علي حسين الخباز
إن المعرفة المؤسسة على قراءة واعية بحواريات النص، توصل إلى فهم أعمق، وتلمس جماليات النص وخصوصياته وتذوقه بشكل صحيح، وهي تعتبر إضاءة رؤيوية منطلقة من داخل الخطاب النصي. والحوار اصطلاحا: هو التواصل الكلامي أو التحادثي المباشر أو غير المباشركقوله عليه السلام لشريح ( بلغني انك أبتعت دارا بثمانين دينار وكتبت كتابا واشهدت فيه شهودا .. فقال شريح قد كان ذلك يا أمير المؤنين فقال :ـ يا شريح أما انه سيأتيك من لاينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا ويسلمك الى قبرك خالصا ..الخ ) والحوار طريقة تقنية حديثة مستخدمة في إعداد النص الخطابي بغية تحقيق عمق تأثيري... أما مؤشراته، منها لفظية كقوله عليه السلام: (ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتعمهون، وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تفقهون) أي: لا تهتدون لفهمه فتتحيرون وتتردون، والمألوسة: المخلوطة بمس الجنون.
وتساعد مثل هذه الأنماط الكلامية على توصيل الفكرة وتركيزها وتركيز توظيفها، وهي من الأنماط الفكرية التي تتطلب مهارة عالية في الإقناع، لإبراز الرأي والموقف، أي أنها من الطرق المنطقية بآداب البحث والمناظرة... ومنها ما يأتي بحوار مباشر، فقد جاء في نهج البلاغة، يقول عبد الله بن عباس: دخلتُ على أمير المؤمنين (ع)، وهو يخصف نعله فقال لي:- ما قيمة هذا النعل؟ قلتُ:ـ لا قيمة لها... فقال عليه السلام:ـ والله لهي أحب إلي من إمرتكم، لولا أن أقيم حقا أو ادفع باطلا).
وتمنح الحواريات حيوية وحركة واستمرار من خلال اللا مباشرة أيضا، كالتي وردت في نهج البلاغة بصيغ غير مباشرة تتحدث عن حوار دار بين الله سبحانه وتعالى وباقي مخلوقاته، كآدم وإبليس الذي تعزز بخلقة النار واستهون خلقة الصلصال، فقال تعالى: (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الحجر/٣٧-٣٨ ووردت حواريات في النهج تحمل النمطين، (حين وردته أنباء السقيفة قال عليه السلام لبعض أنصاره:ـ ما قالت الأنصار؟ فقالوا:- قالت منا أمير ومنكم أمير... فقال عليه السلام:- فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله (ص) وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن سيئهم؟ قالوا:- وما في هذا من الحجة عليهم؟ فقال عليه السلام:- لو كانت الإمارة عليهم لم تكن الوصية بهم. فقال عليه السلام:- ماذا قالت قريش؟ قالوا:ـ احتجت بشجرة الرسول... فقال عليه السلام:- احتجوا بالشجرة فأضاعوا الثمرة).
يرى بعض النقاد: إن المحاورة هي اقرب صيغة مشابهة للواقع وتعد شكلا من أشكال التعبير الإنساني. ويرى البعض الآخر: إن لغة دون حوار تفقد وظيفة التواصل. وقد ورد في نهج البلاغة وتحديدا في معركة الجمل: (قال احد أصحابه:ـ مولاي وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا يرى ما نصرك الله به على أعدائك، قال عليه السلام:ـ أهوى أخيك معنا ؟ قال:- نعم. فقال عليه السلام:- فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان) هوى أخيك: يقصد ميله ومحبته. ويرعف: تعني يجود بهم كما يجود الأنف بالرعاف. ينبهنا الدكتور فاتح عبد السلام في أهمية الحوار كنمط وتركيب وعلاقة اكتسبت أهميتها من أهمية المبدع، وبهذا المعنى بلورت لنا شخصية الإمام تلك المحاورات التي تعكس الشكل الإبداعي في تعميق رؤى الإمام الكاشفة للكثير من حيثيات الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري، وقد اقترح تسمية الحوار بالتناوبي...كقوله عليه السلام لكليب الجرمي ( بايع فاجابه كيلب أني رسول قوم لااحدث حدثا حتى ارجع اليهم .. فقال له عليه السلامماذا لوخالفوك الى المعاطش والمجادب ما كنت فاعل ؟
فقال كنت تاركهم ومخالفهم ....)فبايع ولكون التناوب سمة إجرائية ظاهرة تؤدي إلى نمط مجرد، أي: حوار ينشأ بفعل الموقف الذي يضع المتحاورين في وضع معين داخل المشهد. والحوار هنا يعمق من تكوينه، ومعنى أن يكون الحوار حديثا إجرائيا متأسسا على رد فعل سريع أو إصابة سهلة، لا مجال معه لتعددية التأويل، ومعنى هذا: انه قد جردها من الرؤيا وابعد عنها الموقف الرؤيوي. بينما يرى الشيخ محمد عبده: إن تلك الحوارات مجازات عن دلائل واضحة وحجج قويمة مبددة للوهم، وان خفي مدركها.
وعين الشريف الرضي قطبين من أقطاب ثلاثة، تحتمل القيم التحاورية والخطاب البلاغي للإمام عليه السلام الخطب والأوامر والحكم والمواعظ. وقد ورد حديث الخطبة الشقشقية وكيف قاطعه رجل من أهل السواد:- (عندما أعطاه كتابا فنظر فيه، فقال ابن عباس:- يا أمير المؤمنين لو اطردت في خطبتك من حيث أفضيت ؟ فقال عليه السلام:- هيهات يا ابن عباس، تلك شقشقة هدرت ثم قرت).
والشقشقة: كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج. نجد حتى تناول الكتاب من قبل رجل من أهل السواد، كان حوارا، والتناوب كان باستجابة الإمام للقراءة، وصرف النظر عن الخطبة.
وهذا المشهد أخذني كثيرا إلى تأويل محاورة خفية قد لا يدرك كنهها بسهولة. اعتقد إن مثل هؤلاء الاكاديميين قد تاهوا في مسألة طول وقصر المحاورة، فاعتبروا إن الوصف العميق وإبداء الرأي وتحديد وجهة النظر الجلية المعبرة عن موقف أو التزام لا تأتي إلا عن تعبيرات وصفية تحليلية طويلة تدور عين المحاور بشكل بطيء بتأمل، واعتقد إن التكثيف الفني لهذه الجمل الحوارية قد أهملت من قبلهم وإلا لنتأمل في موقف قيل لأمير المؤمنين يوم مسيره إلى الخوارج: (إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم...؟! فقال الإمام علي عليه السلام:- أتزعم انك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء ؟ فمن صدق بهذا فقد كذب القرآن). هناك تكثيف واختصار وضغط يسميه (جيرار جينيف) الحوار الموجز.
وثمة إيجاز قريب وإيجاز بعيد، ويأتيان في سياقات الماضي والحاضر والمستقبل كقوله عليه السلام:ـ (إذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم هذه حمارة القيظ، أمهلنا لينسلخ عنا الحر؟ أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء، قلتم هذه حمارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد).
وحمارة القيظ: شدة الحر. وهناك صيغة من صيغ التحاور هي المحاورة الخفية، يتطلب استدعاء المعنى القصدي من الحوار مثل محاورته عليه السلام مع أبي سفيان حول المبايعة أو محاورته لما أشار إليه أن لا يتبع طلحة والزبير. وتتطلب مثل هذه الصيغة استحضار دال تضميني فلو انتبهنا إلى الجملة المكونة لوجدنا هناك مفردة (يزعم... أقر) وتنطلق صيغ التحاور من خلال مفردات مثل (فليأتِ... فليحضر) وثمة حوارات كثيرة أخرى.