا أمير المؤمنين ؟
قال : إنّي سمعت ببلدكم هذا لحناً فأردت أن أصنع كتاباً في اُصول العربيّة .
فقلت : إن فعلت هذا أحييتنا ، وبقيت فينا هذه اللغة .
ثمّ أتيته بعد ثلاث ، فألقى إلىَّ صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الكلمة : اسم ، وفعل ، وحرف ، فالاسم : ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل : ما أنبأ عن حركة المسمّى،والحرف : ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل .
ثمّ قال : تتبّعه وزد فيه ما وقع لك ، واعلم يا أبا الأسود ، أنّ الأشياء ثلاثة :
ظاهر ، ومضمر ، وشىء ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنّما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر .
قال أبو الأسود فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه ، فكان من ذلك حروف النصب ، فذكرت منها : إنّ وأنّ وليت ولعلّ وكأنّ ، ولم أذكر لكنّ ، فقال لي : لِمَ تركتها ؟
فقلت : لم أحسبها منها . فقال : بلى هي منها ، فزدها فيها [١١] .
شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان : جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب ، فقال : السلام عليكم يا أمير المؤمنين ، كيف تقرأ هذا الحرف "لا يأكله إلاّ الخاطون" كلٌّ والله يخطو ؟
فتبسّم علي (ع) وقال يا أعرابي : لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئـُونَ [١٢] .
قال : صدقت والله يا أمير المؤمنين ، ما كان الله ليسلم عبده .
ثمّ التفت علي إلى أبي الأسود الدؤلي فقال : إنّ الأعاجم قد دخلت في الدِّين كافّة ، فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم ، فرسم له الرفع والنصب والخفض [١٣] .
المناقب لابن شهر آشوب : وهو [الإمام علي ] واضع النحو ; لأنّهم يروونه عن الخليل بن أحمد بن عيسى بن عمرو الثقفي عن عبد الله بن إسحاق الحضرمي عن أبي عمرو بن العلاء عن ميمون الأفرن عن عنبسة الفيل عن أبي الأسود الدؤلي عنه .
والسبب في ذلك : إنّ قريشاً كانوا يزوّجون بالأنباط [١٤] فوقع فيما بينهم أولاد ففسد لسانهم ، حتى إنّ بنتاً لخويلد الأسدي كانت متزوّجة بالأنباط ، فقالت : إنّ أبوي مات وترك علي مالٌ كثيرٌ . فلمّا رأوا فساد لسانها أسّس النحو .
وروى أنّ أعرابياً سمع من سوقي يقرأ : "إنَّ اللهَ بَريءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِه" [١٥] فشجّ رأسه ، فخاصمه إلى أمير المؤمنين ، فقال له في ذلك ، فقال : إنّه كفر بالله في قراءته .
فقال : إنّه لم يتعمّد ذلك .
وروى أنّ أبا الأسود كان في بصره سوءٌ ، وله بنيّة تقوده إلى علي ، فقالت : يا أبتاه ، ما أشدُّ حرِّ الرمضاء ! تريد التعجّب ، فنهاها عن مقالتها ، فأخبر أمير المؤمنين بذلك فأسّس .
وروى أنّ أبا الأسود كان يمشي خلف جنازة ، فقال له رجل : مَن المتوفى ؟
فقال : الله ، ثمّ أخبر عليّاً بذلك فأسّس .
فعلى أي وجه كان وقعه إلى أبي الأسود وقال : ما أحسن هذا النحو ! ، احشِ له بالمسائل ، فسمّي نحواً [١٦] .
تاج العروس : إنّ أوّل من رسم للناس النحو واللغة أبو الأسود الدؤلي ، وكان أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) [١٧].
تاج العروس ـ في بيان الأقوال في وجه تسمية علم النحو بهذا الاسم ـ : قيل : لقول علي رضي الله تعالى عنه بعدما علّم أبا الأسود الاسم والفعل وأبواباً من العربيّة : انحُ على هذا النحو [١٨] .
البداية والنهاية عن ابن خلّكان وغيره : كان أوّل من ألقي إليه علم النحو علي بن أبي طالب ، وذكر له أنّ الكلام : اسم ، وفعل ، وحرف . ثمّ إنّ أبا الأسود نحا نحوه ، وفرّع علي قوله ، وسلك طريقه ، فسمّي هذا العلم : النحو،لذلك [١٩] .
فصاحة الإمام وبلاغته
الإمام علي : إنّا لاَمراء الكلام ، وفينا تنشّبت [٢٠] عروقه ، وعلينا تهدّلت [٢١] غصونه [٢٢] .
المناقب لابن شهر آشوب : عن الرضا عن آبائه (ع) : إنّه اجتمعت الصحابة فتذاكروا أنّ الألف أكثر دخولا في الكلام ، فارتجل الخطبة المونقة التي أوّلها : حمدتُ من عظمت منّته ، وسبغت نعمته ، وسبقت رحمته ، وتمّت كلمته ، ونفذت مشيّته ، وبلغت قضيّته . . . إلى آخرها [٢٣] .
ثمّ ارتجل خطبة اُخرى من غير النقط التي أوّلها : الحمد لله أهل الحمد ومأواه ، وله أوكد الحمد وأحلاه ، وأسرع الحمد وأسراه ، وأظهر الحمد وأسماه ، وأكرم الحمد وأولاه . . . إلى آخرها [٢٤] . وقد أوردتهما في المخزون المكنون .
ومن كلامه : تخفّفوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم .
وقوله : ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم بيد واحدة ، ويقبض منهم عنه أيد كثيرة ، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة .
وقوله : من جهل شيئاً عاداه ، مثله : بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [٢٥] .
وقوله : المرء مخبوّ تحت لسانه ، فإذا تكلّم ظهر ، مثله : وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [٢٦] .
وقوله : قيمة كلّ امرئ ما يحسن ، مثله : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [٢٧] .
وقوله : القتل يقلّ القتل ، مثله : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [٢٨] , [٢٩] .
تاريخ دمشق : قال معاوية : إن كنّا لنتحدّث أنّه ما جرت المواسي [٣٠] على رأس رجل من قريش أفصح من علي [٣١] .
الإمامة والسياسة ـ في ذكر قدوم ابن أبي محجن على معاوية ـ : قال معاوية : فو الله لو أنّ ألسن الناس جمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان علي [٣٢] .
مروج الذهب ـ في ذكر لمع من كلام علي ـ : والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها علي البديهة ، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً [٣٣] .
نثر الدرّ عن محمّد ابن الحنفيّة ـ في وصف علي ـ : كان إذا تكلّم بذّ [٣٤] ، وإذا كلم [٣٥] حذّ [٣٦] :
وهذا مثل قول غيره : كان علي إذا تكلّم فَصَل وإذا ضرب قَتَل [٣٧] .
الشريف الرضي في مقدّمة نهج البلاغة : . . . وسألوني [جماعة من الأصدقاء والإخوان] عند ذلك [أي بعد تأليف كتاب خصائص الأئمّة] أن أبتدئ بتأليف كتاب يحتوي علي مختار كلام مولانا أمير المؤمنين في جميع فنونه ، ومتشعِّبات غصونه : من خطب وكتب ومواعظ وأدب ، علماً أنّ ذلك يتضمّن عجائب البلاغة ، وغرائب الفصاحة ، وجواهر العربية ، وثواقب الكلم الدينيّة والدنيويّة ، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ، ولا مجموعَ الأطراف في كتاب .
إذ كان أمير المؤمنين مشرَعَ الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه ظهر مكنونها ، وعنه اُخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وقد تقدّم وتأخّروا ; لأنّ كلامه الكلام الذي عليه مَسحة من العلم الإلهي ، وفيه عَبقة من الكلام النبوي .
فأجبتهم إلى الابتداء بذلك ، عالماً بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر ، واعتمدت به أن اُبيّن عن عظيم قدر أمير المؤمنين في هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدثِرَة ، والفضائل الجمّة ، وأنّه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأوّلين ، الذين إنّما يؤثرُ عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد .
فأمّا كلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل ، والجمّ الذي لا يحافل .
وأردت أن يسوّغ لي التمثّل في الافتخار به بقول الفرزدق :
اُولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا ***** جمعتنا يا جرير المجامع [٣٨]
وقال في ذيل قوله : "قيمة كلّ امرئ ما يُحسنه" ، وهي الكلمة التي لا تصاب لها قيمة ، ولا توزن بها حكمة ، ولا تقرن إليها كلمة [٣٩] .
وقال في ذيل قوله : "فإنّ الغاية أمامكم ، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم . تَخفّفوا تلحقوا ، فإنّما يُنتظر بأوّلكم آخرُكم" ، أقول : إنّ هذا الكلام لو وزن ، بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله ، بكلّ كلام لمالَ به راجحاً ، وبرّز عليه سابقاً .
فأمّا قوله : "تخفّفوا تلحقوا" فما سمع كلام أقلّ منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً ، وما أبعد غورها من كلمة ! وأنقع [٤٠] نطفتها [٤١] من حكمة ! وقد نبّهنا في كتاب "الخصائص" على عظم قدرها وشرف جوهرها [٤٢] .
وقال في ذيل الخطبة السادسة عشرة : إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به ! وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ولا يطّلع فجّها إنسان ،ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحقّ ،وجرى فيها على عرق وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [٤٣] .
ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : وأمّا الفصاحة فهو إمام الفصحاء ، وسيّد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين . ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة .
قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ، ففاضت ثمّ فاضت .
وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب .
ولمّا قال مِحفن بن أبي مِحفن لمعاوية : جئتك من عند أعيى الناس ، قال له : ويحك ، كيف يكون أعيى الناس ! فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره .
ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالةً على أنّه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة . وحسبك أنّه لم يدوَّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر ممّا دوّن له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب "البيان والتبيين" وفي غيره من كتبه [٤٤] .
وقال في ذيل الكتاب ٣٥ : اُنظر إلى الفصاحة كيف تعطى هذا الرجل قيادها ، وتملّكه زمامها ، وأعجب لهذه الألفاظ المنصوبة ، يتلو بعضها بعضاً كيف تؤاتيه وتطاوعه ، سِلسة سهلة ، تتدفّق من غير تعسّف ولا تكلّف ، حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال : "يوماً واحداً ، ولا ألتقى بهم أبداً" . وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفواصل تارةً مرفوعة ، وتارةً مجرورة ، وتارةً منصوبة ، فإن أرادوا قَسْرَها بإعراب واحد ظهر منها في التكلّف أثر بيّن ، وعلامة واضحة .
وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر قال : اُنظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة ، الاُولى منصوبة الفواصل والثانية ليس فيها منصوب أصلا ، ولو مزجت إحدى السورتين بالاُخرى لم تمتزجا ، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما ، ثمّ إنّ فواصل كلّ واحد منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلّفيّة .
ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل ، كيف قال : ولداً ناصحاً ، وعاملا كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً ، لو قال : ولداً كادحاً ، وعاملا ناصحاً ، وكذلك ما بعده لما كان صواباً ولا في الموقع واقعاً .
فسبحان الله من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة ! أن يكون غلام من أبناء عرب مكّة ينشأ بين أهله ، لم يخالط الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهيّة من إفلاطون وأرسطو ! ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقيّة ، والآداب النفسانيّة ; لأنّ قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك ، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط . ولم يربّ بين الشجعان ; لأنّ أهل مكّة كانوا ذوي تجارة ولم يكونوا ذوي حرب ، وخرج أشجع من كلّ بشر مشى على الأرض .
قيل لخلف الأحمر : أيّما أشجع عَنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب ؟
فقال : إنّما يذكر عَنبسة وبسطام مع البشر والناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة .
فقيل له : فعلى كلّ حال . قال : والله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما .
وخرج أفصح من سَحبان وقُسّ ، ولم تكن قريش بأفصح العرب ، كان غيرها أفصح منها ، قالوا : أفصح العرب جُرهم وإن لم تكن لهم نَباهة .
وخرج أزهد الناس في الدنيا وأعفّهم ، مع أنّ قريشاً ذوو حرص ومحبّة للدنيا ، ولا غرو فيمن كان محمّد مربّيه ومخرجه ، والعناية الإلهيّة تمدّه وترفدُه ، أن يكون منه ما كان [٤٥] !
وذكر عن شيخه أبي عثمان قال : حدّثني ثُمَامة ، قال : سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول : الكتابة ضمّ اللفظة إلى اُختها ، أ لم تسمعوا قول شاعر لشاعر وقد تفاخرا : أنا أشعرُ منك لأنّي أقول البيت وأخاه ، وأنت تقول البيت وابن عمّه ! ثمّ قال : وناهيك حسناً بقول علي بن أبي طالب :
هل من مناص أو خلاص ، أو معاذ أو ملاذ ، أو فرار أو محار ! .
قال أبو عثمان : وكان جعفر يُعجب أيضاً بقول علي : أين من جدَّ واجتهد ، وجمع واحتشد ، وبنى فشيّد ، وفرش فمهّد ، وزخرف فنجّد ؟ !
قال : ألا ترى أنّ كلّ لفظة منها آخذة بعنق قرينتها ، جاذبة إياها إلى نفسها ، دالّة عليها بذاتها ؟ !
قال أبو عثمان : فكان جعفر يسمّيه فصيح قريش .
واعلم أنّنا لا يتخالجنا الشكّ في أنّه أفصحُ من كلّ ناطق بلغة العرب من الأوّلين والآخرين ، إلاّ من كلام الله سبحانه ، وكلام رسول الله ; وذلك لأنّ فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته تعتمد على أمرين ،هما : مفردات الألفاظ ومركّباتها .
أمّا المفردات : فأن تكون سهلة ، سِلسة ، غير وحشيّة ولا معقّدة ، وألفاظه كلّها كذلك .
فأمّا المركّبات فَحُسنُ المعنى ، وسرعة وصوله إلى الأفهام ، واشتماله على الصفات التي باعتبارها فُضّل بعض الكلام على بعض ، وتلك الصفات هي الصناعة التي سمّاها المتأخّرون البديع ، من المقابلة والمطابقة ، وحسن التقسيم ، وردّ آخر الكلام علي صدره ، والترصيع ، والتسهيم ، والتوشيح ، والمماثلة ، والاستعارة ، ولطافة استعمال المجاز ، والموازنة ، والتكافؤ ، والتسميط ، والمشاكلة .
ولا شبهة أنّ هذه الصفات كلّها موجودة في خُطبه وكتبه ، مبثوثة متفرّقة في فرش كلامه ، وليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره ، فإن كان قد تعمّلها وأفكر فيها ، وأعمل رويّته في رصفها ونثرها ، فلقد أتى بالعجب العُجاب ، ووجب أن يكون إمام الناس كلّهم في ذلك ، لأنّه ابتكره ولم يعرف من قبله وإن كان اقتضبها ابتداءً ، وفاضت على لسانه مرتجلة ، وجاش بها طبعه بديهة ، من غير رويّة ولا اعتمال ، فأعجب وأعجب !
وعلى كلا الأمرين فلقد جاء مجلّياً ، والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره .
وبحقٍّ ما قال معاوية لمحقن الضبّى ، لمّا قال له : جئتك من عند أعيي الناس : يابن اللخناء ، أ لعلي تقول هذا ؟ ! وهل سنّ الفصاحة لقريش غيره ؟ !
واعلم أنّ تكلّف الاستدلال على أنّ الشمس مضيئة يتعب ، وصاحبه منسوب إلى السفَه ، وليس جاحد الاُمور المعلومة علماً ضرورياً بأشدّ سفهاً ممّن رام الاستدلال بالأدلّة النظريّة عليها [٤٦] .
وقال أيضاً في ذيل الخطبة ٩١ ـ التي تُعرف بخطبة الأشباح ـ : "إذا جاء نهر الله بطل نهر مَعقِل" ! إذا جاء هذا الكلام الربّاني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص ، ولو فرضنا أنّ العرب تقدِرُ على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ ، من أين لهم المادّة التي عبّرت هذه الألفاظ عنها ؟ ! ومن أين تعرف الجاهليّة بل الصحابة المعاصرون لرسول الله (ص) هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها ؟ ! أمّا الجاهليّة فإنّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك .
وأمّا الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنّما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة ; إمّا في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدنيا أو ما يتعلّق بحرب وقتال من ترغيب أو ترهيب ، فأمّا الكلام في الملائكة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها وحبّها له وولهها إليه ، وما جرى مجرى ذلك ممّا تضمّنه هذا الفصل على طوله فإنّه لم يكن معروفاً عندهم على هذا التفصيل ، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم ولا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم .
وأمّا من عنده علم من هذه المادّة كعبد الله بن سلام واُميّة بن أبي الصلت وغيرهم فلم تكن لهم هذه العبارة ولا قدَروا على هذه الفصاحة ، فثبت أنّ هذه الاُمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ لعلي وحده ، واُقسم إنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ورجف قلبه ، واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وخلده وهام نحوه وغلب الوجد عليه ، وكاد أن يخرج من مُسكه شوقاً وأن يفارق هيكله صبابةً ووجداً [٤٧] .
وقال في ذيل الخطبة ١٠٩ : هذا موضع المثل : "في كلّ شجرة نارٌ ، واستمجد المَرْخ والعَفار [٤٨] " الخطب الوعظيّة الحسان كثيرة ، ولكن هذا حديث يأكل الأحاديث :
محاسن أصناف المغنين جمّةٌ ***** وما قصبات السبق إلاّ لمعبد
من أراد أن يتعلّم الفصاحة والبلاغة ويعرف فضل الكلام بعضه على بعض فليتأمّل هذه الخطبة ، فإنّ نسبتها إلى كلّ فصيح من الكلام ـ عدا كلام الله ورسوله ـ نسبة الكواكب المنيرة الفلكيّة إلى الحجارة المظلمة الأرضية ، ثمّ لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء والجلالة والرواء والديباجة ، وما تحدثه من الروعة والرهبة والمخافة والخشية ، حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمّم على اعتقاد نفي البعث والنشور ; لهدّت قواه وأرعبت قلبه وأضعفت على نفسه وزلزلت اعتقاده ، فجزى الله قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به وليّاً من أوليائه ، فما أبلغ نصرته له تارةً بيده وسيفه وتارةً بلسانه ونطقه وتارةً بقلبه وفكره ، إن قيل : جهاد وحرب فهو سيّد المجاهدين والمحاربين ، وإن قيل : وعظ وتذكير فهو أبلغ الواعظين والمذكّرين ، وإن قيل : فقه وتفسير فهو رئيس الفقهاء والمفسّرين ، وإن قيل : عدل وتوحيد فهو إمام أهل العدل والموحّدين :
ليس على الله بمُستنكر ***** أن يجمع العالمَ في واحدِ [٤٩]
وقال في ذيل الخطبة ٢٢١ : من أراد أن يعظ ويخوّف ويقرع صَفاةَ القلب ، ويعرّف الناس قدر الدنيا وتصرّفها بأهلها ، فليأتِ بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح وإلاّ فليمسك ، فإنّ السكوت أستر ، والعيّ خير من منطق يفضح صاحبه ، ومن تأمّل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه : "و الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره" وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبةً في مجلس وتُلِي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عديّ بن الرقاع :
"قلمٌ أصابَ من الدواة مِدادها" [٥٠]
فلمّا قيل لهم في ذلك قالوا : إنّا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن .
وإني لأطيل التعجّب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدلّ على أنّ طبعه مناسب لطباع الاُسود والنمور وأمثالهما من السباع الضارية ، ثمّ يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدلّ على أنّ طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح ، الذين لم يأكلوا لحماً ولم يريقوا دماءً ، فتارةً يكون في صورة بِسطام بن قيس الشيباني وعُتَيبة بن الحارث اليربوعي وعامر بن الطفيل العامري ، وتارةً يكون في صورة سقراط الحَبر اليوناني ويوحنّا المعمَدان الإسرائيلي والمسيح بن مريم الإلهي .
واُقسم بمن تُقسم الاُمم كلّها به ، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرّة ، ما قرأتُها قطّ إلاّ وأحدثتْ عندي روعةً وخوفاً وعِظةً ، وأثّرت في قلبي وجيباً [٥١] وفي أعضائي رِعدةً ، ولا تأمّلتُها إلاّ وذكرتُ الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودّي ، وخيّلت في نفسي أنّي أنا ذلك الشخص الذي وصف حاله .
وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى ، وكم وقفت على ما قالوه وتكرّر وقوفي عليه ، فلم أجد لشىء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي ، فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله ، أو كانت نيّة القائل صالحة ويقينه كان ثابتاً وإخلاصه كان محضاً خالصاً ، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم ، وسريان موعظته في القلوب أبلغ [٥٢] .
البيان والتبيين ـ في بيان قول علي "قيمة كلّ امرئ ما يحسن" ـ : فلو لم نقف من هذا الكتاب إلاّ على هذه الكلمة لوجدناها شافية كافية ، ومجزئة مغنية ، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية ، وغير مقصّرة عن الغاية . وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ، ومعناه في ظاهر لفظه ، وكان الله عزّ وجلّ قد ألبسه من الجلالة ، وغشّاه من نور الحكمة على حسب نيّة صاحبه وتقوى قائله [٥٣] .
رسائل الجاحظ : أجمعوا على أنّهم لم يجدوا كلمةً أقلّ حرفاً ، ولا أكثر ريعاً [٥٤] ، ولا أعمّ نفعاً ، ولا أحثّ على بيان ، ولا أدعي إلى تبيّن ، ولا أهجى لمن ترك التفهّم وقصّر في الإفهام ، من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه : قيمة كلّ امرئ ما يحسن [٥٥] .
المناقب لابن شهر آشوب عن الجاحظ في كتاب الغرّة : كتب [علي ]إلى معاوية : غرّك عزّك ، فصار قصار ذلك ذلّك ، فاخشَ فاحش فعلك فعلّك تهدى بهذا ، وقال : من آمن أمن ! [٥٦] , [٥٧]
المناقب لابن شهر آشوب ـ في وصف علي ـ : وهو أخطبهم ، ألا ترى إلى خُطَبه مثل : التوحيد ، والشقشقيّة ، والهداية ، والملاحم ، واللؤلؤة ، والغرّاء ، والقاصعة ، والافتخار ، والأشباح ، والدرّة اليتيمة ، والأقاليم ، والوسيلة ، والطالوتيّة ، والقصبيّة ، والنخيلة ، والسلمانيّة ، والناطقة ، والدامغة ، والفاضحة ، بل إلي نهج البلاغة عن الشريف الرضي ، وكتاب خطب أمير المؤمنين عن إسماعيل بن مهران السكوني عن زيد بن وهب أيضاً ؟ ! [٥٨]
مطالب السؤول ـ في وصف علي ـ : علم البلاغة والفصاحة ، وكان فيها إماماً لا يشقّ غباره ، ومقدّماً لا تلحق آثاره ، ومن وقف على كلامه المرقوم الموسوم بنهج البلاغة صار الخبر عنده عن فصاحته عياناً ، والظنّ بعلوّ مقامه فيه إيقاناً [٥٩].
تذكرة الخواصّ : كان علي ينطق بكلام قد حفّ بالعصمة ، ويتكلّم بميزان الحكمة ، كلام ألقى الله عليه المهابة ، فكلّ من طرق سمعه راعه فهابه ، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة ، والطلاوة والفصاحة ، لم يسقط منه كلمة ، ولا بارت له حجّة ، أعجز الناطقين ، وحاز قصب السبق في السابقين ، ألفاظ يشرق عليها نور النبوّة ، ويحيّر الأفهام والألباب [٦٠].
الإمام وفنّ الشعر
أنساب الأشراف عن الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر ، وكان عمر يقول الشعر ، وكان علي أشعر الثلاثة [٦١] .
شرح نهج البلاغة عن ابن عرادة : كان علي بن أبي طالب يُعشّي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشّى معهم ، فإذا فرغوا خَطَبَهم ووعظهم ، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم ، فلمّا فرغوا خَطَبهم وقال في خطبته :
اعلموا أنّ ملاك أمركم الدين ، وعصمتكم التقوى ، وزينتكم الأدب ، وحصون أعراضكم الحِلم . ثمّ قال : قل يا أبا الأسود ، فِيمَ كنتم تُفيضون فيه ، أيّ الشعراء أشعر ؟ فقال : يا أميرَ المؤمنين ، الذي يقول:
ولقد أغتدى يدافعُ ركني ***** أعوجي ذو مَيعة إضريجُ
مِخْلَطٌ مِزْيَلٌ مِعَنٌّ مِفَنٌّ ***** مِنْفَحٌ مِطْرَحٌ سَبُوحٌ خَروجُ [٦٢]
يعنى أبا دُواد الإيادي ، فقال : ليس به ، قالوا : فمن يا أمير المؤمنين ؟
فقال : لو رُفعت للقوم غايةٌ فجرَوا إليها معاً علمنا مَن السابق منهم ، ولكن إن يكن فالذي لم يقُل عن رغبة ولا رهبة.
قيل : من هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : هو المَلِك الضِّلّيل ذو القروح.
قيل : امرؤ القيس يا أمير المؤمنين ؟ قال : هو [٦٣].