وقال (عليه السلام) : مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْه ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا .                
وقال (عليه السلام): اذْكُرُوا انْقِطَاعَ الَّلذَّاتِ، وَبَقَاءَ التَّبِعَاتِ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .                
وقال (عليه السلام): عَلامةُ الاِْيمَانِ أَنْ تُؤثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ،أَنْ يَكُونَ فِي حَديِثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ، وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ.                
وقال (عليه السلام): إِذَا وَصَلَتْ إِليْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلاَ تُنْفِرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ .                
وقال (عليه السلام): ما أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ.                
وقال (عليه السلام) : مَنْ عَظَّمَ صِغَارَ الْمَصَائِبِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِكِبَارِهَا .                

Search form

إرسال الی صدیق
بلاغة علي عليه السلام بلاغة

منذر شعّار

مطاوي أدبنا العربي الخصيب فن خفي ظاهر، يلحظ ويتجاوز ، ويشم أريجه ولا يؤكل نضيجه ، وذلك هو ما نسميه "بلاغة على بلاغة" ، وهو أن يسمع أديب قولاً لأديب ، أو شعراً لشاعر، بليغاً اسراً ، فيعلق عليه بقول، من عنده ، بليغ آسر ، من فوره دون إبطاء ، كالمرتجل غير المتلبث . فيكون من ذلك إقناع عريض، ولذة أدبية أخذة بالمجامع ، وتتحصل قطعة أدبية ، من نصين ، في عصرين ، أو عصر، وقد يكون بين العصرين ذين تراخ وقد يكون قرب، وهذه القطعة الأدبية المتحصلة هي هذا الفن الجديد الممتع الذي فيه الى جانب الجمال التعبيري ، والبيان المعجب ، فيض الرؤية ، وسبق البديهة ، وإن المقام هنا يقتضي أن التعليق يكون موجزاً خاطفاً ، لكنه فخم رائع ، فهو نص كامل في الجمال والرونق والبهاء وملك النفس ، مع أنه إشارة ودون الاشارة .

وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة ، وسبق هذا البيان العربي ، وكفاية أدباته حكماً وعلماً .

من ذلك ما روي أن سيدنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، سأل رجلا عن أمر من الأمور فقال له :

ـ أكان كذا وكذا؟

فقال :

ـ لا عافاك الله يا أمير المؤمنين .

فقال عمر :

ـ قد علمتم فلم تتعلموا ؛ هلا قلت : لا (و) عافاك الله ؟!

هذا هو النص الأول من القطعة الفنية التي نراها من باب (بلغة على بلاغة) ، وهذه هنا هي البلاغة الأولى ، وصاحبها سيدنا الفاروق رضي الله عنه ، فقد لاحظ أن الرجل قال ولم يفصل بين (لا) و(عافاك) بفاصل، فتقرأ المبارة .. أو تسمع:

لا عافاك الله يا أمير المؤمنين . فيكون المتكلم يريد الدعاء للخليفة فينقلب بالتعبير الناقص دعاه عليه، فلم يغفل سيدنا عمر ، وهو من هو : في الصحبة والولاية والرجولية والمربية ، أن يحس بالخلل التعبيري ، فقال :

قد علمتم فلم تتعلموا هلا قلت: لا وعافاك الله .

اي بزياردة (الواو) ؛ فان الواو هنا : تقطع تسلط (لا) على (عافاك) بعدها ، وتستأنف كلاماً جديداً .. فيكون الكلام الآن في لفظه وتركيبه وعربيته ملائما لنيّة المتكلم ومتسعاً لمعناه .. أي... "لا، لم يكن ما أشرت اليه يا أمير المؤمنين ، ثم .. عافاك الله ورعاك" .

فهذا كما قلنا هو النص الأول ، وكلام عمر رضي الله عنه هنا مكين في البلاغة ، دقيق الملاحظة، يدل ويشير الى صواب التعبير في ناحية خفية لكنها خطيرة إن اختلت .

ويمر الزمن ، حتى يجيء عصر الصاحب ابن عباد . عصر المتنبي وابن العميد، وهو القرن الرابع الهجري .. فيعلم الصاحب بهذه البلاغة العمرية ، وبروعة هذه الواو الموضوعة في محلها الدقيق ، فيقول معلقاً :

ـ هذه الواو : أجمل من واوات الأصداغ ، على خدود الملاح .

فكلام الصاحب ابن عباد هنا ، في ذاته ، نص أدبي ـ على خطفه وقصره ـ رائع كامل، جميل، قال: هذه الواوات هنا أجمل من واوات الأصداغ ، على خدود الملاح .

وكانت الجواري في ذلك الزمن ، يتزين لسادتهن ، ولأنفسهن في محافلهن ، فانهن يضفرن شعورهن ... بحيث تنزل منه على خدودهن خصل معقوفة مدببة بشكل واوات ، فيكون للمرأة منظر بهي، تسر به مالكها أو بملها .. ويكون محل تلك الواوات العجيبة في الأصداغ والخدد . فيقول الصاحب بن عباد ـ رحمه الله ـ إن واو عمر تلك .. في إحكامها ، وتمكن محلها ، واستغناء واضعها بها عن كلام ، وحسن رونقها .. لأجمل ـ والله ، من واوات النساء الجميلات المزينات بشعورهن ..

فهذه بلاغة على بلاغة ، وهذه قطعة أدبية ولوحة فنية تعبيرية ، من نصين ، في عصرين، وكون العصرين متباعدين أطرف للقطعة ، وأدهش ، وامتع تحريكاً عاطفياً ، والنص الأول لعمر رضي الله عنه .. بليغ جميل محكم نبيل ، والنص الثاني للصاحب الوزير ، مثير فني أسر بليغ ، والقطعة التامة ، كلها ، معبرة .. عن عصريها وشؤونهما ... وتمتع ـ أيها القارىء ـ بهذه القفزة اللطيفة أو الخطوة العجيبة بين عصرين من عصورنا ... وتلذذ بالفن والأدب الجم والرونق الخالص، وثناء آخر الأمة على أولها، وتعجب ، أكثر شيء لهذا الايجاز الرافع والخطف الذي هو كالنبض ، في بث الأدب العالي والتعبير الأسر والكلمات الجميلة .. إن هذا الأدب ثر على أنه نزر ، ونصٌ كبير ذائب في النسائم والغمائم ، مع أنه ـ في الحقيقة والواقع ـ أشبه بفصّ في خاتم.

وقد روي هذا الخبر .. أعني الأول .. باشكال .. منها ..

سأل المآمون يحيى بن المبارك عن شيء فقال: لا وجعلني أن فداءك يا أمير المؤمنين ، فقال: لله درك ، ما وضعت واوقط وضعاً أحسن منها في هذا الموضع ، ووصله وحمّله .

لكن ما سردناه هو الأصل .. والرائع دوماً يتكرر ، ويدعى ويعاد ويستعاد ومن هذا الفن ما رواه ابن عبد ربه في عقده : أن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ كان في سفر ، فسمع من قافلة مدانية صوت رجل يتغنى بأبيات طرفة بن العبد المشهورة :

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ***** وجدك لم أحفل متى قام عوّدي

فمنهن سبقي العاذلات بشربة ***** كميت متى ما تضل بالماء تزيد

وكرّي إذا نادى المضاف محنبا ***** كسيد الفضا ذي السورة المتورد

وتقصير يوم الدّجن ، والدجن معجب ***** ببهكنة تحت الطّراف المعمّد

وهذه الأبيات من معلقته المشهورة ، وطرفة من شعراء المعلقات ويراها بعض كبار النقدة من أنفس المعلقات وهذه الأبيات الثلاثة ـ خاصة ـ ذهبت في أجيال العرب مذهباً بعيداً في "الروعة والجلال والاصابة ، حتى قال النقاد إن ههنا تفصيلا وتبيينا لمثل الجاهليين ، بأبهى لفظ ، واكمل أسلوب ، مع ما فيها من بلاغة المبنى الى جانب تصاعة المعنى ، وقوله : "إذا قام عوّدي" كناية عن موته ، ومثل الجاهلية التي يتغنى بها ـ هنا ـ طرفة هي :

١ ـ شرب الخمر .

٢ ـ وانجاد الضيف والجار .

٣ ـ والتمتع بجمال المرأة .

فيعرض طرفة ـ ذلك الشاعر العريق ـ لذلك بأسلوب الروعة فيقول إن الذي مسّك به بالحياة ثلاثة أمور: الأول شربي الخمر الحمراء المزبدة على الماء ، وانجادي على حصان ضامر كالذنب ، الضيف النازل ببيتي إذا دهمه خطر ما.. وتمتمي في يوم شاثٍ بحسناء ناعمة تحت خباء ذي أعمدة .

وههنا ملاحظة جد عظيمة.. وهي أن ذلك العربي .. حين عرض لمثل الجاهلية ولذاتها لم ينس أن يجعل فيها النجدة ، وإكرام الضيف ، وتعريض نفسه للخطر والقتل في سبيله . فجعل النجدة والموت في سبيل الجار لذة بين لذتين : الخمر والنساء .. وهذه اللذة الوسطى لذة معنوية بين لذتين حسيتين ، فيالهم من قوم ، ويا لوجههم من وجه .. إنهم ـ حتى في الانحدار .. يرتفعون.

وهذا هو النص الأول في قطعتنا الثانية في هذا الفن الذي نتلمسه : "بلاغة على بلاغة" .

فهنا ، حين سمع عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أبيات طرفة البليغة هذه .. علق فقال من فوره، في ارتجال كريم .. بليغ :

ـ وأنا لولا ثلاث ، لم أحفل متى قام عودي : لولا أن أنفر في السّرية ، وأقسم بالسوية ، وأعدل بالقضية . فيالها من بلاغة على بلاغة . وانظر كيف علق ذلك الخليفة الملحق بالخلفاء الراشدين ـ عليهم جميعاً رضوان الله ـ على ما سمع ، وكيف قابل مثل الجاهلية ، بمثل الاسلام ، في اللفظ الرائع ، والتعبير المبين ، والتوازن الموسيقي العجيب ، وانظر الأدب هنا بكل معانيه ، فلم يهاجم عمر ـ رحمه الله ـ طرافة ، ولا منشده ، ولم يتقبح ولم يتمعر ولم يتسخط ، لكن ، بكل نفس كريمة، وحلم زاك ، وجلال أولياء بهدى ضلالا ، وبحكمة غناء ، وباسلام جاهلية . فيالهم من أدباء، وياله من فن من الأدب جليل وهو صغير .

ولقد روى الجهشياري قال :

".. أهدى زياد الى معاوية هدايا كثيرة ، وكان فيها عقد جوهر نفيس ، فأعجب به معاوية ، فلما رأى ذلك زياد قال له : يا أمير المؤمنين، دوخت لك العراق، وجبيت لك برها وبحرها ، وغثها وسمينها ، وحملت إليك لبّها وقشورها ، فقال له يزيد : لئن فعلت ذلك لقد نقلناك من ولاء ثقيف الى عز قريش ، ومن عبيد الى أبي سفيان ، ومن القلم الى المنابر ، وما أمكنك ما اعتددت به إلا بنا ، فقال له معاوية : حسبك : وريت بك زنادي" .

واضح هنا أن النص الأول من قطعة "البلاغة على البلاغة" هذه ينتهي عند قول يزيد : .. إلا بنا. والنص الثاني المعلّق الذي يكون في العادة موجزاً وخاطفاً هو قول سيدنا معاوية رضي الله عنه : حسبك وريت بك زنادي .

أما النص الأول ـ أدبياً ـ فهو قول يزيد لزياد ـ معرفاً إياه الحقيقة ـ كابحاً له من تجاوزه حده : "لئن فعلت ذلك لقد..." وكان زياد ابن أبيه قد علا في الاسلام والعرب حتى استكتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحتى قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: لوكان أبو هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه . فقد تبين لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ فيما بعد أن زياداً أخوه من أبيه .. أبي سفيان رضي الله عنه ، فادعاه والحقه بنسبه سنة ٤٤ هـ . وكان زياد حتى ذلك الوقت مدعى لرجل ثقفي اسمه عبيد ، فلما استلحقه معاوية صار الأجلاء يسمونه : زياد ابن ابي سفيان ، كما فعل ذلك مالك في الموطأ ، وكان زياد كاتباً محاسباً فولاه علي ـ رضي الله عنه ـ الامارة ثم ثبته فيها ، ورفعه أكثر أخوه معاوية .. فعلا وعظم جاهه .. وهنا .. لما عرض هداياه على معاوية رضي الله عنه ، وأعجب معاوية ، زها زياد وداخله الغرور .. فاخذ يتباهى أمام العاهل الأكبر، وهذا لا يجوز ، ومع أن زيادا من الدهاة ، والحكماء ، فقد زل ووقع ، وهنا تصدى له يزيد، قبل أن يتفوه أبوه بكلمة ، وأفهم زياداً أن مباهاته بنفسه أمام العاهل الأكبر فعل فعل غير رشيد، ولا سيما أن هذا العاهل صحابي جليل ، وسيد كريم فقال تعبيره السابق البليغ المثير. وأفهم زياداً كيف فضل آل أبي سفيان عليه.. إذ نقلوه من ولاء ثقيف الى عز قريش ، فأين الولاء من العز وأين ثقيف من قريش ، وبيّن يزيد أن النقل أيضاً كان من يكون أبو زياد عبيداً الثقفي.. ومن عبيد؟! الى أن يكون أبوه أبا سفيان ، الوجيه في جاهلية وإسلام، والذي طالما تألفه رسول الله(ص) ثم بيّن يزيد شيئاً تمسك به النقدة اليوم والمؤرخون وأهل الاجتماع وهو أن يزيد قال: ".. من القلم الى المنابر.." يريد ، من أن تكون يا زياد كاتباً في ديوان محاسباً ، الى أن تكون أميراً قائداً والياً .. فكنى بالقلم عن أعمال موظفي الديوان : الكتبة والمحاسبين.. وبالمنابر عن الأمارة والسيادة.. وهذا النص ليزيد .. بليغ كما يلاحظ في معانيه وتقاسيمه وشبوب عاطفته، وإصابته الأهداف.. ثم يجيء النص الخاطف البليغ على ذلك النص البليغ وهو قول أبيه: حسبك .. وريت بك زنادي .

أي: أحسنت وكفيت وكنت لي أحسن العدة والبلاغة كلها هنا في قول معاوية رضي الله عنه: "وريت بك زنادي" تعبير فخم، بليغ ، كان خير التعليق على خير التعبير، وكانت القطعة كلها فناً جميلاً وأدباً زكياً . من هذا الذي نسميه : بلاغة على بلاغة.

وجاء في البيان والتبيين للجاحظ أنه قيل للفردق:

ـ أحسن الكميت في مدائحه ملك الهاشميات . فقال:

ـ وجد أجراً وجصاً فبنى .

النص الأول هنا : ملحوظ وغير موجود . وهو قصائد الكميت الهاشمية كلها ، فيستحضرها القارىء ، وينشر جوها ، وينغمر فيه ، فيحسن البلاغة الضافية ، وإنها أي الهاشميات كلها ، ولا سيما البائية المذهبة :

 

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ***** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

وفي هذا الفرع إذن من هذا الفن الأدبي مشاركة القارىء وفاعليته وايجابيته، فلا يكتفي بأن يتلقى، ولكن كأنه ـ هنا ـ يتلقى عنه ، بهذه المشاركة ، وهذه خصيصة ـ كما يبدو ـ في هذا الفن يتجه شعاعها الى أهل الأدب والاطلاع ، فتحصل لهم لذة باثارة المعلوم السابق وبناء جمال جديد عليه، وإن في قول القائل للفرزدق ـ يومئذ ـ تمريضاً وإثارة نفاس ، فقد كان الفرزدق يومئذ ـ كما هو معروف ـ أمير الشعر وسيده الضخم ، مع جرير ثم الأخطل ، وكان الكميت مطفأة سرجه عنهم ، وعن الفرزدق بالذات، مقصراً به لا يرى على صفهم ، فحين قيل للفرزدق ان ذلك الكميت قد برع وأحسن في هاشمياته (وهي قصائده في مدح آل النبي(ص) كان كأنه يعرّض بالفرزدق: أن منافساً قوياً قد برز ، وسيشاركه في مجده ولن يكتفى منذ اليوم بمجد الفرزدق ، ولن يلتفت ـ فقط ـ الى روائعه ، فأسرع الفرزدق يقول من فوره هذه الجملة الرائعة الفريدة ، البليغة :

ـ وجد آجراً وجصاً فنى .

أي :

ـ لا غرابة ، أبداً ، اليس الكميت يمدح في هاشمياته بني هاشم ، وهم رهط النبي(ص) ، فسيبرع حتماً ويفوق قطعاً .. لأنه وجد مادة النبوغ ولبس برد المجد ومثله كمثل انسان يريد بناء بيت وكانت تعجزه مادة البناء فلما وجدها وهي الآجر والجص فماذا يمنعه من أن يبني؟ لقد كان الفرزدق ضافي البلاغة في هذا التعليق الجميل، من طرفيها: المعنوي والتركيبي . فأما من حيث المعنى فحسن هنا جداً إسراع الفرزدق الى الاقرار بأولية الكميت إذا هو مدح آل النبي(ص)، واعلانه الانصاف، ولم يجحد ولم يكابر، وأما من حيث التركيب فانظر كيف أدى معناه بهذه الصورة البارعة .. حتى لفظتا الجص والآجر وهما سوقيتان شبه عاميتين بدتا في مساق تعبير الشاعر الضخم متألقتين كالدرتين ، لقد كانت بلاغة ضافية ـ حقاً على بلاغة ضافية ، وكان لاشتراك القارىء ـ كما قلنا ـ متاع خاص ، ولكون النص الأول من القطعة ملحوظاً لمع جديد.

وكأني بالعلامة الكبير "ابن قيم الجوزية" رحمه الله كان مدركاً لهذا الفن وهو يروي هذه القطعة من الباب ذاته:

".. وسئل المتنبي عن قول امرىء القيس:

 

كأني لم أركب جواداً للذة ***** ولم اتبطن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الزّق الروي ولم أقل ***** لخيلي : كرّي كرة بعد إجفالي

فقيل له: إنه عيب عليه مقابلة سباء الزق الروي بالكر، وكان أحسن مقابلته بتبطن الكاعب جمعاً بين اللذتين، وكذلك مقابلة ركوب الجواد للكر أحسن من مقابلته لتبطن الكاعب. فقال: بل الذي أتى به أحسن: فانه قابل مركوب الشجاعة بمركوب اللذة واللهو، فهذا مركب الطرب وهذا مركب الحرب والطلب ، وكذلك قابل بين السباءين : سباء الزّق وسباء الرق" .

فجميل جدا هذا الدفاع من المتنبي عن الشاعر الأول. امرىء القيس. وبيتاه .. أي بيتاً امرىء القيس.. في غاية البلاغة .. فعلق المتنبي عليهما مبينا مزيلا للشبهة .. بتعبير غاية في البلاغة ايضاً .. وكأنه شعر لم يرد له أن يكون منظوماً ، ولكن الشعر شعر وان تبدّى بثياب النثر، وإنّ هذه القطعة من نفائس التراث، فان فيها (المتنبي) يشرح بيتين (لا مرىء القيس) .

وانك تستطيع أن تعد من هذا الفن كتابين في النقد الأدبي لأديبين قد يمين من مغرب الوطن العربي. واحد من الأندلس والثاني من شمالي افريقية، أما الأول فهو السر قسطي (محمد بن يوسف المعروف بابن الأشتركوني) ، ألف (المقامات اللزومية) معارضاً بها الحريري في مقاماته، والسر قسطي من رجال القرن السادس الهجري. جاء في مقاماته اللزومية عن المتنبي: تعريفاً وتعليقاً :

قلت: فالكندي أبو الطيب؟ قال: ذو الطبع الصيّب ، والكلم الطيب، الم يتقدم ذكره، وعرف شره ونكره، لهجت بأمثاله الأفواه ، وعذبت بأشعاره الأمواه ، وسارت بذكره الرفاق ، ووقع على تفصيله الأصفاق ، أغص القائلين وأشرق ، وأضاء كوكبه فاشرق . فهذا بيان بليغ على بيان المتنبي البليغ ، ولاحظ هنا لزوم ما لا يلزم في فاصلة السجع، فتجد حرفين ملتزمين في كل فاصلة، مع مجاز وجناس.

وأما الثاني فهو ابن شرف القيرواني، في كتابه : "أعلام الكلام" وهو مطبوع، وفيه يعلق ـ أيضاًـ على بلاغات الشعراء قبله ويتنتقد، كقوله عن المتنبي أيضاً : "وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن، وسهرت في أشعاره الأعين، وكثر الناسخ لشعره، والأخذ لذكره، والغائص في بحره. والمفتش في قعره جمانه ودره، وقد طال فيه الخلف ، وكثر عنه الكشف ، وله شيعة تعلو في مدحه ، وعليه خوارج تتمايا في جرحه " .. وان هذا الفن الذي ضربنا عليه الأمثال، وان كان خفياً ، منتشر في شرق وغرب، فأرى من هذه البلاغة على البلاغة قول الكاتب الفرنسي : أنا تول فرانس عن شاعرهم : فيكتور هيغو :

"عاش فيكتور هيغو ثملا تسكره الألون ورنات الأصوات، وقد أسكر العالم بذلك " .

وواضح هنا أن النص الأول من القطعة هو أشعار فيكتور هيغو كلها، فالنص الأول هنا ملحوظ ، والقارىء مشترك، كما مر في قطعة الكميت والفرزدق. وهو يطلع على أشعار هيغو العاطفية والنفسية، ولا سيما في ديوانه : "تأملات contemplations يرى ويحس هذه البلاغة لأناتول فرانس على بلاغة شاعر فرنسا الكبير.

ولكن القدح المعلى في هذا الباب، وكل باب ، للعرب ، فلغتهم لغة البيان والبديهة والصنعة ، وهم أعرف بأوكار البلاغة ، يطيّرون منها النور، ويقابلون جمالا بجمال، كأنهم يضعون على ذات الحسن والجمال، أنفس الجواهر واللآل .

****************************