علي حسين الخباز
تمحورت معظم الدراسات النقدية في العديد من المواضيع الكتابية ذات النزعات المختلفة، والتي تتعدد بتعدد مدارسها وتباين مناهجها.. فقدمت لنا مصطلحات أدبية عامرة، منها الموروثة ومنها المستحدثة. وكل منها يطمح للوصول الى العمق النصي، حيث تعامل النقد مع الكثير من هذه المصطلحات تعاملا جديا لدرجة لا يمكن التغافل عنها.
والبعض من تلك المصطلحات ما هو معروف عند عامة الناس، كالسير الذاتية مثلا قوله عليه السلام: (وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ ولا لُبِسَ عَلَيَّ وإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ والْحُمَّةُ) والمراد بالحمأ هنا: مطلق القريب والنسب، وهو كناية عن الزبير، فانه من قرابة النبي (ص)، فهو ابن عمته. وكان النبي أخبر عليا (ع) انه ستبغي عليه فئة فيها بعض احمائه، وإحدى زوجاته. والحمة بضم ففتح كناية عنها.. وأصلها الحية أو الابرة اللاسعة من الهوام..
ثم لنأخذ ما هو باق في بوتقة اهل النقد والدراسات للتعامل النقدي، والتي لم يتم توضيحها للناس كمصطلح (الغيرية). ولنقرأ التعريف الذي ورد للامام علي عليه السلام، عن شخص ذكره في قوله عليه السلام: (وهَذَا أَخُو غَامِدٍ ( وَ( قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأَنْبَارَ وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا) واخو غامد هو سفيان بن عوف من بني غامد قبيلة في اليمن من أزد شنوءة، بعثه معاوية لشن الغارات على أطراف العراق، تهويلا على اهله...
وقد جاء في تعريف (الغيرية) بأنه مذهب أدبي، يقوم على النزعة الالتزامية كالواجب، واصلاح المجتمع، والبذل في سبيل الغير، كقوله عليه السلام: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي والله مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا).
ويذهب البعض الآخر من أهل النقد الى انها تعني (الموضوعية) كقوله عليه السلام: (أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ وأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ؟) وعمار بن ياسر كما هو معلوم من السابقين الاولين، وأبو الهيثم مالك بن التيهان من اكابر الصحابة.. ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت قبل النبي (ص) شهادته بشهادة رجلين في قصة مشهورة، وكلهم قتل في صفين، وابرد برؤوسهم أي ارسلت مع البريد بعد قتلهم الى البغاة للتشفي منهم (رضي الله عنهم أجمعين).
وكان الاقدمون يسمونها الترجمة الذاتية، وهم يعنون بالترجمة الموضوعية الغيرية..
يرى عبد الرحمن مجيد الربيعي: ان السيرة الجامعة تحتوي في طياتها على السيرة الغيرية، كقوله عليه السلام بعد مقتل عثمان: (وكَانَ مِنْ عَائشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَب فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ) أخرجت عائشة نعلي رسول الله (ص) وقميصه من تحت ستارها، وعثمان على المنبر، وقالت: هذا نعلا رسول الله وقميصه لم يبل بعد، وقد بدّلت من دينه وغيّرت من سنته، وجرى بينهما كلام المخاشنة، فقالت: اقتلوا نعثلا... تشبهه برجل معروف، فأتيح: اي قدر له قوم فقتلوه..
بينما يفضل الناقد المغربي (صدوق نور الدين) استعمال الترجمة الذاتية بدلا من السيرة الغيرية، لكون الانجاز الابداعي يتفرّد به شخص صاحب علاقة، كقوله عليه السلام: (أَولَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ ولا عَطَاءٍ وأَنَا أَدْعُوكُمْ وأَنْتُمْ تَرِيكَةُ الإِسْلامِ وبَقِيَّةُ النَّاسِ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ) والجفاة: جمع جاف أي غليظ، والطغام: اراذل الناس، والتريكة، بيضة النعامة، بعد ان يخرج منها الفرخ، تركها في مجثمها، والمراد: أنتم خلف الاسلام وعوض السلف..
نجد ان مثل هذه التباينات تظهر عدم استقرار المفهوم كمادة تطبيقية، ولا شك ان صدوق نور الدين قد عجز عن الوصول الى مفهوم الغيرية، وكان عباس محمود العقاد هو الاقرب، رغم انه دوّن عناوينه بسير المفكرين الذاتية، وما دمت انت تكتب عنهم فهي غيرية..
وعوالم الغيرية حقيقية لا شأن لها بالمتخيل والشخصي، وبعيدة عن الاسطرة والميثولوجية والتجريدية..
بينما النظرة عند الناقد (زهير الخلويدي) الذي وجدها تعني: المثاقفة والتواصل. وبعض النقاد فسّرها: عبارة عن قصص افعال الآخرين، وتعتني بنقل الحقائق، ويسمح لها بنقل الانفعالات الداخلية، وتقدم الشخوص من الواقع الى المنجز، وكالقول الذي اعقب قوله عليه السلام: (أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ وإِنِّي والله لاظُنُّ أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ) فبسر بن ارطاة: وهو عامري من بني عامر بن لؤي... سيّره معاوية الى الحجاز، بعسكر كثيف، فاراق دماء غزيرة، وفرّ والي المدينة ابو أيوب الانصاري، وانتزع اليمن من عبيد الله بن عباس، وفر ناجيا من شره، لكنه عثر على ولديه الصغيرين فذبحهما..
والغيرية كما يراها النقاد المغاربة: عبارة عن مقدمات كتاب بيد الاخرين، مثلما ورد في المقدمات الثلاث لنهج البلاغة، اولها كانت للناشر: (إجتمع للامام علي عليه السلام من صفات الكمال ومحمود الشمائل والخلال..) ومقدمة الشيخ محمد عبده: (كلام الامام علي (ع) هو اشرف الكلام وابلغه بعد كلام الله وكلام نبيه (ص)) والمقدمة الثالثة للشريف الرضي: (اذ كان أمير المؤمنين (ع) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها) ووردت مصطلحات متنوعة عن الغيرية، كالخطاب الغيري، وبعض مبتكرات السيرة الغيرية المصورة، والقصة الغيرية التي اعتبرها البعض (الحكي الثاني) ومنها ما يعقب على موجودات النص الداخلي، وما يذهب الى وقائع خارجية.
وعنونها الناقد محمد الحرز بعلم النفس الاجتماعي، كمفهوم غيري منحدر من اشتغالات العديد من الفلاسفة والكتاب. ومصطلح الغيرية ينتظم في وعي الفرد المسلم كتصورات تؤثر حسب رؤية (الحرز) في عمقه الوجداني، عبر علاقته بالآخر مهما كان شكله وصفاته ووجوده..