علم الإجتماع
الإمام علي عليه السلام ـ من خطبة له يصف فيها العرب قبل بعثة النبي ـ :
إنّ الله بعث محمّداً نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل . وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار . منيخون بين حجارة خُشن وحيّات صمّ ، تشربون الكَدِر وتأكلون الجشب [١] ، وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم . الأصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة [٢] .
عنه ـ من خطبة له يصف فيها الناس قبل بعثة النبي ـ :
وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالدين المشهور ، والعلم المأثور والكتاب المسطور ، والنور الساطع والضياء اللاّمع ، والأمر الصادع ، إزاحةً للشبهات ، واحتجاجاً بالبيّنات ، وتحذيراً بالآيات ، وتخويفاً بالمَثُلات ، والناس في فِتن انجذم [٣] فيها حبل الدِّين وتزعزعت سواري اليقين ، واختلف النجر وتشتّت الأمر ، وضاق المخرج ، وعَمِي المصدر ، فالهدى خامل والعمى شامل . عُصي الرحمن ، ونُصر الشيطان ، وخُذل الإيمان ، فانهارت دعائمه ، وتنكَّرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفت شُركه .
أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله . بهم سارت أعلامه ، وقام لواؤه في فِتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها وقامت على سنابكها . فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار وشرّ جيران . نومهم سهود وكُحلهم دموع . بأرض عالِمها مُلجم وجاهلها مُكرم [٤] .
أصناف الناس
الإمام علي ـ من خطبة له يصف زمانه بالجور ، ويقسم الناس فيه خمسة أصناف ، ثمّ يزهّد في الدنيا ـ :
أيّها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن كنود ، يُعدّ فيه المحسن مسيئاً ، ويزداد الظالم فيه عُتوّاً ، لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل عمّا جهلنا ، ولا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا . والناس على أربعة أصناف :
منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلاّ مهانةُ نفسه وكلالة حدّه ونضيض وفره .
ومنهم المُصلت لسيفه ، والمعلن بشرّه ، والمجلب بخيله ورجله ، قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مِقنب [٥] يقوده أو منبر يَفرعه . ولبئس المَتجَر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً وممّا لك عند الله عوضاً !
ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمّر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية .
ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه وانقطاع سببه ، فقَصرته الحال عن حاله فتحلّى بإسم القناعة وتزيّن بلباس أهل الزهادة ، وليس من ذلك في مَراح ولا مَغدًى .
وبقي رجال غضّ أبصارَهم ذكرُ المرجع ، وأراق دموعَهم خوفُ المحشر ، فهم بين شريد نادٍّ ، وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وثكلان موجع ، قد أخملتهم التقيّة وشملتهم الذلّة ، فهم في بحر اُجاج ، أفواههم ضامزة [٦] ، وقلوبهم قرحة ، قد وعَظوا حتى ملّوا وقُهِروا حتى ذلّوا ، وقُتِلوا حتى قلّوا .
فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرظ [٧] ، وقُراضة الجَلم [٨] ، واتّعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يَتّعظ بكم مَن بعدكم ، وارفُضوها ذميمة ، فإنّها قد رفضت مَن كان أشغف بها منكم [٩] .
نهج البلاغة :
من كلام له لكميل بن زياد النخعي ، قال كميل بن زياد : أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فأخرجني إلى الجبّان [١٠] ، فلما أصحر تنفس الصعداء ثمّ قال :
يا كميل بن زياد ، إنّ هذه القلوب أوعية فخيرُها أوعاها ، فاحفظ عنّي ما أقول لك : الناس ثلاثة : فعالم ربّانيّ ، ومُتعلِّم على سبيل نجاة ، وهمج رَعاع أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجَؤوا إلى ركن وثيق .
يا كميلُ ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله .
يا كميل بن زياد ، معرفة العلم دِين يُدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته ، وجميل الاُحدوثة بعد وفاته . والعلم حاكم والمال محكوم عليه .
يا كميل ، هلك خُزّان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر : أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة . ها ، إنّ ههنا لعلماً جمّاً ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبتُ له حملة ! بلي أصبتُ لَقِناً [١١] غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدِّين للدنيا ، ومستظهراً بنعم الله على عباده ، وبحُججه على أوليائه ، أو منقاداً لِحَملة الحقّ ، لا بصيرة له في أحنائه [١٢] ، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل عارض من شُبهة .
ألا لا ذا ولا ذاك ! أو منهوماً باللذّة ، سلس القياد للشهوة ، أو مُغرماً بالجمع والادِّخار ، ليسا من رُعاة الدين في شىء ، أقرب شىء شَبهاً بهما الأنعام السائمة ! كذلك يموت العلم بموت حامليه .
اللهمّ بلى ! لا تَخلُو الأرضُ من قائم لله بحُجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ; لئلاّ تبطل حُجج الله وبيّناته . وكم ذا ؟ وأين أولئك ؟ أولئك ـ والله ـ الأقلّون عدداً ، والأعظمون عند الله قدراً . يحفظ الله بهم حُججه وبيّناته حتى يُودعوها نُظراءَهم ، ويَزرعوها في قلوب أشباههم . هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استعوره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلِّ الأعلى . اُولئك خُلفاء الله في أرضه والدُّعاة إلى دينه . آهِ آهِ شوقاً إلى رؤيتهم ! انصرف يا كميل إذا شئت [١٣] .
أوصاف المنافقين
الإمام علي ـ من خطبة له يصف فيها المنافقين ـ :
اُحذّركم أهلَ النفاق فإنّهم الضالّون المضلّون ، والزالّون المزلّون ، يتلوَّنون ألواناً ، ويفتنّون افتناناً ، ويعمدونكم بكلّ عماد ، ويرصدونكم بكلّ مرصاد . قلوبهم دوّية ، وصِفاحهم نقيّة . يمشون الخفاء ، ويدبّون الضرّاء . وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الداء العياء . حسدة الرخاء ، ومؤكّدو البلاء ، ومُقْنطو الرجاء . لهم بكلّ طريق صريع ، وإلى كلّ قلب شفيع ، ولكلّ شجو دموع . يتقارضون الثناء ، ويتراقبون الجزاء : إن سألوا ألحفوا ، وإن عَذلوا كشفوا ، وإن حكموا أسرفوا . قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلاً ، ولكلّ قائم مائلاً ، ولكلّ حىٍّ قاتلاً ، ولكلّ باب مفتاحاً ، ولكلّ ليل مصباحاً . يتوصّلون إلى الطمع باليأس ليُقيموا به أسواقهم ، ويُنفقوا به أعلاقهم [١٤] , يقولون فيُشبّهون ، ويصفون فيُموّهون . قد هوّنوا الطريق ، وأضلعوا المضيق [١٥] فهم لُمَةُ الشيطان ، وحُمَة [١٦] النيران : أُولَـٰئـِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [١٧] , [١٨] .
مبادئ اختلاف الناس
الإمام علي ـ وقد ذكر عنده اختلاف الناس ـ :
إنّما فرّق بينهم مبادئ طينهم ، وذلك أنّهم كانوا فلقةً من سَبخ أرض وعذبها ، وحَزن تربة وسهلها ، فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون ، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون .
فتامّ الرواء [١٩] ناقص العقل ، ومادّ القامة قصير الهمّة ، وزاكي العمل قبيح المنظر ، وقريب القَعر بعيد السبر [٢٠] ، ومعروف الضريبة [٢١] منكر الجَليبة [٢٢] ، وتائه القلب متفرّق اللبِّ ، وطليق اللسان حديد الجَنان [٢٣] .
عنه : إنّما أنتم إخوان على دين الله ، ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر ، وسوء الضمائر . فلا تَوازرون ولا تَناصحون ، ولا تباذلون ولا توادّون [٢٤] .
عنه : لو سكت الجاهل ما اختلف الناس [٢٥] .
النوادر
الإمام علي : الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم [٢٦] .
عنه : خَوضُ الناس في الشَّىء مقدِّمة الكائن [٢٧] .
عنه : الناس كالشَّجر ; شرابه واحدٌ وثمرهُ مختلفٌ [٢٨] .
نهج البلاغة : قال في صفة الغوغاء : . . . هم الذين إذا اجتمعوا ضرّوا ، وإذا تفرّقوا نفعوا ، فقيل : قد عرفنا مضرّة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم ؟ فقال : يرجع أصحاب المهن إلى مهنتهم ، فينتفع الناس بهم ; كرجوع البنّاء إلى بنائه ، والنسّاج إلى منسجه ، والخبّاز إلى مخبزه [٢٩] .