وقال (عليه السلام):مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا.                
وقال (عليه السلام): مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا.                
وقال (عليه السلام): قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير مَمْلُول مِنْهُ.                
وقال (عليه السلام): الْقَنَاعَةُ مَالٌ لاَيَنْفَدُ.                
وقال (عليه السلام): مَنْ ضَيَّعَهُ الاْقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الاْبْعَدُ .                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام) : هَلَكَ فِي رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَال ، وَمُبْغِضٌ قَال .                

Search form

إرسال الی صدیق
بحث حول كتاب نهج البلاغة – الأول

محمد حسن آل ياسين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

تقديم
في أوائل عام ١٣٩٥هـ ـ ١٩٧٥م طلبت مني مجلة «البلاغ» العراقية كتابة بحث عن نهج البلاغة ومدى صحة القول بنسبته لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، جواباً على سؤال وردها من أحد قرّائها بهذا الشأن.
وحررت يومذاك مقالاً موسّعاً بعنوان «نهج البلاغة.. لمن» استعرضت فيه كلّ ما قيل من شبهات وشكوك في نسبة هذا الكتاب لعلي عليه السلام؛ ثم أجبت عن كلّ شبهة شبهة بما صحّ علمه وثبت أمره، مع مراعاة الاختصار والإيجاز، ملاحظة للمجلة وحجمها وحدود ما ينشر فيها من بحوث  [١] .
ثم طلعت علينا مجلة الكاتب المصرية في عدد شهر أيار (مايو) ١٩٧٥م تحمل مقالاً بقلم الاستاذ محمود محمد شاكر حمله فيه حملة شعواء على نهج البلاغة وعلى كلّ قائل بكونه من كلام علي عليه السلام. وقد أثارت تلك الحملة من الإشفاق على الكاتب ومن الابتسامة على شفاه المحققين أكثر مما أثارت من استغراب واستهجان. وبادرت إلى كتابة رد مفصل على تلك الأقاويل وأبردته بالبريد المسجل المضمون إلى إدارة المجلة، ولكنه ـ فيما أعلم ـ لم ينشر ولم يشر إليه، وربما أرادت المجلة بهذا الإهمال للرد أن تؤكد موضوعيتها ومنهجيتها في عهدها الجديد!
وفي صيف ذلك العام نفسه تجولت في عدة أقطار عربية، والتقيت خلال تلك الجولة بعديد من الأعلام والمثقفين والباحثين وكان للتراث من أحديثنا حصة الأسد وأكثر النصيب ـ ونهج البلاغة قمة التراث وأبرز معالمه ـ، ولمست من هؤلاء الأفاضل إصراراً على نشر بحث في سند «النهج» يبدّد الشكوك ويضع النقاط على الحروف ـ على حدّ تعبير الكتاب المعاصرين ـ، فلما انتهى بي المطاف إلى بيروت ـ يرحمها الله! ـ أعدت نشر ذلك البحث في كراس مستقل زودت به هؤلاء الأصدقاء؛ تعبيراً عن شكري لهم ونزولي عند رغبتهم العزيزة الغالية.
واستمرت المطابع العربية تدور فتلقي في كلّ يوم كميات هائلة من الكتب والنشرات والصحف، ولابد للمتتبع من السير وراء تلك المطابع ليقرأ شيئاً من ذلك الزخم العظيم في الانتاج؛ بعد أن أصبح الوقوف على الكل خارج طاقة الإنسان.
وحصلت عندي القناعة التامة خلال شهور لا تبلغ السنة انّ هناك حملة عنيفة مدبرة على نهج البلاغة ـ وإن لم تكن عن اتفاق وارتباط سابقين ـ وانّ هناك هدفاً (كبيراً !) يهدف إليه هؤلاء السادة! من وراء هذه الحملة المدبّرة.
فبعد (مايو) مجلة الكاتب ومقال محمود محمد شاكر، يطل علينا (ديسمبر) مجلة الهلال ومقال للدكتور شفيع السيد، ثم (شباط) مجلة العربي ومقال للدكتور محمد الدسوقي. ولو انتظرنا سنة ثانية لرأينا شهوراً أخرى ومجلات جديدة تدخل القائمة لتحتل فيها «مكاناً ما» من مواقع الهجوم و«رقما ما» من أرقام الحملات.
فلماذا كلّ ذلك؟
وما هي «الأخطار» الفكرية التي يحملها نهج البلاغة لتشنّ عليه الحرب بهذا الشكل المتوالي المنظم؟!
وهل يتوقف بناء «الثقافة الجديدة!» التي يدعو إليها اخواننا الأعزاء في مصر والكويت على هدم نهج البلاغة وتحطيمه؟!
وهل يشكل نهج البلاغة سداً يعوق عن الدعوة القائمة هناك في ضرورة «الانفتاح» على «الأفكار!» المعاصرة فلا يجد الدعاة بدّاً من تحطيم هذا السد العائق والعقبة المانعة؟!
لا أدري! ولا المنجّم يدري!
والشيء المضحك المبكي في كلّ ذلك أن يكون من جملة الأسلحة الجديدة في هذه المعركة «شيء» لم يخطر ببال أحد ولم يدر في خلد إنسان، ولعلّ هذا هو معنى الجدة والابتكار والإتيان بما لم تستطعه الأوائل!
انّ محمود محمد شاكر يرى من جملة أدلة وضع نهج البلاغة وتلفيقه انه «كلام كثير الغثاثة» [٢] .
وعندما يقول هذا الرجل عن نهج البلاغة انّه «كلام كثير الغثاثة» نجد ـ مقتنعين ـ انّ الرجل قد شهر سلاحاً جديداً في المعركة لم يشهره غيره؛ ولكنّه ـ ويا للأسف ـ سلاح فاسد يرتد إلى الوراء كما ارتدت الأسلحة الفاسدة في عهد الملك السيء الصيت فاروق!!
وإذا كان في المشككين القدامى من نسب النهج للشريف الرضي فإنما دفعه إلى ذلك كون الرضي أديباً كبيراً اشتهر بسمو التعبير وفصاحة التركيب وبداوة اللفظ.
أمّا أن يكون في النهج «كلام كثير الغثاثة» فذلك ما لم يقله إنسان من الناس بما فيهم المشككون أنفسهم. وحسبنا أن نقرأ للدكتور شفيع السيد ـ أخير المشككين وليس آخرهم ـ ما ذكر في هذا الصدد إذ قال: «... فضلاً عما اشتهر به الإمام من بلاغة القول ورصانة العبارة، على نحوٍ لا نستبعد معه نسبة تلك النصوص إليه من حيث تركيبها اللغوي وتشكيلها البياني» [٣] .
ثمّ كان السلاح الثاني من تلك الأسلحة الجديدة المشهرة في هذا الميدان: ذلك التأكيد على الربط بين «الغلو» وبين القول بصحة نسبة نهج البلاغة لعلي عليه السلام.
ولنقرأ ـ معاً هذه الجمل لتتضح لنا معالم هذا السلاح الجديد:
يقول الدكتور شفيع السيد:
«انّ بعضاً منهم (أي الشيعة) غالى في تقديره له (لعلي) حتى رفعه إلى مستوى من اصطفاهم الله بالوحي. ومن هؤلاء الرضي نفسه في مقدّمته للكتاب، فقد علّل سبقه ـ رضي الله عنه ـ في مضمار البيان وتفوّقه على كلّ من عداه من الخطباء والبلغاء؛ بأنّ كلامه ـ عليه السلام ـ «الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي»   [٤].
وليس لنا من تعليق على هذا الكلام إذا كان أستاذ اللغة العربية وآدابها لا يعرف معنى «مسحة» و«عبقة»، ولا يرى لها مدلولاً إلا «الغلو» والاصطفاء بالوحي!
وإذا استثنينا هذين «السلاحين» الجديدين فإنّ كل ما قيل أخيراً إنما هو تكرار لما قاله الأولون وإن اختلفت الصياغة وتطورت أساليب التعبير.
وسيجد القارئ الكريم في تضاعيف البحث تلك الشبهات والشكوك بالتفصيل.
وكلّ أملي أن يكون لهذا الكتيب الصغير ما يكون لكوة النور من مجال ودور، إحقاقاً للحق، وكشفاً للغطاء عن الحقيقة، وإزالة لظلام عهود العصبية والهوى المقيت. فإن نجحت في ذلك فما أسعد الحظ، وإن لم أنجح فحسبي أنّي قد حاولت «والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

من هو جامع نهج البلاغة؟
أحالت عليّ مجلة «البلاغ» الزاهرة رسالة وردتها من أحد قرّائها يسأل فيها عن مدى صحة الكلام الذي يردده بعض الناس، في التشكيك بنسبة «نهج البلاغة» لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي اتهام الشريف الرضي بوضع تلك الرسائل والخطب.
وتلبية لطلب «البلاغ» أضع هذه الصفحات أمام صاحب السؤال المشار إليه وأمام جميع القراء الأعزاء بأمل أن تكون ـ على اختصارها ـ وافية بالغرض ومؤدّية لحقّ البحث، والله ولي التوفيق.
انّ كتاب «نهج البلاغة» ـ كما يعلم الباحثون المدققون ـ قد جمعه الشريف الرضي محمّد بن الحسين المتوفى سنة ٤٠٦هـ وأودع فيه ما اختياره من كلام أميرالمؤمنين عليه السلام، وقد أتمّ جمعه في رجب سنة أربعمائة للهجرة كما نصّ هو على ذلك في آخر الكتاب. ووهم جورجي زيدان ـ كعادته في أوهامه وأغاليطه ـ فنسب جمع النهج للشريف المرتضى علي بن الحسين [٥] . وانه لغط فاحش لا يغتفر ربما تابع فيه ـ بغير هدى وتثبّت ـ أستاذه بروكلمان الذي قال: «والصحيح انه من جمع الشريف المرتضى»   [٦].
ولو رجع بروكلمان وجورجي زيدان ومن شايعهما وتابعهما إلى كتابي الشريف الرضي: حقائق التأويل والمجازات النبوية ـ وهما مطبوعان ومعروفان ـ لوقفا على تكرار الإشارة من الرضي إلى كونه هو الجامع لكتاب النهج   [٧].
ومع ظني الراجح بأنّ هذه الحقيقة لم تكن خافية على الأستاذ محمود محمد شاكر ـ كما خفيت على سلفيه السابقين ـ فإنه حاول إيهام القارئ بما طرحه من تشكيك في كون الجامع للنهج هو الرضي أو المرتضى (٨)[٨] .

شروح نهج البلاغة
وحظي هذا الكتاب من الأهمية والشأن بما لم يحظ به كتاب غيره على مرّ العصور، وأصبح له من الشروح ما بلغ (٧٥) شرحاً في حساب بعض المؤلفين [٩] و(١٠١) من الشروح في حساب مؤلف آخر [١٠] .
وليس غريباً أن يكون للنهج كل هذه الأهمية وهذا الشأن، فقد كان علي «إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة» كما يروي عزالدين بن أبي الحديد.
ويقول عبدالحميد بن يحيى الكاتب: «حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت».
ويقول ابن نباتة: «حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب».
«ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس [يعني علياً] قال له:
ويحك كيف يكون أعيا الناس! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره» [١١] .
ويقول الشيخ محمد عبده: «وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأنّ كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادّة وأرفعه أسلوباً وأجمعه لجلائل المعاني [١٢] .
ويقول الدكتور زكي نجيب محمود:
«ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (٩٧٠م ـ ١٠١٦م) وأطلق عليها نهج البلاغة؛ لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصنف هذه الأقوال تحت رؤوس عامة تجمعها؛ وجدناها تدور ـ على الأغلب ـ حول موضوعات رئيسية ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسية التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله والعالم والإنسان. واذن فالرجل ـ وإن لم يتعمدها ـ فيلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في انّ هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقاً يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، وأمّا هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه»  [١٣].
ولقد عز على بعض «الناس»! من المتقدمين أن يكون نهج البلاغة انموذجاً من كلام علي وصورة مصغّرة من منهجه العام في الدين والسياسة والإدارة العامة للدولة مما أراد تطبيقه عندما آلت الخلافة إليه، فتوجهوا بسهام الشك نحوه زاعمين «انه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه»  [١٤].
شكوك بعض الكتّاب
وجاء المتأخرون فسار «بعضهم» على طريق ذلك «البعض» السالف الذكر فردّدوا تلك الشبهات وكرروا تلك الشكوك، وكان من جملتهم جورجي زيدان الذي يقول: «وإن كنا نرى انّ كثيراً من تلك الخطب ليست لعلي بدليل اختلاف الأسلوب ومخالفة ما فيها من المعاني لعصره!»  [١٥] .
وكذلك المسيو ديمومبين الذي أراد ـ كما يروي الدكتور زكي مبارك ـ «انّ يغض من قيمة ما نسب إلى علي بن أبي طالب من خطب ورسائل، استناداً إلى ما شاع منذ أزمان من أن الشريف الرضي هو واضع نهج البلاغة»   [١٦].
ثم سار على طريقهما الاستاذ محمود محمد شاكر الذي ساءه إعجاب الدكتور زكي نجيب محمود بشخصية علي بن أبي طالب اعتماداً على أقواله المودعة في نهج البلاغة وحزّ في نفسه قول الدكتور زكي نجيب: «لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة وفروسية وسياسة»، فثار ثائرته واندفع يعلّق على ذلك تعليقاً مفصلاً مشحوناً بالجعجعة والطنين قائلاً: «ألم يكن أسلم له في طريقه أن يسأل وأن يحاول أن يفكر على الأقل حتى يتثبت من صحة ما نسبة ما في هذا الكتاب من الأقوال إلى علي رضي الله عنه؟ انه إذا بطل أن يكون هذا الكلام صحيح النسبة إلى علي، كان استخراج صورة علي منه ضرباً من العبث»   [١٧].
وأردف قائلاً وهو يعلن فتواه العجيبة الغريبة:
«انّ النظرة الأولى إلى جملة ما في الكتاب من الكلام، تقطع بأنّ كثرته الكاثرة لم تجر على لسان علي رضي الله عنه قط، وانّه بعد الفحص الأول المدقق لا يكاد يسلم منه لعلي رضي الله عنه إلا أقل من العشر، فإذا كانت النسخة التي طبعها الشيخ محمد عبده، تقع في نحو ٤٠٠ صفحة، فلا يكاد يصحّ منها إلا أقل من أربعين صفحة»  [١٨].
ثم لا يورد دليلاً على ذلك سوى اعتقاده بأنّ في النهج أقوالاً لا يليق صدورها عن رجل مثل علي وأنّ أبا عبيد القاسم بن سلام لم يشرح في كتابه غريب ما في النهج بأجمعه، بل «ان حديث علي فيه ربع حديث عمر».
ثم أراد أن يزيد القارئ ثقة بما يقول فأضاف:
«وهناك أدلة أخرى على بطلان نسبة ما في هذا الكتاب إلى أميرالمؤمنين»  [١٩].
ولكنه لم يذكرها أبداً أبداً !!
ومع ذلك فقد تفضل فزادنا علماً فقال:
«فكتاب كهذا الكتاب، يدلّ صريح العقل والنظر وصريح النقل والتثبت على أنه كتاب قريب النسب كان غير لائق بالدكتور زكي أن يتسرّع إلى التقاطه دون أن يفحصه ويتحرى عنه فيجعل ما فيه من كلام كثير الغثاثة ـ وقد كتب أكثر بعد دهور متطاولة ـ ممثلاً لعلي بن أبي طالب وممثلاً أيضاً للقرن الأول من الهجرة»  [٢٠] .
وهكذا تعاون هؤلاء جميعاً ـ بلا سابق معرفة بينهم ـ في محاولة هدم هذا الصرح الفكري العظيم الذي يمثله «النهج» أبلغ تمثيل.
وتصدّى عدد من الكتّاب والأدباء والباحثين إلى ردّ هذه الفرية وإقامة البرهان على زيف هذه المزاعم وكذب هذه الادعاءات.
رد ابن أبي الحديد على مجمل الشكوك
وكان في طليعة من تصدّى لتفنيد هذه الشبهات أديب عصره عزالدين بن أبي الحديد في شرحه للنهج، ونروي في أدناه فقرات مما كتبه هذا الأديب:
«انّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: انّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث، صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم، فضلوا عن النهج الواضح... وأنا أوضح لك بكلامٍ مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول:
لا يخلو إمّا أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه.
والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أميرالمؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدّثون كلهم أو جلّهم والمؤرخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدلّ على ما قلناه، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين. ألا ترى انّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض... وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءاً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز، أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره... فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم انّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أميرالمؤمنين عليه السلام»   [٢١].
ولما كان بعض الكتّاب المعاصرين ـ وإن امتهنوا أستاذية الأدب ـ يجهلون هذا الأسلوب النقدي الفاحص في دراسة النصوص الأدبية لم يجد أحدهم مانعاً من أن يقول ما نصّه:
انّ «نسبة الشريف الرضي ـ جامع الكتاب ـ إلى البيت العلوي... يمكن أن تكون مدعاة للشك ودافعاً إلى الاتهام بالتحيّز والتعصب... وقد قال عنه بعض واصفيه: كان شاعراً مفلقاً فصيح النظم ضخم الألفاظ.. وكان مع هذا مترسلاً كاتباً بليغاً متين العبارات، فمن اليسير على مثله إذن أن يؤلف من الكلام ما يشاكل كلام علي رضي الله عنه في جزالة الألفاظ ومتانة السبك» [٢٢] .
ويروي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي الخير الواسطي: انّ أبا الخير سأل يوماً أستاذه ابن الخشاب بعد انتهائهما من قراءة خطبة علي المعروفة بالشقشقية: «أتقول أنها منحولة! فقال: لا والله وإني لأعلم انّها كلامه كما أعلم انك مصدق. قال: فقلت له: انّ كثيراً من الناس يقولون انها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.
فقال أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب! وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور...
ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي»  [٢٣] .
ويعلّق ابن أبي الحديد على هذه الخطبة نفسها فيقول:
«وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة. ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة... وكان... من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً» [٢٤].
وعندما ترجم الإمام الزيدي يحيى بن حمزة العلوي المتوفى سنة ٧٤٥هـ لعلي عليه السلام قال: «وأعظم كلامه ما حواه كتاب نهج البلاغة وقد تواتر نقله عنه واتفق الكل على صحته» [٢٥].
ويقول الكاتب المصري المعاصر محمد عبدالغني حسن:
«ولن نعيد هنا القول فيما لوى به بعض المتعنتين أشداقهم من انّ نهج البلاغة هو من كلام الشريف الرضي نفسه وانّه ليس للإمام علي كرم الله وجهه. فتلك قضية أحسن الدفاع فيها ابن أبي الحديد في القديم كما أحسن الدفاع عنها في زماننا هذا الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد»  [٢٦].
كما يقول الدكتور زكي مبارك تعليقاً على شكوك المسيو ديمومبين:
«أمّا نحن فنتحفظ في هذه المسألة كلّ التحفظ لأنّ الجاحظ يحدّثنا انّ خطب علي وعمر وعثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا انّ خطب علي كانت معروفة قبل الشريف الرضي. والذين نسبوا نهج البلاغة إلى الرضي يحتجّون بأنّه وضعها لأغراض شيعية، فلم لا نقول من جانبنا بأنّ تهمة الوضع جاءت لتأييد خصوم الحملات الشيعية»  [٢٧] .
ومهما يكن من أمر:
وعلى الرغم من ضيق هذه الصفحات وعدم اتساعها لبحث هذا الموضوع كما يستحقّه من إطناب وتفصيل، فإننا سنستعرض المسألة بالقدر المناسب لهذا المجال وحجمه، فنوجز ـ بأمانة ـ عرض الشبهات التي يردّدها الشكاك في هذا الصدد، كما نوجز عرض الأجوبة والردود على كل ذلك، ليحصحص الحق وينكشف الزيف ويتجلّى الصبح لكل ذي عينين.

---------------------------------------------------------
[١] . مجلة البلاغ، العدد الثالث، السنة الخامسة، ١٣٩٥هـ ـ ١٩٧٥م.
[٢] . مجلة الكاتب المصرية، العدد ١٧٠، مايو ١٩٧٥م، ص٣٠ ـ ٣١.
[٣] . مجلة الهلال، العدد١٢، السنة ٨٣، ص٩٥.
[٤] . المصدر نفسه: ٩٥.
[٥] . تاريخ آداب اللغة العربية: ١/١٨١و ٢/٢٨٨.
[٦] . تاريخ الأدب العربي ـ الترجمة العربية ـ: ٢/٦٤.
[٧] . حقائق التأويل: ١٦٧ والمجازات النبوية: ٤٠ و ٦٠ و ١٥٢ و ١٨٩ و ٢٨٥.
ومن مغالطات الدكتور شوقي ضيف في كتابه تاريخ الأدب العربي ـ العصر الإسلامي: ص١٢٨: انه اعتبر اعتراف الشريف الرضي بجمعه للنهج دليلاً على وضعه إياه! وما أدري متى أصبح الجمع وضعاً!!
[٨] . مجلة الكاتب: العدد ١٧٠، ص٢٠.
[٩] . الغدير للأميني: ٤/١٦٤ ـ ١٦٩.
[١٠] . مصادر نهج البلاغة للحسيني: ١/٢٤٨ ـ ٣١٣. وقال الدكتور شفيع السيد انّ معظم شراح نهج البلاغة هم من الشيعة (الهلال: العدد١٢، السنة ٨٣، ص٩٦)، ثم سمّى عدداً من هؤلاء الشراح وكان معظمهم من غير الشيعة!!
[١١] . يراجع فيما سبق: شرح نهج البلاغة: ١/٢٤ ـ ٢٥.
[١٢] . نهج البلاغة، تعليق محمد عبده: ١/٥.
[١٣] . المعقول واللامعقول في التراث العربي: ٣٠.
[١٤] . وفيات الأعيان لابن خلكان: ٣/٣، وقد تابعه على زعمه هذا كلّ من الصفدي في الوافي بالوفيات: ٢/٣٧٥ واليافعي في مرآة الجنان: ٣/٥٥ حجر في لسان الميزان ٤/٢٢٣.
[١٥] . تاريخ آداب اللغة العربية: ٢/٢٨٨. وتناقض الدكتور شوقي ضيف تناقضاً عجيباً في هذا الموضوع وفي صفحة واحدة من كتابه ص١٢٨، فذهب أولاً إلى أنّ علياً قد خلف خطباً كثيرة، ثم ذهب ثانياً إلى انّ النهج من وضع الشريف الرضي، ثم رجح ـ وفي ثالثة الاثافي ـ انّ الوضع على علي أقدم من عصر الشريف بل من عصر المسعودي!!! فانظر وتأمل..
[١٦] . النثر الفني في القرن الرابع الهجري: ١/٦٩
[١٧] . مجلة الكاتب: ص٣٠، العدد ١٧٠، السنة ١٥، مايو ١٩٧٥م.
[١٨] . مجلة الكاتب، المصدر السابق، ص٣٠.
[١٩] . المصدر نفسه، ص٣١.
[٢٠] . المصدر نفسه أيضاً، ٢١.
[٢١] . شرح نهج البلاغة: ١٠/١٢٧ ـ ١٢٩.
[٢٢] . الدكتور شفيع السيد، مجلة الهلال المصرية، العدد١٢ السنة ٨٣، ص٩٥ ـ ٩٦.
[٢٣] . شرح نهج البلاغة: ١/٢٠٥.
[٢٤] . شرح نهج البلاغة: ١/٢٠٥ ـ ٢٠٦.
ومن التأمل في حديث ابن أبي الحديد عن نسب نهج البلاغة ونسبته نجد انه لم يكن «مغفلاً» عندما اعتقد «ان ما يشرحه خطب للإمام علي» كما وصفه الدكتور طه حسين على رواية الدكتور محمد الدسوقي عنه (مجلة العربي، العدد ٢٠٧) شباط ١٩٧٦م، ص١٤٨. وإنما كان باحثاً متعمّقاً وناقداً متأملاً؛ وإن تميز بعيب كبير هو التجرد منالهوى والعصبية!
[٢٥] . مشكاة الأنوار: ١٧٥.
[٢٦] . تلخيص البيان ـ المقدمة: ٩٦.
[٢٧] . النثر الفني: ١/٦٩.

يتبع .......

****************************