علي حسين الخباز
البحث بين المصطلحات الحديثة والرؤى المبتكرة لاتعني سعياً من مساعي إبراز الذات الثقافية الخاصة،وإنما هو توضيح لأثر منجز إبداعي فاعل (نهج البلاغة)، ولنوضح للعالم مدى حيوية هذا المنجز الفكرية النشطة التي تتحمل أي رؤى واردة في أي زمان ومكان لكونه منجزاً مفتوحاً على جميع المديات الابداعية .
ومصطلح المهيمنة من المصطلحات التي تفرّعت رؤاها وتداخلت لحد أصبح من الصعب فصل مكوناته الدقيقة عن بعض فهو يعرف بفعل القصد الابداعي، وهناك من يراه يعني تحديد الانماط الكتابية، ويرى (تودورف) في شرحه لهذا المصطلح انه يعني التحام جملة من المميزات التي تـُعد مهمة رئيسية ومهيمنة في بنية العمل كقوله عليه السلام:( ولا تنسوا عند النعم شكركم، فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة ظاهرة وكتب بارزة العذر واضحة) وأعذر بمعنى أنصف وأصله مما همزته للسلب، فأعذرت فلاناً سلبت عذره أي ما جعلت له عذراً يـُبديه لو خالف ما نصحته به.
بينما يراها (ايخنباوم) إنها تعني الأنساق التي تنظم تراكيب العمل الادبي وهي أنساق مهيمنة. وعند متابعة جميع الأنساق يتم تعيين النسق المهيمن ويسمى بالمهيمنة، قال عليه السلام:( حتى إذا تصرّمت الأمور وتقضت الدهور وأزف النشور، أخرجهم من ضرائح القبور وأوكار الطيور، وأوجرة السباع ومطارح المهالك سراعاً الى أمره)أزف النشور :قرب البعث، والضرائح جمع ضريح :الشق وسط القبر وأصله من ضرحه وأبعده فإن المقبور مدفوع منبوذ وهو أبعد الأشياء عن الأحياء، والأوكار جمع وكر :مسكن الطير ، والأوجرة : جمع وجار وهو الجحر، والذين يبعثون من الأوكار والأوجرة الذين افترستهم الطيور الصائدة. ومجموعة هذه المهيمنات تمثل العنصر الذي يسمح بتشكيل نوع معين، والمهيمنة حسب نظرية (جاكوبسن) هي التي تكشف الأثر نوعيته، أي إن (جاكوبسن) إعتبرها الخصيصة النوعية التي تمنح النص شكله المعلوم، ويهيمن على الأثر في مجموعه، ويرى إن المهيمنة تمارس تأثيرها على العناصر الأخرى، وبهذا التشخيص حوّلها الى موضوعة التجنيس (شعر- قصة - رواية) وهكذا...
بينما الأدب بعامته هو نظام من القيم يتوفر على سـُلـَّميـِّة خاصة لقيمته العليا والدنيا، وبين هذه القيم هناك قيمة رئيسية مهمة تـُعلن في إطار حقبة زمنية أدبية معينة اتجاه فن معين، ولايمنع دخول عناصر مهيمنة الى جانب عناصر رئيسية مهيمنة في نمط آخر تكون ثانوية غير رسمية ، يقول عليه السلام: (الحمد لله المعروف من غير رؤية والخالق من غير روية الذي لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماء ذات أبراج ولا حجب ذات أرتاج، ولا ليل داج، ولا بحر ساج، ولا جبل ذو فجاج، ولا فج ذو اعوجاج) وروية: فكر وإمعان نظر، الأرتاج جمع رتج: الباب العظيم، الداجي: المظلم، الساجي: الساكن، والفجاج جمع فج: الطريق الواسع بين جبلين... تتداخل عناصر النص الادبية في هذه الانماط فثمة عناصر تتداخل لكن تبقى مميزة بخصوصية النمط والانموذج الكتابي، وهذا يعني ذهاب المهيمنة الى عملية التجنيس الابداعي، في حال نحن لا ننفي عملية التجنيس فهي متواجدة في جميع الانماط الكتابية لكن هذا ليس من عمل المهيمنة الكلي، فهناك خصائص تميزه داخل جمل نهج البلاغة تعطي أكثر من مهيمنة ويتم اختيار المهيمن الرئيسي الاكثر حيوية، كقوله عليه السلام: (ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج الى الله لا مالاً حمل، ولا بناء نقل، ومن غيرها إنك ترى المرحوم مغبوطاً والمغبوط مرحوماً ليس ذلك إلا نعيماً زل وبؤساً نزل)، ووجود السجع يعد مهيمنة ويسمى بمهيمنة السجع، كقوله عليه السلام في خطبته الغراء:(عباد الله أين الذين عمروا فنعموا، وعلموا ففهموا وانظروا فلهوا، وسلموا فنسوا، أمهلوا طويلاً، ومنحوا جميلاً، وحذروا أليماً، ووعدوا جسيماً، إحذورا الذنوب المورطة والعيوب المسخطة) علموا ففهموا، وكان مقتضى الفهم أن لا يغتروا بالمهلة ويضيعوا الفرصة، سلمت عاقباتهم وأرزاقهم فنسوا نعمة الله في السلامة.
والمقصود إن أي نص لابد أن يكشف عن اشتماله على عدة انماط علاقاتية بين وحداته وكل ما يحدد بيئة نصية هو نوع من أنواع العلاقات المهيمنة فهناك مهيمنة مكانية منتقاة من خطبة له عليه السلام في الإستسقاء: (اللهم قد إنصاحت جبالنا، وأغبرت أرضنا، وهامت دوابنا، وتحيرت في مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت التردد في مراتعها، والحنين الى مواردها) وتفسير هذه الخطبة من الغريب/إنصاحت جبالنا: أي تشققت من المحول يُقال: إنصاح الثوب إذا إنشق، وهامت دوابنا أي: عطشت والهيام العطش. وهناك مهيمنة زمانية في قوله عليه السلام: (فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقـُر فإذا كنتم من الحر والقـُر تفرون فإذاً أنتم والله من السيف أفر) وحمارة القيظ تعني شدة الحر، التسبيخ/التخفيف والتسكين، صبارة الشتاء : شدة برده، القـُر: البرد . ونجد إن ثمة مهيمنات عامة ومهيمنة تمتلك الطابع الخاص للكاتب مثلا مهيمنة (عنترة) هي ثيمة حماسية ومهيمنة (الحطيئة) هجائية وأعني هنا الطابع الكتابي والوظيفة المعدة وهكذا نجد إن الإختلاف حول المهيمنة هو اختلاف لفظي نشأ من تجزئة المعنى العام للمصطلح وتبقى لكل مهيمنة خصائص فنية واضحة المعالم .