علي حسين الخباز
الهاجس هو إحساس بتنويعات مختلفة، ولايمتلك تعريفاً واضحاً متفقاً لمعناه، لكن يتفق جميع النقاد على إن الإبداع الحقيقي هو من بعض صناعة هذا الهاجس، لكونه يأتي من لحظة حسية، ويتكون بشكل يرتبط بتأثير (تجربة وموهبة المبدع)، ويعني إن الهاجس يتكون من التجربة المعاشة ومن تأثيرات (البيئة - الناس - الوقائع - الأحداث) ومايحمله المبدع من مسؤولية تحفـّزه للوثوب وسط اغترابه ومعاناته وسعيه المثابر لتمثيل الذات المؤمنة، كقوله عليه السلام: (فياعجباً للدهر إذ صرتُ يقرن بي من لم يسع بقدمي، ولم تكن له كسابقتي التي لايدلي أحد بمثلها إلا أن يدّعي مدعٍ ما لاأعرفه، ولا أظن الله يعرفه) بقدم مثل قدمي: جرت وثبتت في الدفاع عن الدين، والسابقة: فضله السابق في الجهاد، وأدلى إليه برحمه: توسل، وبمال دفعه إليه وكلا المعنيين صحيح.
ولهذا تختلف مكونات الهاجس وتأثيراته من مبدع لآخر، نتيجة (الموقع الإجتماعي، ورهافة الحس، والبنية التكوينية) ولذا حاول الإمام علي (ع) أن يفسر لمتلقيه خفايا الواقع، ويرشده الى الصواب، ويحفزه الى موقف صبور، وليدوّن لنا تأريخاً صادقاً تحدى كل موبقات التحريف، فمن كتاب له عليه السلام لمعاوية: أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبرة، نمـّقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب أمرئ ليس له بصر يهديه، ولاقائد يرشده) الموصلة: بصيغة المفعول ملفقة من كلام مختلف، وصل بعضه ببعض على التباين، كالثوب المرقع، ومحبرة: أي مزينة، ونمقتها: حسنت كتابتها، وأمضيتها: أنفذتها وبعثتها.
يرى معظم النقاد إن مساحة الهاجس تتسع لإحتواء عوالم إبداعية وأخلاقية، ولهذا يحتاج المبدع الى هاجس آخر يسميه النقاد (هاجس التوصيل) الذي من خلاله يوصل الحقيقة الى المتلقي ويمنحه رؤاه، ولو ناقشنا هذه المسألة على مستوى إبداعنا الحالي فسنجده اعتنى في كثير من ثناياه بهاجس الإبداع، لكنه فقد الهاجس التوصيلي، وابتكر حجة النخبوية لإهتمامه بموحيات التعبير، فالمبدع عندما يهتم بتجسيد (تجربة - واقعة - موقف) تجسيداً حيوياً لابد أن يتناغم مع العمق والبعد الفني، ويتخطى تعقيدات التشكيل اللغوي، والملاحظ إن الإهتمام بهاجس التوصيل والإقناع لم يؤثر على فاعلية نهج البلاغة إطلاقاً، لكونه قد تناغم مع الأبعاد الفنية، متجاوزاً الإشكالات النقدية، التي ترى من توارد المشاعر المكتنزة سبيلاً للضبابية وصعوبة الإلتقاط، وهو ما يسميه النقاد بـ(المأزق الإبداعي) ويعني غياب المتلقي، ويتجلى هذا الإقناع في قوله عليه السلام: (لم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم، أيها الناس أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً) الخِزامة بالكسر: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يشد فيها الزمام ويسهل القيادة. ورغم ذلك فإن بعض المدارس النقدية لاتأتمن رأي المتلقي إطلاقاً، مع العلم أولاً: إن جميع المدارس النقدية وعلى إختلافها أقرّت حضور المتلقي في نهج البلاغة حضوراً متأصلاً لكونها تؤمن بالخطابات الجماهيرية الشفهية لحضور المتلقي مستمعاً وبعدها متأثراً بحالات التوارد .
ثانياً: إن الإمام علي عليه السلام ماكان يستعرض مواد فنية تعبيرية بلاغية، إنما كان يعرض للناس قضية فكر ورؤى وإيمان ومحاور مبدئية تستنهض قيم الخير، يراها (جون كوين) إيقاظ المتلقي بهواجس خاصة من الفهم الواعي، كقوله عليه السلام في عهده الى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر: (فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وأبسط لهم وجهك، وآس ِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لايطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم) آس ِ: أمر من آسى بمد الهمزة أي سوّى، يريد اجعل بعضهم أسوة بعض أي مستوين.
وبعض المدارس النقدية الأخرى ترى إن هواجس الوعي تقوّض بنية التلقي المسؤول ولا يخدم الإبداع، بينما (رولان بارت) يعتبرها الميزة الأساسية للمبدعين، فمن مستكملات الهاجس المبدع هو حضور المعنى الأسمى الذي يستوعب الوعي العام المتلاحق للأجيال، كقوله عليه السلام: (نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً) والشعار: مايلي البدن من الثياب والمراد بطانة النبي (ص).
فهاجس المسؤولية يشغل الكثير من جمالية الإبداع المؤمن بإرتباطه الوجداني بالله سبحانه وتعالى وامتداده الى حاضرٍ إحتواه الإمام علي (ع) بإدراك مستقبلي، ولهذا نجد إحتواءه على جمالية غيبية فسّرت النتاج الرسالي بمزايا نبوءات إمام معصوم أصرّ البعض على إنها رؤى صوفية بينما هي حالة الذوبان في المعنى الأسمى (الهاجس الذهني) وتعني الرؤية التي هي عمق فكري مركب (وجداني - إدراكي)، فمن كلام له عليه السلام يخبر به من الملاحم بالبصرة: (يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لايكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم، ولاحمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام، ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لايندب قتلهم ولايفتقد غائبهم، أنا كأب الدنيا لوجهها، وقادرها بقدرها وناظرها بعينها) اللجب: الصياح، واللجم: جمع لجام، وقعقعتها: مايسمع من صوت إضطرابها بين أسنان الخيل، والحمحمة: صوت البرذون عند الشعير وعر الفرس أي: صوته، عندما يقصر في الصهيل ويستعين بنفسه، والسكك جمع سكة: الطريق المستوي وهو إخبار عما يصيب تلك الطرق من تخريب من حواليها من البنيان على يد صاحب الزنج .