كلمة جامعة للعظة
نهج البلاغة: من خطبة له وهى كلمة جامعة للعظة والحكمة:
فإنّ الغاية أمامكم،وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم.تخفّفوا تَلحقوا[١] ; فإنّما يُنتظَر بأوّلكم آخرُكم.
قال السيّد الشريف: أقول: إنّ هذا الكلام لووُزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله بكلّ كلام لمال به راجحاً، وبرز عليه سابقاً.
فأمّا قوله : "تخفّفوا تلحقوا" فما سُمع كلام أقلّ منه مسموعاً ولا أكثر محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة، وأنقع نطفتها[٢] من حكمة ! وقد نبّهنا في كتاب الخصائص علي عظم قدرها، وشرف جوهرها[٣].
الطريق الواضح
الإمام علىّ ـ من كلام له يعظ بسلوك الطريق الواضح ـ: أيّها الناس ! لا تستوحشوا في طريق الهدي لقلّة أهله ; فإنّ الناس قد اجتمعوا علي مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل.
أيّها الناس ! إنّما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحد، فعمّهم الله بالعذاب لما عمُّوه بالرضا، فقال سبحانه: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ[٤] فما كان إلاّ أن خارت[٥] أرضهم بالخسفة خوار السِّكَّة[٦] المُحماة في الأرض الخوّارة[٧].
أيّهـا الناس من سلـك الطريق الواضـح ورد الماء، ومن خالف وقع في التِّيْه ![٨]
صفات المتّقين
نهج البلاغة: من خطبة له يصف فيها المتّقين. روى أنّ صاحباً لأمير المؤمنين يقال له: همّام كان رجلا عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لى المتّقين حتي كأنّى أنظر إليهم. فتثاقل عن جوابه ثمّ قال: يا همّام ! اتّقِ الله وأحسِن فـ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ[٩] فلم يقنع همّام بهذا القول حتي عزم عليه، فحمد الله وأثني عليه، وصلّي علي النبىّ ، ثمّ قال :
أمّا بعد ; فإنّ الله سبحانه وتعالي خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم ; لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه. فقسَم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم. فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل ; منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع. غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم علي العلم النافع لهم. نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتى نزلت في الرخاء. ولولا الأجل الذى كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ; شوقاً إلي الثواب، وخوفاً من العقاب.
عظُمَ الخالق في أنفسهم ; فصغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّةُ كمن قد رآها ; فهم فيها مُنعَّمون، وهم والنارُ كمن قد رآها فهم فيها مُعذَّبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيّاماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم.
أرادتهم الدنيا فلم يُريدوها، وأسَرَتهم ففدَوا أنفسهم منها.
أمّا الليلُ فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يُرتّلونها ترتيلاً. يُحزِّنون به أنفسَهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في اُصول آذانهم ; فهم حانون علي أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفّهم ورُكَبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلي الله تعالي في فَكاك رقابهم.
وأمّا النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء. قد براهم الخوفُ بَرْىَ القِداح[١٠]، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضي وما بالقوم من مرض، ويقول: قد خولطوا !، ولقد خالطهم أمر عظيم ! لا يرضَون من أعمالهم القليلَ، ولا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متّهِمون، ومن أعمالهم مشفِقون. إذا زُكِّى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسى من غيرى، وربّى أعلم بى من نفسى. اللهمّ لا تؤاخذْنى بما يقولون، واجعلنى أفضل ممّا يظنّون، واغفر لى ما لا يعلمون.
فمن علامة أحدهم أنّك تري له قوّة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم، وقصداً في غنيً، وخشوعاً في عبادة، وتجمّلاً في فاقة، وصبراً في شدّة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هديً، وتحرّجاً عن طمع. يعمل الأعمال الصالحة وهوعلي وَجَل. يُمسى وهمّه الشكر، ويُصبح وهمّه الذِّكر. يبيت حذِراً، ويُصبح فرِحاً ; حذِراً لما حُذِّر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يُعطِها سؤلها
فيما تُحِبّ. قُرّة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقي. يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل. تراه قريباً أملُه، قليلاً زللُه، خاشعاً قلبُه، قانعةً نفسه، منزوراً[١١] أكله، سهلاً أمرُه، حريزاً دينُه، ميّتة شهوته، مكظوماً غيظه. الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون. إن كان في الغافلين كُتب في الذاكرين، وإن كان في الذاكرين لم يُكتَب من الغافلين. يعفوعمّن ظلمه، ويُعطى من حرمه، ويصل من قطعه. بعيداً فُحشُه، ليّناً قوله، غائباً مُنكَره. حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شرّه. في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور. لا يحيف علي من يُبغِض، ولا يأثم فيمن يُحبّ. يعترف بالحقّ قبل أن يُشهَد عليه. لا يُضِيع ما استُحفِظ، ولا ينسي ما ذُكِّر، ولا ينابِز بالألقاب، ولا يضارّ بالجار، ولا يَشمَت بالمصائب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحقّ.
إن صمت لم يغمّه صمته، وإن ضحك لم يعلُ صوته، وإن بُغِى عليه صبر حتي يكون الله هوالذى ينتقم له. نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة. أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه. بُعدُه عمّن تباعد عنه زهدٌ ونزاهة، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمة. ليس تباعده بكِبْر وعظمة، ولا دنوّه بمكر وخديعة.
قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها.
فقال أمير المؤمنين : أما والله لقد كنت أخافها عليه. ثمّ قال: أ هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ؟ فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين !
فقال : ويحك ! إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه، وسبباً لا يتجاوزه. فمهلاً لا تعُد لمثلها[١٢] ; فإنّما نفث[١٣] الشيطان علي لسانك ![١٤].
التحذير من الغفلة
الإمام علىّ ـ من خطبة له في صفة الضالّ ـ: وهوفي مهلة من الله يهوى مع الغافلين، ويغدومع المذنبين، بلا سبيل قاصد، ولا إمام قائد.
... حتى إذا كَشف لهم عن جزاء معصيتهم، واستخرجهم من جلابيب غفلتهم، استقبلوا مُدبراً، واستدبروا مُقبلاً ; فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم، ولا بما قضَوا من وَطَرهم[١٥].
إنّي اُحذّركم ونفسى هذه المنزلة ; فلينتفع امرؤ بنفسه ; فإنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعِبَر ثمّ سلك جَدَداً[١٦] واضحاً يتجنّب فيه الصَّرْعة في المهاوى، والضلال في المغاوى، ولا يُعين علي نفسه الغواةَ بتعسّف في حقّ، أوتحريف في نطق، أوتخوّف من صدق.
فأفِقْ أيّها السامع من سكرتك، واستيقِظ من غفلتك، واختصِر من عجلتك. وأنعِم الفكر فيما جاءك علي لسان النبىّ الاُمّىّ ممّا لا بدّ منه، ولا محيص عنه. وخالِفْ مَن خالف ذلك إلي غيره، ودَعْهُ وما رضى لنفسه. وضَعْ فخرَك واحطط كِبرَك، واذكر قبرك ; فإنّ عليه ممرّك، وكما تَدين تُدان. وكما تزرع تحصد. وما قدّمتَ اليوم تقدَمُ عليه غداً ; فامهَدْ لِقَدمك، وقدّمْ ليومك. فالحذرَ الحذرَ أيّها المستمع ! والجِدَّ الجِدَّ أيّها الغافل ! وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[١٧] [١٨].
المبادرة بالعمل الصالح
الإمام علىّ : فاتّقوا الله عباد الله، وبادروا آجالَكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقي لكم بما يزول عنكم، وترحّلوا فقد جُدّ بكم[١٩]، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم، وكونوا قوماً صِيح بهم فانتبهوا، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدَلوا ; فإنّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدي، وما بين أحدكم وبين الجنّة أوالنار إلاّ الموت أن ينزل به. وإنّ غايةً تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدّة، وإنّ غائباً يحدوه الجديدان ; الليلُ والنهارُ لحرىّ بسرعة الأوبة[٢٠]، وإنّ قادمّاً يقدم بالفوز أوالشِّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة.
فتزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرُزون به أنفسكم غداً. فاتّقي عبدٌ ربَّه نصحَ نفسه، وقدّم توبته، وغلب شهوته ; فإنّ أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكَّل به يُزيّن له المعصية ليركبها، ويُمنِّيه التوبةَ ليُسوِّفها. إذا هجمت منيّته عليه أغفل ما يكون عنها.
فيا لها حسرة علي كلّ ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدّيه أيامه إلي الشِّقْوة ! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممن لا تُبطِره نعمةٌ، ولا تُقَصِّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة[٢١].
في التزهيد من الدنيا
الإمام علىّ : اُوصيكم عبادَ الله بتقوي الله التى هى الزاد وبها المعاذ ; زاد مُبْلِغ، ومعاذ مُنْجِح. دعا إليها أسمع داع، ووعاها خير واع. فأسمَعَ داعيها، وفاز واعيها.
عبادَ الله ! إنّ تقوي الله حَمَت[٢٢] أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتي أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم. فأخذوا الراحة بالنَّصَب، والرِّىّ بالظمأ. واستقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذّبوا الأمل فلاحَظوا الأجل.
ثمّ إنّ الدنيا دار فناء وعناء وغِيَر وعِبَر ; فمِن الفناء أنّ الدهر مُوتِرٌ قوسَه، لا تُخطئ سهامه، ولا تُؤْسي[٢٣] جراحه. يرمى الحىَّ بالموت، والص حيح بالسَّقَم، والناجى بالعَطَب. آكلٌ لا يشبع، وشارب لا ينقع. ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل، ويبنى ما لا يسكن، ثمّ يخرج إلي الله تعالي لا مالاً حمل، ولا بناء نقل ! ومن غيرها أنّك تري المرحومَ مغبوطاً والمغبوط مرحوماً، ليس ذلك إلاّ نعيماً زَلَّ[٢٤]، وبؤساً نزلَ.
ومن عِبَرها أنّ المرء يُشرِف علي أمله، فيقطعه حضور أجله ; فلا أملٌ يُدرَك، ولا مؤمَّلٌ يُترَك. فسبحان الله ! ما أعزّ سرورَها ! وأظمأ رِيَّها ! وأضحي فيئَها. لا جاء يُرَدّ، ولا ماض يرتدُّ. فسبحان الله ! ما أقرب الحىَّ من الميِّت للحاقه به، وأبعد الميِّت من الحىّ لانقطاعه عنه !
إنّه ليس شىء بشرّ من الشرّ إلاّ عقابه، وليس شىء بخير من الخير إلاّ ثوابه. وكلُّ شىء من الدنيا سَماعه أعظم من عِيانه، وكلُّ شىء من الآخرة عِيانه أعظم من سماعه ; فلْيكفكم من العِيان السماع، ومن الغيب الخبر. واعلموا أنّ ما نقص من الدنيا، وزاد في الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة، وزاد في الدنيا ; فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر ! إنّ الذى اُمِرتم به أوسع من الذى نُهِيتم عنه. وما اُحلَّ لكم أكثر ممّا حُرِّم عليكم ; فذروا ما قلّ لما كثُر، وما ضاق لما اتّسع. قد تكفّل لكم بالرزق واُمرتُم بالعمل ; فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولي بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنّه والله لقد اعترض الشكّ، ودَخِل اليقين، حتي كأنّ الذى ضُمن لكم قد فُرض عليكم، وكأنّ الذى قد فُرض عليكم قد وُضع عنكم. فبادِروا العمل، وخافوا بغتة الأجل ; فإنّه لا يُرجي من رجعة العمر ما يُرجي من رجعة الرزق ; ما فات من الرزق رُجِى غداً زيادته، وما فات أمسِ من العمُر لم يُرجَ اليوم رجعته. الرجاء مع الجائى، واليأس مع الماضى.فـ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[٢٥] [٢٦].
نداء طالما نادى به أصحابَه
الإمام علىّ : تجهّزوا رحمكم الله ! فقد نودى فيكم بالرحيل، وأقِلّوا العُرْجة[٢٧] علي الدنيا، وانقلِبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد ; فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة لابدّ من الورود عليها، والوقوف عندها. واعلموا أنّ مَلاحِظ المنيّةِ نحوَكم دانية،. وكأنّكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دَهَمتكم فيها مُفظِعات الاُمور، ومُعضلات المحذور ; فقطِّعوا علائق الدنيا، واستظهِروا بزاد التقوي[٢٨].