قال الرضي رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، ومعاذا من بلائه ووسيلا إلى جنانه، وسببا لزيادة إحسانه، والصلاة على رسوله نبي الرحمة وإمام الأئمة وسراج الأمة المنتجب من طينة الكرم، وسلالة المجد الأقدم ومغرس الفخار المعرق وفرع العلاء المثمر المورق، وعلى أهل بيته مصابيح الظلم وعصم الأمم ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم ومكافأة لعملهم، وكفاء لطيب أصلهم وفرعهم ماأنار فجر طالع وخوى نجم ساطع اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية ولا لتفسير ما هوظاهر مكشوف كما فعل القطب الراوندي فإنه شرع أولا في تفسير قوله أما بعد، ثم قال: هذا هوفصل الخطاب، ثم ذكر ما معنى الفصل وأطال فيه وقسمه أقساما يشرح ما قد فرع له منه، ثم شرح الشرح وكذلك أخذ يفسر قوله من بلائه وقوله إلى جنانه وقوله وسببا، وقوله المجد وقوله الأقدم، وهذا كله إطالة وتضييع للزمان من غير فائدة ولوأخذنا بشرح مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة وأن نذكر الفصل بينها وبين إما المكسورة، ونذكر هل المكسورة من حروف العطف أولا، ففيه خلاف ونذكر هل المفتوحة مركبة أومفردة ومهملة أوعاملة، ونفسر معنى قول الشاعر:
أبا خراشة أما كنت ذا نفر | فإن قومي لم تأكلهم الضبع |
بالفتح ونذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة، ولم فتحت هاهنا حيث أضيفت ونخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها.
ونبتدئ الآن فنقول قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا هوالفخار بكسر الفاء،: قال وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها وهوغير جائز ؛ لأنه مصدر فاخر وفاعل يجيء مصدره على فعال بالكسر لا غير، نحو: قاتلت قتالا، ونازلت نزالا، وخاصمت خصاما، وكافحت كفاحا، وصارعت صراعا، وعندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء وتكون مصدر فخر لا مصدر فاخر، فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أولامه حرف حلق على فعال بالفتح نحوسمح سماحا وذهب ذهابا اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أوكتاب موثوق به نقلا صريحا فتزول الشبهة، والعصم جمع عصمة وهوما يعتصم به والمنار الأعلام واحدها منارة بفتح الميم، والمثاقيل جمع مثقال وهومقدار وزن الشيء تقول مثقال حبة ومثقال قيراط ومثقال دينار، وليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة فقوله مثاقيل الفضل أي: زنات الفضل وهذا من باب الاستعارة، وقوله: تكون إزاء لفضلهم أي مقابلة له ومكافأة بالهمز من كافأته أي جازيته وكفاء بالهمز والمد، أي:نظيرا وخوى النجم، أي: سقط وطينة الكرم أصله وسلالة المجد فرعه والوسيل جمع وسيلة، وهوما يتقرب به، ولو قال: وسبيلا إلى جنانه لكان حسنا، وإنما قصد الإغراب على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ، وقوله ومكافأة لعملهم إن أراد أن يجعله قرينة لفضلهم كان مستقبحا عند من يريد البديع لأن الأولى ساكنة الأوسط والأخرى متحركة الأوسط وأما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح وإن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشوالسجعة الثانية، وجعل القرينة وأصلهم فهوجائز، إلا أن السجعة الثانية تطول جدا، ولو قال: عوض لعملهم لفعلهم لكان حسنا.
قال الرضي رحمه الله فإني كنت في عنفوان السن وغضاضة الغصن ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة (عليه السلام) يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام ومماطلات الزمان، وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا، وفصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه (عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه ومتشعبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنياوية مالا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب إذ كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا ؛ لأن كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي عنفوان السن أولها ومحاجزات الأيام ممانعاتها ومماطلات الزمان مدافعاته وقوله معجبين، ثم قال: ومتعجبين فمعجبين من قولك أعجب فلان برأيه وبنفسه فهومعجب بهما والاسم العجب بالضم، ولا يكون ذلك إلا في المستحسن ومتعجبين من قولك تعجبت من كذا، والاسم العجب وقد يكون في الشيء يستحسن ويستقبح ويتهول منه ويستغرب ومراده هنا التهول والاستغراب ومن ذلك قول أبي تمام:
أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب | وآل ما كان من عجب إلى عجب |
يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا إما استقباحا له أوتهولا منه واستغرابا، وفي بعض الروايات معجبين ببدائعه، أي: أنهم يعجبون غيرهم والنواصع الخالصة وثواقب الكلم مضيئاتها، ومنه الشهاب الثاقب وحذا كل قائل اقتفى واتبع وقوله مسحة يقولون على فلان مسحة من جمال مثل قولك شيء، وكأنه هاهنا يريد ضوءا وصقالا وقوله عبقة، أي: رائحة ولوقال عوض العلم الإلهي الكتاب الإلهي لكان أحسن.
قال الرضي رحمه الله فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذكر، ومذخور الأجر، واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أميرالمؤمنين (عليه السلام)
في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدثرة والفضائل الجمة، وأنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذ الشارد، فأما كلامه (عليه السلام) فهوالبحر الذي لا يساجل، والجم الذي لا يحافل، وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به (صلی الله عليه وآله وسلم) بقول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم | إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
المحاسن الدثرة الكثيرة مال دثر أي كثير والجمة مثله ويؤثر عنهم أي يحكى وينقل قلته آثرا أي حاكيا ولا يساجل، أي: لا يكاثر أصله من النزع بالسجل وهوالدلوالمليء قال:
من يساجلني يساجل ماجدا | يملأ الدلوإلى عقد الكرب |
ويروى ويساحل بالحاء من ساحل البحر، وهوطرفه أي: لا يشابه في بعد ساحله ولا يحافل، أي: لا يفاخر بالكثرة أصله من الحفل،وهوالامتلاء والمحافلة المفاخرة بالامتلاء ضرع حافل أي ممتلئ.
والفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي ومن هذه الأبيات:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة | وجودا إذا هب الرياح الزعازع | |
ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب | وعمروومنا حاجب والأقارع | |
ومنا الذي قاد الجياد على الوجا | بنجران حتى صبحته الترائع | |
ومنا الذي أعطى الرسول عطية | أسارى تميم والعيون هوامع |
الترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران، وهوالذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم.
ومنا غداة الروع فرسان غارة | إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع | |
ومنا خطيب لا يعاب وحامل | أغر إذا التفت عليه المجامع |
أي: إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها ؛ لأنها رماح قصيرة وحامل أي حامل للديات
أولئك آبائي فجئني بمثلهم | إذا جمعتنا يا جرير المجامع | |
بهم أعتلي ما حملتنيه دارم | وأصرع أقراني الذين أصارع | |
أخذنا بآفاق السماء عليكم | لنا قمراها والنجوم الطوالع | |
فوا عجبا حتى كليب تسبني | كأن أباها نهشل أومجاشع |
قال الرضي رحمه الله ورأيت كلامه (عليه السلام) يدور على أقطاب ثلاثة: أولها: الخطب والأوامر، وثانيها: الكتب والرسائل، وثالثها: الحكم والمواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم والأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا، ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا ويقع إلي آجلا، وإذا جاء شيء من كلامه الخارج في أثناء حوار أوجواب سؤال أوغرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها، وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به، وأشدها ملامحة لغرضه، وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة ومحاسن كلم غير منتظمة ؛ لأني أورد النكت واللمع ولا أقصد التتالي والنسق قوله أجمعت على الابتداء، أي: عزمت، وقال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال ؛ لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر ولا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ).
هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالوا أجمعت الأمر وعلى الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح على ذلك.
والمحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح والمذاكر ومثله المقابح، والحوار بكسر الحاء مصدر حاورته، أي: خاطبته والأنحاء الوجوه والمقاصد وأشدها ملامحة لغرضه، أي: أشدها إبصارا له ونظرا إليه من لمحت الشيء وهذه استعارة، يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني، أي: يشابهه كان ذلك الكلام يلمح ويبصر من هذا الكلام.
قال الرضي (رحمه الله): ومن عجائبه (عليه السلام) التي انفرد بها وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر وخلع من قلبه، أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت أوانقطع إلى سفح جبل لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب ويجدل الأبطال ويعود به ينطف دما ويقطر مهجا، وهومع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات، وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها وهي موضع العبرة بها والكفرة فيها قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه وكل من انزوى في جحر أومكان ضيق فقد قبع وكسر البيت جانب الخباء، وسفح الجبل أسفله وأصله حيث يسفح فيه الماء ويقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا، كما قاله الراوندي وإنما ذاك القد قددته طولا وقططته عرضا، قال ابن فارس صاحب المجمل، قال ابن عائشة: كانت ضربات علي (عليه السلام) في الحرب أبكارا إن اعتلى قد وإن اعترض قط ويجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة، وهي وجه الأرض وينطف دما يقطر والأبدال قوم صالحون لا تخلوالأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث.
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد ذكره الرضي (رحمه الله)، وهوموضع التعجب ؛ لأن الغالب على أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية وفتك وتمرد وجبرية، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد، وتذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة ولين وضعف قلب، وخور طبع وهاتان حالتان متضادتان وقد اجتمعتا له (عليه السلام).
ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية وطباع حوشية وغرائز وحشية، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق وعبوس في الوجوه ونفار من النار واستيحاش وأمير المؤمنين (عليه السلام) كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا، وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيام الله ومثلاته، وأشدهم اجتهادا في العبادة وآدابا لنفسه في المعاملة، وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا وأسفرهم وجها وأكثرهم بشرا، وأوفاهم هشاشة وأبعدهم عن انقباض موحش أوخلق نافر أوتجهم مباعد، أوغلظة وفظاظة تنفر معهما نفس أويتكدر معهما قلب حتى عيب بالدعابة، ولما لم يجدوا فيه مغمزا ولا مطعنا تعلقوا بها واعتمدوا في التنفير عنه عليها، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها، وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة.
ومنها أن الغالب على شرفاء الناس، ومن هومن أهل بيت السيادة والرئاسة أن يكون ذا كبر وتيه وتعظم وتغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه لا يشك عدوولا صديق، أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه (صلی الله عليه وآله وسلم)، وقد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها، ومع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأسمحهم خلقا وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بحق، وكانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته والزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة ولا أحالت خلقه الرئاسة، وكيف تحيل الرئاسة خلقه وما زال رئيسا وكيف تغير الإمرة سجيته وما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا ولا اكتسب بها زينة، بل هوكما قال أبوعبد الله أحمد بن حنبل ذكر ذلك الشيخ أبوالفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم، تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر وعلي، وقالوا: فأكثروا فرفع رأسه إليهم، وقال: قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة، ولكنه زانها، وهذا الكلام دال بفحواه ومفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة، وتممت نقصه وأن عليا (عليه السلام) لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة، وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتم نقصها بولايته إياها.
ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس، وإراقة الدماء، أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو؛ لأن أكبادهم واغرة وقلوبهم ملتهبة والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كثرة إراقة الدم، وما عنده من الحلم والصفح ومغالبة هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل ولقد أحسن مهيار في قوله:
حتى إذا دارت رحى بغيهم | عليهم وسبق السيف العذل | |
عاذوا بعفوماجد معود | للعفوحمال لهم على العلل | |
فنجت البقيا عليهم من نجا | وأكل الحديد منهم من أكل | |
أطت بهم أرحامهم فلم يطع | ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل |
ومنها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط، كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس، وكان الزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا قال له عمر: لووليتها لظلت تلاطم الناس في البطحاء على الصاع والمد، وأراد علي (عليه السلام) أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته فقال: (عليه السلام) أما إنه قد لاذ بملاذ ولم يحجرعليه وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر، وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا يضرب به المثل في الشح، وسمي رشح الحجر لبخله، وقد علمت حال أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشجاعة والسخاء كيف هي، وهذا من أعاجيبه أيضا (عليه السلام).
قال الرضي (رحمه الله): وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية، فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة أوبلفظ أحسن عبارة، فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار وغيره على عقائل الكلام، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا ونسيانا لا قصدا أواعتمادا ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه (عليه السلام)، حتى لا يشذ عني منه شاذ، ولا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي، وما علي إلا بذل الجهد وبلاغة الوسع وعلى الله سبحانه نهج السبيل وإرشاد الدليل.
ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرب عليه طلابها وفيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق، ما هوبلال كل غلة وشفاء كل علة وجلاء كل شبهة، ومن الله أستمد التوفيق والعصمة، وأتنجز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطإ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلة الكلم قبل زلة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل في أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق وأعذاق والغيرة بالفتح والكسر خطأ وعقائل الكلام كرائمه، وعقيلة الحي كريمته، وكذلك عقيلة الذود والأقطار الجوانب واحدها قطر والناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة، وقوله وعلى الله نهج السبيل، أي: إبانته وإيضاحه نهجت له نهجا، وأما اسم الكتاب فنهج البلاغة، والنهج هنا ليس بمصدر، بل هواسم للطريق الواضح نفسه، والطلاب بكسر الطاء الطلب والبغية ما يبتغى وبلال كل غلة بكسر الباء ما يبل به الصدى، ومنه قوله انضحوا الرحم ببلالها، أي صلوها بصلتها وندوها قال أوس:
كأني حلوت الشعر حين مدحته | صفا صخرة صماء يبس بلالها |
وإنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان ؛ لأن خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطإ اللسان، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه، وهوغير معتقد للكفر بقلبه، وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم ؛ لأنه أراد زلة القدم الحقيقية ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل ؛ لأن العاثر يستقيل من عثرته وذا الزلة تجده ينهض من صرعته، وأما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها ولا ينهض صريعها، وطالما كانت لا شوى لها قال أبوتمام:
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها | وزلة الرأي تنسى زلة القدم |