وقال (عليه السلام): الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجزِ.                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): الْحِلْمُ وَالاَْنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ.                
وقال (عليه السلام): رُبَّ مَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                

Search form

إرسال الی صدیق
الوعظ التاريخي في خطب نهج البلاغة

المدرس الدكتور: علاء جبر الموسوي

(الجامعة المستنصرية – كلية الآداب)

"ما أكثر العبر واقل المعتبر"

مدخل :

إنّ الإنسان بطبعه اجتماعي الميل يتفاعل مع محيطه وتغيير به ، ويمكن أن يتأثر به سلباً أو إيجاباً ، والموعظة الحسنة تشكّل عاملاً خارجياً يأخذ بيد الإنسان ليساعده على تخطي فتن الدنيا و شبهاتها ، وتتأكد ضرورتها عند غفلة الإنسان وخمود أو خمول الواعظ الداخلي فيه ، حيث يصبح لها الدور الأساس في النجاة . : ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ كما نقل القرآن الكريم عن لسانهم .

وقد أكد القرآن الكريم على أسلوب الموعظة فقال: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ . فعليك أن تمارسها كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله تعالى وهي نافعة ومفيدة، إذ تفتح أبواب هداية المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ .

إن الموعظة تؤثر أثرها في المؤمن بشكل خاص، لأنه يستحضر الالتزام الشرعي في أموره، وقد تغيب عنه بعض التفاصيل، أويدفعه هو اه بالاتجاه الخاطئ، فيكون دورها دور المنبه للضمير المذكر بالمسؤولية الشرعية والرقابة الإلهية.﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ .

إنّ الإسلام دين يخاطب العقل والوجدان ، ولا يهمل شيئاً من الجوانب الإنسانية على حساب جوانب أخرى . ولكل من العقل والوجدان أساليب تناسبه وتنفذ إليه. فالدليل والبرهان والمقارنة أساليب تخاطب العقل بقصد تأهيله إلى إدراك المعارف الموصلة إلى اللَّه .

   وما القصص القرآني النوراني، أو النبوي المبارك ؛ إلا وسيلة من وسائل التربية لكل الأمة، ليس المقصود منها سرد القصص وتدوين التاريخ بقدر ما تكون "العبرة" والإتعاظ هي الخطوة الأولى التي يجب أن تكون في وجدان المتلقي، حتى تكون نافعة له، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾١٦.

وإنّ للزمان والمكان له أهمية خاصة تستدعي رعايتها، وقد روي عن أمير المؤمنين أنه قال: "ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه" .

وكان الإمام علي عليه السلام كثيراً ما ينتهز المناسبة لمن يريد وعظهم وإرشادهم ، لتكون أبلغ في التأثير، وأفضل للفهم والمعرفة. وكمثال على ذلك فإنه لما رجع الإمام علي عليه السلام من صفين وأشرف على القبور قال: "يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، ويا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق ، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟ "، .

فالإمام عليه السلام وهو عند القبور، أخذ في وعظ أصحابه وبيّن لهم أحوال أصحابها وخلُص إلى أن خير الزاد التقوى ، ومثل هذا الكثير حيث كثر الوعظ المستوحى من تاريخ الأمم السابقة ليكون هذا الوعظ مكملا للروحانية التي بثها الإمام في خطبه في نهج البلاغة .

 الإنسان والتاريخ :

التأريخ مرآة الأمم ، مقولة شائعة فهي الأدات التي بوساطتها يستطيع الإنسان أن يرى كيف عاش الذي قبله ، لما لهذا الأمر من أثر كبير في الحاضر ومنه تنطلق الأمم نحو مستقبلها ، الأمر الذي دعا الأمم إلى الإعتناء والاهتمام به ، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون طريقا صوب حاضرهم ومستقبلهم . فالشعوب التي لا تاريخ لها ، لا وجود لها، ونظراً لأهمية التاريخ في حياة الأمم، فقد لجأ أعداء هذه الأمة -فيما ذهبوا إليه- إلى تاريخ هذه الأمة، لتفريق جمعها، وتشتيت أمرها، وتهوين شأنها، فأدخلوا فيه ما أفسد كثيراً من الحقائق، وقلب كثيراً من الوقائع، وأقاموا تاريخاً يوافق أغراضهم، ويخدم مآربهم، ويحقق ما يصبون إليه.

وإذا ما أردنا تحديد هذه الأهمية للتاريخ في حياة الإنسان فيمكن لنا إجماله بمجموعة من النقاط أهمها :

١- يعين التاريخ في فهم الإنسان في إيجاد القدوة الحسنة والسير خلفها فبه يستطيع الإنسان معرفة هذه الشخصيات ويعرف كيف سارت والى ماذا انتهى بها الأمر فتكون بذلك قدوة حسنة له .

٢- يساعد التاريخ الإنسان في معرفة حقائق الأحداث والوقائع ومدى صدقها الأمر الذي يساعد في فهم الاتجاهات الصحيحة التي يجب أن يسير عليها الإنسان في حياته لان في تلك الأمور عبر له .

٣- يعين التاريخ على معرفة حال الأمم والشعوب ، من حيث القوة والضعف، والعلم والجهل، والنشاط والركود، ونحو ذلك من صفات الأمم وأحوالها وهو أمر يتصل بحياة الإنسان ويؤثر به بشكل كبير .

٤- في التاريخ استلهام للمستقبل على ضوء السنن الربانية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابي أحداً من البشر .

٥- يساعد التاريخ وأحداثه في كثير من الأحيان الإنسان على شحذ الهمم ، وبعث للروح من جديد، وتنافس في الخير والصلاح والعطاء .

٦- من الأمور التي يفيدها التاريخ للإنسان معرفة أخطاء السابقين ، والحذر من المزالق التي وقع فيها الماضون .

٧- من فوائد التاريخ طرد روح العجز وإبعاد الخمول , وملء النفس الإنسانية بالتفاؤل وبث الأمل فيها وفي المجتمع .

ومن كل ذلك تظهر أهمية التاريخ فكم من إنسان قرأ في تاريخ وارعوى عن إثمه وترك غيه؟ . وفي قراءة التاريخ فوائد أخرى غير ما ذكر ، يعرفها من اشتغل به، وأحسن قراءته وفق منهج مرضي لا يتسع المقام لبسطها، غير أنه يحسن التنبيه إلى أن الفائدة من التاريخ إنما تكمل إذا كان لدى المرء منهج وفهم عند قراءته فيعرف ماذا يقرأ وماذا يترك وكيف يحكم ويقيم ما يقرأ.

أوقات النصح التاريخي وموانعه في ضوء رؤية الإمام "عليه السلام"

لا يمكن الركون عند الحالة التاريخية وما تحمله من وعظ في إيصال الوعظ التاريخي للإنسان ، بل يجب معرفة متى يمكن أن تعطى هذه المعلومة ومتى يحب أن تمتنع إعطاؤها , وهناك عناصر عديدة تساهم في بلوغ الموعظة مداها الأقصى في النجاح لتصبح بالغة كما يعبر أمير المؤمنين "عليه السلام"  في خطبه ، اذ يشير الامام "عليه السلام"  إلى عدد من العوامل التي تهيئ البيئة الأفضل للإفادة وبلوغ الأهداف المتوخاة منها :

١- الوقت والجو النفسي المناسب للسماع :‏

يحتل الزمان أهمية كبيرة في العامل النفسي للإنسان ، وقد روي عن أمير المؤمنين"عليه السلام"  أنه قال: "ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه"([١]) .      

وكان الإمام علي "عليه السلام" كثيراً ما ينتهز المناسبة لمن يريد وعظهم وإرشادهم، لتكون أبلغ في التأثير، وأفضل للفهم والمعرفة. وكمثال على ذلك فإنه لما رجع الإمام علي عليه السلام من صفين وأشرف على القبور قال: " أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟"، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى"([٢]) .

فالإمام عليه السلام وهو عند القبور، أخذ في وعظ أصحابه وبيّن لهم أحوال أصحابها وخلُص إلى أن خير الزاد التقوى.

٢- اللين في الخطاب والشفقة في النصح:

كان أمير المؤمنين"عليه السلام" يتخذ من نبي الرحمة محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" قدوة حسنة في كل عمل يقوم به ، ولذا كان يركز كثيرا على اللين في التعامل مع الآخرين لأنها صفة عرفن بها الرسول الكريم "صلى الله عليه وآله وسلم" ، فعلى المؤمن والواعظ أن يكون ليناً في الخطاب، كما كان الرسول"صلى الله عليه وآله وسلم" لين الكلام ، وكان دائم البسمة في وجوه أصحابه ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(عمران : ١٥٩عمران : ١٥٩) .

موانع النصح :

لعل من أول الأمور التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في لكي يلين فليه للعبرة ويتعظ ، هو الصفاء الروحي ، فمن دون نقاء الروح لا يمكن للإنسان أن يتأثر بالموعظة ويلين لها قلبه فيهتدي بها ويستضيء بنورها، تأمل وصف الله تعالى لقلوب أهل الإيمان عند سماع الوعد والوعيد، فهي تقشعر خوفاً من الوعيد، ثم تلين وترجو عند الوعد. ويزداد خوف المؤمن القارئ للقرآن الكريم حينما يقرأ الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(الزمر : ٢٢) . فهي تؤثر أثرها في أصحاب القلوب الواعية فقط .

وقد تقف بعض العوائق لتمنع الإنسان من التفاعل مع الموعظة، كما قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾(يوسف : ١٠٥)

بل إن أكثر الناس مبتلون بمثل هذه العوائق، كما تشير الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "ما أكثر العبر وأقل الاعتبار"([٣]).

ـ التاريخ واعظا في خطب الإمام "عليه السلام" .

بما أن الشريعة الإسلامية تريد فلاح الإنسان وسعادته فهي تنبه دائما إلى الحقيقة الثابتة ، وهي إن الإنسان ليس له إلا مصيرا واحدا هو الموت ، ومن هنا فهي دائما تدفعه إلى أن يحافظ على نفسه ، والابتعاد عن مغريات الدنيا ، وليس أبلغ من التاريخ الناقل لإخبار السابقين في إيصال هذه الحقيقة .

ومن هنا جاء نهج أمير المؤمنين "عليه السلام" في هذا الرصد حيث أولا الوعظ التاريخي أهمية كبيرة في خطابه للناس وموعظته لهم .

ومن بين هذه الخطب فقوله "عليه السلام " :

((جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَعَنْ عَشَاهَا وَأَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَمُدَدِ عُمُرِهَا بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا وَقُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَحَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ وَقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ وَخَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ وَمُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ وَشَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ وَأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ ..... أَوَلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالْآبَاءَ وَإِخْوَانَهُمْ وَالْأَقْرِبَاءَ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَتَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا))([٤]) .

ففي هذه الخطبة يقرر الإمام "عليه السلام" صلة التاريخ بالإنسان ، وهو تاريخ الإباء والأجداد .

والذين يراه الإمام أن الناس لم تستطع الاستفادة من عبر التاريخ ، فالتاريخ لديهم معطل لا يأخذ مكانته في التوعية ، فالناس يسيرون على مسار الإباء والأجداد من دون وعي ، والدنيا غاية كل سيء لديهم ،فهو يقول :

((فَإِنَّهُ وَاللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ وَالْحَقُّ لَا الْكَذِبُ وَمَا هُوَإِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وَأَعْجَلَ حَادِيهِ فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ وَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الْإِقْلَالَ وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَاسْتِبْعَادَ أَجَلٍ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً وَيَبْنُونَ مَشِيداً وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَمَا جَمَعُوا بُوراً وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ وَلَا مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ وَفَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ))([٥]) .

فالإمام يشير إلى ضرورة الاتعاظ من الذين سبقونا والذين أصبحت بيتهم قبورا لهم وذهب أموالهم للذين ورثوهم .

وهناك عدد غير قليل من الخطب الواردة في نهج البلاغة التي تتجه صوب هذا الأمر ومنها على سبيل المثال قوله "عليه السلام":

(( ألأ وَفِي غَدٍ وسَيَأتِي غَدُ بِما لا تعرفون ، يَأخُذُ الوَالي مِن غَيرِهَا عُالها على مَسَاوِئ أعمالها ))([٦]) .

ومنه قوله " عليه السلام" : ((والْأَمَلَ فَلَاحَظُوا الْأَجَلَ ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعَنَاءٍ وَغِيَرٍ وَعِبَرٍ فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ لَا تُخْطِئُ سِهَامُهُ وَلَا تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ آكِلٌ لَا يَشْبَعُ وَشَارِبٌ لَا يَنْقَعُ وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لَا يَأْكُلُ وَيَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا مَالًا حَمَلَ وَلَا بِنَاءً نَقَلَ وَمِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا نَعِيماً زَلَّ وَبُؤْساً نَزَلَ وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ وَلَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا ........ْ وَكَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَخَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي فَ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))([٧]) .

ومنه قوله "عليه السلام" :(( أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَلَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا وَقَدِ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِكَ وَابْتَلَاكَ بِي فَجَعَلَ أَحَدَنَا حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ فَعَدَوْتَ عَلَى الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَلَا لِسَانِي وَعَصَيْتَهُ أَنْتَ وَأَهْلُ الشَّامِ بِي وَأَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَقَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَاصْرِفْ إِلَى الْآخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الْأَصْلَ وَتَقْطَعُ الدَّابِرَ فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّةً غَيْرَ فَاجِرَةٍ لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَإِيَّاكَ جَوَامِعُ الْأَقْدَارِ لَا أَزَالُ بِبَاحَتِكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَخَيْرُ الْحاكِمِينَ)) .

خاتمة :

كان أمير المؤمنين"عليه السلام" في خطبه في نهج البلاغة يخاطب الوجدان الإنساني ويحرك مشاعره ليصل إلى عقل الإنسان ، عن طريق تحريك التراث التاريخي مدعوما بأساليب كثيرة تخاطب العقل بقصد تأهيله إلى إدراك المعارف الموصلة إلى اللَّه، وجعل التأمل والنظر في تاريخ الماضيين من أسلافنا إثارة للشعور الإنساني ، للسمو الروحي واكتساب القدرة على التذوق الرفيع الذي يوصلها إلى حب اللَّه .

-----------------------------------------------
١.  نهج البلاغة : ١٥٤ .
٢. نهج البلاغة :٢٤٥ .
٣. نهج البلاغة : ٤٧٥.
٤. نهج البلاغة :١١١ .
٥.  نهج البلاغة ١٣٠ . 
٦.  نهج البلاغة : ١٣٨ .
٧.  نهج البلاغة : ٢٤٦.
****************************