مهما اختلف الناس في شيء من مناقب أمير المؤمنين وفضائله ومميزاته وخصائصه فإنهم لا يختلفون بأنه إمام الفصحاء وسد البلغاء وأنّ كلامه أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله وكلام نبيه ، وأغزره مادة وأرفعه أسلوبا ، وأجمعه لجلائل المعاني [١] وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب ،وبكلامه استعان كل واعظ بليغ [٢].
قال معاوية بن أبي سفيان : والله ما رأيت أحدا يخطب ليس محمدا أحسن من علي إذا خطب فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره .
وقال الحارث الأعور : والله لقد رأيت عليا ، وإنه ليخطب قاعدا كقائم ، ومحاربا كمسالم .
قال العلامة شمس الدين الحنفي الشهير بسبط ابن الجوزي : « كان علي ينطق بكلام قد حف بالعصمة ، ويتكلم بميزان الحكمة ، كلام القى الله عليه المهابه ، فكل من طرق سمعه راقه فهابه ، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة ، والطلاوة والفصاحة ، لم تسقط له كلمة ، ولا بارت له حجة ، اعجز الناطقين ، وحاز قصب السبق في السابقين » [٣] .
وقال محمد بن طلحة الشافعي :« الفصاحة تنسب اليه ، والبلاغة تنقل عنه والبراعة تستفاد منه ،وعلم المعاني والبيان غريزة فيه » [٤].
وقالوا : إنّ عبد الحميد الكاتب [٥] كان في حداثة سنه معلما بالكوفة ، وهناك حدث له غرام بتمثل كلام علي بن ابي طالب ، فقيل له ما الذي خرّجك في البلاغة قال حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت [٦].
وتخرج ابن المقفع بخطبه [٧] ، وما نال محمد بن عبد الملك المعروف بالزاهد الفارقي الحظوة من إقبال النّاس على مواعظه ، وانثيالهم على مجلسه ، وتدوينهم لكلامه إلا لأنه كان يحظ ( نهج البلاغة ) ويغيّر بعض عباراته فيحسبون أنها من إنشاءه ومبتكراته [٨].
وقال ابن نباتة [٩] حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن ابي طالب [١٠].
وزعم اهل الدواوين أنه لو لا كلام علي بن ابي طالب صلوات الله عليه وخطبه وبلاغته في منطقه ما أحسن أحد أن يكتب إلى أمير جند أو والي رعية [١١].
وقال ابن ابي الحديد المعتزلي : « واعلم أننا لا يتخالجنا الشك في أنه عليه السّلام أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الاولين والآخرين إلا من كلام الله سبحانه ، وكلام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ، وذلك لأن فضيلة الخطيب والكاتب في خطابته وكتابته يعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ ومركباتها ، أما المفردات فان تكون سهلة سلسلة ، غير وحشية ولا معقدة ، وألفاظه عليه السّلام كلها كذلك ، فأما المركبات فحسن المعنى ، وسرعة وصوله إلى الافهام ، واشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض .
وتلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون » البديع « من المقابلة والمطابقة ، وحسن التقسيم ، ورد آخر الكلام على صدره ، والترصيع والتسهيم ، والتوشيح والمماثلة والاستعارة ، ولطافة استعمال المجاز ، والموازنة والتكافؤ ، والتسميط والمشاكلة ، ولا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه وكتبه ، مبثوثة متفرقة في فرش كلامه عليه السّلام ، وليس يوجد هذا الامر في كلام أحد غيره ، فإن كان قد تعملها ، وأعمل رويته في رصفها ونثرها فلقد أتى بالعجب العجاب ، ووجب أن يكون إمام النّاس كلهم في ذلك لأنه ابتكره ولم يعرف من قبله ، وإن كان اقتضبها ابتداء وفاضت على لسانه مرتجلة وجاش بها طبعه بديهة من غير روية ولا اعتمال فأعجب وأعجب ، وعلى كلا الأمرين فلقد جاء مجليّا ، والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره ، وبحق ما قال معاوية لمحفن الضبي لما قال له : جئتك من عند اعي الناس : يابن اللخناء العلي تقول هذا وهل سن الفصاحة لقريش غيره .
واعلم ان تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب ، وصاحبه منسوب إلى السفه ، وجاحد الامور المعلومة علما ضروريا أشدّ سفها ممن رام الاستدلال بالادلة النظرية عليها » [١٢] . [١٣]
لذا ترى أن كلامه عليه السّلام حظى بما لم يحظ به كلام غيره من البلغاء من العناية التامة ، والاهتمام البالغ .
فتراهم بين جامع لكلمه ، وراو لخطبه وحافظ لاقواله ، ومتأثر باسلوبه ، وناظم لحكمه.
وبلغ من اهتمام الناس بكلامه سلام الله عليه ، وشغفهم به ، ان اطلقوا على بعض خطبه أسماء خاصة للتعريف بها ، والتمييز بينها ، مثل التوحيد ، والشقشقية ، والهداية ، والملاحم ، واللؤلؤة ، والغراء ، والقاصعة ، والافتخار ، والاشباح ، والدرة اليتيمة ، والاقاليم ، والوسيلة ، والطالوتية ، والقصبية ، والنخيلة ، والسلمانية ، والناطقة ، والدامغة ، والفاضحة ، والمخزون ،والمكاييل [١٤] ، والديباج ، والبالغة : والمنبرية [١٥] ، والزهراء [١٦] ، والمونقة - وهي الخالية من الالف - والعارية عن النقطة. [١٧]
ولبعض هذه الخطب شروح مستقلة ، تجدها مبثوثة في فهارس الكتب ، وكتب الرجال .
ولم يكن الشريف الرضى رحمه الله هو السابق إلى جمع كلام أمير المؤمنين عليه السّلام ، ولا الأول في تدوينه ، فقد عنى الناس به عناية بالغة ، وحظي بما لم يحظ به كلام أحد من البلغاء على كثرتهم في الجاهلية والاسلام ، ودونوه في عصره ، وحفظوه في أيامه ، وكتبوه ساعة القائه .
هذا زيد بن وهب الجهني ، وكان من أصحابه ، وشهد معه بعض مشاهده جمع كتابا من خطبه سلام الله عليه - كما سيأتي - وهذا الحارث الاعور نوف بن فضالة البكالي نسبة الى بني بكال ككتاب بطن من حمير ، كان حاجب علي عليه السلام - كما في صحاح الجوهري - ويظهر من الروايات أن له اختصاصا بأمير المؤمنين عليه السلام » دون بعض خطبه ساعة القائها [١٨]، وهذا الاصبغ بن نباتة الجاشعي [١٩] وكان من خاصة امير المؤمنين - روى للناس عهده للاشتر النخعي لما ولاه مصر ، ووصيته لولده محمد بن الحنفية - كما ستعرف ذلك في محله من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
وهؤلاء شريح القاضي [٢٠] وكميل بن زياد النخعي [٢١] ونوف البكالي [٢٢] وضرار بن ضمرة الضبائي [٢٣] سمعوا بعض كلامه فحفظوه ، ورووه للناس كما سمعوه .
وذكر الجاحظ : أن خطب علي عليه السّلام كانت مدونة محفوظة مشهورة .
وقال ابن واضح في كتابه « مشاكلة الناس لزمانهم » ص ١٥ : كان علي ابن ابي طالب عليه السّلام مشتغلا أيامه كلها في الحرب إلا أنه لم يلبس ثوبا جديدا ، ولم يتخذ ضيعة ، ولم يعقد على مال [٢٤] إلا ما كان بينبع والبعبعة [٢٥] مما يتصدق به ، وحفظ الناس عنه الخطب ، فانه خطب بأربعمائة خطبة ، حفظت عنه ، وهي التي تدور بين الناس ، ويستعملونها في خطبهم » .
وأحصى المسعودي ما كان محفوظا من خطبه عليه السّلام ، فقال : « والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة ونيف وثمانون خطبة » [٢٦].
وقال سبط ابن الجوزي الحنفي : « أخبرنا الشريف أبو الحسن على بن محمد الحسيني باسناده إلى الشريف المرتضى قال : « وقع إليّ من خطب أمير المؤمنين عليه السّلام أربعمائة خطبة » [٢٧].
وقال القطب الرّاوندي سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول : إني وجدت في مصر مجموعا من كلام علي عليه السّلام في نيف وعشرين مجلدا [٢٨].
فهذه نصوص العلماء على اختلاف مذاهبهم وفيهم المتقدم على الرضى بزمان طويل على أن خطب علي عليه السّلام كانت مدونة محفوظة مجلدة [٢٩] مشهورة بين الناس معروفة عندهم ، وانها تنيف على أربعمائة وثمانين بينما المذكور منها في « النهج » هو مختار ( ١٢١ ) خطبة ومنها ما رواه مكررا لاختلاف الرواية ، وهي اقل بكثير مما ذكر .
هذا باستثناء الكلام الجاري مجرى الخطب ، ومن الواضح ان النصوص التي نقلناها آنفا لا يقصد منها الكلام وانما المراد الخطب خاصة .
-------------------------------------------------------