تمهيد
هل من علاقة قائمة ؟ بين ما تذرع به الزاعمون بأن نهج البلاغة، كله أو بعضه مدسوس ومنحول، من أن فيه معانٍ وإصطلاحات فلسفية [١] وبين القول: أنّى للمسلمين فلسفة ولم يكن لهم – قبل أن يتصلوا بالأمم – إلا القرآن والحديث [٢]. أو القول : إن الفلسفة كانت مجهولة عند المسلمين في عهد الإمام [٣].
وبكلمة أخرى: إن الذين زعموا أن نهج البلاغة منحول على لسان أمير المؤمنين عليه السلام بسبب ما فيه من معانٍ وإصطلاحات فلسفية وكلامية هل يريدون القول إن القرآن والحديث ليس فيهما فلسفة؟ وأن المسلمين لم يكن لديهم فلسفة قبل إتصالهم بالأمم الاخرى.
وإذا ثبت أن المسلمين لم يكن لديهم فلسفة في زمن الأمير عليه السلام فهل هذا يُسجّل نقطة في غير صالح الأمير عليه السلام في محاولة إثبات صحة نسبة نهج البلاغة له عليه السلام؟ أم أن القضية لا تأخذ هذا المنحى، فحتى لو ثبت أن المسلمين لم يكن لهم فلسفة ، فلا يضرّ هذا في الأمر الذي نريد إثباته، ويكفينا أن نثبت أن في القرآن فلسفة.
ثم، عن أية فلسفة نتحدث؟
إننا نتحدث عن الفلسفة التي «هي توضيح الأفكار ثم عرضها على العقل ليحاكمها ويميّز بين سليمها وسقيمها ، ويدعم الصحيح بالحجة والمنطق، ثم إيمان القلب بما أرشد إليه العقل، إيماناً لا تزحزحه القوى مجتمعة، ثم العمل بإخلاص على طبق هذا الإيمان ، فإذا كانت هذه هي الفلسفة، فالإمام سيد الفلاسفة ومعلمهم الأكبر» [٤].
إننا نتحدث عن الفلسفة التي تبحث في الوجود، وتجيب عن الأسئلة التي يسألها كل إنسان بفطرته، حتى لو لم يكن له حظ من العلم ، يسأل عن الخالق والصانع والمدبر، يسأل عن الإنسان من أين أتى؟ وإلى أين هو ذاهب؟، وما الهدف من خلقه ووجوده في هذا الكون وهذا العالم؟
هذه الأسئلة التي تبدأ مع الإنسان حينما يبدأ بإدراك ما حوله، وأن هناك قوى غيبية يراها بقلبه وعقله ، كل هذه الأسئلة هي بدايات للفلسفة التي تتحدث عن هذا الوجود بكل ما فيه.
نعم قد يمثلك الفيلسوف أسلوباً خاصاً وطريقة خاصة للبحث عن هذا الوجود والإجابة عن تلك التساؤلات من خلال «مقاييس صورية وتقسيم الموجودات وإلى ذهنية وخارجية وجواهر وأعراض» [٥] إلا أنه ليست الفلسفية كل هذا فقط، «وإذا كان الفيلسوف هو الذي يجلس في غرفة مظلمة يفكر في حقيقة العالم وطبيعة الوجود، وينزع بفكره إلى التحليق فوق حياتنا هذه التي نحياها، ويتخذ من عقله مختبراً يضع له المبادئ والقواعد، ثم يمليها على الناس ألغازاً وطلاسم، وإذا كانت هذه هي الفلسفة ، فالإمام أبعد الناس عنها وعن الفلاسفة» [٦].
وبغض النظر عما إذا كان هناك تلازم بين القوم بعدم وجود فلسفة لدى الملسمين وبين دعوى أن نهج البلاغة ، كله أو بعضه، منحول على الأمير عليه السلام فإن كلا القولين خاطئ.
أما القول بأنه لم يكن للمسلمين فلسفة لأنه «لم يكن لهم – قبل أن يتصلوا بالأمم – إلا القرآن والسنة، فهو صحيح من جهة وغير صحيح من جهة ثانية.
نعم، لم يكن للمسلمين بحوث فلسفية كتقسيم الموجودات الى جواهر وأعراض، وقِدَم العالم وحدوثه وأقسام التقابل وما إلى ذلك من موضوعات فلسفية ........ والقرآن لم يعتمد البراهين وتأليف المقاييس المنطقية، وإنما اعتمد في مخاطبة العرب على فطرتهم، لأنهم كانوا أمة أمية لا يعرفون أصول المجادلات والموازنات الفلسفية ، وإذا لم يكن القرآن كتابا فلسفياً، فمن أين تأتيهم الفلسفة؟» [٧].
نعم ليس في القرآن براهين ومجادلات فلسفية على الطريقة المعمول بها في الكتب الفلسفية ذات الإختصاص، إلا أن الصحيح أيضا «أن القرآن خاطب العقل والفطرة ، ثم إن العرب الذين خاطبهم القرآن .
كانوا على عقائد شتى ، فمنهم الدهريون الذين أنكروا الخالق والبعث ، ومنهم المشركون عبدة الأوثان، ومنهم أهل الكتاب وقد ناقش القرآن هؤلاء جميعاً، وقد قال كلمته الفاصلة فيما كانوا فيه يختلفون، وأثبت الحق بالأدلة المنطقية والبراهين العقلية والشواهد الوجدانية.
وهل للفلسفة معنى أوهدف غير ذلك » [٨].
وإذا كان للفلسفة «كسائر العلوم موضوع وغاية وموضوعها طبيعة الوجود، أي أنها تبحث عن حقائق الوجود في هذا الكون ، وما غايتها في معرفة الحقيقة، والقرآن تكلم عن الكون وحدوثه وأصله، وعن السماء وأجرامها ، والأرض وآياتها ، وعن الإنسان حقيقته وأفعاله ، وما إلى ذلك مما أصبح أساساً لكثير من العلوم .... وكفى به مصدراً للعلوم» [٩].
أقول: إن الطريقة التي اتبعها القرآن الكريم لإثبات بعض حقائق الوجود ، مما كان ينكرها العرب وقت نزوله، والتي سوف ينكرها بعض الناس في كل زمان ومكان، وبما أن القرآن كتاب هداية لكل الناس وفي كل زمان، فإن الطريقة التي اتبعها لإثبات هذه الحقائق، هي الطريقة التي يفهمها وبعقلها كل إنسان بغض النظر عن مستواه الفكري أو الإجتماعي ، طريقة تخاطب الفطرة والوجدان، طريقة لا يجد الناظر فيها إلا الإذعان والإيمان، طريقة لا تعتمد فقط على المقاييس المنطقية التي لا يفهمها إلا ذوو الإختصاص ، طريقة لا تعتمد فقط على المصطلحات الفلسفية المحصور فهمها بالفلاسفة والمتفلسفين، طريقة يفهمها الأمي الجاهل والذي ليس له حظ من العلم ، ويفهمها أيضا التعلم ، وحتى الفيلسوف، لأن القرآن ليس هدفه إبراز مقدرات علمية إفحام الخصم فقط، على طريقة المناظرات الكلامية، بل هدفه محاولة صرف المخاطب عما يعتقد من باطل إلى المعتقد الحث، لذلك نرى القرآن الكريم يكثر الحديث حول بعض المخلوقات مع أنها تحت نظر الإنسان بشكل دائم، من الدعوة الى التفكير في خلقها ، لأن هذا التفكير يساعد الإنسان للوصول إلى أحد أهم الأسئلة التي قد تراوده عن الخالق تعالة والمدبّر لهذا الكون (أفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى اُلإبِلِ كَيفَ خلقت (١٧) وإلَى اُلسَّمآءِ كَيفَ رُفعَت (١٨) وإلَى اُلجِبَالِ كَيفَ نُصِبَت (١٩) وإِلَى اُلأَرضِ كَيفَ سُطِحَت(٢٠) [١٠].
فإن التفكير في هذه المخلوقات العظيمة سيؤدي بالإنسان إلى الإعتقاد الجازم واليقين الذي لا يشوبه شك ، بأن لها خالقاً مصوراً مكوناً مدبراً، أليست هذه هي الفلسفة الباحثة عن الوجود، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن ، لا يسع المجال لذكرها جميعاً، «وهو إستدلال بوجود الفعل على وجود الفاعل المعبّر عنه بإصطلاح الفلاسفة بالدليل الإنّي» [١١].
واستدل القرآن أيضا بالدليل الوجداني – الفلسفي – على عدم تعدد الآلهة بقوله تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [١٢] وهذا ما يسمى بالإصطلاح الفلسفي بالقياس الإستثنائي ، وتتمة الدليل.
ولكنها لم تفسد فليس فيها آلهة ، إلى غير ذلك من الإستدلالات على الكثير من حقائق الوجود.
وأما القول: بأن «نهج البلاغة مدسوس على الإمام عليه السلام لا شيء إلا لأنه لا فلسفة للمسلمين، وإلا لأنه فوق مستوى الإمام العقلي والثقافي» [١٣] أو لأن فيه معانٍ ومصطلحات فلسفية. فإنه سواء ثبت أن للمسلمين فلسفة ، وأنها كانت مجهولة عند المسلمين في عهد الإمام أم لم يثبت ، فإن هذا لا بقدّم شيئاً أو يؤخر في إثبات أن نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام وإن كان فيه معانٍ فلسفية، لأننا نتحدث عن رجل تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «ونفي العلم عن الإمام عليه السلام يستلزم .... نفي العلم عن القرآن وعن محمد صلى الله عليه وآله وسلم» [١٤].
إننا نتكلم عن رجل وصف علاقته بالرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله ورسوله وخديجة وأنا ثالثهم، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة» [١٥].
إنسان هذه علاقته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- رسول الله الذي كان يتلقى العلم عن طريق الوحي الإلهي – من الطبيعي أن يكون إتباعه عليه السلام له صلى الله عليه وآله وسلم لأخذ هذا العلم، وتلقيه أيضاً، وهو القائل: «سلوني قبل أن تفقدوني» [١٦] وإن أمره بسؤاله دون أن يحدد نوع المسؤول عنه بعلم خاص أو بباب خاص، لدليل واضح على أنه سيد الفلاسفة وإمام الحكماء [١٧].
ثم إننا لا بد أن نلاحظ أيضاً الظروف الموضوعية التي حدت بالأمير عليه السلام لأن يتكلم بالمسائل الفلسفة «والكلامية عندما خرج الإمام علي عليه السلام من المدينة ودخل بلاد ما بين النهرين التي كانت تمتاز بقدمها التاريخي لعدة آلاف من السنين ، ولوجود الحضارات الفارسية الزرادشتية والمسيحية والمانوية، وتهيأت للإمام علي عليه السلام الأرضية المناسبة لطرح المسائل الكلامية ، ومن هنا نفهم السر في طرح الإمام لمجموعة من المسائل الكلامية الدقيقة في وسط يمتاز بحضارة عريقة» [١٨] .
ونختم بذكر أقوال العلماء حول الآراء والافكار الفلسفية والكلامية التي طرحها الأمير عليه السلام .
قال الفيلسوف العلامة الطباطبائي في مقام تبريره لإختيار كلام الأمير عليه السلام في الفلسفة الإلهية وما هو الغرض من ذلك؟ : «أنه عليه السلام أول من برهن واستدل في الفلسفة الإلهية، في هذه الأمة ، فله الفضل والمنّة على كل من سواه من العلماء، والباحثين في هذه العلم ، فإنه هوالذي فتح باب الإستدلال البرهاني في المعارف الإلهية، ...... وأنه عليه السلام قد أتى بمسائل في الفلسفة الإلهية لم يسبقه إلى التنبه إليها أحد، كما أنه فيما أقامه عليها من البراهين، ووضعه لها من الحول كان رائداً متفرداً لم يسبقه لها الأولون، ولم يتنبه لها الآخرون ، إلا بعد قرون وقرون وقد بقيت روائع أنظاره العالية رهن الإبهام قروناً متتالية، بعد زمانه، حتى وفق لكشفها، والوقوف عليها ، ثلة من جهابذة العالم ، وأفذاذ المفكرين ....
إنه عليه السلام أول من استخدم الألفاظ العربية لبيان المقاصد الفلسفية، التي لا تفي بها الألفاظ – في اللغة العربية – بمعانيها الشائعة، واستعمالاتها المتعارفة، إلا بعد تجريدها – على نحو ما – عن غواشي المادة، وشوائب الخصوصيات ، من ذلك قوله عليه السلام: «منعتها منذ القدمة ، وحمتها قد الأزلية وجنبتها لولا التكملة» [١٩] وقوله عليه السلام: «إن قيل كان فعلى تأويل الأزلية ، وإن قيل لم يزل فعلى تأويل نفي العدم» [٢٠] وقوله عليه السلام: «واحد لا من عدد، دائم لا بأمد» [٢١] وغير ذلك من الألفاظ كلفظ «الحقيقة» ولفظ «القوة» ولفظ «الإستعداد» ولفظي «العلة والمعلول» وغير ذلك [٢٢].
إبن أبي الحديد له تعليق على الكلمة الأولى التي نقلها العلامة الطباطبائي، فهو يقول: «إختلف الرواة في هذا الموضوع من وجهين، أحدهما قول مَن نصَب القدمة والأزلية والتكملة، فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثانٍ ، والمفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال ، وتكون منذ وقد ولولا في موضع رفع بأنها فاعله ، وتقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ على الآلات يمنعها عن كونها قديمة، لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان ..... وكذلك إطلاق لفظة قد على الآلات والأدوات تحميها وتمنعها من كونها أزلية ، لأن قد لتقريب الماضي من الحال، تقول: قد قام زيد. فقد تدل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها بقيامه، والأزلي لايصح فيه ذلك ، وكذلك إطلاق لفظة لولا على الأدوات والآلات يجنبها التكملة وتمنعها من التمام المطلق، لأن لفظة لولا وضعت لا متناع الشيء لوجود غيره ، كقولك: لولا زيد لقام عمرو..... وأنت تقول في الأدوات والآلات وكل جسم : ما أحسنه لولا أنه فانٍ ، وما أتمه لولا كذا. فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الأدوات والآلات محدثة وناقصة.
الوجه الثاني، قول: من رفع القدمة والأزلية والتكملة. فيكون كل واحد منها عنده فاعلاً، وتكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولاً أولاً، ومنذ وقد ولولا مفعولا ثًانياً، ويكون المعنى أن قِدَمَ الباري وأزليته وكماله منعت الأدوات والآلات من إطلاق لفظة منذ وقد ولولا عليه سبحانه لأنه تعالى قديم كامل.
ولفظتا «منذ وقد» لا يطلقان إلا على محدث، لأن أحدهما لابتداء الزمان والأخرى لتقريب الماضي من الحال ، ولفظة لولا لا تطلق إلا على ناقص، فيكون المقصد والمنحى بهذا الكلام – على هذه الرواية – بيان قِدَم الباري تعالى وكماله ، وأنه لا يصح أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث والنقص» [٢٣].
قال الشيخ الكليني بعد أن نقل خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في التوحيد: «وهذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه السلام حتى لقد ابتذلها العامة وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها ، فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى – بأبي وأمي – ما قدروا عليه ، ولولا إبانته عليه السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد ، ألا ترون إلى قوله: «لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان» فنفى بقوله: «لا من شيء كان» معنى الحدوث وإبطالاً لقول الثنوية .... فدفع عليه السلام بقوله: «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنوية وشبههم ، لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء، فقولهم من شيء خطأ وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة، لأن «من» توجب شيئا «ولا شيء» تنفيه ، فأخرج أمير المؤمنين عليه السلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحها، فقال : «لامن شيء خلق ما كان»، فنفى «من» إذا كانت توجب شيئاً ، ونفي الشيء إذ كان كل شيء مخلوقاً محدثاً لا من أصل أحدثه الخالق» [٢٤].
وقال أبوجعفر الإسكافي المعتزلي: «إن عامة ما ذكرنا من كلامه – وما لم نذكره في التوحيد والثناء على الله وتذكيره ومواعظه قد تحلى بها أكثر المتكلمين .... وجميع ما ذكرناه وما لم نذكره من كلامه فهو مشهور مذكور عند أهل الرواية وبالأسانيد المذكورة عند أهل المعرفة معروف» [٢٥].
وقال الشريف المرتضى: «إعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وخطبه، أنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية ورائه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه، علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه ، إنما هوتفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول» [٢٦].
وقال الأديب اللبناني المعروف جورج جرداق: «والحكمة بما هي نظر نافذ وعقل محيط وحس أصيل وقوة على الحصر والإستنباط والإيجاز، ثم جهد دائب على ذلك جميعاً ، إنما هي من آثار الإمام علي، فإن له في ذلك ما يجعل له مركزاً جليلاً بين حكماء الأمم وأفذاذ التاريخ، ولعمري إن أشباه علي في القدرة على استخراج النظريات في الحوادث وإرسالها أمثالاً خالدة، لقليل! وقد كان لهذه الحكمة العلوية أبلغ الأثر في توجيه الثقافة الإسلامية في طبعها بطابع إنساني مصدره في الدرجة الأولى، إثنان: محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب، وقد أكثر الإمام في النظر الفلسفي في شؤون الحياة والكون والمجتمع البشري، وفي أمور التوحيد والألوهية والتطلع إلى ما وراء الطبيعة ، فكان كما مر معنا مؤسس علم الكلام وفلسفة الإلهيات في الإسلام ، وكان أستاذاً اعترف برشده وأصالته كل من لحق به من أصحاب الآراء والمقولات وهم له أتباع وشارحون ، وفي كتابه العظيم نهج البلاغة فيض من فرائد الحكمة التي يجلس بها في الصف الأول بين حكماء الأمم، وحين قال النبي: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ألم يكون يقصد علياً بالذات!؟ [٢٧].
ويقول في موضع آخر: «... من هنا نشأ علم الكلام أو فلسفة الدين الإسلامي . ومن هنا كان علي أول المتكلمين، بل أبا علم الكلام ، فإن الأوائل من أصحاب هذا العلم لم يستقوا إلا من معين علي بن أبي طالب ولم تتوفر لديهم أسبابه إلا عن طريقه، وإن الأواخر ظلوا يهتدون به ويعتبرونه إمامهم وإمام الأولين، فهذا واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة وهي أول فرقة إسلامية تجاهد لأن تعطي العقل مداه في موضوعات الدين، هو تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأبوه تلميذ علي بن أبي طالب ، وما يقال في المعتزلة يقال في الأشعرية، فإن الأشاعرة تلاميذ المعتزلة الذين تلقوا علمهم من واصل بن عطاء تلميذ علي بالتسلسل» [٢٨].
في التوحيد
قال عليه السلام في وصيته لولده الإمام الحسن عليه السلام متسدلاً على وحدانية الله تعالى: «واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ورأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لا يضاده أحد في ملكه» [٢٩].
ما دام أن الخالق والصانع يُستدل وجوده بآثار صنعه وبما خلق، وما دام «أن الآثار كلها تدل على أن المؤثر واحد، وهي هذه القوانين الطبيعية الدقيقة التي تحكم أجزاء الطبيعة وظواهرها ، وتجمعها في مجموعة واحدة شاملة تدل على وحدة التدبير والمدّبر الواحد» [٣٠] فلا معنى لتوهم شريك للباري عز وجل «مع العلم بأن جميع الأنبياء والمرسلين دعوا إلى إله واحد لا ضد له ولا ند» [٣١] «فهو إله واحد كما وصف نفسه في العديد من الآيات، ثم في سورة خاصة وهي سورة الإخلاص» [٣٢].
وقال إبن أبي الحديد حول هذه الفقرة: «إنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته، إما من مجرد أفعاله، أو من صفات أفعاله ، أو من صفات نفسه.
أولا من هذا ولا من هذا فمن التوقيف، وهذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام لأن قوله: «أتتك رسله» هو التوقيف، وقوله: «لرأيت آثار ملكه وسلطانه» هي صفات أفعاله، وقوله: «ولعرفت أفعاله وصفاته» هي القسمان الآخران ، أما إثبات الثاني أي الشريك من مجرد الفعل فباطل لأن الفعل إنما يدل على فاعل ولا يدل على التعدد، وأما صفات أفعاله وهي كون أفعاله محكمة ومتقنة، فإن الإحكام الذي نشاهده إنما يدل على عالم ولا يدل على التعدد ، وأمام صفات ذات الثاني فالعلم بها فرع على العلم بذاته، فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور، وأما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني وإذا بطلت الأقسام كلها، وقد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول بالثاني» [٣٣].
واستدل الأمير عليه السلام بدليل آخر على وحدانية الله تعالى بقوله: «ما وحّده من كيّفه.... وبمضاداته بين الأمور عُرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عُرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصّرَد، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها» [٣٤].
إذا قلت : كيف فلان؟ فإنك لا تسأل عن ذاته، بل عما يعرض لها من الأحوال كالعسر واليسر والصحة والسقم، معنى هذا أن الذات المسؤول عنها محل للأحداث وأنها تتغير وتتبدل من حال إلى حال .... والله سبحانه واحد وكامل من كل وجه، يستحيل في حقه التغير والتحويل، لأنه فوق الأشياء وخالق الأحداث والأحوال» [٣٥] «وكل من له ضد ينازعه ويزاحمه، فهو مخلوق ناقص يفتقر إلى خالق كامل لا يضاده ولا يزاحمه شيء ، وإلا كان مخلوقا، وأيضا كل من كلان له مساو ونظير في شيء فهولا يمتاز عن شريكه في ذلك الشيء، ومعنى هذا أنهما يستمدان هذا التشابه من مصدر واحد لا شبيه له ولا قرين.
وبكلمة ثانية: إن الذي خلق الأشياء والأضداد لا شبيه له ولاضدّ، لأن الخالق لا يوصف بخلقه» [٣٦].
ثم إنه عليه السلام ذكر أمثله على هذا التشابه وهذا التضاد.
ويقول إبن أبي الحديد حول هذه الفقرة قوله: «ما وحده من كيّفه» وهذا حق لأنه إذا كيّفه فقد جعله ذا هيئة وشكل، أو ذا لون وضوء إلى غيرها من أقسام الكيف، ومتى كان كذلك كان جسماً ولم يكن واحداً ، لأن كل جسم قابل للإنقسام، والواحد حقاً لا يقبل الإنقسام، فقد ثبت أنه ما وحده من كيّفه» [٣٧] .
ثم يقول إبن أبي الحديد: «ثم قال عليه السلام: «وبمضادته بين الأمور عُرف أن لا ضد له» وذلك لأنه تعالى كما دلنا بالفعل على أن الأمور المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به وتحله، دلنا على أنه تعالى لا ضد له، لأنه يستحيل أن يكون قائماً بموضوع يحله كما تقوم المتضادات بموضوعاتها، ثم قال: «وبمقارنته بين الأشياء عُرف أن لا قرين له» وذلك لأنه تعالى قرن بين العرض والجوهر، بمعنى إستحالة إنفكاك أحدهما عن الآخر، وقرن بين كثير من الأعراض، نحو الإضافات التي يذكرها الحكماء كالبنوة والأبوة، والفوقية والتحتية، ونحو كثير من العلل والمعلومات والأسباب والمسببات ، فيما ركّبه في العقول من وجوب هذه المقارنة واستحالة إنفكاك أحد الأمرين عن الآخر، علمنا أنه لا قرين له سبحانه، لأنه لو قارن شيئاً على حسب هذه المقارنة لاستحال إنفكاكه عنه فكان محتاجا في تحقيق ذاته اليه، وكل محتاج ممكن ، فواجب الوجوب ممكن! هذا محال» [٣٨].
وبعد أن يعرض للأمثلة التي ذكرها الأمير عليه السلام شارحاً لها يقول «والعجب من فصاحته في ضمن حكمته، كيف أعطى لكل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها ويليق بها، فأعطى المتباعدات لفظة «مقرّب» لأن البعد بأزاء، القرب، وأعطى المتباينات لفظة «مقارن» لأن البينونة بأزاء المقارنة، وأعطى المتعاديات لفظة «مؤلّف» لأن الإئتلاف بأزاء المتعادي، ثم عاد فعكس المعنى فقال: «مفرّق بين متدانياتها» فجعل الفساد بأزاء الكون ، وهذا من دقيق حكمته عليه السلام وذلك لأن كل كائن فاسد، فلما أوضح ما أوضح في الكون من التركيب والإيجاد، أعقبه بذكر الفساد والعدم فقال: «مفرّق بين متدانياتها»، وذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع، فإنه سيؤول إلى الإنحلال والفساد، [٣٩] ووحدانية الله تعالى ليست عددية.
وقد بيّن الأمير عليه السلام حقيقة هذه الوحدانية في عدة مواضع بقوله: «لا يُشمل بحد ولا يُحسب بعدّ» [٤٠].
وقوله عليه السلام: «من أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه» [٤١] .
وقوله عليه السلام: «الأحد بلا تأويل عدد» [٤٢].
ومعنى أن وحدانية الله تعالى ليست عددية أنه «إذا كان وجود شيء بحيث لا يمكن فرض التكرار فيه، نقول فرض التكرار ووجود الفرد الآخر يكون محالاً لا وجوده، إذ لا حد له ولا نهاية، فكل ما فرضناه مثله أوثانية إما أن يكون عينه أولا يكون ثانياً له، ففي هكذا موارد لا تصدق الوحدة العددية، فإن هذه الوحدة ليست في مقابل الإثنينية، فليس معنى أنه واحد أنه ليس إثنين، بل معناه أنه لا يفرض له ثان» [٤٣].
فقولنا: «أنه أحد، أنه ليس بمعنى العدد كما يقول الناس أول العدد أحد وواحد ، بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزي، وباعتبار آخر كونه لا ثاني له في الربوبية» [٤٤].
«إن الله واحد لا بقسمة وكثرة، بل بعدم المثيل والنظير، ليس كمثله وهو السميع البصير» [٤٥].
ولا يشكل مع غيره جمعاً ولا تثنية لأنه تعالى لا ثاني له» [٤٦].
«والمنظور بوصف الأحدية للمبدأ الأعلى، ليس هوأنه واحد في مقابل إثنين وأكثر، بل المنظور به البساطة في مقابل التركيب والتجزأ، أي أن جوهره وعنصره متمحضان في لا تعدد فيها ولا تركيب ولا تجزء» [٤٧].
ولا بأس بان نختم بكلام لإبن أبي الحديد حول علم الأمير عليه السلام بالعلوم الإلهية، فيقول: «واعلم أن التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية ما عُرفت إلا عن كلام هذا الرجل ، وأن كلام غيره من الصحابة لم يتضمن شيئاً من ذلك أصلا، ولا كانوا يتصوررونه ولو تصوروه لذكروه وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله عليه السلام» [٤٨].
القضاء والقدر
قال الأمير عليه السلام جواباً لمن سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره؟: «ويحك، لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حاتماً، ولوكان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَعْ مكرَهاً، ولم يرسل الانبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثا، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً (ذَلِكَ ظَنُّ اُلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلُ لِّلَّذِينَ كَفَروا مِنَ اُلنَّارِ)» [٤٩].
الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ هل أفعاله مخلوقة له أم مخلوقة لله تعالى؟ وهل يملك الإنسان من الأمر شيئاً إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً ؟ وإذا كان الإنسان مختاراً فما هي حدود هذا الإختيار؟ وإذا كان قادراً فما هي حدود هذه القدرة ؟ وهل تتعارض قدرة الله تعالى مع قدرة الإنسان؟ أم أن قدرة الإنسان هي جزء من قدرة الله تعالى ولا تنفك عنها؟ ولا يستطيع الإنسان شيئاً من دون قدرة الله تعالى، لكن لا نحو الريشة في مهب الريح، بحيث لا يدري ماذا يفعل؟ ولا إلى أين يريد أن يصل؟ وكون الإنسان حراً مختاراً لا ينافي ولا يناقض قدرة الله تعالى.
هذه الأسئلة التي تختصر قضية القضاء والقدر ، كانت – وما تزال – الشغل الشاغل للإنسانية الحائرة التي تتخبط بين الآراء والمذاهب المختلفة محاولة الإجابة، فلا تجد الإجابات الكافية والشافية.
والأمير عليه السلام يعطي الجواب الكافي والشافي لمسألة القضاء والقدر من خلال الوجدان والفطرة بعيدا عن التعقيدات الفلسفية.
ولا بد من الإشارة إلى أن الأمير عليه السلام كان قد أجاب السائل بجواب قبل ذلك بقوله: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئاً ولا هبطنا وادياً إلا بقضاء الله وقدره» فقال الشيخ: فعند الله أحتسب عناي ما أرى لي من الأجر شيئاً، فقال: «مه أيها الشيخ لقد عظّم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين» فقال الشيخ: وكيف والقضاء والقدر ساقانا [٥٠].
فعند ذلك أجابه الأمير عليه السلام بالفقرة السابقة.
والجواب الذي أعطاه الأمير عليه السلام بقوله: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطاْنا موطئاً وادياً إلا بقضاء الله وقدره» المراد به الإشارة إلى القضاء والقدر بمعناهما العلمي أي «علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلها من حدود وخصوصيات، وعلمه سبحانه بحتمية وجود تلك الأشياء عن عللها ومبادئها» [٥١] .
ولهذا توهم السائل – كما يتوهم غيره أيضا – أنه ما دام قد ثبت بعلم الله تعالى كل شيء ومنها مجريات الأمور والأفعال، فالإنسان مجبور لا خيار له أمام ما يجري ، إذ أن «كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة عن متعلقها» [٥٢] يعني الجبر.
لكن إذا اتضح الحال بطل هذا التوهم، حيث أن «علمه سبحانه لم يتعلق بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكاملة في نفس تلك العلل» [٥٣].
وحول أفعال الإنسان «فقد تعلق علمه على صدورها بتلك الحصوصيات وانصباغ فعله بصبغة الإختيار والحرية، فلو صدر فعل الإنسان بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلف عنه» [٥٤].
فالأمير عليه السلام يرفض القول بأن الإنسان مسيّر لا يملك من الأمر شيئاً ، أو أن أفعاله مخلوقة لله تعالى على نحو الحتم والجبر، وهذا واضح من قوله عليه السلام: «لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حتماً» مستدلاً على نفي هذا الحتم وهذا الجبر، ببطلان الثواب والعقاب، إذ كيف يعاقب الإنسان على فعل لا يملك معه الإختيار والإرادة؟ ولا يملك معه إلا أن يقوم به.
والله تعالى ما «أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً» إلا لأنهم قادرون ومخيرون، ولو كانوا مسيرين ما كلفهم بشيء.
كيف وهوالقائل (لَا يُكَلِفُ اُللهُ نُفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيَها مَا أكتَسَبَت) [٥٥].
ومن البداهة أنه لا معنى من التحذير إلا مع القدرة والإختيار[٥٦].
وهذا هو الدليل الأول على كون الإنسان ذو إرادة وإختيار وأنه غير مكره ولا مضطر ، إذ لو كان مجبراً على أفعاله لما صح تكليفه ولبطل الثواب والعقاب، إذ هما فرعان عن التكليف فإذا صح الأول الآخر، وحيث أن الأول لا يصح إلا مع الإختيار ، فصح أن يثاب الإنسان على تلك التكاليف أو يعاقب.
الدليل الثاني: الذي ساقه الأمير عليه السلام لإثبات كون الإنسان مختاراً في أفعاله غير مسلوب الإرادة، قوله عليه السلام: «وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً»، »فإن الإلجاء لا ثواب معه فضلاً عن الإكثار منه لفاعل القليل من الخير، فلولم يكن فعله إختيارياً لما جاز أصل الثواب ، ولا التفضل بإعطاء الكثير منه» [٥٧].
الدليل الثالث: أن المعصية لم تكن بالغلبة، وأن الطاعة لم تكن بالإكراه «ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مُكرهاً». ولكن ليوسع المجال للعبد ويرخي له حتى إذا عاقبه، عاقبه عن حجة تامة أقامها عليه بإعطاء الحرية من نفسه مع التحذير بوخامة العاقبة [٥٨].
الدليل الرابع: إرسال الرسل وإنزال الكتب «ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً» «بل أرسلهم لينشروا دعوته بين الناس وتتم الحجة بهم على المكلفين ، حين يريد الله مؤاخذة العصاة منهم وإثابة المطيعين، ومع قسرهم على فعل الطاعة وعمل المعصية يكون إرسال الرسل فعلاً لاغياً، إذ لا ثمرة تترتب عليه مع الإلجاء، والكتب المنزلة بمنزلة المذكّر الدائم للمكلفين بما يراد منهم، ومع الإلجاء لا أثر لذلك بالمرة، لأن التذكير إنما ينجح مع المختار الذي يكون قادراً على الفعل والترك، فيكون تذكيره من العوامل المحركة له، أما إذا كان منساقاً بالقهر إلى الفعل أو الترك إنتفت فائدة ذلك في حقه» [٥٩].
العلم الإلهي
«يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النّينان البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات» [٦٠] .
«عالم السر من ضمائر المضمرين، ونجوى المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقين، ومسارق إيماض الجفون، وما ضمّته أكنان القلوب، وغيابات القلوب ، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، ومصائف الذر، ومشاتي الهوام، ورجع الحنين من المولهات، وهمس الأقدام ، ومنفسخ الثمرة من ولائج غلف الأكمام، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب – إلى أن يقول – وأثر كل خطوة ، وحسّ كل حركة، ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس هامة، وما عليها من ثمر شجرة ، أو ساقط ورقة ، أو قرارة نطفة أو نقاعة دم ومضغة ، أو ناشئة خلق وسلالة...» [٦١]
يقول إبن أبي الحديد حول الفقرة الثانية: «لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات لخشع قلبه ووقف شعره واضطرب فكره ، ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة والمتانة والجزالة، مع ما قد أشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة.
لا أرى كلاماً يشبه هذا الكلام، إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة ، وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار، وكأنه شرح لقوله تعالى: (وعِندَهُ مَفَاتِحُ اُلْغَيبِ لَا يَعلَمُهَآ إلَّا هُو وَيَعلَمُ مَا فِى اُلبَرِ واُلبَحرِ وَمَا تسقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلَّا يَعلَمُهَا وَلَا حَبَّهِ فِى ظُلُمَتِ اُلْأَرضِ وَلَا رَطّبِ وَلَا ياَبِسٍ إِلَّا فِى كِتَبِ مُبِينِ ) [٦٢].
وحول الفقرة عينها يقول العلامة مغنية: «هذا القسم أو المقطع بكامله يتلخص في أن الله سبحانه بكل شيء عليم، سواء أكان جزئياً أم كلياً، محسوساً أم غير محسوس، وما ذكره من الضمائر والخواطر والذر والبعوض... إلى نقاعة الدم، وناشئة الخلق، كل ذلك مجرد أمثلة، ولا شيء ورائها إلا البيان والإيضاح أن الله يعلم ما في السماوات والأرض» [٦٣].
ويقول الأمير عليه السلام في موضع آخر حول العلم الإلهي المطلق واللامحدود" «الحمد لله بطن خفيات الأمور» [٦٤].
وتعليقاً على هذه العبارة يقول إبن الحديد: «إعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما قال: «بطن خفيات الأمور» وهذا القدر من الكلام يقتضي كونه تعالى عالماً يعلم الأمور الخفية الباطنة، وهذا منقسم قسمين ، أحدهما: أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة. الثاني: أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة.
والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين فنحمله عليهما معاً. فقد خالف في كل واحد من المسئلتين قوم ، فمن الناس من نفى كونه عالماً بالمستقبلات، ومن الناس من نفى كونه عالماً بالأمور الحاضرة ، سواء كانت خفية أو ظاهرة» [٦٥].
ثم يورد إبن أبي الحديد الآراء المتعددة التي تربوعلى تسعة آراء وأقوال، والتي منها رأي بعض الفلاسفة، أن الله تعالى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وقد أوردنا حقيقة الحال من كلام الأمير عليه السلام أو أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة، أو أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة، أوأنه تعالى لا يعلم شيئاً أصلاً لا كلياً ولا جزئياً إلى غير ذلك من الأمور الباطلة.
والقول الحق، هو ما أشار إليه الأمير عليه السلام في هذه الفقرة وغيرها مما تقدم، وتبعه عليه جمهور المتكلمين وهو«أن الباري سبحانه يعلم كل معلوم الماضي والحاضر والمستقبل، ظاهرها وباطنها ومحسوسها وغير محسوسها، فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر وما سيكون وما لم يكن. أن لو كان كيف كان يكون، كقوله تعالى: «وَلَورُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) فهذا علم بأمر مقدّر على تقدير وقوع أجله الذي قد علم أنه لا يكون» [٦٦].
أما دليلهم على هذا العلم بكل أنحائه فهو: «إن حجة المتكلمين على كونه عالماً بكل شيء إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم، وأنه فَعَله بإختياره، فحينئذ لا بدّ من كونه عالماً، لأنه لولم يكن عالماً بشيء أصلاً لما صح أن يحدث العالم على طريق الإختيار، لأن الإحداث على طريق الإختيار إنما يكون بالغرض والداعي، وذلك يقتضي كونه عالماً ، فإذا ثبت أنه عالم بشيء أفسدوا حينئذ أن يكون عالماً بمعنى اقتضى له العالِمية، أو بأمر خارج عن ذاته مختاراً كان أوغير مختار، فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشيء أزيد منها، فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالماً بكل معلوم، لأن الأمر الذي أوجب كونه عالماً بأمر ما ، هو ذاته يوجب كونه عالماً بغيره من الأمور، لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة» [٦٧].
يقول العلامة مغنية تعليقاً على قوله عليه السلام: «الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور»: فهو سبحانه يعلم الأشياء من باطنها وأعماقها ومن جميع جهاتها تماماً كما هي في واقعها وحقيقتها منذ وجدت وفي شتى شؤونها وأطوارها... وعلمه «جل ذكره» بالأشياء بعد وجودها هو بالذات علمه قبل أن توجد، لا تبديل ولا تغيير» [٦٨].
أما كيف يحصل هذا العلم؟
«السميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة» [٦٩] .
إذا كان السمع والبصر أحد مصادر العلم عند الإنسان، وإذا فقدهما فقد العلم الحاصل بسببهما، فإن الباري عز وجل «عالم بالذات لأن علمه عين ذاته.
قال الشيخ محمد عبده: المراد بتفريق آلة: تفريق الأجفان وفتح بعضها عن بعض ، يريد أن الإنسان إذا أطبق جفنه الأعلى على الأسفل ، فلا يرى، وإن فرقهما رأي ، وليس الله سبحانه كذلك، وهذا المعنى غير بعيد عن دلالة كلمة تفريق» [٧٠].
«ويسمع لا بخروق وأدوات» [٧١].
يقول إبن أبي الحديد حول هذه العبارة: «أنه تعالى يسمع بلا حروف وأدوات، وذلك لأن الباري سبحانه حي بلا آفة، وكل حي لا آفة به فواجب أن يسمع المسموعات ويبصر المصبرات، ولا حاجة به سبحانه إلى حروف وأدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك ، لأنّا أحياءُ بحياة تحلنا، والباري تعالى حي لذاته، فلما افترقنا فيما به كان سامعاً ومبصراً، افترقنا في الحاجة إلى الأدوات والجوارح» [٧٢].
والباري عز وجل «ليس بجسم، ومعنى سمعه تعالى علمه بالمسموعات» [٧٣].
وإنما ذكرنا هاتين الفقرتين لتبيان كيفية حصول العلم الإلهي ، ولا يعني هذا أن الأميرعليه السلام إقتصر على هذا الأسلوب في الحديث حول العلم الإلهي، بل اتبع أسلوبا آخر لبيان حقيقة العلم الإلهي وعدم محدوديته وأنه تعالى عالم بكل شيء .
كقوله عليه السلام: «... ولا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، وكرور لفظة، ولا إزدلاق ربوة، ولا إنبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج ... علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في السماوالت العُلى كعلمه بما في الأرضين السفلى» [٧٤].
هذه الفقرة هي جزء من خطبة له عليه السلام أورد فيها «ضروباً من علم التوحيد، وكلها مبنية على ثلاثة أصول... الأصل الثاني: أنه تعالى عالم لذاته فيعلم كل معلوم، ويدخل تحت هذا الأصل قوله عليه السلام لا تخفى عليه خافية من عباده «شخوص لحظة»، أن تسكن العين فلا تتحرك «ولا كرور لفظة»أي رجوعها ، «ولا إزدلاق ربوة» صعود إنسان ربوة من الأرض وهي الموضع المرتفع، «ولا إنبساط خطوة، في ليل داج: أي مظلم ، ولا غسق ساج: أي ساكن ، ثم قال يتفيأ عليه القمر المنير: هذا من صفات الغسق ومن تتمة نعته، ومعنى يتفيأ عليه : يتقلب ذاهباً وجائياً في حالتي أخذه في الضوء الى التبدر ، وأخذه في النقص إلى المحاق... كأنه عليه السلام قال: لا يخفى على الله حركة في ليل ولا نهار، يتفيأ عليه القمر وتقبه الشمس: أي تظهر عقيبه... ويدخل تحته أيضا قوله عليه السلام: «علمه بالأموات الماضين» [٧٥] الخ الفقرة.
علم حضوري
«العالم بلا إكتساب ولا إزدياد ولا علم مستفاد...» [٧٦].
«ثم وصف علمه تعالى فقال: إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا بالإستدلال والنظر، ولا هوعلم يزداد إلى علومه الأولى كما تزيد علوم الواحد منا ومعارفه، وتكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها، ثم قال: ولا علم مستفاد ، أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث متجدد، كما يذهب إليه جهم [٧٧] وأتباعه» [٧٨].